لن يَنْتَهِيَ الجدال والبحث حول مواهب الرُّوح القدس؛ ما دام هناك احتياجٌ مُلّح من البشر، يُقابلهُ عجزٌ كبيرٌ في الإِمكانيّات. وبذلك يكون صاحبُ الموهبة (فوق الطّبيعيّة) هو صاحب الكلمةِ الأُولى والأَخيرة في الأَمر. حيث يجد أَرضًا خصبةً في مُجتمعٍ كَثُرت فيهِ الخُرافة وعمَّهُ الفقر والجهل.
فظهرت الكثيرُ من الحركات المسيحيَّة –البعض أَصبح مذاهب- الَّتي تتبنّى مفهومًا خاصًّا حول مواهب الرُّوح القدس؛ وفقًا لتفسير بعض النُّصوص الكتابيَّة الَّتي تتحدّث عن المواهب الخاصّة للرُوح القدس- تُسمّى أَيضًا بالمواهب المُعجِزِيَّة، أَو المواهب فوق الطَّبيعيّة- كما يُطلقون عليها.
وكتابات الرسول بُولُس غنيّةٌ بالحديث عن مواهب الرُّوح القدس. فلقد ذُكِرَ الحديث عن المواهب -في رسائل بُولُس الرّسول- في ثلاثةِ مواضع: (رُومية12: 6- 8؛ 1كُو12: 8- 10، 28؛ أَف9: 11)، وقُسِّمت تلك القائمة إِلى مجموعتين: الأُولى مواهب بنائيّة: كالتَّعليم، والوعظ، والتّدبير...إِلخ. والمجموعة الثَّانية: مواهب التَّكلّم بأَلسنة، وترجمة الأَلسنة، والشِّفاء...إِلخ.
والجدير بالذِّكر أَنَّ المواهب الخاصَّة بالتَّكلُّم بأَلسنة، وترجمة الأَلسنة والشِّفاء...إِلخ، جاءت فقط في رِسالة بُولُس الرّسول إِلى أَهل كُورِنْثُوس(1كو12)، بينما لم تُذكر هذه القائمة في رومية أَو أَفَسُس، ويوجد تفسيرٌ لهذا، حيث أَنَّ بُولُس الرّسول كان يعالج مشكلةً لم تُوجَدْ إِلَّا في كنيسة كُورِنْثُوس، الَّتي كانت خلفيّتها وثنيّة ومرتبطة بالدِّيانات السِّرِّيَّة، والَّتي كان لها بعض الطّقوس الَّتي من خلالها يقع المُتعبّد تحت تأثيراتٍ مُعيّنةٍ -كما يعتقد البعض- وتُعْزَى هذه التَّأثيرات إِلى الإِلهِ الَّذين يعبدونهُ. وعِندما كان يَشْتَدُّ التَّأثير على الفرد لدرجةٍ لا تُحْتَمَلُ يَلْعَنُ- أَنَاثِيما- هذا الإِله، لِكَي يَتَخلَّصَ من هذا التَّأثير. ولقد ظلّ بعضُ الأَفرادِ الَّذين دخلوا إِلى المسيحيّة لديهم نفس الاعتقاد، وحاولوا مُمارسة تلك الاعتقادات الوثنيّة داخل الكنيسة، فصارت مشكلة، وَمن ثَمَّ تَدخّل الرّسول بُولُس مُبْعِدًا طقوسهم القديمة ومُعتقداتهم الوثنيّة عن حياتهم ومُعتقداتهم الجديدة، مُناديًا باختلاف الرُّوح القدس ومواهبهِ وتأَثيرهِ عن مُعتقداتهم القديمة. «أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ أُمَمًا مُنْقَادِينَ إِلَى الأَوْثَانِ الْبُكْمِ كَمَا كُنْتُمْ تُسَاقُونَ.» فالمواهب جميعها مُتساوية في القيمةِ وتُكمّل كُلٌّ منها الأُخرى. فلا مجال للتَّفاخُر، ولا مجال للكبرياء. فالمواهب أُعطِيت لخدمة الكنيسة وبنيانها.
هذه المواهب تَمْلكها الكنيسة وليس الأَشخاص، الجماعة وليس الأفراد، لا لإِلغاءِ الفرد بل لبُنيان الجماعة، فيكون هناك تنوّع ولكن في وِحْدَةٍ، إِذْ أَنَّ التّنوّع دُون وِحْدَةٍ فَوضَى لا قُوَّة لهُ، والْوِحْدَة دُون تنوّعٍ لا معنى لها.
وبالنَّظر إِلى ما تحتاج إِليهِ الكنيسة الآن فهو فَهْم قول الكتاب «َلَكِنْ جِدُّوا لِلْمَوَاهِبِ الْحُسْنَى. وَأَيْضًا أُرِيكُمْ طَرِيقًا أَفْضَلَ» فهذه المواهب الحُسنى هي المواهب الجماعيَّة دون انفصالٍ عن الكنيسة. فلو فُرِضَ أَنَّ هذه المواهب الخارقة موجودةٌ إِلى الآن، فهي لن تكون لفردٍ بعينهِ دون الآخر لكنَّها للجماعة، فصلاة الكنيسة تشفي، ووعظ الكنيسة نُبوّة، وتواصل الكنيسة بلُغةٍ يفهمها المُجتمع، بلُغةٍ تُمجّد الله هي الأَلسنة وترجمتها. وكُلّ سعيٍّ فرديّ نحو ما يُطلق عليه المواهب فوق الطَّبيعيَّة هو بحثٌ عن التَّميّز والفرديَّة الَّتي لا تبني. ويزاد الطَّلب -لو جاز التَّعبير- على تلك المواهب عند الأَقليّات المقهورة من الجهل، والفقر، والمرض أَو انعدام الثَّقافة، ورُبَّما كُلّ هذه العوامل مُتشابكة معًا. فالسَّعي هُنَا لا للخدمةِ بل لصِناعة مُعجزةٍ، للتَّميّز وأَحيانًا للشُّهرة ولربح المال، وعلى الصَّعيد الآخر هناك المُحتاج العاجز على التَّغيير، أَو التَّحمُّل، أَو تَقَبُّل الوضع. فالأَوَّلُ مُقتنعٌ بأَنَّه يمتلك موهبة مُعجزيّة، والآخر يُصدّق أنَّ هذا الشَّخص يمكنه أن يخلصه مما هو فيه.