الاختيــــــــــــــــــــــار[1]
إنَّ عَهْدَ الحياة لا يُنَادَ به للكل بصورة متساوية، كما إنه لا يَجِدُ نَفْسَ التجاوب في كل مَنْ يُنَادَ لَهُ بِهِ. مِنْ هذا التَّنَوُّع نَكْتَشِفُ عُمْقَ الدينونة الإلهية. كَمَا إنه لا شك في أنَّ هذا التنوع يَتْبَعُ ويَخْضَعُ "لقرار الاختيار الأبدي لله."[2] وإذا كانت حقيقةُ أنَّ الخلاصَ مُقَدَّمٌ مَجَّانًا للبعض ومَمْنُوعٌ عن البعض الآخَرَ أَنْ يَنَالُوه هي بالتأكيد ناتجةٌ
مِنَ الإرادة الإلهية، فإنَّ هذا يُنْشِيءُ أسئلةً هامَّةً وصَعْبَةً لا يُمْكِنُ تَفْسِيرُهَا سِوَى بتَأْهِيلِ عُقُولٍ تَقِيَّةٍ لاستقبال ما يَجِبُ فَهْمُهُ عن "الاختيار والتعيين السابق."[3] وهو سُؤَالٌ يَرَاهُ الكثيرون مُحَيِّرًّا جدًّا، إذْ إنهم يَرَوْنَ أنه لا يوجد شيءٌ أكثر لا-منطقيَّةً مِنْ أَنْ يُعَيَّنَ بَعْضُ البَشَرِ تَعْيِينًا سَابِقًا للخلاص، بينما يُعَيَّنُ البعضُ الآخر تَعيينًا سابقًا للهلاك. لَكِنَّنَا سَنَرَى من خلالِ سَرْدِنَا كيف أنَّ حَيْرَتَهُم لا مَنْطِقَ لَهَا. هذا بالإضافةِ إلى أَنَّ نَفْسَ هذا التشويش الذي يُثِيرُ هذا الرعب يُبَيِّنُ، ليس فقط مَنْفَعَةَ هذه العقيدة، بل أيضًا أَنَّها تُؤتِي فائدةً مُبْهِجَةً وقُصْوَى. فنحن لن يُمْكِنُنا أبدًا أَنْ نَقْتَنِعَ كما ينبغي بِأَنَّ خَلاصَنَا يَنْبُعُ مِنْ نَبْعِ رَحْمَةِ الله الحُرَّة، حتى نَعِيَ باختيارِه الأبدي الذي يُبَيِّنُ نِعْمَةَ الله بهذه المُقَارَنَةِ، التي بِمُقْتَضَاهَا لا يَتَبَنَّى اللهُ الجميعَ لِرَجاءِ الخلاص بلا تَمْيِيزٍ، بَلْ يُعْطِي للبعضِ مَا يَضُنُّ بِهِ على البعض الآخَرَ. إِنَّ الجَّهْلَ بِهَذَا المَبْدَأ بالتأكيد يُقَلِّلُ مِنْ شَأْنِ المَّجْدِ الإلهي، ويَنْقُصُهُ الاتِّضَاعُ .... إِنَّ مُناقشةَ التعيين السابق – وهو موضوعٌ فِي ذَاتِهِ مُعَقَّدٌ – صارت مُرْبِكَةً، ولذا أيضًا خطيرة، بسبب حُبِّ الاستطلاع والفُضُول الإنساني، والذي لا تَحُدُّهُ أَيُّ حَوَاجِزَ مِنَ التجوال في مناطق محظورة والتَّحْلِيق خَارِجَ نِطَاقِهِ، كما لو كان مُصَمِّمًا ألا يَتْرُك أيًّا مِنَ الأسرار الإلهية دون استكشاف أو تَمْحِيص. وإذْ نَرَى جُمُوعًا في كل صَوْبٍ مَلُومِينَ بهذه الغَطْرَسَةِ والتَّطَاوُلِ، ... وَجَبَ أَنْ نُنْذِرَهُم بِحُدُودِ وَاجِبِهِم فِيما