"لمن أرض الموعد"، هو عنوان كتاب، للقس الانجيلي الانكليزي، الدكتور كولين تشابمن الذي عاش في منطقة الشرق الأوسط لمدة 16 سنة، وعاين آلام وعذابات ومآسي الشعب الفلسطيني الذي طرد من بلاده. وقد حاول البعض تبرير ذلك، على أنها ارادة الله، أن يرجع شعبه الى الأرض التي وعدهم بها منذ القديم. فقد كتب القس تشابمن كتابه عام 1983، ثم عاد وراجعه في العام 2012. فالقس تشابمن يذكر في كتابه أن مسألة فلسطين ليست موضوع يرتبط بفكرة وعد الله لليهود بأن يعطهم أرض الموعد لامتلاكها الى الأبد، وتحقيق الله لوعده القديم، وانما هي مسألة انسانية وسياسية كبيرة، تظهر سيادة الظلم من قبل الإسرائيليين، وزوال العدالة وحقوق الانسان. ويقدم الكاتب تشابمن، من دراسته للعهد الجديد، ولنظرة يسوع المسيح ورسل الكنيسة تفسيرا جديدا للوعد القديم بأرض الموعد، وهذا التفسير يشير الى أن أرض الموعد ليست
قطعة أرض جغرافية موجودة في فلسطين، وانما تشير الى ميراث روحي محفوظ في السماوات لأولاده المؤمنين، كما قال الرسول بطرس،" مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي حسب رحمته الكثيرة ولدنا ثانية لرجاء حي بقيامة المسيح من الاموات، لميراث لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل، محفوظ في السموات لأجلكم" (1بطرس 1: 3-5).
لهذا يجب التعاطي مع هذه المسألة، ليس على طريقة الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي يصرّح مؤخرًا على أن القدس هي عاصمة نهائية لإسرائيل، بل يجب التعاطي مع قضية الظلم هذه، بشكل إنساني وسياسي يحفظ حقوق الشعب الفلسطيني. فالخطية في مفهومها اللاهوتي ليست فقط خطية فردية، كالكذب والسرقة والغش وغيرها، وإنما هي أيضًا خطية الجماعة المتجسدة في الظلم والقهر والاستعباد والتي نراها في أبشع تجلياتها في الأحداث العسكرية والسياسية في فلسطين المحتلة. فالله يرفض الظلم بكل أشكاله. والنبي ميخا أخبر الشعب اليهودي وأخبرنا، بماذا يطلبه منا الرب، قائلاً: "قد أخبرك أيها الانسان ما هو صالح وماذا يطلبه منك الرب، الا أن تصنع الحق وتحب الرحمة وتسلك متواضعا مع إلهك" (ميخا 6: 8). فصنع الحق ومحبة الرحمة والسلوك بتواضع مع الله، هو مطلب الله من كل محبيه.
ولتبيان ذلك، لابد من مقاربة موضوع الوعد القديم بأرض الموعد، بالعودة الى كتاب العهد القديم. ومن ثم التوقّف لنرى نظرة كتّاب العهد الجديد الى الموضوع، وأهمية تفسير وعد العهد القديم، على ضوء العهد الجديد الذي يفسّر ويوضّح كل نبوءات العهد القديم، لنرى كيف تحقّق الوعد القديم من خلال قيامة الرب يسوع من الموت وتعاليمه وكرازته بملكوت الله. وكيف أن الرسل فسّروا الوعد بالأرض، بالميراث المحفوظ في السماء والوطن السماوي الأفضل، بدلا من مملكة أرضية، في أرض كنعان على قطعة جغرافية معينة في فلسطين.
