الاتساق مع الذات

«الاتساق» في أبسط معانيه هو «التناسق»، «التناغم». فاللوحة غير المتناسقة الألوان هي لوحة فوضوية، لا تنجذب لها العيون، والموسيقى غير المتناغمة هي موسيقى نشاذ، لا تطرب الآذان، وفي العلوم الصورية (كالمنطق والرياضيات) يكون مقياس عدم التناقض هو مقياس الصواب والخطأ، أما في العلوم الطبيعية (كالفيزياء والكيمياء) يكون المقياس بتطابق النتائج مع الواقع.

الأهم من هذا كله: هل يتحقق «الاتساق» في عالم الإنسان؟ وعندما أقول عالم الإنسان، أقصد الأفراد (كشخصيات حقيقية)، والمؤسسات (كشخصيات اعتبارية تتكون من الشخصيات الحقيقية)، لقد صُنِّفَتْ مصر في وقت من الأوقات ضمن الدول الأكثر تدينًا على مستوى العالم، وفي ذات الوقت كانت الأكثر في استخدام المواقع الإباحية، والتحرش، وزيادة معدل الجريمة! هذه صورة صارخة لعدم الاتساق، وعند الحديث عن الاتساق وجب الإشارة إلى شقين أساسيين، هما:

أولاً: الاتساق الفكري

قد تتطور قناعات الشخص عبر الوقت، فإذا تناول أحدهم فكرة في كتاب ما، كتبه في مرحلة عمرية مبكرة من حياته، ثم كتب كتابًا آخرًا في مرحلة لاحقة بعد عدة سنوات، قد تجد تعارضًا في بعض الأفكار، أزعم أن هذا أمر وارد جدًا، ولا اعتبره عدم اتساق، وإنما تطور فكري، ولكن ما أعنيه أن يقبل الشخص عقيدة ما، وفي ذات الوقت يرفض عقيدة أخرى، في حين أن العقيدتين إما يجتمعان معًا أو يرتفعان معًا، فقبول الواحدة يُحتِّم بالضرورة قبول الأخرى، ما أقصده هناك فارق بين «التطوير»، «عدم الاتساق»، كالفارق بين أن ينظر المرء إلى صورته في ألبوم صور، فيجد اختلافًا في الشكل بين ما كان عليه، وما أصبح عليه الآن، ومن ينظر إلى صورته في المرآة ويجد أيضًا اختلافًا في الشكل بين الأصل والصورة! ففي الحالة الأولى «تطور»، وفي الحالة الثانية» عدم اتساق».

ومن الصور الفاضحة التي تكشفها وسائل التواصل الاجتماعي، ميول الناس إلى ترديد الأقوال المأثورة التي ننقلها عن السلف، دون تأمل أو تفكير، بوصفها أقوالاً مقدسة لا تقبل الجدل، كقبول بعض الأقوال مهما كانت تافهة وضحلة، وعمل إعجابات وتعليقات... إلخ، طالما صدرت من شخص مرموق، وعدم قبولها -بل ونقدها نقدًا لاذعًا- طالما صدرت من شخص مساوٍ! وهذا ما يسميه فرنسيس بيكون «وهم المسرح» كأحد عوائق التفكير الموضوعي، فالتبعية العمياء لأقوال المشاهير والقادة تظهر بوضوح على موقع التواصل الاجتماعي Facebook، فعندما يتفوَّه أحد المشاهير بعبارة -مهما كانت بساطتها- تكون الغالبية ذيولاً/ أذيالاً لها، وعندما ينطق أحد المهمشين بِحِكَمٍ -مهما كانت قوتها- تكون الأغلبية أقدامًا لتدوسها! وفي حقيقة الأمر -ومع الأسف الشديد- عندما تكون صغيرًا، فعليك أن تدقق فيما تقوله، لأن العيون تتصيد لك الأخطاء، بل وتخترعها، بينما عندما تصير كبيرًا (من حيث الشهرة والمكانة) فقل ما شئت، سيصفق لك الجميع، وإن لم تصدق هذا!

