في أَجواء الميلاد المجيد تحتفل الكنيسة بحادثةٍ تاريخيَّة جليلة تطلُّ علينا بكثيرٍ من العِبَرِ والدّروس لحاضر اليوم، أَلا وهي معموديّة المسيح. حيث وردت حادثة معموديّة المسيح من يُوحنَّا في الأَناجيل الأَربعة (متَّ3: 13- 17؛ مر1: 9- 11؛ لو3: 21، 22؛ يو1: 29- 34)، فالمسيح أَراد أَن يَعْتَمِدَ من يُوحنَّا «لِأَجْلِ تَكْمِيلِ كُلِّ بِرٍّ». وليس ذلك يعني أَنَّه خاطئٌ ويحتاج للتَّوْبَةِ لغُفران الخطايا، فالعهد الجديد شَهِدَ بأَنَّ يسوع المسيح «بِلَا خَطِيَّةٍ». (عبرانيّين4: 15)،
كما أَنَّه شَهِدَ عن نفسهِ قَائِلًا: «مَنْ مِنْكُمْ يُبَكَّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ؟». (يُو6: 46). إِنَّ المسيح في المعموديَّة أَراد أَنْ يُوضِّح أَنَّ خطايا الْمُتَعمّدين من يُوحنَّا لأَجل مغفرة الخطايا، تحتاج لِمَن يرفعها ويحملها، وهذا ما أَعلنهُ وصرَّح بِهِ يُوحنَّا المعمدان، إِذْ قَالَ إِنَّ المسيح هو «حَمَلُ اللهِ الَّذِي يَرْفَعُ خَطِيَّةَ الْعَالَمِ.» (يُو1: 29).
إِنَّ معموديَّة المسيح تُدخِلُنَا إِلى المعموديَّة المسيحيَّة، بل وتُعلّمنا الكثير عن المعموديَّة المسيحيَّة. إِنَّها بُرْهَان الرُّوح، وعلامة البنوّة، ودعوة السَّير في طريق عبد الرَّبِّ، والتزام الخدمة. كما أَنَّها معموديَّة التَّوبة، معموديَّة الصَّليب، ومعموديَّة الرُّوح القدس. إِنَّنا في المعموديَّة نسير مع يسوع في ماءِ التَّوبة، ونَقْبَلُ لأَنفسنا البرّ الَّذي حقّقهُ لنا في الْجُلْجُثَةِ. ومن الدُّروس الَّتي نحتاج أَنْ نتعلّمها ككنيسة اليوم من معموديَّة المسيح، هو أَنَّ عددًا ليس بقليلٍ من تلاميذ يُوحنَّا الَّذين اعتمدوا بمعموديّتهِ صاروا من تلاميذِ الرَّبِّ يسوع، ولم يطلب المسيح منهم إِعادة المعموديَّة. بالرَّغم من اختلافها مع المعموديَّة المسيحيَّة الَّتي أَوصى الرَّبُّ بها تلاميذهُ أَنْ يُمارسوها في ِإرساليّتهِ لهم لنشر الإِنجيل.
أَلَا يُعلّمنا المسيح من خلال معموديّتهِ قَبُول الآخر وتكميل كُلّ برٍّ في بعضنا البعض، ككنائس مُتنوّعة لنراجع أَنْفسنا في تلك الممارسة الشَّنيعة الَّتي نُمزّق بها جسد المسيح كُلّ يومٍ، أَلا وهي إِعادة المعموديَّة، والَّتي أَصبحت ممارسةً يدور حولها الجدل والخلاف بين الطَّوائف المسيحيَّة المختلفة، حيث أَنَّها تُساعد على حدوث انشقاقاتٍ داخل الكنيسة عامَّةً وتقضي على الرُّوح المسكونيَّة، الَّتي تُغذِّي وحدة الكنيسة. إِنَّها ممارسةٌ تدلُّ على مدى التَّدنيّ الفكريّ والدِّينيّ واللَّاهوتيّ والسّلوكيّ للكنيسة، حيث أَنَّ الكنيسة قد تَأثّرت بما يجري في المجتمع في أَيَّامنا هذه، من تياراتٍ فكريّة تُكفّر الآخر، ولا تحترم عقيدتهُ.
إِنَّ الأَسباب وراء إِعادةِ المعموديَّة تأْتي عادةً، وفي مُعظم الأَحيان، من الكنائس التَّقليديَّة عامّةً، ومن الكنيسة الأرثوذكسيّة خاصّةً، فَهُمْ يطلبون إِعادة المعموديَّة، لِأَنَّ المعموديَّة الأُولى لَمْ تَكُنْ بالتَّغطيس من ناحيةٍ، ولم يَقُم بها «كاهنٌ» من النَّاحية الأُخرى.