يَتَعَلَّقُ بهذا الموضوع. وليتذكروا أولاً في سُؤَالِهِم عن التعيين السابق أنهم يَخْتَرِقُون الأعماقَ الداخلية للحكمة الإلهية، حيث لا يَجِدُ المُتَطَفِّلُ الأحْمَقُ المُعْتَدُّ بذاته أَيَّ إشباعٍ لِحُبِّ استطلاعِهِ. بَلْ إنَّهُ سَوْفَ يَدْخُلُ منطقَةً لَنْ يُمْكِنُهُ مُغَادَرَتِهَا فيما بَعْدْ. وذلك لأنه مِنْ غَيْرِ المَنْطِقيِّ أَنْ يَتَفَحَّصَ الإنسانُ أشياءً قَرَّرَ اللهُ أَنْ تَكُونَ مُحْتَجِبَةً في ذَاتِهِ، وأَنْ يُحَقِّقَ - ولو من دَاخِلِ الأبدية – في هذه الحِكْمَةِالمُتعاليةِ التي أَرَادَ اللهُ أن نَعْبُدَهَا، لا أَنْ نَحْتَوِيها بِفَهْمِنَا، لكي تُزِيدَ افْتِتَانِنَا بِمَجْدِهِ. إنَّ أسرارَ هذه الإرادةِ التي قَرَّرَ أَنْ يُعْلِنَهَا لنا، قَدْ كَشَفَهَا في كَلِمَتِهِ. وتلك هي كل ما سَبَقَ ورَأَىَ أَنَّهَا مَا يَجِبُ أَنْ تَشْغَلُنَا أو ما تُفِيدُنَا. ...
إنَّ التَّعْيِينَ السابقَ، والذي بِمُقْتَضَاهُ تَبَنَّى اللهُ البعضَ لِرَجَاءِ الحياةِ وحَكَمَ على البعض الآخر بالموت الأبدي، لا يَجْرؤُ أحدٌ يَرْغَبُ فِي أَنْ يُوصَفَ بالتَّقْوَى أَنْ يَرْفُضَهُ. لَكِنَّ هذا تَمَّ على يَدِ الناقدين السَّطْحِيِّين لهذا التعليم، خاصَّةً أولئك الذين يَجْعَلُونَ مِنْ "سَبْقِ مَعْرِفَةِ"[4] اللهِ السَّبَبَ وَرَاءَهُ. ونحن نَرَى أَنَّ كِلَيْهِمَا في الله. لَكِنَّهُ مِنْ السُّخْفِ أَنْ نَجْعَلَ الواحدَةَ مُعْتَمِدَةً على الأُخرَى. فَعِنْدَمَا نُعْزِي لله سَبْقَ المَعرفة، فَنَحْنُ نَقْصِدُ أَنَّ كُلَّ الأشياءَ كانت ولا زالت وسَتَبْقَى دائمًا أمام عينيه، بحيث أنه، بالنسبة لِمَعْرِفَتِهِ، لا يُوجَدُ شيءٌ قد مَضَى أو سَيَأْتِي، بَلْ كُلُّ الأشياءُ حاضرةٌ، وحاضرةٌ بِحَيْثُ أَنَّهُ لا يَسْتَمِدُّ إدرَاكَهُ لها فقط مِنْ أَفْكَارٍ مُشَكَّلَةً في عَقْلِهِ، كما تَبْدُو حَاضِرةً لِعُقُولِنَا الأشياءُ التي نَتَذَكَّرُها، بل إنَّهُ بالحقيقةِ يَنْظُرُ إليها ويَرَاها كما لو كانت بالفِعْلِ مَوْضُوعَةً أمَامَهُ. وهذا السَّبْقُ في المعرفة يَمْتَدُّ لِيَشْمَلَ كُلَّ العَالَمِ وكُلَّ المخلوقات. ونحن نَدْعُو التعيينَ السابِقَ قَرَارَ اللهِ الأبديَّ، الذي بِمُقْتَضَاهُ قَرَّرَ في ذَاتِهِ مَا سَيَكُونُ مَصِيرَ كُلِّ فَرْدٍ مِنَ الجِنْسِ البَشَرِي. فَلَيْسُوا جَمِيعُهُم