يخبرنا سفر التكوين الاصحاح 12: 1-7، قصة دعوة الله لإبراهيم ووعده له بأن يعطيه أرض كنعان. ويكرّر الله وعده له مرات عديدة، "وقال الرب لإبرام: اذهب من أرضك ومن عشيرتك ومن بيت أبيك، الى الأرض التي أريك" (تكوين 12: 1) وفي العدد 6 و 7، نرى ابراهيم قد ذهب الى أرض الموعد، "واجتاز ابرام في الأرض الى مكان شكيم الى بلوطة مورة، وكان الكنعانيون حينئذ في الأرض. وظهر الرب لإبرام وقال لنسلك أعطي هذه الارض." وفي سفر يشوع، نرى قصة غزو الشعب اليهودي أرض الموعد بقيادة النبي يشوع، والتي حدثت حوالي 1400 سنة قبل المسيح. يقول النبي يشوع للشعب "هيئوا نفوسكم زادًا. لأنكم بعد ثلاثة أيام تعبرون الاردن هذا، لكي تدخلوا فتمتلكوا الأرض التي يعطيكم الرب إلهكم لتمتلكوها" (يشوع 1: 11). وهكذا حدث غزو أرض كنعان وسط الكثير من القتل لطرد الكنعانيين الساكنين، "فضرب يشوع كل أرض الجبل والجنوب والسهل والسفوح وكل ملوكها. لم يبق شاردًا بل حرّم كل نسمة، كما أمر الرب إله إسرائيل، فضربهم يشوع من قادش برنيع إلى غزة وجميع أرض جوشن الى جبعون. وأخذ يشوع جميع أولئك الملوك وأرضهم دفعة واحدة، لأن الرب اله إسرائيل حارب عن إسرائيل" (يشوع 10 : 40-42). وفي الاصحاح (21: 43-44) نرى تحقّق وعد الله بامتلاك الأرض، اذ يقول يشوع "فأعطى الرب إسرائيل جميع الأرض التي أقسم أن يعطيها لآبائهم، فامتلكوها وسكنوا فيها. فأراحهم الرب حواليهم، حسب كل ما أقسم لآبائهم، ولم يقف قدامهم رجل من جميع أعدائهم، بل دفع الرب جميع أعدائهم بأيديهم". بعد امتلاك اليهود لأرض الموعد على زمن يشوع، فانهم عادوا وخسروها. وقد اعتبر الله خسارتهم للأرض عقابا لهم، لأنهم لم يسلكوا بحسب شريعة الله ووصاياه، بل عبدوا الأصنام وعاشوا حياة امتلأت بالفساد والظلم. وقد ذكّر بعض أنبياء الشعب اليهودي، بأن امتلاكهم للأرض، كان مشروطا بتطبيق شريعة الله وعيش حياة الايمان. وان خسارتهم للأرض، سببه بعدهم عن الله. في هذا السياق نورد صلاة النبي دانيال الذي خاطب الله قائلا: "لك يا سيّد البر، أما لنا فخزي الوجوه، كما هو اليوم لرجال يهوذا ولسكان أورشليم ولكل إسرائيل القريبين والبعيدين في كل الاراضي التي طردتهم اليها، من أجل خيانتهم التي خانوك اياها. يا سيّد لنا خزي الوجوه. لملوكنا ولرؤسائنا، لأننا أخطأنا اليك" ( دانيال 9: 7و8).
الا أن بعض الأنبياء، كإرميا وحزقيال وعاموس، عادوا وتنبأوا عن ارجاع الله لشعبه اليهودي الى الأرض التي وعد بها ابراهيم. من هذه النبوءات: نبوءة النبي ارميا في الاصحاح 16: 15،" بل حيّ هو الرب الذي أصعد بني إسرائيل من أرض الشمال ومن جميع الأراضي التي طردهم اليها، فأرجعهم الى أرضهم التي أعطيت آباءهم اياها". نبوءة النبي عاموس في الاصحاح 9: 14-15 "وأردّ سبي شعبي إسرائيل، فيبنون مدنا خربة ويسكنون، ويغرسون كروما ويشربون خمرها، ويصنعون جنّات ويأكلون أثمارها، وأغرسهم في أرضهم ولن يقلعوا بعد من أرضهم التي أعطيتهم، قال الرب إلهك". نبوءة النبي حزقيال في الاصحاح 36: 22-24، "لذلك فقل لبيت إسرائيل، هكذا قال السيد الرب: وآخذكم من بين الأمم، وأجمعكم من جميع الاراضي، وآتي بكم الى أرضكم... وتسكنون الأرض التي أعطيت آباءكم اياها. وتكونون لي شعبا. وأنا اكون لكم الها ". وفي الاصحاح 48 من سفر حزقيال، نقرأ نبوءة عن اعادة تقسيم الأرض للشعب اليهودي.
