شرح الرسالة إلى أفسس

تَفْسِير رِسَالَةُ بُولُسَ الرَّسُولِ إِلَى أَهْلِ أَفَسُسَ

إبراهيم سعيد

 

 
جدول المحتويات
تعريف بالمدينة المدخل الإصحاح الأول الإصحاح الثاني
الإصحاح الثالث الإصحاح الرابع الإصحاح الخامس الإصحاح السادس

 

مدينة أفسس

كانت هذه المدينة واقعة على الساحل الغربي لآسيا الصغرى، وكانت عاصمة ذلك الجزء من القارة الآسيوية، وقد اشتهرت بعظمتها من النواحي الدينية والسياسية والتجارية.  

وكان معظم سكان أفسس من أصل يوناني كما كان بينهم عدد كبير من اليهود المشتغلين بالتجارة (أع 18 : 19 – 24، 19 : 1، 17، 34).  

وكان في تلك المدينة هيكل إلهة اليونانيين والرومانيين الكاذبة التي كانت تدعى عند الرومانيين " ديانا " وعند اليونانيين " أرطاميس " (أع 19 : 23 – 36) وكان ذلك الهيكل معتبرا وقتئذ أحد عجائب الدنيا السبع*.  

ويبدو كأن الروح القدس قصد عن طريق ذلك الهيكل الفخم أن يقود المؤمنين إلى معرفة الحق السامي الخاص بالهيكل الروحي، أعني " بيت الله " الذي هو كنيسة الله أي جميع المؤمنين الحقيقيين المبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية " الذي فيه كل البناء مركبا معا ينمو هيكلا مقدسا في الرب. الذي فيه أنتم أيضاً مبنيون معا مسكنا لله في الروح " (أف 2 : 19 – 22). لقد هدم هيكل الإلهة ديانا – هدمه الغوطيون سنة 262 ميلادية، أما الكنيسة بيت الله فإن ابواب الجحيم لن تقوى عليها.  

لقد كانت أفسس وقتئذ أعظم مركز للعبادة الوثنية الكاذبة والتي كثرت معها أعمال السحر والشعوذة (أع 19 : 19) كما اعتقد الجميع في آسيا أن تمثال هذه الإلهة قد هبط من السماء (أع 19 : 35). 

  • كان ذلك الهيكل مبنيا من أنقى أنواع الرخام وطوله 425 قدما وعرضه 220 قدما، وكان سقفه قائما على 127 عمودا من الرخام النقى، وارتفاع كل عمود اكثر من 60 قدما، وقد استغرق بناء ذلك الهيكل أكثر من مائتي سنة.  

وقد كان في مدينة أفسس مجمع لليهود ولكن ذلك المجمع بممارساته الناموسية المتنوعة لم يستطع أن يبدد ظلمات الوثنية التي كان الأفسسيون بل وجميع سكان آسيا غارقين فيها. ولكن شكرا لله فإن شيئا عجيبا حدث هنالك، ذلك أن إنجيل ربنا يسوع المسيح، الذي هو قوة الله للخلاص قد كرز به في أفسس بل وسمعه جميع سكان آسيا فحطم عظمة تلك الإلهة الكاذبة فلم تقم لها قائمة بعد ذلك.  

لقد استطاع الإنجيل أن يعمل ما كان يخشاه ديمتريوس زعيم الصناع من أن يحسب هيكل ارطاميس الإلهة العظيمة لا شيء ومن أن تهدم عظمتها، هذه التي يعبدها جميع آسيا والمسكونة (أع 19 : 27). 

الكرازة بالإنجيل في أفسس

لسنا نعلم بالتحقيق كيف ومتى كرز بالإنجيل في أفسس، ولكننا نعلم أنه لما حل الروح القدس على المؤمنين الذين كانوا مجتمعين معا في يوم الخمسين، كان بين الرجال اليهود الأتقياء الساكنين في أو رشليم من كل أمة تحت السماء بعض رجال من آسيا (التي كانت أفسس عاصمتها) (أع 2 : 9). هؤلاء سمعوا بشارة الإنجيل وتابوا وآمنوا بالمسيح.  

كذلك واضح أن الرسول زار مدينة أفسس لأول مرة وهو في طريقه من كورنثوس إلى سوريا عند عودته من أو ربا، من سفرته التبشيرية الثانية*، وانه دخل المجمع وحاج اليهود ولكنه لم يمكث طويلا بل ترك أكيلا وبريسكلا هناك (أع 18 : 19، 20).  

ثم واضح أيضاً أن الرب استخدم هنالك ابلوس الاسكندري، الذي أتى إلى أفسس، وكان رجلا فصيحا ومقتدرا في الكتب وخبيرا في طريق الرب، وكان وهو حار بالروح يتكلم ويعلم بتدقيق ما يختص بالرب عارفا بمعمودية يوحنا فقط، ولكن إذ سمعه أكيلا وبريسكلا أخذاه وشرحا له طريق الرب بأكثر تدقيق (أع 18 : 24 – 26).  

وواضح بكل يقين أن الرسول العظيم بولس عاد إلى أفسس مرة أخرى، وأن مدة السنوات الثلاث التي قضاها في أفسس كارزا ومعلما " ليلا ونهارا " أتت بابرك الثمرات في خلاص نفوس كثيرة وفي تعليم المؤمنين " جهرا وفي كل بيت " (أع 19 : 1-20، 20 : 20-31).  

 " فقال لهم فبماذا اعتمدتم؟ " فأجابوه " بمعمودية يوحنا " فالذي حدا بالرسول أن يسألهم عن المعمودية هو يقينه بأن من أعتمد بالمعمودية المسيحية لا يمكن أن يجهل حقيقة الولادة الجديدة. لو كانوا اعتمدوا بالمعمودية باسم الرب يسوع لكانوا بلا ريب عرفوا عن الإنجيل وقوته المخلصة. 

أن كل ما كان يدركه هؤلاء التلاميذ قد تعلموه من ابلوس الذي مع أنه كان رجلا فصيحا ومقتدرا في الكتب وحارا بالروح إلا أنه كان عارفا معمودية يوحنا فقط. فلم يكن مدركا لحقيقة الفداء الكامل بعمل ربنا يسوع المسيح فوق الصليب وقيامته من بين الأموات وصعوده إلى السماء. لقد علم ابلوس بمعمودية التوبة التي تتطلع إلى الملك الآتي، أما المعمودية المسيحية فإنها تتطلع إلى الوراء حيث أكمل عمل الخلاص بذاك الذي ولد من عذراء وعاش عيشة القداسة الفريدة والكاملة " القدوس " وتتطلع إلى موته الكفاري وإلى نصرة قيامته، وإلى صعوده إلى السماء وجلوسه عن يمين الاب. أن المعمودية المسيحية هي برهان اتحاد كل ابن حقيقي لله مع المسيح في الموت والدفن والقيامة. وقد كانت نتيجة حديث الرسول بولس مع أولئك التلاميذ انهم " لما سمعوا اعتمدوا باسم الرب يسوع " (أع 19: 5).  

 ثم إذ تتبعنا الرسول بولس في خدمته في أفسس نجده في مجمع اليهود كان يجاهر مدة ثلاثة شهور محاجا ومقنعا في ما يختص بملكوت الله " (أع 19: 8) ولكن لما كان قوم من اليهود يتقسون ولا يقنعون شاتمين الطريق أمام الجمهور اعتزل عنهم وأفرز التلاميذ محاجا كل يوم في مدرسة إنسان اسمه تيرانس (ع9) لقد رفض بولس أن يبقى في شركة مع من ينكرون سيده " أية شركة للنور مع الظلمة. وأي أتفاق للمسيح مع بليعال "إن الأمر الإلهي الصريح " أخرجوا من وسطهم واعتزلوا يقول الرب" (2 كو6: 14-18). أن كل خادم أمين للمسيح لا يتوانى عن الانفصال عمن ينكرون اسم سيده أو قيمة عمله الفدائي.  