صورة أخرى .. تجد أحدهم يرفض لونًا معينًا من الترانيم، كالترانيم الشعبية الحديثة، وفي ذات الوقت ينشر على حسابه الشخصي على فيسبوك ترنيمة من نفس هذا اللون الذي يرفضه! أو يرفض لون معين من الترانيم، لكنه يعود فيمدح ترنيمة معينة من نفس اللون، لمجرد أن مرنم معين -لمع نجمه- رنم تلك الترنيمة!

ثانيًا: الاتساق السلوكي

السلوك يبدأ من حيث وصل الفكر، وللتوضيح دون الدخول في تفسير الآيتين، جاء في سفر إشعياء «ذو الرأي الممكن تحفظه سالمًا سالمًا لأنه عليك متوكل» (إش26: 3)، بينما يقول الرسول يعقوب: « رجلٌ ذو رأيين هو متقلقل في جميع طرقه» (يع1: 8)، فالاتساق الفكري أو عدمه يقود بالضرورة إلى الاتساق السلوكي أو عدمه، ففي الآيتين السابقتين، التعبيران: «ذو الرأي الممكن» (اتساق فكري)، «رجلٌ ذو رأيين» (عدم اتساق فكري)، يختصا بالجانب الفكري، بينما التعبيران: «سالمًا» (اتساق سلوكي)، «متقلقل في كل طرقه» (عدم اتساق سلوكي)، يختصا بالجانب السلوكي، فالأقوال والأفعال في الأصل فكرة.

ويندرج تحت عدم الاتساق السلوكي الأقوال والأفعال، والتناقض بينهما، أو حتى التناقض بين أقوال وأقوال، أو التناقض بين أفعال وأفعال، فيمارس الواحد سلوكًا معينًا مع شخص، بينما يكون له تصرف آخر، إذا صدر نفس السلوك من شخص آخر! لذا ينطبق عليهم قول الحكيم: «مبرئ المذنب، ومذنب البريء كلاهما مكرهة الرب» (أمثال 17: 15)، «معيار فمعيار، مكيال فمكيال، كلاهما مكرهة عند الرب» (أمثال 20: 10)، وغيرها. وهذه كلها صور من عدم الاتساق السلوكي مع الأشخاص، أما عن التناقض بين الأقوال والأفعال، لقد قالوا لبطرس: «لغتك تُظهرك» (متى 26: 73)، وإني أقول: «بل أفعالك تُظهرك أكثر وضوحًا!».

ملاحظات ختامية

  1. إن محاولة تحقيق الاتساق في المؤسسة (كشخصية اعتبارية)، لن يتحقق أبدًا ما لم يتحقق الاتساق مع ذات لدى الأفراد في هذه المؤسسة (كشخصيات حقيقية)، وأي محاولات من مثل هذا القبيل هي كمن يصارع الهواء، أو يحرث في الماء! لقد فقدت بعض المؤسسات تأثيرها في المجتمع، بل وفي الدائرة الأصغر من المجتمع، لوجود فجوة كبيرة بين الواقع والمأمول، بين لوائح المؤسسة وما يحدث من استغلال مواقع للمنتمين للمؤسسة، لذا ساد فساد، وانتشر في كل الأركان، يتغنون بالديمقراطية، وهم لا يعرفون إليها سبيلاً، يتحدثون عن النزاهة، وهم يرجحون أهل الثقة عن أهل الخبرة، ويلمعون من تستريح إليهم قلوبهم، وليس من تقتنع بهم عقولهم، فيدوسون كالخنازير الموهوبين وأصحاب الكفاءات.
  2. الإصلاح الحقيقي يبدأ بإصلاح الفكر قبل السلوك، وكما تقول حكمة قديمة: «إذا أردت أن تصلح نهرًا، فاصلح منبعه!»، فالفكر يقود إلى السلوك.
  3. علينا أن نفحص قناعتنا من وقتٍ لآخر، لنتخلص من كل ما هو رث، ونثبت فيما هو أصيل.
  4. الدعوة هي أن يبدأ كل واحد بنفسه، أزعم أن عدم الاتساق مع الذات موجود في جميعنا، وإنما بنسب متفاوتة، فليبدأ كل منَّا بنفسه، سُئلت الأم تريز ذات مرة في حديث صحفي: «هناك بعض الأمور التي تحتاجها الكنيسة العامة لكي تنمو وتنهض، في رأيك الشخصي.. ما أهم الأمور التي تحتاج إلى تغيير؟»، وكان جوابها غير متوقع، فقالت: «أنا من يحتاج إلى التغيير!».

