الزواج في المسيحية هو عهد ارتباط بين رجل واحد وامرأة واحدة، والله نفسه هو الشاهد على هذا العهد، ومن جهة أخرى فإن الرجل والمرأة اللذين دخلا معاً في عهد الزواج، يكونان طرفاً في علاقة عهد مع الله، فالله في المسيحية شاهد على عهد الزواج، وفي ذات الوقت طرف فيه.
ويتحدث الكتاب المقدس -صراحة- عن الزواج وعلاقة ارتباط الرجل بامرأته على أنها علاقة عهد، فحين يرتبط الرجل بامرأته فقد دخلا معاً في علاقة عهد، والشاهد عليها هو الله نفسه، هذا من جهة، أما من الجهة الأخرى فإن الرجل وزوجته يمثلان معاً طرفاً في عهد آخر يدخلانه مع الله ذاته، حالما ارتبطا معاً برباط الزوجية، ويعتبر ما جاء في سفر ملاخي بهذا الشأن من أكثر الصور الكتابية تأكيداً لهذا الفكر، فيقول: «مِنْ أَجْلِ أَنَّ الرَّبَّ هُوَ الشَّاهِدُ بَيْنَكَ وَبَيْنَ امْرَأَةِ شَبَابِكَ .. وَهِيَ قَرِينَتُكَ وَامْرَأَةُ عَهْدِكَ» (ملاخي 2: 14)، كما يذكر في سفر الأمثال أن المرأة التي تترك أليف صباها –أي زوجها- إنما تترك في الوقت نفسه عهدها مع الله، يقول: «التَّارِكَةِ أَلِيفَ صِبَاهَا وَالنَّاسِيَةِ عَهْدَ إِلَهِهَا» (أمثال 2: 17).
إن الزواج في مفهومه اللاهوتي الكتابي هو أكثر من مجرد عطية صالحة، فالزواج يُجسِّد عهد الله مع الإنسان، فنحن لا نتعامل مع الله وكأنه قوة جبارة تراقبنا من خارج كوكبنا، بل نقترب إليه بالمحبة والولاء والتكريس، الأمور التي يجب أن تحدث في علاقة الزواج، وكما قطع الله عهداً مع شعبه في القديم، هكذا الزواج هو عهد بين الرجل والمرأة، يضع عليهما في ذات الوقت التزاماً تجاه عهد آخر مع الله.
لذلك يخطئ من يظن أن الزواج المسيحي فرض، أو عقد، فكلاهما دون فكرة العهد الذي يقوم عليه الزواج المسيحي، فالفرض يمكن للإنسان أن يتحرر منه، أو على الأقل يقبل به مضطراً، وهكذا العقد يمكن لأي من الطرفين فسخه ساعة يشاء، أو متى أخلَّ طرف بواجباته نحو الطرف الآخر وفقاً لشروط العقد، فالعقد دائماً يقوم على مبدأ الشرطية، «أحبك، إن أحببتني»، «أخلص لك، ما دمت مخلصاً لي»، أقدم لك حاجتك الجنسية، إن صارحتني أو قدمت لي..»
إن علاقة العهد هي قرار بالسلوك بالمحبة لا بالمشاعر، إنها علاقة مبنية على الإخلاص العملي لا على أساس ما يُسمى «بالوقوع في الحب»، إن المحبة المتبادلة والاهتمام المتبادل في الحياة الزوجية المبنية على العهد هما انعكاس لمحبة الله لنا واهتمامه بنا، فعندما ننظر في مواعيد الله المبنية على عهوده لنا نرى بعض ملامح الصورة التي يجب أن يكون عليها الزواج المسيحي، إن عهد الله ثابت للأبد، وهكذا يجب أن تكون الحياة الزوجية.
إن أول ما يميز الزواج المسيحي كعهد، هو النموذج الذي يقوم عليه ويتشبه به، وهو العهد الذي يربط بين الله والإنسان، عهد النعمة والفداء، حتى أن الرسول بولس يشبه علاقة الزواج بين الرجل والمرأة بالسر العظيم الذي يربط بين الله والكنيسة -شعبه- (أفسس 5: 32).