لقد كانت الكنيسة في أفسس تجتمع في تلك المدرسة، إذ ليست العبرة بمكان الاجتماع وبفخامة تشييده بل بأمانة المجتمعين باسم الرب وفي حضرته (مت 18 : 20) لقد أراد الرب أن تسمع آسيا كلمة الإنجيل، ولمدة سنتين استمر بولس كارزا ومعلما في كل يوم " حتى سمع كلمة الرب يسوع جميع الساكنين في آسيا من يهود ويونانيين " (أع 19: 9، 10).  

كذلك كان عمل النعمة في نفوس الذين آمنوا عملا حقيقيا ومثمرا " وكان اسم الرب يسوع يتعظم. وكان كثيرون من الذين آمنوا يأتون مقرين ومخبرين بأفعالهم. وكان كثيرون من الذين يستعملون السحر يجمعون الكتب ويحرقونها أمام الجميع. وحسبوا اثمانها فوجدوها خمسين ألفا من الفضة. وهكذا كانت كلمة الرب تنمو وتقوى بشدة " (أع 19 : 17-20). 

مقاومات الكرازة في أفسس

مع أن الله قد بارك كثيراً كرازة وخدمة الرسول بولس في أفسس وأيدها بالقوات " غير المعتادة " التي صنعها على يديه، إلا أنه لقي مقاومات عنيفة من الشيطان وأعوانه، فقد بدأت تلك المقاومات عندما كان قوم من اليهود قد قسوا ولم يقنعوا بكرازته بل كانوا يشتمون الطريق أما الجمهور كما سلفت الاشارة (أع 19 : 9) وفيما كتبه الرسول نفسه في بعض رسائله نرى كم لقى من المقاومات العنيفة، ففي 1كو15 : 32 يقول " كإنسان قد حاربت وحوشا في أفسس " مشيرا بذلك بدون شك إلى المقاومات الشديدة التي لقيها هناك ولا سيما من اليهود ثم يقول أيضاً " ولكنني أمكث في أفسس إلى يوم الخمسين لانه قد انفتح لي باب عظيم فعال ويوجد معاندون كثيرون " (1كو16 : 8، 9) ثم قوله بعد ذلك في رسالته الثانية " فاننا لا نريد أن تجهلوا أيها الاخوة من جهة ضيقتنا التي أصابتنا في آسيا إننا تثقلنا جدا فوق الطاقة حتى أيسنا من الحياة أيضاً " (2كو1 : 8) لقد كانت للشيطان أيضاً وسائله المتنوعة في مقاومة عمل الله، فلم يكتف بالمقاومات القاسية التي أثارها على خادم الرب الأمين بولس وعلى خدمته، بل استعمل وسيلة أخرى وهي تقليـد عمل الله بواسطة سبعة بنين لسكاوا رجل يهودي رئيس كهنة " فشرع قوم من اليهود الطوافين المعزمين أن يسموا على الذين بهم الأرواح الشريرة باسم الرب يسوع قائلين نقسم عليك بيسوع الذي يكرز به بولس " لقد كان هؤلاء التعساء المجدفون يجهلون عاقبة استخدام الاسم القدوس المبارك – اسم ربنا يسوع في سحرهم وعرافتهم، فالإنسان الذي كان فيه الروح الشرير وثب عليهم وغلبهم وقوى عليهم حتى خرجوا من ذلك البيت عراة ومجرحين حتى صار ذلك معلوما عند الجميع " وكان اسم الرب يسوع يتعظم " (أع 19 : 13-17) شكرا لله فانه بالرغم من شدة وقسوة مقاومات العدوفإن كلمة الرب كانت " تنمو وتقوى بشدة " (أع 19 : 20) لأنه مهما اشتد هجوم الشيطان وأعوانه فإن كلمة الرب لا يمكن أن ترجع إليه فارغة. 

لم تكن هذه كل المقاومات التي لقيها الرسول بولس في أفسس، إذ واجه مقاومة أخرى شديدة وقاسية، فإن إنسانا اسمه ديمتريوس صائغ صانع هياكل فضة للألهة ارطاميس، كان ذا نفوذ بين الصناع إذ كان يكسبهم مكسبا ليس بقليل، لذا جمعهم هم والفعلة في مثل ذلك العمل وهيجهم ضد الرسول بولس قائلا " أنتم تعلمون أن سعتنا انما هي من هذه الصناعة. وانتم تنظرون وتسمعون انه ليس من أفسس فقط بل من جميع آسيا تقريبا استمال وأزاغ بولس هذا جمعا كثيراً قائلا أن التي تصنع بالأيادي ليست آلهة. فليس نصيبنا هذا وحده في خطر من أن يحصل في إهانة بل أيضاً هيكل ارطاميس الإلهة العظيمة أن يحسب لا شيء وأن سوف تهدم عظمتها هي التي يعبدها جميع آسيا والمسكونة " (أع 19 : 24- 27). عندئذ غضبوا وطفقوا يصرخون قائلين عظيمة هي أرطاميس الأفسسيين حتى امتلأت المدينة كلها اضطرابا وخطفوا غايوس وارسترخس رفيقي بولس في السفر (ع 28، 29).  

ثمار خدمة الرسول في أفسس

 يجدر بنا أن نشير بكل إيجاز إلى ثمار خدمة الرسول بولس في أفسس أو بالحري إلى نصرة الإنجيل ليس في أفسس فقط بل وفي كل آسيا (آسيا الصغرى) " حتى سمع كلمة الرب يسوع جميع الساكنين في آسيا من يهود ويونانيين " (أع 19 : 10). هؤلاء لم يسمعوا كلمة الله فقط بل أن كثيرين منهم قبلوها، الأمر الذي شهد به ديمتريوس الصائغ نفسه، فقد اعترف قائلا " انه ليس من أفسس فقط بل ومن جميع آسيا تقريبا أستمال وأزاغ بولس هذا جمعا كثيراً " (أع 19 : 26) ولقد تأسست بالفعل كنائس ليس في أفسس فقط بل في جهات أخرى في آسيا. ولهذه الكنائس وجه الرب وهو في المجد خطاباته السبعة أي التي " إلى الكنائس السبــع التي في آسيا " (رؤ 1 : 11 وص 2، 3).  

ما وصلت إليه الحالة في أفسس

في رسالة بولس الثانية إلى تيموثاوس يكتب هذا الخبر المحزن " أنت تعلم أن جميع الذين في آسيا (وأفسس ضمنا) ارتدوا عني (أي تركوا الرسول عند القبض عليه في المرة الأخيرة) " (2تي 1 : 15) ولا ريب أيضاً أن كثيرين تحولوا عن الحق الذي علمهم بولس إياه، فكأنه قد تحقق ما أنذر الرسول بولس به شيوخ تلك الكنيسة (أع 20 : 29، 30) ولكن بالرغم من ذلك يذكر الرسول في رسالته الثانية إلى تيموثاوس (4 : 12) بأنه أرسل اليهم تيخيكس، وذلك لفرط عناية الرسول واهتمامه بهم.  

وفي خطاب الرب نفسه لتلك الكنيسة (رؤ 2) يمتدحهم كثيراً إلا انه يتهمهم اتهاما خطيرا بأنهم تركوا محبتهم الأولى وينذرهم بأنه سيزحزح منارتهم من مكانها أن لم يتوبوا. وهذا ما صار فعلا. إذ أين هي كنيسة أفسس الآن؟  

المدخل لشرح رسالة أفسس

 "رسالة"، "بولس"، "أفسس"- ثلاث كلمات جامعة، كثلاث نجوم لامعة، تسطع في سماء هذه الرسالة. ولكل من هذه الثلاث الكلمات جاذبية قوية تستميلنا إليها، إذا ما حاولنا كشف كنوز هذه الرسالة "رسالة"، "بولس"، "أفسس"- أو الرسالة، ومرسلها، والمدينة المرسلة إليها: 

  -أ- الرسالة: تتبوأ هذه الرسالة عرشاً رفيعاً في قلب كتابات بولس، حساً ومعنى. فهي قلبها الخافق، وهي الدرة اليتيمة المنتظمة في منتصف عقد رسائله الدرية، هي الرسالة الوحيدة التي يفخر بها بولس، ويعتبرها حجة "رسوليته" إلى الأمم، ومقياس درجة "درايته بسر المسيح" (3: 2و3). 