مَخْلُوقُون لِنَفْسِ المَصِيرِ. إِذْ أَنَّ الحَيَاةَ الأبدية مُعَيَّنَةٌ سَابِقًا للبعضِ، والهلاكَ الأبدِيَّ للبعضِ الآخَر. لذا فنحن نَقُولُ إِنَّ كُلَّ إنسانٍ مَخلوقٌ لِهَذِهِ أو تِلْكَ الغاية هُوَ مُعَيَّنٌ سَابِقًا للحياة أو للموت. ... ونَحْنُ نُؤَكِّدُ، في اتِّفَاقٍ مَعَ التعليم الواضحِ للكِتَابِ، بِأَنَّهُ بِمَشورةٍ أَبَدِيَّةٍ لا يَشُوبُهَا تَغْيِيرٌ، حَدَّدَ اللهُ مَرَّةً واحِدَةً وللأبدِ مَنْ سَيَقْبَلُهُمْ للخلاص ومَنْ سَيَحْكُمُ عليهم بالهلاك. ونحن نُقِرُّ بأَنَّ هذه المشورةَ فيما يَتَعَلَّقُ بالمختارين، هي مُؤَسَّسةٌ على رَحْمَتِهِ المُنْعِمَةِ، بِغَضِّ النَّظَرِ عَنْ أَيِّ استحقاقٍ إنسانيٍّ. أما فيما يَتَعَلَّقُ بأولئك الذين يَخُصُّهُم بالهلاك، فَبَابُ الحياة مُغْلَقٌ أمامهم بدينونةٍ عادلة وبلا لَوْمٍ، لَكِنْ لا يُمْكِنُ سَبْرُ غَوْرِهَا.
وفي المختارين نَرَى الدعوةَ[5] كَدَلِيلٍ للاختيار، كما نَرَى التبريرَ[6] كَمَظْهَرٍ آخَرَ لها، إلى أنْ يَصِلُوا إلى المَجْدِ الذي يَتَكَمَّلُ فِيهِ ]الاختيارُ[. وكما يَخْتِمُ اللهُ مُخْتَارِيِهِ بالدَّعْوَةِ والتبريرِ، فَبْاسْتِبْعَادِ المَرْفُوضِينَ مِنْ مَعْرِفَةِ اسْمِهِ وتَقْدِيسِ رُوحِهِ، هو يُبَيِّنُ الدينونَةَ التي تَنْتَظِرُهُمْ. ... إنَّ التَّمييزَ في اختيار الله، الذي هو مَخْفِيٌّ في ذَاتِ الله، يُعْلِنُهُ فقط مِنْ خِلال دَعْوَتِهِ، التي يُمْكِنُ أَنْ تُعْتَبَرَ دَلِيلاً عليه .... "فالذين سَبَقَ فَعَرَفَهُمْ سَبَقَ فَعَيَّنَهُمْ أيضًا ليَكُونُوا مُشَابِهِينَ صُورَةَ ابْنِهِ. والذين سَبَقَ فَعَيَّنَهُم دَعَاهُمْ أيضًا، والذين دَعَاهُمْ بَرَّرَهُم،"[7] لكي يُمَجِّدَهُم في النهاية. ... وبِرَبْطِ الدعوةِ بالاختيار، يُقِرُّ الكِتَابُ بأنه لا يُوجَدُ أَيُّ أَسَاسٍ لَهَا سِوَى رَحْمةُ الله الحُرَّةِ. لأنَّهُ إِنْ سَأَلْنَا عَمَّنْ يَدْعُوهُ أو لِمَاذا، يَكُونُ الجوابُ هُوَ، أُولَئِكَ الذين اخْتَارَهُمْ. ولَكِنْ عندما نَأْتِي إلى الاختيارِ، لا نَرَى سِوَى رَحْمَةٍ على كُلِّ جَانِبٍ. ... وهُنَا يَجِبُ تَفَادِي نَوْعَين مِنَ الخَطَأ. فالبَعْضُ يَفْتَرِضُون أَنَّ الإنسانَ يَتَعَاوَنُ مَعَ اللهِ بِحَيْثُ أَنَّ فَعَّالِيَّةَ الاختيار تَعْتَمِدُ عَلَى مُوَافَقَتِهِ. ولَكِنْ هَذَا يَعْنِي أَنَّ إِرَادَةَ الإنسانِ تَعْلُو مَشُورَةَ الله، كَمَا لو كان الكتابُ قُدْ عَلَّمَ أَنَّنَا نُعْطَى فَقَطْ القُدرَةَ عَلَى الإيمانِ، لا الإيمانَ نَفْسَهُ. أَمَّا البعضُ الآخَر، مَعَ إنَّهُم لا يُضْعِفُونَ مِنْ نِعْمَةِ الروحِ القُدُسِ، إلا إنَّهُم ... يَجْعَلُون الاختيارَ مُعْتَمِدًا على ما يَلِيهِ، كَمَا لو كانَ الاختيارُ مَشْكُوكًا فيه وغَيْرَ فَعَّاٍل إلى أَنْ يَتَثَبَّتَ بالإيمان. فَمَعَ أَنَّ الاختيار يُصْبِحُ ظَاهِرًا بالإيمان، إلا إنَّهُ لَيْسَ غَيْرَ فَعَّالٍ قَبْلَ الإيمانِ أو قَبْلَ قَبُولِ الإنْجِيل. ...
فإذا كُنَّا نَطْلُبُ قَلْبَ الله الأبَوِيّ العَطُوف الرَّحِيم، فلابدَّ لِعُيُونِنَا أَنْ تَتَّجِهَ للمسيح، الذي فيه وَحْده يُسَرُّ الآبُ.[8] إذا كُنَّا نَطْلُبُ الخلاصَ والحياةَ وخُلودَ الملكوت السمائي، فلا طريقٌ سِوَاه. إذْ إنَّهُ وَحْدَهُ نَبْعُ الحياةِ ومِرْسَاةُ الخلاص ووارِثٌ لملكوت السماء. وما هي غَايَةُ الاختيارِ سِوَى أَنَّهُ، بالتَّبَنِّي كأطفالٍ لأَبِينَا السَّمَائِيّ، يُمْكِنُ لَنَا أَنْ نَنَالَ الخلاصَ والخُلُودَ بِنِعْمَتِهِ؟ ... إنَّ المَسِيحَ، إذًا، هو المِرْآةُ التي تُحَتِّمُ عَلَيْنَا أَنْ نَتَأَمَّلَ اختيارَنَا، وهناك يُمْكِنُ أَنْ نَفْعَلَ ذلك في أَمَانٍ. ... فإذا أَرَدْنَا أَنْ نَتَأَكَّدَ عَمَّا إذا كانَ اللهُ مُهْتَمًّا بِخَلاصِنَا، فَلْنُفَكِّرْ عَمَّا إذا كانَ قَدْ ائْتَمَنَنَا للمَسِيحِ، الذي عَيَّنَهُ لِيَكُونَ المُخَلِّصَ الوَحِيدَ لِكُلِّ شَعْبِهِ، وإذا شَكَكْنَا عَمَّا إذا كانَ المسيحُ قد قَبِلَنَا في رِعَايَتِهِ، فَهُوَ يُبَدِّدُ هذا الشَّكَّ بِتَقْدِيمِهِ نَفْسَهُ كَرَاعٍ لَنَا، مُعْلِنًا لنا أَنَّهُ إِنْ سَمِعْنَا صَوْتَهُ، سَنُعَدُّ ضِمْنَ قَطِيعِهِ. ... لَكِنَّهُ بالتأكيد يَتَكَرَّرُ كُلَّ يَوْمٍ أنَّ أولئكَ الذين يَبْدُونَ كَأَنَّهُم يَنْتَمُونَ للمسيحِ يَسْقُطُونَ بَعِيدًا عَنْهُ غارِقِينَ في الدَّمَارِ ثانِيَةً. وهذا حقيقيٌّ، لَكِنَّهُ أيضًا أَكِيدٌ أَنَّ هؤلاء الأشخاص لَمْ يَلْتَصِقُوا بِاْلمَسِيح بِثِقَةِ القَلْبِ التي تُعْطِينَا ضَمَانًا لاختيارِنِا. يَقُولُ يوحنا: "خَرَجُوا مِنَّا، لَكِنَّهُم لَيْسُوا مِنَّا، لأنَّهُم لو كانوا مِنَّا لَبَقُوا مَعَنَا."[9] ...