ان قراءة هذه النبوءات وغيرها بطريقة حرفية، من قبل بعض يهود اليوم، وبعض المسيحيين في الغرب، أعطاهم مبررا يبرّرون فيه غزو الإسرائيليين أرض الموعد، واقامة دولة يهودية في فلسطين عام 1948، واستمرار الظلم الذي لا يزال يلحق يوميا بالفلسطينيين، كونهم يعتبرون امتلاك الأرض حقا الهيا مقدسا، دون أن يستوقفهم بأن الرب يسوع المسيح، ورسل العهد الجديد، أعادوا تفسير هذا الوعد تفسيرا جديدا. وبالتالي، انطلاقا من تفسيرهم الجديد، لا يمكن ومن غير الجائز، تفسير نصوص الوعد القديم بالأرض، تفسيرا حرفيا، دون الأخذ بعين الاعتبار، تفسير المسيح والرسل المفسرين الأوائل، الذين لديهم السلطة العليا، في تفسير نصوص نبوءات العهد القديم، لا سيما، نبوءة الوعد بالأرض.
ينظر بعض اللاهوتيين، الى قصة غزو أرض كنعان بقيادة النبي يشوع، في إطار الاعلان الالهي التدريجي، في مرحلة من مراحل الاعلان الالهي التدريجي في التاريخ. اذ أن الله أعلن عن نفسه للإنسان، في مراحل تدريجية متتالية، كان لكل مرحلة ظروفها وحيثياتها، الى أن تتوّجت هذه المراحل، في الاعلان الالهي النهائي، في شخص الرب يسوع المسيح. يقول كاتب سفر العبرانيين 1: 1-2، "الله بعدما كلّم الآباء بالأنبياء قديما بأنواع وطرق كثيرة، كلّمنا في هذه الأيام الأخيرة، في ابنه يسوع المسيح، الذي جعله وارثا لكل شيء الذي به أيضًا عمل العالمين". فقصة غزو أرض كنعان، تأتي في مرحلة تاريخية قديمة، نحو 1400 سنة قبل المسيح. وقد حدثت في طريقة قديمة تقاطعت، مع سياق تاريخي قديم، اذ مارست حضارات قديمة متعددة كالشعوب البابلية والفارسية وغيرها التطهير العرقي. الا أن نظرتنا الى كل الطرق والاعلانات القديمة، يجب أن يعاد قراءتها وتقييمها اليوم، من خلال العهد الجديد، من خلال الاعلان النهائي الكامل لله، الذي تحقّق في ابنه يسوع المسيح، بهاء مجد الله. فقط من خلال نظّارات، يسوع المسيح والعهد الجديد، يجب أن ننظر الى كل الاعلانات والنبوءات القديمة، لا سيما، نبوءة تحقيق الله لوعده لإبراهيم بإرجاع الشعب اليهودي الى أرض الموعد، واعطائهم اياها ملكًا أبديًا. فالوعد بالأرض لإبراهيم، لم يكن غاية بحد ذاتها، بل وسيلة مؤقتة في مرحلة تاريخية معينة، من أجل الغاية النهائية والاعلان الأكبر والأوسع والأعظم، والذي هو اظهار الله محبته الكاملة ليس لشعب معين في منطقة جغرافية معينة في الشرق الاوسط، وانما لكل شعوب العالم وفي كل مناطق العالم، كما قال الله لإبراهيم حين وعده بالأرض، "وتتبارك فيك جميع قبائل الأرض" (تكوين 12: 3).