 حسناً قال فيها كولردج "هي أسمى كتاب في سجل الوحي. لأنها تجمع بين دفتيها خلاصة العقائد المسيحية، وهي ملتقى مطاليب الدين المسيحي بمطاليب الدين الطبيعي". 

 هي إحدى الرسائل الأربعة التي كتبها بولس الرسول وهو سجين في روما لأول مرة، فهي اللؤلؤة الرابعة في هذا العقد الرباعي النظيم، المؤلف من رسائله: إلى فيلبي، وكولوسي، وفيلمون، وأفسس. ومع أن كل واحدة من هذه الرسائل الأربع، تختلف عن الأخرى معنى ومبنى، إلا أن نغمة واحدة مشتركة تتخللها جميعاً، ونعمة إلهية واحدة أوحت لبولس بها جميعها. فاقلم واحد، والعقل واحد، والقلب واحد، والروح واحد، لكن الظروف متباينة، والنعمة أيضاً متنوعة (1بطرس4: 1). ولقد أجاد مونتانوس، إذ شبه نفس بولس بقيثارة ذات أوتار حساسة، فلما هبت عليها نسمات نعمة الله المتنوعة، أفاضت منها نغمات عدة. فتارة نسمع دوي رعد قاصف كما في رسالتيه إلى غلاطية، وطوراً نصغي إلى ترجيع أناشيد عذبة رخيمة، كما في رسالتيه إلى فيليبي وفيلمون، وحيناً نستمع إلى تسبيح ملائكي يرتفع إلى السماويات في الأعالي كما في الرسالة التي نحن بصددها. وفي كل هذه النغمات المتعددة، توجد أصداء مشتركة تتخللها جميعاً، فتوّحد ما بينها من تجانس. ففي رسالة أفسس نجد أصداء متجاوبة مع رسالة كولوسي، وفي رسالة كولوسي نسمع نغمات مشتركة مع ألحان رسالة فيليبي، وفي رسالة فيليبي نصغي إلى نبرات متفقة مع أناشيد رسالة فليمون. 

 في أحد أيام سنة 60 ميلادية، خرج شخصان من روما، وسارا في الطريق السلطاني المعروف وقتئذ بـ "طريق ابيوس": اسم أحدهما "تيخيكوس" وهو من آسيا مولوداً، واسم الثاني "أنسيموس" وهو عبدها رب من مولاه أما أولهما فهو حامل هذه الرسالة. وقلما أتاحت العناية لإنسان واحد أن يحمل من الكنوز في يوم واحد، مثلما حمل تيخيكوس في ذلك اليوم- إذ حمل ثلاث رسائل من خير ما كتب بولس الرسول. رسائله: إلى كولوسي، وإلى فليمون، وإلى أفسس- وآخرها وأفخرها- أو كما قال فيها آرك جراهام: "هي تاج كتابات بولس الرسول". 

 هذه الرسالة ذات مادة وروح. أما مادتها فهي وليدة سجن روما الضيق المظلم، وهي مكتوبة بقلم بولس أو بإملاء منه. فلقد كتبها في منفاه وسلاسل السجن تقيد جسمه الضعيف الهزيل. وأما روح هذه الرسالة، فهي منبعثة من "السماويات" في الأعالي- موطن الحرية، والنور، لأنها صادرة عن روح إله بولس، وحيث روح الرب فهناك الحرية. فبينما جسد بولس يرسف في السلاسل والقيود، إذا بروحه تتسامى في الأعالي متمتعة بالشركة الروحية مع "الرفيق الأعلى". إن مادة هذه الرسالة مقيدة بأثقال بولس وقيوده، لكن روحها محملة "ثقل مجد أبدي" ومشبعة "بغنى المسيح الذي لا يستقصى". 

 هذه الرسالة خالية من الجدل- فهي تختلف عن رسالة غلاطية التي يتغلغل فيها روح الجدل العنيف. فإذا كان بولس قد كتب رسالة غلاطية بمداد من محلول أشعة نور عقله النير، فقد كتب هذه الرسالة بمداد من ذوب قلبه الملتهب. 

 هذه رسالة خالية من الإشارات الشخصية- فهي رسالة الكنيسة الجامعة في كل عصر وعصر. فيها رفع الرسول نظره فوق الحدود الضيقة التي تفصل أجزاء الكنيسة عن بعضها، فقدم رسالته هذه للكنيسة كلها، وقدم فيها أفضل ما عنده. ومن فرط ما غمرته به العناية من أفضال ونعم، خشع بقلبه شاكراً، وفي شكره سكب خلاصة قلبه، وفي سكيبه المقدس كان ساجداً وفي سجوده كان متعبداً، وفي تعبده تركنا نحن الواقفين على رمال الوادي مبهوتين، مندهشين، مرتعدين، نسمع الصوت ولا نميز منه سوى نبرات قليلة تزيدنا شوقاً وحنيناً إلى تلك "السماويات" العليا، ولا تروى فينا غليلاً، ثم انطلق هو إلى الأعالي ليرتوي من تلك الينابيع العليا التي لا ينضب لها معين!؟. 

 إن الفكرة الأساسية في هذه الرسالة هي: "المسيح والكنيسة". فهي البلاغ النهائي في تفسير ذلك الإعلان الجليل الذي فاه به المسيح على طريق قيصرية فيلبس: " على هذه الصخرة أبني كنيستي وأبواب الجحيم لن تقوى عليها ". فلا غرو إذ كان الخطاب فيها موجهاً إلى " القديسين والمؤمنين في المسيح يسوع"، أو بعبارة أخرى، إن موضوع هذه الرسالة هو "قصد الله الأزلي المعلن في المسيح، والمحقق في الكنيسة وبها". 

 ليس هذا القصد مقصوراً على دعوة الله للكنيسة، ولا على اتحاد عناصر الكنيسة المتنوعة، لكنه يمتد فيطوى على كل الجنس البشري الذي قصد الله أن يجمعه في المسيح الذي هو "الرأس الأعلى". ولكي يفصح الرسول عن هذا القصد، بدأ بالكلام عن حاجة الفرد إلى الخلاص الذي قدمه المسيح، والفداء الذي أكمله بصليبه، والغفران الذي أتمه بدمه الكريم ومن هذا تدرج إلى الكلام عن الصلة الكائنة بين المؤمن وسائر المؤمنين، فهي على مثال الصلة التي تجمع عضواً في الجسد بسائر الأعضاء. وعلى هذه النسبة المكينة تبنى الصلة بين اليهود والأمم، فلئن اختلفوا جنساً، إلا أنهم واحد في المسيح. 

 وجدير بنا أن نذكر ما قرره الرسول: وهو أن الكنيسة مع سمو مكانتها في قصد الله، ليست غاية في ذاتها وإنما هي وسيلة لإظهار حكمة الله المتنوعة للعالمين: "حسب قصد الدهور الذي صنعه في المسيح يسوع ربنا". 

ب – صلة هذه الرسالة ببعض أسفار العهد الجديد:

كتبت هذه الرسالة في نفس الوقت الذي كتبت فيه رسالة بولس الرسول إلى أهل كولوسي، فلا عجب إذا وجد بينهما شيء غير قليل من التشابه في اللفظ والمعنى. وإليك بعض هذا التشابه: 

"المسيح رأس الكنيسة": أفسس1: 22= كولوسي1: 18و2: 1

"سمو المسيح على الملائكة": أفسس1: 22= كولوسي2: 10

"الكنيسة جسد المسيح": أفسس1: 23، 4: 12، 5: 3= 1: 18و24

"نمو الجسد": أفسس4: 16= كولوسي2: 19

"وحدانية الجسد": أفسس2: 16، 4: 4= كولوسي3: 15

"الحالة الطبيعية التي كان عليها المؤمنون": أفسس2: 2= كولوسي1: 21

"قيامة المؤمنين في المسيح": أفسس2: 6= كولوسي2: 12، 3: 1

"المؤمنون محيون في المسيح": أفسس2: 5= كولوسي2: 13

"المؤمنون مصالحون بموت المسيح": أفسس2: 13= كولوسي1: 20. 

(10) "المؤمنون مفتدون بموت المسيح": أفسس1: 7= كولوسي1: 12.