طباعة  
مقالات

د. القس وجيه يوسف

«لاَ تَظُنُّوا أَنِّي جِئْتُ لأَنْقُضَ النَّامُوسَ أَوِ الأَنْبِيَاءَ. مَا جِئْتُ لأَنْقُضَ بَلْ...

مقالات في العقيدة

القس عماد شوقي

في أيام المسيح كان هناك اختلاف لاهوتي حول عقيدة القيامة فالفريسيون كانوا  يعتقدون بوجود...

مقالات

الأستاذ فادي عاطف

المقدمة بدأ الإصلاح البروتستانتى فى القرن السادس عشر رافعاً واحد من اهم شعاراته التاريخية...

مقالات في العقيدة

القس عماد إسحق

في أَجواء الميلاد المجيد تحتفل الكنيسة بحادثةٍ تاريخيَّة جليلة تطلُّ علينا بكثيرٍ من العِبَرِ...

مقالات

القس أشرف نادي

في هذا العصر الذي صارت فيه كلمة الرب عزيزة جداً (!) ، ولم يعد للأساسات الكتابية ( العقيدة ) قيمتها...

مقالات

القس وجيه يوسف

عرض لليتورﭼـيّة يوحنّا كالــﭬـن يشعر الكثيرون من الإنجيلييّن بعدم الراحة إذ يسمعون تعبير...

مقالات

القس مدحت موريس

«الاتساق» في أبسط معانيه هو «التناسق»، «التناغم». فاللوحة غير المتناسقة الألوان هي لوحة فوضوية، لا...

مقالات في العقيدة

د. القس هاني يوسف

الاختيــــــــــــــــــــــار[1] إنَّ عَهْدَ الحياة لا يُنَادَ به للكل بصورة متساوية، كما إنه لا...

مقالات

القس فخري يعقوب

اخْتَلَفَتْ لَهْجَةُ يُوحَنَّا الرَّسُول فِي رَسَائِلِهِ إِلى الْكَنَائِس السَّبْع فِي سِفْرِ...

مقالات

القس باسم عدلي

من أَكبر التّحديّات الّتي يُمكن أَن نعيشها في حياتنا المسيحيّة هو تحدّي العطاء, فالعطاء عكس...

مقالات

القس نصرالله زكريا عبيد

تناولت الصحف ووسائل الإعلام المصرية بمختلف أطيافها العلاقة المتوترة بين الكنيسة الأرثوذكسية من...

مقالات

د. القس يوسف سمير

«أَخِيراً يَا إِخْوَتِي تَقَوُّوا فِي الرَّبِّ وَفِي شِدَّةِ قُوَّتِهِ. الْبَسُوا سِلاَحَ اللهِ...

مقالات في تاريخ الكنيسة

Admin Author

هي كنيسة الشعب، فالشعب هو القاعدة، الشعب هو الذي يختار القسوس، ومن الشعب ينتخب الشيوخ...

مقالات في العقيدة

جون كالفن

  يطرح كالفن السؤال التقليدي: "كيف نصلي؟ وما هي القواعد-إن صح هذا الإسم- التي ينبغي أن...

مقالات

القس عادل بطرس

يَكْمُنُ الْخِلاف الشَّديد بَيْنَنَا وَبَيْنَ الكنائس التَّقليدِيَّة فِي مَوضُوع «الْعَشَاء...