تُوجَدُ دَعْوَةٌ عَامَّةٌ، يَدْعُو بها اللهُ، بالمُنَاداةِ الخارجيَّةِ بالكلمة، الجَمِيعَ لِيَأْتُوا إليه، دُونَ تَمْيِيِزٍ، حَتَّى أُولئكَ الذين يَقْصِدُ أَنْ تَكُونَ لَهُمْ هذه الدعوةُ رَائِحَةَ مَوْتٍ ومُنَاسَبَةً لِدَينونَةٍ أَثْقَلَ. كَمَا إنَّهُ تُُوجَدُ أيضًا دعوةٌ خاصَّةٌ، والتي بها يَخُصُّ المُؤمنين، إذْ بالاستنارةِ الدَّاخِلية بِرُوحِهِ يَجْعَلُ الكلمةَ المُنَادَى بها تَغُوصُ في قُلُوبِهِمْ. مَعَ إِنَّهُ أَحْيَانًا يُوَصِّلُ هذه الكلمةَ لأولئك الذين يُنِيرُهُم فَقَطْ لِمُوسِمٍ مُعَيَّنٍ، ثم بَعْدَ ذلك يَهْجُرُهُمْ لجُحُودِهِم، فَيَضْرِبَهُم بِعَمَى أَعْظَمَ. ... ودَعُونَا ... نَثْبُتُ في إعلانِ الكِتَابِ أنَّنَا "كُلّنا كَغَنَمٍ ضَلَلْنَا، ومِلْنَا كُلُّ وَاحِدٍ إلى طَرِيقِهِ،"[10] أيْ الدَّمَار. وأولئك الذين قَرَّرَ الربُّ أَنْ يُنْقِذَهُمْ مِنْ بُقْعَةِ الهَلاكِ، أَجَّلَ ذلك إلى وَقْتٍ مُعَيَّنٍ ....
لذا فَقَدْ قَامَ البعضُ باتِّهَام الله زَيْفًا وشَرًّا بِكَسْرِهِ للعَدْلِ والمُسَاوَاةِ، إذْ إنَّهُ في تَعْيِينِهِ السابِقِ لَمْ يَتَّبِعْ نَفْسَ المِقْيَاسَ تُجَاهَ الجميعِ. فَهُمْ يَقُولون، إِنْ وُجِدَ الجميعُ مُذْنِبِينَ فَلْيُعَاقِبْهُم جَمِيعًا بالمِثْل، وإنْ كَانُوا أبْرِيَاءً، فَلْيَحْجُبْ غَضَبَ عَدْلِهِ عَنْ الجَميعِ. لَكِنَّهُمْ يَتَعَامَلُونَ مَعَهُ كَمَا لَوْ كَانَ تُعْوِزُهُ الرَّحْمَةَ، أوْ كَمَا لَوْ إِنَّهُ في اختِيَارِهِ للرَّحْمَةِ كان مُجْبَرًا عَلى تَرْكِ العَدْلِ جَانِبًا. فما الذي يَتَطَلَّبُونَهُ؟ أَنْ يُعَاني الجميعُ نَفْسَ العِقَابِ لو كانِ الجميعُ مُذْنِبِينَ. ونَحْنُ نُقِرُّ بِأَنَّ الذَّنْبَ شَائِعٌ، لَكِنَّنَا نَقُولُ أَيْضًا أَنَّ البعضَ قَدْ تَمَّ إراحَتُهُم بالرحمةِ الإلهيةِ. وهُمْ يَقُولُونَ، فَلْتُرِحْ الجَمِيعَ. لَكِنَّنَا