(11) "المؤمنون سالكون في النور": أفسس5: 8 و9= كولوسي1: 12.

(12) "المؤمنون متأصلون في المسيح": أفسس3: 17= كولوسي2: 7.

(13) "المؤمنون مبنيون على أساس": أفسس3: 17= كولوسي1: 23

(14) "المؤمنون مملؤون في المسيح": أفسس1: 23= كولوسي1: 19.

(15) "الملء": أفسس1: 23، 3: 19= كولوسي1:: 19، 2: 9.

(16) "الإنسان العتيق والإنسان الجديد": أفسس4: 22=كولوسي3: 9.

(17) "سلسلة خطايا ممتنعة": أفسس4: 2و3= كولوسي3: 12-14.

(18) "غضب الله على العصاة": أفسس5: 6= كولوسي3: 5 و8

(19) "واجبات بيتية مطلوبة": أفسس5: 22-6: 9= كولوسي3: 8- 4: 1

(20) "السلوك في الخطية": أفسس2: 2، 4: 17= كولوسي3: 7

(21) "السلوك في القداسة": أفسس2: 10= كولوسي1: 10

(22) "افتداء الوقت": أفسس5: 16= كولوسي 4: 5

(23) "ترنيمات روحية": أفسس5: 19= كولوسي3: 16

(24) "الصلاة والتضرعات": أفسس6: 18= كولوسي4: 2

(25) "السر المعلن": أفسس1: 9، 3: 3= كولوسي1: 26 و27

(26) "الغنى": أفسس1: 7 و18، 2: 7= كولوسي 1: 27، 2: 26

(27) "الأجيال والدهور": أفسس3: 21= كولوسي1: 2

(28) "كلمة حق": أفسس1، 13= كولوسي1: 5

(29) "صفات تيخيكوس ومهمته": أفسس6: 21= كولوسي4: 7

(30) "المسيحيون مبنيون هيكلاً": أفسس2: 20= كولوسي2: 7

 التشابه بين بعض عبارات في هذه الرسالة وفي أعمال20

"بكل تواضع": أفسس4: 2= أعمال20: 19

"مشورة الله": أفسس1: 11= أعمال20: 27

"القدرة الإلهية": أفسس3: 20= أعمال20: 32

"بناء المؤمنين": أفسس2: 20= أعمال20: 32

"ميراث القديسين": أفسس1: 14 و17= أعمال20: 32 

جـ- كاتب الرسالة وظروف كتابتها

تحمل هذه الرسالة اسم بولس الرسول، مقروناً بالتحية في غرتها، كعادته في سائر الرسائل التي تحمل طابع قلمه الملهم. 

 وقد قُبلت هذه الرسالة على مر الأجيال حاملة اسم الرسول المبارك. وقرئت وفسّرت من جمهرة المفسرين مقرونة باسم بولس. هذه حقيقة تؤيدها سحابة من الشهود الأقوياء- فمن بوليكاربوس تلميذ يوحنا الرسول وأسقف أزمير، إلى تلميذه أيريناوس الذي نشأ في آسيا الصغرى في القرن الثاني للميلاد. إلى إغناطيوس الذي عاش في أواخر القرن الثاني، إلى سائر اللاهوتيين والمفسرين في جميع العصور. فمع أن الآراء قد تباينت وتشبعت في حقيقة من كُتبت إليهم هذه الرسالة، إلا أنها أجمعت كلها واتفقت على أن كاتبها هو بولس الرسول. 

 كتب بولس هذه الرسالة أثناء إقامته في روما- لا كما تمنى مرة أن يزور روما حراً طليقاً، معزياً ومتعزياً بالإيمان المشترك بينه وبين مؤمني روما- ولكنه حل فيها أسيراً سجيناً. غير أن ظلال السجن أتاحت له نوراً باهراً لم يهيئه له بهاء النور الطبيعي. وضيق غرفته قدم له سعة ورحابة، عز عليه أن يجد مثلهما في باحة العالم الفسيح. وأوقات خلوته ووحدته، هيأت له فرصة نادرة للتفكير العميق، والإلهام الحر الطليق، والاتصال الوثيق بالرفيق الأعلى، وفي الوقت نفسه أتاحت له فرصة نادرة للاتصال بزائريه من مختلف الأقطار والأمصار (أعمال28: 30). 

 لقد أجمعت كلمة آباء الكنيسة الأولين، على أن بولس هو كاتب هذه الرسالة. وجلهم أضاء صفحات كتاباته بمقتبسات من هذه الرسالة على اعتبار أن بولس كاتبها. 

 غير أن هذه الإجماع لم يخل من اعتراضات قامت في سبيله: بعضها سلبي، والبعض الآخر إيجابي: 

 في مقدمة الاعتراضات السلبية: إن الرسالة خالية من كل طابع شخصي للرسول. فلا مكان فيها لتحيته الشخصية التي ألفناها منه في سائر رسائله. ولا مجال فيها لظروف الكنيسة المحلية الخاصة، كما في كورنثوس وروما وغلاطية. 

 ومن الاعتراضات الإيجابية: إن أسلوب الرسول في هذه الرسالة، يختلف بعض الاختلاف عنه في سائر رسائله. فبين دفتي هذه الرسالة نلتقي بكلمات "فذة" لا نعثر على مثلها في سائر كتابات الرسول. وسياق الفكر في هذه الرسالة يمتد بالكاتب إلى مدى بعيد، فيخرجه طوراً عن الموضوع الأصلي ، وتارة يفتح أمامه أبواباً جديدة. فضلاً عن ذلك، فإن العقائد المتضمنة في هذه الرسالة، قد عولجت بطريقة لا عهد لنا بها في كتاباته الأخرى. 

 لكن هذه الاعتراضات- أوجلها- تتضاءل، ولعلها تضمحل، أمام نور الحقائق الآتية: 

 فالتاريخ المسيحي في جانب الرأي القائل إن بولس هو كاتب هذه الرسالة ولا شك في أن العلماء الناقدين الذين عاشوا في القرون المسيحية الأولى، هم خير حكم في هذا الموضوع، لأنهم كانوا قريبين من ذلك العهد، فتعتبر شهادتهم كأنها شهادة عيان، فيتم فيهم ذلك القول المأثور: "وشهد شاهد من أهلها". 

 أما السبب في خلو هذه الرسالة من الإشارات الشخصية، فقد يظهر لنا متى جئنا إلى بحث هذا السؤال: "إلى من كتبت هذه الرسالة؟". 

 ومن جهة اختلاف أسلوب الرسول في هذه الرسالة، عنه في سائر رسائله، فالسر فيه يرجع إلى أن أسلوب الكاتب الواحد قد يتخذ أشكالاً مختلفة، باختلاف الموضوعات التي يعالجها، وفوق ذلك فإن رجلاً خصيب العقل كبولس، قوي الإلهام كرسول الأمم، لا يمكن أن يتقيد بأسلوب خاص، في كل رسائله. ويقيننا أن هذا الاعتراض حجة في جانب الرسول، لا عليه. 

 أما عن كون الرسول قد عالج في هذه الرسالة عقائد لم يعالجها في غيرها أو بطريقة غير طريقته المعهودة، فإن هذا يُعزى إلى أن معلماً عظيماً كبولس، لا بد أن يخرج من كنزه جدداً وعتقاء، سيما وأن أحوال كل كنيسة تختلف عنها في الأخرى. ومن المفروض أن المؤمنين يتقدمون "من نعمة إلى نعمة" ومن "درجة في التمييز إلى درجة أرقى" فمن الطبيعي أن يزاد لهم النور بقدر ازديادهم في المعرفة، والفهم، والقابلية. وفي اعتقادنا أنه لو كانت العقائد في هذه الرسالة، مقصورة على العقائد التي تناولها الرسول في رسائله الأخرى لاعتبرت هذه حجة ضد كتابته هذه الرسالة، ولقيل لنا إن هذه الرسالة ليست من كتابات بولس؟ بل بقلم شخص أراد أن يحاكيه في الكتابة فنقل نحن ولم يحسن النقل، لأن هذه الرسالة لم تأتنا بعقيدة جديدة!!! 