كذلك يتميز العهد الزوجي بأنه علاقة ارتباط تقوم على أساس الإخلاص والتكريس والمحبة الثابتة. كما أن محور العهد ليس هو مبدأ الحقوق والواجبات، بل المحبة الثابتة التي لا تنتهي. إن مبدأ الحقوق والواجبات هو خارج نطاق علاقة العهد التي تتميز بالمحبة والإخلاص والتكريس. ويعني العهد محبة غير مشروطة بين طرفين، لا تعتمد على الأخذ مقابل العطاء فالمحبة تعطي بلا مقابل ومن دون استحقاق، تماماً كما أحبَّنا الله ويمكن أن يتحقق هذا في الزواج عندما يقدم كل طرف للآخر ما ينبغي أن يقدمه شريك الحياة.
كما إننا نرى في علاقة العهد التي تربط الزوجين وتجمعهما معاً، ما يميزها عن العلاقات الأخرى التي لا يكون العهد وارداً فيها، فالعهد هو ثمرة علاقة المحبة المخلصة، حيث العلاقة بين الزوجين المسيحيين لا تبدأ بتبادل نذور المحبة والطاعة في مراسيم الزفاف، بل أن تلك النذور هي نتاج الالتزام والمحبة التي ملأت قلبيهما في فترة سابقة، كما أن العلاقة التي تقوم على عهد، هي علاقة التزام وتحمل مسؤولية، فشركاء العهد ملتزمون كل أمام رفيقه عما يفعل، فلا مكان في علاقة العهد لإلقاء اللوم على الطرف الآخر.
أيضاً نرى في العلاقة المبنية على العهد حرية الاختيار، فليس في الزواج المسيحي المنطلق من فكرة العهد أي إرغام أو إجبار، ولا يتولى أحد ولاية على أحد، بل أن نموذج علاقتنا بالله في إطار العهد لا يرغمنا على ممارسة الولاء والطاعة، لكنه يترك لنا الحرية كاملة لطاعته، وهكذا في الزواج المسيحي لا يجوز لطرف إرغام الطرف الآخر على السلوك أو التفكير بطريقة معينة، ولا يمكن أن يستغل الزواج في إخضاع طرف لآخر، فالخضوع يقدم طوعاً لا بالقوة (أفسس 5: 21)، والخضوع الحقيقي ينتج من الاحترام لا من الخوف والمراوغة.
إن علاقة العهد التي تربط بين زوجين مسيحيين علاقة تقوم على إرادة وقرار الولاء للآخر ومحبته كما أحبنا المسيح، فلا تأثير للمشاعر في علاقة العهد الزوجي، إذ يمكن للمشاعر أن تخدع أي إنسان، ولا أقصد هنا أن ننكر دور أو أهمية المشاعر، لكن لكي أوضح الفكرة، أقول أن المشاعر ما هي إلا مؤشر هام لمواطن القوة والضعف في العلاقة الزوجية، إن المشاعر تعمل كلوحة أجهزة القياس في تابلوه السيارة، إذ تخبرنا عن الحاجة إلى تعبئة الوقود، كما يشير ضوء باهت إلى وجود مشكلة ما في السيارة، لكننا لم نسمع قط عن إنسان باع سيارته لأنها فرغت من الوقود، أو ارتفعت حرارتها، وكثيراَ ما خذل الشعب القديم الله وأغضبه (عدد 11: 1، 10)، لكن الله لم يغض الطرف عن مشاعره ولا رفض شعبه، بل دعا لتغيير مُلح، فأساس العهد هو الالتزام والأمانة، أما المشاعر فهي ترمومتر الحياة الزوجية، تستخدم للمحافظة على العهد.
كما يميز العلاقة الزوجية المؤسسة على العهد أنها تقوم على الالتزام الطوعي غير المشروط، فلا توجد في العلاقة الزوجية القائمة على العهد عبارة مثل هذه: «أفعل ذلك إن وعدتني بأن...»، أو «لقد قدمت لك الكثير، ولم تقدم لي شيئاً»، فعلاقة العهد تقوم على التزام المحبة غير المشروطة والتي لا تنتظر عطاء الطرف الآخر، بل تقوم على قرار إرادي من كلا الطرفين متمثلاً بالعهد الإلهي للإنسان بتقديم المحبة والعطاء للآخر.