نُجِيبُ فَنَقُولُ إِنَّ العَدْلَ يَتَطَلَّبُ أَيْضًا أَنْ يُظْهِرَ ]اللهُ[ذَاتَهُ كَقَاضٍ عَادِلٍ في فَرْضِ العقوبة. وباعْتِرَاضِهِم عَلَى ذلك، أَلَيْسُوا يُحَاوِلُونَ أَنْ يَسْلُبُوا اللهَ فُرْصَةَ إظهارِهِ لِرَحْمَتِهِ، أَوْ عَلَى الأَقَل أَنْ يَسْمَحُوا لَهُ بِهَا عَلَى شَرْطِ أَنْ يَنْبُذَ عَدْلَهُ؟ لِذَا فإنَّ مُلاحَظَةَ أُغسطينوس مُلائِمَةٌ للغايَةِ، إذ قَالَ: "إذْ سَقَطَ الجنسُ البَشَرِيُّ بِجُمْلَتِهِ في الإدانة في الإنسان الأَوَّلِ، فَإِنَّ الآنِيَةَ المُشَكَّلَةَ مِنْهُ لِلْكَرَامَةِ، لَيْسَتْ أَوْعِيَةً لِلْبِرِّ الشَّخْصِيِّ، بَلْ للرَّحْمَةِ الإلهِيَّةِ. وإِنَّ تَشْكِيلَ آنِيَةٍ أُخْرَى للهَوَان تُعْزَى لا للاثْمِ، بَلْ للقَرَارِ الإلهي،" .... فَبَيْنَمَا يُجَازِي اللهُ الذين يَرْفُضُهُم بِعِقَابٍ مُسْتَحَقٍّ، ويُعْطِي مَجَّانًا أُولَئِكَ الذين يَدْعُوهُم نِعْمَةً غَيْرَ مُسْتَحَقَّةٍ، إلاَّ إِنَّهُ أَبْعَدَ مِنْ أَنْ يُلْصَقَ بِهِ أَيُّ اتِّهَامٍ، إذْ يُمْكِنُ تَشْبِيهُهُ بالمُدَايِنِ الذي كَانَ فِي مَقْدُورِهِ أَنْ يُطْلِقَ أَحَدَ مَدْيُونِيِه بَيْنَما يُطَالِبُ الآخَرَ بِدَيْنِهِ. فَالرَّبُّ إذًا يُمْكِنُهُ أَنْ يُعْطِي نِعْمَةً لِمَنْ يَشَاءُ، لأَنَّهُ رَحِيمٌ، دُونَ أَنْ يُعْطِيَهَا للجميعِ، لأَنَّهُ قَاضِي عَادِلٌ. ويُمْكِنُهُ إظهارَ نِعْمَتِهِ المَجَّانِيَّةِ بإعطاءِ البعضَ مَا لا يَسْتَحِقُّونَهُ بالمَرَّةِ، بَيْنَمَا، بِعَدَمِ إعطاءِ الجميعِ يُعْلِنُ عَدَمَ استِحْقَاقِ الجميعِ. إذْ عندما قال بولسُ، إِنَّ "الله قد أَغْلَقَ عَلَى الجميعِ تَحْتَ الخطيَّةِ، لِكَيْ يُظْهِرَ للجميعِ رَحْمَتَهُ،" لابد وأَنْ نُضِيفَ فَورًا أَنَّهُ ليس مَدْيُونًا لأَحَدٍ، لأنَّهُ لا يُوْجَدُ مَنْ "أَعْطَاهُ أَوَّلاً،" لِكَيْ يَكُونَ لَهُ الحَقُّ أَنْ يُطَالِبَهُ عِوَضًا.