 فالمعترض لا يكف عن الاعتراض، ولو كان الحق واضحاً كالنهار!. وما أجمل ما قال العلامة هوسن في هذا الصدد: "ليس لنا من جواب على كل معترض سوى أن نقول واثقين: لا يمكن أن يكون لهذه الرسالة من كاتب سوى بولس الرسول. فقد شهد أريناوس في بدء القرن الثاني أن بولس هو الكاتب. فمن إذاً بين بولس وأيريناوس، يكون كاتباً لهذه الرسالة؟ إن وجد شخص مثل هذا، فلا بد أن تكون له مؤهلات لا تقل عن مؤهلات بولس- في سلامة الأسلوب، وسلامة الذوق، ودقة التعبير، وإلهام متصل بباب السماء، ووداعة تمس أهداب الأرض، وصلابة في الحق، وقوة في الشعور، ونور في العقل، ونار في القلب. فإن لم يكن بولس هو الكاتب، فلا بد أن يكون أفضل من بولس!! فمن هو إذاً؟ أليس الأفضل أن نسلم بأنه هو بولس؟!  

د- إلى من كتبت هذه الرسالة؟

 من المسلَّم به، أن العبارة "في أفسس" المتضمنة في العدد الأول، ليس موجودة في بعض النسخ الخطيّة القديمة. وإلى هذه الحقيقة يُعزى السبب في خلو هذه الرسالة من الإشارات الخاصة إلى الظروف المحلية المحيطة بكنيسة أفسس، مما حدا بجل الباحثين أن يستنتجوا أن هذه الرسالة "دورية" أُرسلت إلى كنائس تضمها معاً مقاطعة واحدة- من ضمنها أفسس، وأن الرسول ترك "فراغاً" في العنوان ليملأ باسم الكنيسة التي يأتي دورها. وأن النسخ الخطيّة المحتفظة بهذه العبارة: "في أفسس"، هي صورة طبق الأصل للنسخة الأولى التي أرسلت إلى أفسس بالذات، باعتبار كونها إحدى تلك الكنائس أو "مفتاحها". 

 ومتى ذكرنا أن تيخيكوس حمل هذه الرسالة مع رسالة كولوسي، وأن اسمه مذكور في كل من الرسالتين بكل حب وإجلال وإكرام (كو4: 7 و8، أفسس6: 21 و22). وأن هاتين الرسالتين تتشابهان في مواضع غير قليلة، تبين لنا أن هذه الرسالة، هي في الغالب تلك التي ذكرت في رسالة كولوسي باسم "الرسالة إلى لاودكية" (كو4: 6). 

 وبما أن أفسس كانت على رأس مدائن تلك المقاطعة، ومتقلدة زعامتها سياسياً، وعلمياً، واجتماعياً، ودينياً، وأنها كانت "مفتاح" مقاطعة آسيا الصغرى، فكان من الطبيعي أن ترسل هذه الرسالة إلى كل تلك الكنائس "عن طريق" كنيسة أفسس. وإلى هذا يعزى السبب في وجود العبارة: "في أفسس" في كثير من النسخ الخطية القديمة جداً. 

 هذه هي أفسس عاصمة الدولة الرومانية في آسيا الصغرى. لقد امتازت بغناها الجزيل، وفنها المبدع، ومعبدها الذي فاق كل طارف وتليد، إذ سلخ من الدهر 220 سنة في إقامته، فشيد على 127 عاموداً، وبلغ طوله425 قدماً، وعرضه220 قدماً، وارتفاعه70 قدماً- هذا هو هيكل ديانا. 

 هذه هي أفسس التي كانت قبل بزوغ شمس الإنجيل، متحلية بجمالها القبيح، متعظمة بغناها المفتقر، متفاخرة برفعتها الحقيرة‍ ولكن عندما غمرها نور الإنجيل، خرت "ديانا" ساجدة عند قدمي الناصري المصلوب. 

 ولكن أين هي أفسس الآن؟ لقد أضحت أثراً بعد عين. لأنها اكتفت بالمظهر دون الجوهر، وانصرفت بـ "الاسم" عن "الحقيقة"، "فتركت محبتها الأولى" (رؤيا2: 5). 

 ولئن ذهبت أفسس، فإن رسالتها خالدة. ولئن مضى الرسول فالرسالة باقية. فالسموات والأرض تزول، ولكن كلمة الله لا تزول. فلنتقدم إلى دراسة هذه الرسالة بروح التخشع والتعبد، طالبين من روح الله، أن يعلن لنا ما خفي منها وما استتر، وأن يحقق لنا في حياتنا العملية، ما وضح منها وما ظهر، لأنها في الواقع كتبت لنا نحن الذين امتدت بنا الأيام إلى هذا العصر.

الأصحاح الأول

تستهل رسائل بولس عادة بتحية، وشكر، وطلبة. وفي بعض الأوقات تُغفل التحية، أو الطلبة، وفي البعض الآخر تجتمع هذه الثلاثة العناصر معاً، كما في ديباجة هذه الرسالة، التي تتضمن ثلاثة عناصر هامة- كل عنصر منها قائم بذاته:

أولاً: كاتب الرسالة: "بولس رسول يسوع المسيح بمشيئة الله"

ثانياً: المكتوب إليهم: "إلى القديسين في أفسس والمؤمنين في المسيح يسوع"

ثالثاً: التحية : "نعمة لكم وسلام من الله أبينا والرب يسوع المسيح"

وكل عنصر من هذه الثلاثة العناصر قائم على ثلاثة أركان:

أولاً: كاتب الرسالة يصف نفسه وصفاً مثلثاً:

                  (1)                                                   (2)                                                    (3)

                اسمه:                                                 وظيفته:                                   السلطان الذي تقلد به وظيفته

               "بولس"                                       "رسول يسوع المسيح"                                  "بمشيئة الله"

ثانياً: الكاتب يصف المكتوب إليهم وصفاً مثلثاً:

(1)                        (2)                                  (3)

دعوتهم:               مكانهم:                                  مقامهم:

"القديسين"       "الذين في أفسس"                   "المؤمنين في المسيح يسوع"

ثالثاً: التحية في وصفها المثلث:

(1)                                    (2)                           (3)

مشتملاتها:                           مآلها:                           مصدرها:

"نعمة وسلام"                      "لكم"              "من الله أبينا الرب يسوع المسيح"،

كاتب الرسالة

1بُولُسُ، رَسُولُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ بِمَشِيئَةِ اللهِ،

الكاتب يصف نفسه وصفاً مثلثاً:

(1)اسمه "بولس"- وهي كلمة يونانية الأصل، معناها"صغير".

لأول مرة حدثنا لوقا في أعمال 13: 9 أن رسول الأمم عُرف بهذا الاسم بعد تجديده ورجوعه إلى المسيح. وقد كان قبلاً معروفاً باسم: "شاول"- ومعناه "المطلوب" أو "المرغوب فيه". وشتان بين الاسمين. فالاسم القديم يحيطه الزهو، وتحف به الخيلاء. والاسم الجديد مشتق من معدن البساطة والوداعة.

وإذا ذكرنا أن شاول الطرسوسي عُرف باسم "بولس"، بُعَيد اهتداء الوالي سرجيوس بولس، الذي قبل الإيمان على يديه (أعمال13: 5-7)، جاز لنا أن نستنتج أن بولس الرسول، تقلد اسم أول رجل تجدد على يديه، على مثال ما يتم للفاتحين الظلفرين الذين تُخلع عليهم أسماء المواقع الحربية الحصينة التي يظفرون فيها. يضاف إلى هذا، أن بولس الرسول، بعد أن تجدد ورجع إلى المسيح، تعين عليه أن يحمل اسم المسيح أمام أمم وملوك، فصار من المحتم عليه، والحالة هذه، أن يجتاز مقاطعات وبلاداً يونانية. وبما أن اسمه الأول "شاول" عبري الأصل، فقد أضحى لزاماً عليه، أن يحمل اسماً يونانياً، يتفق والمزايا اليونانية والرومانية التي حصل عليها، فلم ترَ أنسب من اسم "بولس" الذي يذكّره باسم أول رجل اهتدى على يديه.