يميل بعض المفسّرين الحرفيين من المسيحيين، الى تعظيم نبوءات العهد القديم، لاسيما حول الأرض، على حساب توجهات العهد الجديد ورسالة المسيح. في كتابه Last Things"الأمور الاخيرة" الذي صدر عام 1996، قال اللاهوتي الهولندي المصلح Irenic Bavinc"إن تفسير نصوص نبوءات العهد القديم حرفيا، يعني انشقاقنا عن المسيحية والعودة الى اليهودية، لأن تفسير المملكة المسيانية بمملكة أرضية، هو رجاء اليهود". وبقوله هذا، لا يقصد الكاتب أن يقول، بأن العهد الجديد يتعارض مع العهد القديم، أو أن العهد القديم غير موحى به من الله، أو أقل وحيا من العهد الجديد، أو ليس له سلطة روحية على المسيحيين، انما يقصد القول، أن توجّهات العهد الجديد ورسالة المسيح هما اللتان يجب أن تحكما وترسما تفسيراتنا لنبوءات العهد القديم. قال أحد اللاهوتيين، "ان عقيدة الكنيسة المسيحية كما هي مقبولة عامة، كانت دائما بأن العهد الجديد يأخذ الأولوية في تفسير العهد القديم". وبالتالي، مع تأكيدنا على وحي العهد القديم، يجب تفسير نبوءاته، لاسيما حول الأرض، ليس بشكل حرفي بل بشكل روحي ومجازي، تنسجم مع رسالة المسيح والرسل في العهد الجديد. وان ظلال الأمور في العهد القديم، يجب ان تفسّر في ضوء رسالة الانجيل الأوضح والأكمل. وبالتالي، يجب أن ننظر الى العهد الجديد، بأنه تحقيق وإتمام وإكمال لاسكوتولوجيا العهد القديم. كما قال المسيح في عظته على الجبل "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس والأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمّل" (متى 5: 17)
في هذا السياق، فان ادعاء البعض بأن العهد الذي قطعه الله مع إبراهيم ونسله إسرائيل بخصوص الأرض، هو أبدي وغير مشروط، وبأن هذا العهد لن يسقط أو يتغيّر، يعني لاهوتيا، بأن الكنيسة لم تصبح إسرائيل الجديدة بالمسيح، أي شعب الله الجديد. فهل هذا هو اللاهوت الذي يقدّمه العهد الجديد؟
ان التفسير الصحيح، هو قراءة نبوءات العهد القديم على ضوء لاهوت وتوجه العهد الجديد، وعدم فرض تفسير نبوءات العهد القديم بحرفية، لأن العهد الجديد، هو الذي يفسّر ويوضّح ويلقي نورا جديدا على نبوءات العهد القديم. انطلاقا من هذا المبدأ، فان رؤية النبي حزقيال للهيكل الجديد، في سفره الإصحاحات 40-48، يجب تفسيره على ضوء العهد الجديد، بأنه ليس بناء اسمنتيا حجريا يشيّد في اورشليم كما يحاول بعض يهود اليوم أن يفعلوا، وانما هو جسد يسوع المسيح الروحي، أي الكنيسة، كما يقول اللاهوتي ايرينك بافينك. وانطلاقا من هذا المبدأ، سوف نرى كيف فسّر المسيح ورسل العهد الجديد، وعد الله القديم بخصوص أرض الموعد. وكم شغل هذا الموضوع مساحة من رسالة العهد الجديد. يقول اللاهوتي دايفس في كتابه "الانجيل والأرض: المسيحية الأولى، وعقيدة الأرض اليهودية". "ان موضوع الأرض في العهد الجديد، يجعلنا نفكر في موضوع يسوع المسيح، الذي بموته وقيامته لم يكسر فقط حدود الموت بالنسبة للمسيحيين، وانما أيضًا كسر حدود الأرض".
