«لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ لأُكَمِّلَ. 18فَإِنِّي الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِلَى أَنْ تَزُولَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ لاَ يَزُولُ حَرْفٌ وَاحِدٌ أَوْ نُقْطَةٌ وَاحِدَةٌ مِنَ النَّامُوسِ حَتَّى يَكُونَ الْكُلُّ. 19فَمَنْ نَقَضَ إِحْدَى هذِهِ الْوَصَايَا الصُّغْرَى وَعَلَّمَ النَّاسَ هكَذَا، يُدْعَى أَصْغَرَ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. وَأَمَّا مَنْ عَمِلَ وَعَلَّمَ، فَهذَا يُدْعَى عَظِيمًا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ. 20فَإِنِّي أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ إِنْ لَمْ يَزِدْ بِرُّكُمْ عَلَى الْكَتَبَةِ وَالْفَرِّيسِيِّينَ لَنْ تَدْخُلُوا مَلَكُوتَ السَّماوَاتِ.»
تقع آيات متى 5: 17- 20 ضمن الموعظة على الجبل، وتشمل الموعظة بما فيها من سمو تعاليم المسيح، واختلافه عن معاصريه من الربيين اليهود، مجموعة من التعاليم العميقة والتي تبدو في ظاهرها جديدة، لكنها في حقيقة أمرها تكميل، واستعلان للناموس في مجتمع الملكوت.
جلس المسيح يعلم تلاميذه، وبدأ بالتطوبيات. بعدها مباشرة، تحدث المسيح عن دور أتباعه في المجتمع، وحدد هويتهم كنور العالم وكملح الأرض. هم من يملكون قوة التغيير والإصلاح.
والآن يتحدث المسيح عن الناموس، عن التوراة والأنبياء. وتمثل هذه الآيات موقفًا مسيحيًا متوازنًا، على عكس موقف الفريسيين الذين حادوا عن قلب الناموس، وأضافوا إلى وصية الله تفسيرات خاصة. تتحدث هذه الآيات عن البر المسيحي والناموس. ويمكن تقسيم هذه الأعداد لـ:
المسيح والناموس (ع 17، 18)
ساد اعتقاد عند البعض أن المسيح جاء لينقض الناموس، أو هكذا أشاع أعداؤه من الكتبة والفريسيين. وربما ظن البعض الآخر أن المسيح جاء ليعدّل الناموس، أو يجعله ناموسًا أفضل، ويجمل عيوبه، ويحسنه.[i] لكن المسيح في هذه الكلمات «لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء» يؤكد الالتزام المطلق من جانبه من نحو الناموس والأنبياء. وهذا تعبير كلاسيكي في الكتاب المقدس يشير إلى العهد القديم ككل. فالمسيح هنا يؤكد التزامه الشخصي بالناموس الموسوي، ممثلاً في التوراة، والأنبياء، ممثلين في بقية أسفار العهد القديم.
يقول لوثر في هذا المجال، إن المسيح لم يأت ليحطم الناموس أو الأنبياء، ولم يأت ليخترع ناموسًا جديدًا. فالإنجيل ليس اختراعًا لناموس جديد أو تعديلاً للناموس المعروف، لكنه إعلان لما سبق وجاء عن المسيح (رو 1: 2)[ii] وكأن المسيح يقول «إني لا أحمل إليكم ناموسًا جديدًا، بل إني آخذ الناموس الذي هو معكم وأؤكده، وأتعامل معه بطريقة تجعلكم تؤمنون.»[iii]
فالمسيح يؤكد هنا على طبيعة علاقته التوضيحية بالناموس. ولم يكن قصده، كما اتهمه أعداؤه، بأن يحطم، أو يلغي الناموس. لم يأت ليقلل من ناموس الله، بل ليؤكده، ويؤكد على التزامه والتزام المؤمنين به بنفس الناموس. فالناموس، كما قال لوثر، «غني جدًا وكامل جدًا لدرجة يستحيل معها أن يضيف أحدهم شيئًا له.»[iv]
وهكذا فقد كان مستحيلاً على المسيح نفسه أن يناقض الناموس. فإن ناقض المسيح الناموس، ناقض نفسه![v] وهذا بالطبع أمر مستحيل. فالمسيح هو كماله، وغايته، هو مرتجاه وأمله. هو معطيه، وعليه يتوقف كل الناموس. إن محورية شخص يسوع المسيح في الكتاب المقدس تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك بأنه هو غاية الناموس. ولذلك، فالمسيح، كما قال كالفن، «يقصد هنا أن يؤكد على انسجامٍ كاملٍ بينه وبين الناموس والأنبياء.»[vi] هو بالحق نهاية الناموس.[vii]
ولم يقف المسيح عند هذا الحد بل أكد على أن بقاء الناموس مرهون ببقاء الكون نفسه. يقول المسيح إن زوال الناموس، كلمة الله المكتوبة، سيحدث فقط حين يعلن الله نفسه عن تأسيس السماء الجديدة والأرض الجديدة، أي حين ينتهي الكون المنظور. وهكذا فإن المسيح يؤكد على أن علاقته بالناموس ليست علاقة معلم بنصٍ، بل هي استمرارية نعمة الله المعلنة في كلمته منذ الأزل وحتى نهاية العالم.
وليؤكد التزامه الكامل بالناموس، روحًا ونصًا، قال المسيح إنه لن يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس. وهذا أمر شيق بالفعل. المسيح يؤكد أن أصغر شيء في الناموس، حتى الشيء الذي لا تلحظه العين المدققة لن يزول. لكن الأمر الواضح هو تأكيد المسيح على أن ما يبدو صغيرًا جدًا في الناموس لن يزول إلى أن تزول السماء والأرض. كلام المسيح لا يزول. حقًا إن كل الناموس يجد كماله في شخص المسيح، فالناموس كله ملخص في الإنجيل. وكذلك يجد الناموس في المسيح تكميلاً، وتوضيحًا. ففي المسيح، يصبح الناموس كاملاً.[ix]
المسيحي والناموسي (19، 20)
تحدث المسيح في الجزء السابق عن نموذج نفسه، والآن يضع أمام التلاميذ طبيعة علاقتهم بالناموس. ربما تخيل بعضهم أن المسيح سيضع لهم ناموسًا جديدًا، باعتباره مؤسس نظامٍ ديني جديد، على ما ظنوه. ولكن المسيح بعدما أكد التزامه شخصيًا بالناموس، يعود الآن ليؤكد على ضرورة التزام أتباعه بنفس الناموس. ويضع المسيح أمام تلاميذه كذلك تحدي المصداقية حيث يجب عليهم أن يلتزموا بالناموس أيضًا. يجب أن تتطابق الأقوال مع حرف الناموس، فليس من المعقول أن يعلموا بشيء هم يفعلون عكسه أو ضده.
وكأنه يقول، «إنني لن أنقض فحسب، بل إن أي تابع لي ينقض الناموس فهو لا يتبعني بالحق، ولن يرى ملكوت السموات من لم يلتزم بالناموس.»[x] وكما أكد كالفن فإنه يجب على أتباع المسيح أن يلتزموا بالناموس (بالوصايا العشر) وأن يصير الناموس أطارًا لحياتهم.[xi] وإن فعل التلاميذ بوصية المسيح فإن برهم سيكون أفضل من بر الفريسيين. لقد كانت مشكلة الكتبة والفريسيين في نياتهم، لقد جعلوا ناموس الله خادمًا لهم. ولم يخضعوا أنفسهم للناموس. المسيح، إذا، يشجع تلاميذه أن يخضعوا للناموس ويرتبطوا به، وهكذا يكون برهم زائدًا عن بر الفريسيين والكتبة.
المسيحيون العرب والناموس
إذ يتعرض الشرق الأوسط لصراع متزايد بين الدول العربية ودولة إسرائيل، يقف البعض من المسيحيين موقفاً غير متزن. فبعضهم ينكر على المسيح يهوديته، وصاروا يعلمون بأن المسيح لم يكن أصلاً يهوديًا، بل آراميًا سوريًا. والبعض الآخر لم يعد يرى في كتابات العهد القديم سوى نصوصًا عنصرية، استعمارية لا تهدف لشيء إلا للقتل والدمار. لقد استبعد هؤلاء من وعظهم، ولاهوتهم العهد القديم الذي صار بالنسبة لهم كتابًا يهوديًا لا أكثر.[xii]
وعلى المسيحيين الشرقيين المعتدلين أن يؤكدوا، في هذا المجال، التزامهم الكامل بنص العهد القديم—الكتب المقدسة القادرة أن تحكم للخلاص الذي بيسوع المسيح. وعليهم أيضًا أن يؤكدوا أن المسيح يسوع، رأس الكنيسة، هو تحقيق للناموس وغايته، وأن تعاليم المسيح لا تتنافى مع الناموس، بل توضحه، وتؤكده، وتعطيه المكانة الحقة. وهكذا نعلن تمسكنا بنص ووحي العهد القديم كجزء أصيل من إعلان الله للإنسان.