ويغلب على اعتقاد الأسقف موليه، أن الرسول بولس كان يحمل اسمين منذ الطفولة- أحدهما: "شاول" العبري لغة، لأن الرسول يهودي الأصل والمولد. وثانيهما: "بولس" اليوناني لغة، لأن الرسول يوناني الثقافة. فلما تجدد وأضحى رسولاً للأمم، اُبتلع اسمه اليهودي في اسمه اليوناني، فأصبح معروفاً بثانيهما وحده، فاختفى الطرسوسي شاول في بولس الرسول.

وجدير بالملاحظة أن بولس، في هذه الرسالة وفي رسالته إلى رومية لم يقرن اسماً أخر باسمه- على غير عادته في رسائله الموجهة إلى سائر الكنائس. وغالباً جداً، يرجع السبب في هذا، إلى أن هذه الرسالة عامة في موضوعها، موجهة إلى كنائس أخرى علاوة على أفسس. (ارجع إلى المقدمة العامة).

(2) وظيفته: "رسول يسوع المسيح". كلمة "رسول" تعني إطلاقاً: الشخص المكلف بمهمة ورسالة. ويُفترض فيها أن المرسل أجلّ قدراً من الرسول. وفي هذا يقول المسيح "ليس رسول أعظم من مرسله" (يو13: 16). لكنها استعملت هنا على وجه التخصيص، لتعني واحداً من طبقة ممتازة، منتقاة، مؤلفة من اثني عشر رجلاً، اختارهم المسيح، ودعاهم، وأرسلهم ليكونوا شهود عيان لقيامته، وليحملوا اسمه ورسالة إنجيله إلى البشر وكلهم عاين المسيح بعد قيامته بالجسد. إلا يهوذا الأسخريوطي الذي سقطت راية الشرف من يده.

إن قوله: "رسول يسوع المسيح" يفيد أن بولس نرسل من المسيح، وهو تابع له، ومملوك منه، بل إن المسيح هو علة رسوليته وغايتها، وموضوعها. ولا شك في أن انتساب بولس الرسول إلى المسيح يسبغ على رسالته سلطة، ورفعة، ووداعة. فهو رسول ملك الملوك ورب الأرباب، وفي الوقت نفسه هو رسول ذاك الذي قال عن نفسه: "لأني وديع ومتواضع القلب".

ويجمل بنا أن نقارن بين الصفة التي تقدم بها بولس إلى قارئيه في هذه الرسالة، والصفات التي تقدم بها إلى قارئيه في بعض رسائله الأخرى:

في رسالتيه الأولى والثانية إلى تسالونيكي قال: "بولس"

وفي رسالته إلى رومية قال: "بولس عبد يسوع المسيح"

وفي رسالته الأولى إلى كورنثوس قال: "بولس المدعو رسولاً ليسوع المسيح"

وفي مطلع رسالته الثانية إلى كورنثوس قال: "بولس رسول يسوع المسيح"

وفي بدء رسالته إلى غلاطية قال: "بولس رسول لا من الناس ولا بإنسان"

وفي مقدمة رسالته إلى فيليبي قال: "بولس عبد يسوع المسيح"

وفي غرة رسالته إلى تيطس قال: "بولس عبد الله ورسول يسوع المسيح"

وافتتح رسالته إلى فليمون بقوله: "بولس أسير يسوع المسيح"

من هذه المقابلات يتضح لنا، أن بولس عندما كان يبعث برسالة إلى أناس لا يشكون في سلطان رسوليته، كان يكتفي في الديباجة بذكر اسمه مجدداً عن كل لقب، أو يكتفي بأن يتسربل بثوب "العبد ليسوع المسيح"- كما في رسائله إلى تسالونيكي، وفيليبي، وفيليمون. ولكنه في مخاطبة الكنائس التي كانت فيها رسوليته موضع شك أو جدل أو منازعة كان يحرص على تعزيز سلطان رسوليته، ضناً منه بكرامو خدمته لا بكرامة شخصه- كما في رسالتيه إلى غلاطية ورومية. ولكن في رسالته التي نحن بصددها الآن، وفي رسائله إلى كورنثوس وكولوسي، اتخذ موقفاً وسطاً وليس بخافٍ أن لاختبارات بولس الشخصية شأناً يذكر في هذا الباب.

هذا هو بولس الذي قال عن نفسه "إنه كان مضطهد الكنيسة"، و"أول الخطاة" و"ليس مستحقاً أن يدعى رسول المسيح"، لكنه "رُحم لأنه فعل بجهل في عدم إيمان".

على أنه من الجائز أن يعتبر كل مؤمن رسولاً بمعنى عام فلكل مؤمن رسالة يؤديها في حياته، ما دامت حياته مرتّبة بحكمة سامية، لقصد سام.

(3) السلطان الذي تقلد به وظيفته: "بمشيئة الله". لم يتقلد مهام رسالته من الرسل الذين قبله، ولا من الكنيسة، ولا من بشر، ولا بحكم أي نظام بشري، ولا عن تطفل منه، أو حماس شخصي، ولا عن مجرد رغبة منه في خلاص البشر، لكنه تسلم مقاليدها من المسيح نفسه وبمحض مشيئته العلوية. ولئن كانت كنيسة أنطاكية قد أفرزته للتبشير، إلا أنه كان قد دعي قبلاً إلى هذا العمل، فقال الروح القدس: "افرزوا لي برنابا وشاول (بولس) للعمل الذي دعوتهما إليه" (أعمال13: 2). هذا واضح غاية الوضوح في رسالة أخرى كتبت مع هذه الرسالة- هي رسالة غلاطية إذ يقول "لما سر الله الذي أفرزني من بطن أمي ودعاني بنعمته، أن يعلن ابنه فيّ لأبشر به بين الأمم، للوقت لم أستشر لحماً ودماً، ولا صعدت إلى الرسل الذين قبلي ... فإن الذي عمل في بطرس لرسالة الختان عمل فيّ أيضاً للأمم". (غلاطية1: 15-20 و2: 6-8).

هذا هو بولس الذي اختاره المسيح، ودعاه لوظيفة الرسولية وشرفه بأن وضعه في رأس قائمة الرسل، مع أنه قد رضى تنازلاً منه، أن يضع نفسه في رأس قائمة الخطاة (1تي1: 15)، وفي ذيل قائمة القديسين (أفسس3: 8)، وفي مؤخرة صفوف الرسل (1كو15: 9).

لا مشاحة في أن بولس كان واثقاً من المشيئة السماوية التي قلدته أعباء هذه الخدمة، وكان على اتصال وثيق بهذه المشيئة، يصغي لصوتها ويستمع لدقات ساعتها، وهو شاعر على استمرار بأنه ليس شيئاً في ذاته، لأنه ليس عائشاً لذاته، وأنه متمتع بسلطان المسيح الذي افتداه، وهداه، وأرسله. فهو بذلك في حرز حريز من كل الهجمات البشرية، عزيز إذا أُريد له الذل، كريم إذا أُريد له الضيم، آمن مطمئن إذا أريد به الشر، لأنه متمم مشيئة الله. لا تلويه عن قصده تجربة وإن دقت، ولا تقف في سبيله عقبة وإن جلت، لأنه متمم مشيئة الله. وكذلك شأن كل مؤمن يجدّ في إتمام مشيئة الله في حياته.

المرسل إليهم

إِلَى الْقِدِّيسِينَ الَّذِينَ فِي أَفَسُسَ، وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ.

الكاتب يصف المكتوب إليهم وصفاً مثلثاً:

(1): "القديسين". (2) مكانهم: "أفسس". (3) مقامهم: "المؤمنين في المسيح يسوع".

إن كلمة: "القديسين" والعبارة التي بعدها: "المؤمنين في المسيح يسوع" لا تصفان صنفين من الناس، بل تعنيان فريقاً واحداً، فهما وصفان متكاملان لجماعة واحدة. فقوله: "قديسين"، يصف المرسل إليهم في سمو دعوتهم. وقوله: "مؤمنين في المسيح يسوع"، يصفهم في متانة مركزهم ورفعة مقامهم. الكلمة الأولى تصفهم في موقفهم بالنسبة للعالم الذي اُفرزوا منه، ووقفوا أنفسهم لله ولخدمته. والكلمة الثانية تصفهم في موقفهم بالنسبة للمسيح الذي به يثقون، وفيه يقومون، وله يخلصون ويوالون فالمسيح موضوع إيمانهم، وغاية ولائهم، ومستودع أمانتهم.