كما أَنَّ الأَسباب وراء إِعادة المعموديَّة تأْتي غالبًا من بعض المذاهب الإِنجيليَّة، حيث أَنَّ البعض يطلبون إِعادة المعموديَّة، لِأَنَّهم يرون في معموديّتهم الأُولى غيابًا لشروط المعموديَّة الواردة في بعض الآياتِ الكتابيَّة، الَّتي تتحدّث عن المعموديَّة، مثل الإِيمان الشَّخصيّ للمُعمّد والإِقرار والاعتراف العلنيّ بهذا الإِيمان، ورُبَّما يكونوا هؤلاء من بين الَّذين اختبروا الرَّبَّ في الكِبَرِ على طريقةِ بعض المذاهب الإِنجيليَّة مثل المعمدانيّين أَو غيرهم. كما أَنَّ البعض كالرَّسوليّين والخمسينيِّين والكاريزماتيّين عمومًا يُضيفون جانبًا آخر عندما يطلبون إِعادة المعموديّة، هذا الجانب هو جانبُ المشاعر، بمعنى أَنَّهم لم يختبروا في معموديّتهم الأُولى المشاعر الفيّاضة الَّتي يسمعون أَنَّها تُصاحب المعموديّة.
والغريب أَنَّ هؤلاء الَّذين يطالبون بإِعادة المعموديَّة من المذاهب الإِنجيليَّة، لأَنَّ المعموديَّة الأُولى عندما كانوا أطفالاً، لم تحقّق لهم هذه الجوانب، ولم يُصاحبها الإِيمان الشَّخصيّ والإِقرار العلنيّ والمشاعر والأَحاسيس الفيّاضة يصرّون على مُمارسة «التَّكريس» للطّفل الصّغير. وفي خدمة التّكريس يُقدّم الشُّكر لله من أَجل الخلاص، ويتعّهد الوالدان بتربية الطّفل في الإِيمان المسيحيّ، وتُرفع الصّلوات من أَجل الطّفل والعائلة ككُلٍّ، ويضع الخادم يدهُ على رأْس الطّفل أَثناء صلاة التّكريس. أَليست هذه الممارسات شبيهةٌ إِلى حدٍّ كبيرٍ بالمعموديّة؟.
إِنَّ السَّبب الرّئيسيّ وراء إِعادة المعموديّة نابعٌ من قُصورٍ في الفهم اللَّاهوتيّ والكتابيّ لسرِّ المعموديَّة، وليس ذلك فقط، بل نابعٌ أَيضًا من جهلٍ بتعليم الكنيسة الأُولى والآباء حول سرِّ المعموديّة. كما أَنَّه من ضمن الأَسباب وراء إِعادة المعموديّة السّلوك الحياتيّ غير المسيحيّ، الَّذي أَصبح بعيدًا عن ما نعتقدُ فيهِ من فكرٍ لاهوتيّ وكتابيّ كمسيحيّين مؤمنين. حيث نُنَادي بِقَبُولِ الآخر واحترام العقائد المسيحيَّة الأُخرى المختلفة عَنَّا، فلا نُمارس ذلك ولا نفعّلهُ في حياتنا. وننادي بالوحدة وبالرّوح المسكونيَّة بين الطّوائف المسيحيّة، ولا نلتزم بأَيِّ قراراتٍ تُتّخذ في المجامع المسكونيَّة.
إِنَّ المعموديَّة ليست الإِيمان، وليست نوال الخلاص، ولا يُعَمّد الإِنسان لِأَنَّهُ مؤمنٌ، المعموديَّة هي الدّخول في عهدِ النِّعمة. وهي علامةُ الدّخول في العهد مع جماعة المؤمنين. فالمعموديّة هي علامة الدخول في العهد مع شعب الله (الكنيسة). حيث حلّت المعموديّة محلّ الختان في القديم.