إذا ما تصفّحنا الأناجيل، نلاحظ أن المسيح لم يتطرق في تعاليمه الى موضوع الوعد القديم بأرض الموعد بالرغم من أن الأرض كانت محتلة من قبل الرومان، الا أن المسيح أعطى تفسيرات جديدة لمواضيع قديمة كانت ناقصة من حيث معناها وشموليتها، فكمّلها بتفسيراته الجديدة واضعا لها مقاييس روحية واخلاقية سامية، تستند الى المحبة والرحمة والغفران. نأخذ مثالا على ذلك تعاليمه في عظته على الجبل. ان التعليم القديم عن طريقة التعاطي مع من يسيء اليك هو عين بعين وسن بسن. أما تعليم المسيح الجديد فهو، لا تقاوموا الشر. بل من لطمك على خدّك الأيمن، فحوّل له الآخر أيضًا (متى 5: 38-42). أيضًا من التفسيرات الجديدة التي قدمّها المسيح لحادثة قديمة حدثت في زمن النبي ايليا، رفضه إنزال النار على شعب السامرة لأنهم رفضوا استقباله. يخبرنا البشير لوقا في الاصحاح 9: 52-56، أن المسيح طلب من تلاميذه أن يذهبوا الى قرية للسامريين حتى يهيئوا له لاجتياز الطريق عبر تلك القرية الى أورشليم. فلما ذهب التلاميذ، اصطدموا بموقف السامريين الرافض لاستقباله والسماح له العبور من قريتهم. عندها غضب التلاميذ، وقال يعقوب ويوحنا للمسيح، "يا رب أتريد أن تقول إن تنزل نار من السماء وتفنيهم، كما فعل إيليا أيضًا" (لوقا 9: 54)، مستشهدين بما فعل ايليا في سفر الملوك الثاني الاصحاح الاول. فإيليا قام بإنزال نار من السماء أحرقت قائدا وخمسين رجلا مرّتين، وسبب ذلك أن ملك السامرة آخاب، لم يطلب من إله إسرائيل شفاءه بل طلب من بعل زبول اله عفرون. الاّ أنّ موقف المسيح من اقتراح التلميذين بالانتقام من السامريين كما انتقم ايليا، كان قاسيا جدا. فقد انتهرهما على موقفهما السيء قائلا لهما "لستما تعلمان من أي روح أنتما (لوقا 9: 55). فهذه الروح الانتقامية، الروح التي تطلب قتل واحراق الناس لا يرضى عنها المسيح. فربما ما كان مبرّرا في مرحلة من مراحل الاعلان الالهي التدريجي في العهد القديم، لم يعد مبرّرا اليوم، في يسوع المسيح الاعلان الالهي النهائي للإنسان. أما التعليم الجديد الذي علّمه المسيح للتلميذين فهو، "لأن ابن الانسان لم يأت ليهلك أنفسّ الناس، بل ليخلّصها" (لوقا 9: 56). فتعليم المسيح الجديد لا يدعو الى احراق الناس وقتلهم واهلاكهم، وانما خلاصهم ومنحهم الحياة بالمعنى الروحي والاخلاقي. وقد قدّم الرب يسوع المسيح حياته على الصليب، حتى بموته وقيامته، يكون لنا خلاص من الخطية وحياة في ملئها.
ان الموضوع الأساسي الذي كرز فيه المسيح كما تذكر الأناجيل، ليس أرض الموعد، وانما ملكوت الله. يقول البشير مرقس، "وبعدما أسلم يوحنا، جاء يسوع الى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله ويقول، قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله. فتوبوا وآمنوا بالإنجيل" (مرقس 1: 14 و 15). أما بالنسبة للوعد بالمملكة الأبدية التي توقّع معظم اليهود من المسيّا أن يحقّقها، فانّ كلمات الملاك الى مريم العذراء حين بشارته لها بميلاد المسيح، هي واضحة بهذا الشأن: "ويعطيه الرب الاله كرسي داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب الى الأبد ولا يكون لملكه نهاية" (لوقا 1: 32-33). فبالرغم من أن الملكوت الذي كرز به المسيح ودعا الناس الى الدخول إليه، هو ملكوت روحي، الاّ أنّه ملكوت حقيقي، يتحقّق حين يملك الله على قلب الانسان. انه ملكوت يتجاوز كل الحدود الجغرافية والاثنية واللغوية. انه ملكوت عابر للقارات، أساسه محبة الله ومحبة القريب.