"قديسين"- أُستعملت هذه الكلمة في العهد القديم لتصف حالة خارجية، ولطالما أُطلقت على الناس والجماد. ومعناها: "المفرز لقصد أو لشخص معين". وفيها معنى من معاني "التحريم". فالشيء متى خُصص لغرض ما، حُرم استعماله لغير ما أُفرز له. فأواني الهيكل كانت مقدسة منذ الوقت الذي اُفرزت فيه لخدمة الهيكل، فصار من المحرم استعمالها لغير الهيكل والسبت "المقدس" لأنه يوم الرب، وجبل صهيون "مقدس"، لأنه جبل قدس الرب. والأنبياء " مقدسون" لأنهم رجال اله. لكن كلمة: "قديسين" أُستعملت في العهد الجديد بمعنى إيجابي. فإذا كانت في العهد القديم تعني اعتزال الإنسان العالم، فهي في العهد الجديد تعني وقف الإنسان نفسه لله. وفي العهد القديم تعني الانفصال عن، وفي العهد الجديد تعني الامتلاء من. في العهد القديم تفيد التطهير الخارجي الطقسي، وفي العهد الجديد تعني القداسة الداخلية الروحية، القائمة بحلول المسيح في قلب المؤمن بروحه الأقدس، وتقديس القلب من كل أدران الخطية بنار الروح المطهر. وقد أجمل بولس هذه الحقائق في قوله: "كيف رجعتم إلى الله من الأوثان لتعبدوا الله الحيّ الحقيقي" (1تس1: 9).

إن كلمة "قديسين" كما وردت في العهد الجديد، ليست منحصرة في طغمة خاصة من المؤمنين، لكنها تعني جميع المؤمنين على وجه التعميم. فهي مرادفة لكلمة مسيحيين. وفي هذا يقول يوحنا فم الذهب: بإطلاعنا على ما جاء في 5: 22، 6: 1 و2 من هذه الرسالة، يتضح لنا أن القديسين المعنيين هنا، هم مسيحيون يشاطرون سائر البشر حياتهم العملية- فمنهم الأزواج والزوجات والسادة والعبيد.

(2) مقامهم: "المؤمنين في المسيح يسوع". الكلمة المترجمة "مؤمنين" معناها في اللغة اليونانية القديمة (الكلاسيك): "الأمناء"، أو "الذين يركن إليهم"، وقد استعملت في لغة العهد الجديد بمعنى "الواثقين"، و" الممتلئين إيماناً"، كما في يوحنا20: 27 "ولا تكن غير مؤمن بل مؤمناً"، وغلاطية3: 9 "إبراهيم المؤمن"، وكولوسي1: 2 "الإخوة المؤمنين"، و1 بطرس1: 21 "أنتم الذين به تؤمنون بالله". و(1تي4: 3) "المؤمنين وعارفي الحق".

ويستفاد من إيراد العبارة: "في المسيح يسوع" بعد كلمة "المؤمنين"، أن المسيح هو موضوع إيمانهم. وقد ذكرت كلمة "في" للدلالة على ما بين المؤمنين والمسيح من اتحاد حيوي وثيق، في روح واحد. فهو ليس فقط موضوع إيمانهم، بل هو أيضاً حياة إيمانهم، وقوامه. فهو لهم بمثابة الكرامة للأغصان. وليسوا هم مجرد مؤمنين بالمسيح أو عن المسيح لكنهم مؤمنون فيه.

(3) مكانهم: "في أفسس".

إن قوله: "في المسيح يسوع" يصف المؤمنين في مقامهم، وقوله "في أفسس"، يصفهم في مكانهم. ومتى ذكرنا ما كانت عليه أفسس من شر وفساد، تحققنا أن وجود مؤمنين في تلك البيئة الموبوءة، ليس سوى معجزة من معجزات النعمة المجانية. لأن وجود مؤمنين في أفسس يعد بمثابة وجود وردة بيضاء في محيط أغبر، أو جذوة من النار في قلب البحر، أو بنفسجة نابتة في قلب صخر.

إن الوصفين: "قديسين"، "ومؤمنين في المسيح يسوع" لا يصفان حالة كمال معينة في المؤمنين، بل يصفان كل مسيحي مخلص في إيمانه بالمسيح، فإن لم يكن المسيحي ذلك، وجب أن يكون كذلك.،

التحية،

2نِعْمَةٌ لَكُمْ وَسَلاَمٌ مِنَ اللهِ أَبِينَا وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ.،

تأتي التحية التي يوجهها بولس في العدد 2 من الرسالة:،

(1) مشتملاتها: "نعمة وسلام"،

في هذه التحية الرسولية الجامعة، التقت تحية الأمم بتحية اليهود.،

"فالنعمة" هي التحية اليونانية. و"السلام" هو التحية اليهودية.،

كلمة "نعمة" تعني الجمال وقد كان من الطبيعي أن يتخذ اليونانيون هذه،

الكلمة تحية لهم، لأنهم كانوا عائشين في أرض الجمال، ويتكلمون بلغة الجمال، ويعبدون آلهة الجمال. فالفضيلة عندهم هي الجمال.،

لكن النعمة المسيحية هي الجمال الروحي، الذي خلعه الله على البشر، إذ أحبهم وأسبغ عليهم أجمل نعمة وأجلّها في شخص المسيح الذي هو أبرع جمالاً من بني البشر، وهو "يجمّل الودعاء بالخلاص".،

اهتم اليونان بجمال الجسد، فاستحال جمالهم قبحاً. لكن المسيحية اهتمت أولاً بجمال النفس الذي يشعّ منها على الجسد، فيكسبه بهاء وجلالاً.،

والنعمة تختلف عن المحبة، في أن المحبة قد تتخذ اتجاهاً واحداً من ثلاثة- من الأعلى إلى الأدنى، أو من الند إلى الند، أو من الأدنى إلى الأعلى. لكن النعمة لا تعرف إلا اتجاهاً واحداً- من الأعلى إلى الأدنى. والمحبة قد تكون مجرد عاطفة تذهب هباء، لكن النعمة عاطفة محملّة خيرات فهي دائماً عامرة القلب مليئة اليدين. وهي تختلف عن الأجرة، في أن الأجرة تعطى لمستحقيها. لكن النعمة توهب لغير المستحقين.،

"والسلام" هو تحية اليهود. وهم يريدون به عادة الأمن الخارجي، .والتحرير من القيود السياسية. لأن أرضهم كانت- ولم تزل- مطمع الأمم القوية، ومطمعاً للقلاقل والثورات. لكن المسيحية تريد سلاماً عميقاً، روحياً، قلبياً، اشتراه المسيح بدمه الثمين- سلاماً لا تقدر الدنيا أن تنيلنا إياه، ولا تستطيع عواصفها أن تنتزعه من عواطفنا- سلاماً هو نعم الاطمئنان القلبي الذي يملك على المؤمن مشاعره، نتيجة مصالحته مع الله، وغفران خطاياه، ونصرته على تجاربه، ويقينه برجاء الخلود، على رغم ما يحيط به من صعاب وآلام، فيظل آمناً ناعم البال ولو هبت الرياح. ويتهلل مترنماً ولو كان في أعمق السجون. ويكون حرّ القلب طليقه ولو كانت يداه ورجلاه ترسف في القيود.،

"نعمة وسلام"- اقتبست المسيحية هاتين التحيتين وقرنتهما معاً ثم مسحتهما بمسحتها المقدسة، وطهرتها من كل شائبة مادية أو زمنية.،

"نعمة وسلام": النعمة هي رضى الله الذي يحيطنا ويغمرنا والسلام هو بركة داخلية تكون في أعماق قلوبنا كالنبع الفيّاض.،

"نعمة وسلام": بمثل هذه التحية استهل بولس رسائله إلى كورنثوس، وغلاطية، وفيليبي، وكولوسي، وتسالونيكي، وفيليمون: لكنه في رسائله الرعوية قد أضاف كلمة "رحمة".،