كَمَا تُوجَدُ قَضِيَّةٌ[11] أُخْرَى غَالِبًا مَا تُطْرَحُ لِدَحْضِ التَّعْيِين السَّابِقِ. وهي أَنَّ تَأْسِيسَهُ يُودِي بأَيِّ اعتبارٍ أو فِعْلٍ لِتَقْوِيمِ السُّلُوك. فَهُمْ يَقُولُونَ إِنَّهُ مَنْ ذَا الذي يَسْمَعُ أَنَّ الحياةَ أو الموتَ مُعَيَّنٌ لَهُ بِمُقْتَضَى قَرَارٍ إلهيٍّ أَبَدِيٍّ لا يَتَغَيَّرُ دُونَ أَنْ يَسْتَنْتِجَ فَورًا أَنَّ تَهْذِيبَهُ لِسُلُوكِهِ لا أَهَمِّيَّةَ لَهُ، إذْ أَنَّ أيًّا مِنْ أَفْعَالِهِ لا يُمْكِنُهُ أَنْ يَعُوقَ أو أنْ يُحَقِّقَ تَعْيِينَ اللهِ السَّابِقِ بِأَيِّ شَكْلٍ مِنَ الأشْكَالِ؟ لذا فالجَمِيعُ سَيَسْتَسْلِمُون لليأْسِ، ويُهَرْوِلُونَ للإفْرَاطِ في كُلِّ ما تَقُودُهُمْ إليه مُيُولُهُمْ الشَّهْوَانِيَّةُ. وفي الحقيقةِ، إنَّ هذا الاعتراضَ لا يَخْلُو مِنَ الحَقِّ، إذْ يُوجَدُ العَدِيدُ مِنَ الأشخاصِ غَيْر الأنْقِياء الذين يُشَوِّهُون عَقِيدَةَ التعْيِين السَّابِقِ بِهَذِهِ التجديفات الآثِمَة، وبهذا العُذْرِ يَتَجَنَّبُونَ كُلَّ إنذَارٍ وتَوْبِيخٍ، قائلين: إنَّ اللهَ يَعْرِفُ ما قَرَّرَ أَنْ يَفْعَلَهُ مَعَنَا، فلو كان قَدْ أَقَرَّ خَلاصَنَا، فَسَوْفَ يُحْضِرُنَا إليه فِي وَقْتِهِ هو، وإنْ كانَ قَدْ أَقَرَّ مَصِيرَنَا للموت، فلا فائدةَ لِجِهَادِنَا ضِدَّهُ. لَكِنَّ الكِتَابَ، بَيْنَمَا يَغْرِزُ فِينَا الرَّهْبَةَ ووَقَارَ العَقْلِ في اعتبارِ هَذَا السِرِّ العَظِيم، إلاَّ إِنَّهُ يُعَلِّمُ الأتْقِياءَ اسْتِنْتَاجًا مُخْتَلِفًا تمامًا، ويَدْحَضُ الدَلالات الشريرة وغَيْر المَنْطِقِيَّة لهؤلاء الأشخاص. وذلك لأنَّ الخِطَّةَ التي يَحْتَوِيها عَنْ التعيين السَّابِقِ ليس هَدَفُهَا أنْ نُحَاوِلَ، في شَوْقِناَ للاستنتاجِ، أَنْ نَتَفَحَّصَ أَسْرَارَ اللهِ بِجَرْأَةٍ وَقِحَةٍ، بَلْ لِكَيْ يُمْكِنُنَا أَنْ نَتَعَلَّمَ أَنْ نَرْتَجِفَ باتِّضَاعٍ وانْكِسَارٍ أَمَامَ بِرِّهِ، و أَنْ نُفْتَتَنَ بِرَحْمَتِهِ. وإلى هذا الهدف، يَسْعَى المُؤمنون. أَمَّا الاعتراضات النَّجِسَةُ للأشرار، فَيَمْنَعُهَا بولس، ومَعَهُ الحَقُّ. فإنَّهُم يُنَادُون باستمرارهم الآمِنِ في شُرُورِهِم، لأنَّهُم لو كانوا مِنَ المُخْتَارِين، لَمَا أعَاقَ هذا السلوكُ إحضارَهُم للحياة في النهاية. لَكِنَّ بولس يُعْلِنُ أَنَّ غَايَةَ الاختيارِ هي أَنْ نَحْيَا في قداسةٍ وبِلا لَوْمٍ. فإذا