مقالات في العقيدة

القس شكري شاكر

ذَهَبَتْ إِحْدَى السَّيِّدات إِلى أَحَدِ الرُّعَاة، وَكَانَ رَجُلًا تَقِيًّا مِنْ رِجَالِ الله...

مقالات عن أرض الموعد

مهندس صبري مقار

القى الرئيس الأمريكي بقنبلته المتوقعة، معلناً بدء إجراءات نقل السفارة الأمريكية في إسرائيل إلى...

مقالات

القس عيد صلاح

مزمور 23 هو شعار الإيمان والحياة في ظل الظروف الصعبة، منه نتعلم شجاعة الحياة. آفة الحياة هي الخوف،...

مقالات في العقيدة

القس ديفيد جبرا

«لأَنَّنِي تَسَلَّمْتُ مِنَ الرَّبِّ مَا سَلَّمْتُكُمْ أَيْضاً: إِنَّ الرَّبَّ يَسُوعَ فِي...

مقالات في العقيدة

القس فخري يعقوب

هُنَاك اخْتِلَافٌ عَلَى مَرِّ الْعُصُور حَولَ فَهْمِ وَمُمَارسةِ الأَسْرارِ الْمُقَدَّسة، وَلَقَدْ...

مقالات

القس عادل حنين

الأَلمُ هو قصّةُ كُلِّ إِنسانٍ على الأَرض، فكُلٌّ لهُ تاريخٌ مع الأَلم، حتَّى يُمكننا القول إِنَّ...

مقالات

القس عادل حنين

تناول الاعلام المصري في الفترة الأخيرة عبر القنوات التليفزيونية موضوع سكنى الأرواح الشريرة للبشر،...

مقالات

الكاتب لورانس ريتشارد ترجمة جورج عزت

يشعر المسيحيّون بعدم الارتياح في الإتّفاق مع قَوْل المُرنّم، «أَجْرَيْتُ حُكْماً وَعَدْلاً» ...

مقالات في العقيدة

جون كالفن / ترجمة د. هاني يوسف

إن العشاء الرباني، هو فِعْلُ النعمةِ المُستمرّ الذي فيه يَقَوتُنا الآبُ كأطفالٍ له حتى نَصِلَ إلى...

مقالات عن أرض الموعد

القس سهيل سعود

"لمن أرض الموعد"، هو عنوان كتاب، للقس الانجيلي الانكليزي، الدكتور كولين تشابمن الذي عاش في منطقة...

مقالات

القس نصرالله زكريا عبيد

يرتكز الفكر المسيحي في الزواج على ما جاء في سفر التكوين، حيث يتأكد من القصة الكتابية أن الله هو...

مقالات

القس نصرالله زكريا عبيد

 لم يمضِ أكثر من ثلاثة أشهر منذ إعلان السلطات الصينية عن أول إصابة بفيروس كورونا المستجد...

مقالات في تاريخ الكنيسة

Admin Author

كلمة كنيسة: استخدم المسيحيون الأوائل هذه الكلمة وكانت تعني وقتئذ للذين قبلوا الإيمان بالمسيح ربًا...

مقالات

القس عيد صلاح

وجدتُ في كتاب «ماذا يُريدُ مِنَّا الله» لمارجوري داي، تعريب سمير فؤاد، صادرٌ عن دارِ الثّقافة عام...

مقالات في العقيدة

القس جرجس جورج

لن يَنْتَهِيَ الجدال والبحث حول مواهب الرُّوح القدس؛ ما دام هناك احتياجٌ مُلّح من البشر، يُقابلهُ...

مقالات في العقيدة

القس نصرالله زكريا عبيد

يؤمن المسيحيون على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم بأهميّة وقيمة العشاء الرباني، وإن اختلفوا في التسمية أو...

مقالات

القس نصرالله زكريا عبيد

الزواج في المسيحية هو عهد ارتباط بين رجل واحد وامرأة واحدة، والله نفسه هو الشاهد على هذا العهد،...