إِنَّ المعموديّة بكونها سرّ، تعني أَنَّ الله هو المبادر بِعَمَلِ النِّعمة في الإِنسان، وأَنَّها ليست مُجرّد اعتراف إِيمانيّ من جهتنا، أَي بعد أَنْ ينال المؤمنون النِّعمة، فإِنَّهم يُمارسونها كعربون ولائهم لله، بل أَنَّ المعموديّة ليست شهادة على الإِيمانِ، بقدرِ ما هي شهادة على عَمَلِ نِعمةِ الله في حياتنا، حيث أَنَّها توحِّدنا بالمسيح، وتُدْخِلُنَا إِلى كنيستهِ. أَمَّا الإِيمان والتَّوبة فهما بمثابة اليدين اللّتين بِهِمَا نَقْبَل العطيَّة. فالمعموديَّة امتيازٌ يمنحهُ الله لنا، وعلى هذا الأَساس، نَحْنُ نُعمّد الأَطفال، والبالغين المؤمنين الَّذين لم يسبقْ لهم المعموديّة. إِنَّ المعموديَّة وسيطة نِعمة، وهي بدايةٌ لعمل النِّعمة داخل الإِنسان، حيث أَنَّ كونها سرّ، فهذا يعني أَنَّ الله يكون حاضرًا عند الممارسة، وأَنَّ الرُّوح القدس يعمل داخل المتعمِّد لتوصيل نِعمة الله لهُ. إِنّ المعموديّة هي المعموديَّة، طالما أَنَّ كنيسة الرَّبِّ يسوع قد مارستها باسْمِ الْآبِ والِابْنِ والرُّوحِ الْقُدُسِ، فلا يجوز أَنْ تُعاد على الإِطلاق. حيث أَنَّ فاعليّتها الرُّوحيَّة لا تكمن في طريقةِ الممارسة، ولا في مَنْ يقوم بتلك المعموديَّة، بل تكمن في اسْمِ الثَّالوث الأقدس الَّذِي تُمارس بهِ.
إِنَّه في التَّاريخ الكنسيّ نرى أَنَّ الشَّمامسة، والمؤمنين الحقيقيّين، كانوا هُمْ الَّذين يُعمّدون أَحيانًا الدَّاخلين إِلى المسيحيَّة. كما أَنَّ كُلَّ مَنْ نال معموديّة خارج الكنيسة باسم الْآبِ والِابْنِ والرُّوح الْقُدُس تُعتبر معموديّتهُ صحيحةً. وقد اعتبرت الكنيسة أَنَّ معموديَّة الأَريوسيّين صحيحةً ولم ترَ إِعادة معموديّتهم رغم إِنكارهم للثَّالوث، واكتفت بِرَشْمِهِمْ بالميرون. فلماذا لا تُعيد الكنيسة الأرثوذكسيّة اليوم النَّظر في معموديّة الكنائس الإِنجيليَّة والكاثوليكيَّة، حيث أَنَّهم يؤمنون بالثّالوث القدّوس ويعمّدون باسم الْآبِ وَالِابْنِ والرُّوحِ الْقُدُسِ.
في ليما، بالبيرو، الْتَقى في كانون الثَّاني عام 1982 أَكثر من مئة لاهوتيّ في مؤتمرٍ مسكونيّ، وخرجوا من خلالهِ بتوصِيَاتٍ ودِراساتٍ أَتَّفق عليها كُلًّا من الكنائس الأَرثوذكسيّة والكاثوليكيَّة والإِنجيليَّة، وقد سُمِّيت ببيان ليما، وقد اتَّفقوا فيه على أَنَّ المعموديَّة عملٌ لا يُمكن تكرارهُ. ولذلك يجب تجنّب كُلّ ممارسةٍ يُمكن تفسيرها «كإِعادةٍ للمعموديَّة».
إِنَّ عِبارة «معموديّة واحدة» الَّتي قالها بُولُس الرّسول في رسالتهِ إِلى أَفَسُس (4: 5) لا تعني فقط أَنَّنا يجب أَنْ نعتمّد مرَّةً واحدةً لا أَكثر، بل تعني أَيضًا أَنَّ كُلَّ المسيحيّين الَّذين يعترفون بالرَّبِّ الواحد، ولَهُمْ الإِيمان المسيحيّ الواحد بِالْآبِ والِابْنِ والرُّوحِ الْقُدُسِ معموديّتهم واحدةٌ. إِنَّ بُولُس الرّسول عندما عالج موضوع المعموديَّة قال: «أَلَعَلَّ بُولُسَ صُلِبَ لِأَجْلِكُمْ؟ أَمْ بِاسْمِ بُولُسَ اعْتَمَدتُّمْ؟». (1كو 1: 13). لقد وضع الاسم الَّذي اعْتَمدنا إِليهِ في مكانهِ اللَّائق. ونحن أَيضًا لا نَقْبَل أَنْ يشغل المسيح واسمهُ مكانًا تابعًا، فنسمح بِأَنْ تتكرّر المعموديّة لاعتباراتٍ ما. فدعونا نَخْرُجُ من دائرة التَّعصُّب والتَّكفير الَّتي باتت هي حالُ مُجتمعنا اليوم. ودعونا نَقْبل بعضنا بعضًا ما دام هدفنا واحدٌ، وهو تمجيد اسم الرَّبِّ يسوع المسيح، والشَّهادة عنهُ، لهُ كُلّ المجدِ مِنَ الْآنِ وإِلى الأَبد.