قام بعض اللاهوتيين بمقارنة بين يشوع العهد القديم ويسوع العهد الجديد، معتبرين أن الرب يسوع المسيح هو يشوع الجديد. فبينما يشترك الاثنان في الاسم والمعنى نفسيهما، اذ أنّ "يشوع" هو الاسم العبري "ليسوع"، والذي يعني المخلص. فان الاثنين يختلفان في طريقة الغزو. ففي حين أن يشوع القديم، قاد الشعب العبري، من البرية الى أرض الموعد، فان يسوع الجديد قاد ويقود كل من يتبعه، مهما كان انتماؤه، الديني والاثني، الى ملكوت الله الذي هو ليس من هذا العالم، " أجاب يسوع: مملكتي ليست من هذا العالم. لو كانت مملكتي من هذا العالم، لكان خدامي يجاهدون لكيلا أسلّم الى اليهود. ولكن الآن ليست مملكتي من هنا" (يوحنا 18: 36). وليس لملكوت أو مملكة المسيح حدود جغرافية معينه في منطقة معينة، لأنه ملكوت روحي، يبدأ عندما يملك الرب يسوع المسيح داخل حياة الانسان، ويستمر هذا الملكوت في السماء. هذا ما أكده المسيح حين سأله بعض الفريسيين عن طبيعة ملكوت الله قائلين له، "متى يأتي ملكوت الله؟ فأجابهم المسيح، "لا يأتي ملكوت الله بمراقبة، ولا يقولون هوذا ههنا أو هوذا هناك، لأنّ ها ملكوت الله داخلكم" (لوقا 17: 20-21).
يرى البعض أن سفر أعمال الرسل الذي هو سجل الكنيسة الاولى، يعتمد استراتيجية غزو وانتشار، تتقاطع مع استراتيجية غزو أرض كنعان، وانما بأساليب وطرق جديدة روحية خلاّقة. فموضوع سفر أعمال الرسل، ليس غزو فلسطين بالقتال والسيف كغزو يشوع، وانما غزو وانتشار رسالة المسيح في العالم ابتداء من اورشليم. فالذي اختبر الرب يسوع المسيح بالإيمان وتعرّف على تعاليمه وحياته، لا يستطيع أن يتصور أنه من الممكن أن يحمل المسيح السيف ويهاجم الرومان الغزاة كما فعل يشوع عندما غزا أرض كنعان مستخدما كل أنواع العنف لإخراج الشعب الكنعاني من الأرض. فالأساليب التي كانت مقبولة في مرحلة مبكرة من الاعلان التدريجي الالهي، في ظل ظروف وحضارات كانت تمارس التطهير العرقي، لم تعد مقبولة من قبل يسوع العهد الجديد. وهذا يحتّم على أتباع المسيح، ألاّ يعتادوا على الاجرام الذي ظهر في قصة غزو كنعان، أو يقرأوا القصة لأولادهم دون صعوبات أخلاقية وروحية، بل عليهم أن يكونوا حكماء وحذرين في طريقة سرد قصة غزو كنعان لهم. فالحياة الروحية والأخلاقية السامية التي عاشها المسيح، لا مثيل لها في كل الكون، إذ لم يصنع خطية ولم يوجد في فمه غش. وتعاليمه السامية جدا، حول عدم مقاومة الشر، والمحبة للأعداء، ورغبته منح الخلاص والحياة للناس، وكرازته بملكوت الله أصبحت المقياس الأول والعدسات الرئيسية، والمصفاة الأساسية التي من خلالها يجب أن نفسّر كل موضوع، ووعود في العهد القديم، لاسيما الوعد القديم بأرض الموعد.