كَانَ هَدَفُ الاختيار هو قَدَاسَةُ الحَيَاةِ، فبالحَرِيِّ يَجِبُ أَنْ يُوقِظَنَا ويُحَرِّكَنَا لِمُمَارَسَتِهَا، لا أَنْ يُسْتَخْدَمَ كَعُذْرٍ للتَكَاسُل. لَكِنَّ التَّوَقُّفَ عَنْ مُمَارَسَةِ الفَضِيلَةِ، باعتبارِ أنَّ الاختيارَ كَافِي للخلاص، تَهَافُتٌ،[12] إذْ أَنَّ الغَايَةَ المَطْرُوحَةَ للاختيارِ هي أَدَاؤُنَا الدَّؤُوبُ لأَفْعَالٍ فَاضِلَةٍ! فَلْنَبْتَعِدَ إذًا عَنْ هَذِهِ التَّحْرِيفَات الفَاسِدَةِ وغَيْر المُقَدَّسَة لِمَفْهُومِ الاختيار. بَلْ َهُمْ يَتَمَادُونَ في تَجْدِيفِهِم لأَبْعَدَ مِنْ ذَلك بإقْرَارِهِم بِأَنَّ كُلَّ مَنْ هُوَ مَرْفُوضٌ مِنَ اللهِ يَجْتَهِدُ بِلا نَتِيجَةٍ لو جَاهَدَ لِيُثْبِتَ لَهُ نَفْسَهُ مِنْ خِلالِ حَيَاةٍ بَرِيئَةٍ ونَزِيهَةٍ. لَكِنَّهُم هُنَا مُدَانُونَ بالزَّيْفِ الأَحْمَقِ. إِذْ أَنَّهُ مِنْ أَيْنَ يَنْبُعُ مِثْلُ هَذَا الحَثُّ، سِوَى مِنَ الاخْتِيار؟ فَمَنْ هُمْ مِنْ عِدَادِ المَرْفُوضِين، باعتبارِهِم آنِيَةٌ للهَوَانِ، لَنْ يَتَوَقَّفُوا عَنْ استِثَارَةِ الغَضَبِ الإلَهِيِّ ضِدَّهُمْ مِنْ خِلالِ تَعَدِّيَاتِهِم المُسْتَمِرَّة، ولِكَيْ يُثْبِتُوا بالدلائل القاطعةِ دَيْنَونَةَ اللهِ المُعْلَنَة ضِدَّهُم بالفِعْلِ، مِمَّا يَجْعَلُ جِهَادَهُمْ بِلا نَتِيجَةٍ أَمْرًا لا يُمْكِنُ حُدُوثُهُ أَبَدًا. ... والآن، بَيْنَمَا تُوجَدُ قَضَايَا[13] كَثِيرَةٌ عَلى كِلا الجَانِبَيْن، لِتَكُنْ خَاتِمَتُنَا هِيَ أَنْ نَقِفَ مَدْهُوشِينَ مَعَ بُولس أَمَامَ هَذَا السِّرِّ العَظيمِ. وفي وَسَطِ صُرَاخِ الأَلْسِنَةِ المُعَذَّبَةِ، دَعُونَا ألاَّ نَخْجَلْ مِنْ أَنْ نَتَعَجَّبَ مَعَهُ، قائلينَ: "مَنْ أَنْتَ أَيُّهَا الإنسانُ الذي تُجَاوِبُ اللهَ؟" إذْ كَمَا قال أغسطينوس، وكلامُه حَقٌّ، إنَّهُ مِنَ الخَطَأ الفَاحِشِ أَنْ نَجْعَلَ مِقْيَاسَ العَدْلِ الإنسانيّ مِقْيَاسًا لِعَدْلِ اللهِ.
[1]John Calvin, Institutes of the Christian Religion, ed. John T. McNeill, trans. Ford Lewis Battles (Louisville: Westminster John Knox Press, 1960), III.21-24.
[2]God’s eternal decree of election.
[3]Election and predestination.
[4]Foreknowledge.
[5]Calling.
[6]Justification.
[7] رو29:8-30.
[8] مت17:3.
[9] 1يو19:2.
[10] إش6:53.
[11]Argument.
[12]Inconsistency.
[13]Arguments.