أراد المسيح من تلاميذه في العهد الجديد أن يضعوا جانبا، فكرة المملكة الارضية التي توارثوها من خلفيتهم اليهودية، وأن يستبدلوها بموضوع، ملكوت الله الذي كرز به لهم وللجميع، لتصير أرض الموعد، ليست أرض كنعان، وانما ميراث روحي. والمملكة ليست في إسرائيل، وانما مملكة سماوية. هذا التغيير في فكر وتوجّه التلاميذ، نراه بشكل جلي في سفر أعمال الرسل، بعد امتلاء التلاميذ من الروح القدس في يوم العنصرة، إذ أنّ اهتمامهم بموضوع، رد الملك الى إسرائيل غاب بشكل نهائي عن حياتهم وكرازتهم. مع العلم أنه إذا ما أخذ بعين الاعتبار، الظروف السياسية لفلسطين في القرن الأول الميلادي، فان الرسل كان لديهم كل الموجبات لكي يأملوا ويعملوا على رد الملك إلى إسرائيل، الاّ أنهم لم يقوموا بشيء من هذا القبيل، ذلك لأنهم أدركوا في نهاية المطاف المفهوم الجديد لملكوت الله، الذي علمهم اياه المسيح. ان موضوع الوعد القديم بالأرض غائب تماما عن فكر رسل العهد الجديد، مما يشير الى تحولّ كبير في المعنى والهدف. فالوعد القديم المحصور بقطعة جغرافية معينة ولشعب معين، لم يعد من أهداف الله في العهد الجديد، لأنه في المسيح يسوع دخل الله التاريخ بطريقة جديدة وأعلن محبته الأبدية، لا لشعب معين وانما لكل شعوب العالم. في رسالته الى كنيسة رومية، يخبرنا الرسول بولس، أن الله أعلن له عن سرّ، وهو أن الأمم (غير اليهود) شركاء في الميراث (أفسس 3: 1-6). وتعبير "الميراث" كان يشير عند يهود القرن الاول الى الأرض. وبالتالي، يقول بولس، إن الأمم هم أيضًا مشاركون في ميراث الارض. وقاعدة هذه الشراكة، ليست عرقية أو دينية، بل الايمان بيسوع المسيح. فكل من يؤمن بيسوع المسيح، يهوديا كان أم يونانيًا أم إلى أية جنسية انتمى، يحق له أن يشترك في الميراث، الذي تغيّر معناه في العهد الجديد. وإبراهيم الذي وعده الله بالأرض ميراثا له ولنسله، قد أصبح بالنسبة للرسول بولس، أبًا ليس فقط لليهود، وانما لكل المؤمنين في كل المسكونة، "فإنه ليس بالناموس كان الوعد لإبراهيم او لنسله أن يكون وارثا للعالم، بل ببرّ الايمان... لهذا هو من الايمان، كي يكون على سبيل النعمة، ليكون الوعد وطيدا لجميع النسل، ليس لمن هو من الناموس فقط، بل أيضًا لمن هو من إيمان إبراهيم، الذي هو أب لجميعنا" (رومية 4: 13 و 16). وبالتالي، فإنه بالمفهوم البولسي، أرض الموعد، قد أصبحت المسكونة كلها وإنما ببرّ الايمان. في هذا المفهوم حقّق الله وعده لإبراهيم بالأرض، بحسب فكر بولس. أما كاتب سفر العبرانيين، فانه بعد ذكره الوعد القديم لإبراهيم بالأرض، فإنه عاد وذكر بوضوح تغيّر معنى ومفهوم الأرض حتى بالنسبة لإبراهيم، لتصبح آماله اسكوتولوجية فيصير ما انتظره إبراهيم ليس أرضًا في منطقة جغرافية، وانما المدينة التي صانعها وبارئها الله، الوطن السماوي الأفضل. يقول كاتب سفر العبرانيين، "بالإيمان ابراهيم لما دعي، أطاع أن يخرج إلى المكان الذي كان عتيدا أن يأخذه ميراثا. فخرج وهو لا يعلم الى أين يأتي، بالإيمان تغرّب في أرض الموعد، كأنها غريبة ساكنا في خيام مع اسحق ويعقوب الوارثين لهذا الوعد عينه، لأنه كان ينتظر المدينة التي لها الأساسات، التي صانعها وبارئها هو الله...ولكن الآن يبتغون وطنا أفضل، أي سماويا، لذلك لا يستحي بهم الله أن يدعى إلههم" (عبرانيين 11: 9-16).