(2) مصدر التحية: "من الله أبينا والرب يسوع المسيح". مع أن الله هو أب الجنس البشري بوجه عام، إلا أنه أب للمؤمنين بنوع خاص، باعتبار كونهم متحدين بابنه يسوع المسيح، لذلك قال الرسول: "الله أبينا". فالضمير "نا" يعود على المؤمنين- وبولس الرسول واحد منهم.،

إن في وضع اسم الرب يسوع جنباً إلى جنب مع اسم الله أبينا، واعتبارهما معاً مصدر نعمتنا وسلامنا، أكبر دليل على لاهوت المسيح. من أجل ذلك قال الرسول: "ربنا يسوع المسيح". ومتى ذكرنا أن كاتب هذه العبارة لم يولد في المسيحية، بل نشأ بفطرته وتربيته عدواً للمسيح والمسيحية، وكان يجد لذة خاصة في تحقير المسيح، واضطهاده تبين لنا أن شهادته من أقوى الشهادات للاهوت المسيح، لأنها من قلم عدو، والفضل ما شهدت به الأعداء. وجدير بالاعتبار أن هذه العبارة: "ربنا يسوع المسيح" لم يمهد لها الرسول بكلمة إيضاح، بل صدرت عنه عفواً، بلا جدل ولا منازعة، مثلما تنبعث الأشعة من الشمس بغير كلفة ولا مجهود. ولنا في هذا أكبر دليل على أن الاعتقاد بلاهوت المسيح، كان من المعتقدات الأساسية المسلّم بها لدى الرسل والكنيسة الأولى. ولا شك في أن الاعتقاد بلاهوت المسيح، ليس درساً يتلقنه إنسان عن إنسان، ولا هو علم يتوارثه الأحفاد عن الأجداد وإنما هو إعلان إلهي سماوي يتلقاه المؤمنون من الله رأساً. في هذا الصدد قال المسيح لبطرس "طوبى لك يا سمعان بن يونا. إن لحماً ودماً لم يعلن لك لكن أبي الذي في السموات" (مت16: 17)، ويقول بولس الرسول: "ليس أحد يقدر أن يقول يسوع رب إلا بالروح القدس" (1كو12: 3).،

(3) مآل التحية: "لكم"- من هم المكتوب إليهم؟ ارجع إلى المقدمة العامة. فقد تجد فيها الجواب على هذا السؤال.،

القسم التعليمي في الرسالة

(1: 3- 3: 21)،

شكر على بركات الله التي أغدقها على الكنيسة،

(1: 3- 3: 21)،

3مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ،،

لدى دخولنا رَحبات هذه الرسالة، يواجهنا مدخل فخم غاية في الجلال والرّواء، وإذ نلج بابه نسمع أنشودة الرسول التي هي أحد مزامير العهد الجديد.،

هذا فصل جليل، ارتقى فيه الرسول محلقاً في سماء المعلنات الإلهية، حتى أحاطته أشعة أنوار محبة الله ونعمته. ولما شرع يحدثنا عن جلال تلك المعلنات وجمالها لمح أنواراً فوق أنوار، تبهر الأبصار، ورأى قمماً من المجد يرتقي بعضها فوق بعض، ونظر بركات تتلوها بركات، ولحظ نعماً تعقبها نعم، فاسترسل في الكلام بغير توقف ولا تمهل، حتى بلغ نهاية هذا الشوط. وكأني به- بعد هذا الفصل الجليل- ألقى قلمه ليستريح هنيهة بعد هذه المرحلة الطويلة العلوية التي قطعها سابحاً في الأفلاك السماوية.،

ومن فرط ما أُخذ به من معلنات، أغفل كل إشارة شخصية، على خلاف عادته في معظم رسائله، كما يتبين جلياً من مراجعة كلامه في غرة الرسائل الآتية:،

رسالته الأولى إلى تسالونيكي: "نشكر الله كل حين من جهة جميعكم"،

رسالته الثانية إلى تسالونيكي: "ينبغي أن نشكر الله كل حين من جهتكم"،

رسالته إلى غلاطية: "إني أتعجب أنكم تنتقلون هكذا سريعاً"،

رسالته إلى فيليبي: "أشكر إلهي عند كل ذكري إياكم"،

رسالته إلى كولوسي: "نشكر الله... كل حين مصلين لأجلكم".،

فبعد أن تملي نظره برؤية الشمس، لم يرغب في التحدث عن ساكني الأرض إلا بعد أن استكمل الحديث عن معلنات السماء (1: 15).،

إن أسلوب الرسول في مطلع هذه الرسالة، لا يماثله سوى أسلوبه في رسالته الثانية إلى كورنثوس، التي كتبت في ظرف دقيق حرج، إذ كان الرسول آنئذ على أحر من الجمر في انتظار كلمة عن نتيجة رسالته الأولى التي بعث بها إلى تلك الكنيسة. وحالما بلغته أخبار طيبة، اهتزّ قلبه طرباً، فطفق يقول شاكراً: "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح أبو الرأفة وإله كل تعزية". فلم يوجه الخطاب إلى سكان الأرض إلا بعد أن استكمل ملهمات السماء فقال في 1: 11 من تلك الرسالة "وأنتم أيضاً مساعدون بالصلاة لأجلنا".،

على أن موضوع الشكر الذي شغل ذهن بولس في رسالته الثانية إلى كورنثوس هو أضعف أثراً في ذهنه من الموضوع الذي ملأ قلبه في هذه الرسالة. إن شكره هناك، مقصور على فرحه بنجاته، وسوره بالاطمئنان الذي ملأ قلبه من جهتهم. لكن شكره هنا، يشمل كل البركات الروحية، الفدائية العلوية، التي أسبغها المسيح على الكنيسة. فلست أدري، أكان بولس متخذاً في هذا الفصل موقف الشاكر، أم موقف المستكشف أمام أسرار الفداء؟ يلوح لي أنه كان في شكره مكتشفاً وفي اكتشافه شاكراً.،

هذا فصل أقرب إلى أنشودة سماوية منه إلى مقالة لاهوتية. هذه قطعة خالدة كتبها الرسول بمحلول من ذوب قلبه، لا بمداد قلمه. هذه بردة مجيدة نسج بولس من شغاف فؤاده وحبَك لحمتها من أشعة أنوار المجد النوراني.،

فلا عجب إذا فشل المفسرون في تحليل هذه القطعة، وإخضاعها لقواعد التقسيم المألوفة. لأن هذا يعتبر بمثابة محاولة حبس أشعة الشمس داخل غلاف رسالة ترسل بالبريد.،

إن هذا الفصل المؤلف من إثنى عشر عدداً، شبيه بسلسلة كاملة الحلقات- والعدد12 رمز الكمال- كل حلقة منها مسبوكة بعناية ودقة، على صورة يتعذر معها فصل كل حلقة عن الأخرى- فالحلقة الأولى تتصل بقصد الله منذ الأزل، والحلقة الأخيرة تماشي المؤمنين في اختباراتهم على ممر الأجيال. الحلقة الأولى تلامس هامات السماء، والحلقة الأخيرة تمس أهداب الأرض.،

إذا ألقينا نظرة سطحية على هذا الفصل، أخذنا لأول وهلة بغنى اللغة التي عبر بها الرسول عما في فكره، ولكننا متى أمعنا النظر، ظهر لنا فقر اللغة، أمام غنى المعنى. وهذا يتضح جلياً من التجاء بولس إلى تكرار بعض العبارات، بين آونة وأخرى، لأن لغة الأرض ضاقت ذرعاً بمكنونات السماء. مثال ذلك: تكراره كلمة: "الذي" وحدها سبع مرات (3 و7 و11 و13)، وتكرار الكلمتين معاً أربع مرات (7 و11 و13) وكلمة: "في المسيح" وما يرادفها إحدى عشر مرة (3 و4 و5 و6 و7 و10 و11 و12 و13). ومتى دققنا البحث، تبين لنا أن هذا الفصل يرتكز على بعض العبارات الرئيسية، نظير قوله: "مشيئة الله"، (عدد5 و9 و11)، "مدح مجده" (عدد6 و12 و14)، "في المسيح" (عدد3 و4 و6 و7 و9 و10 و11 و12 و13).،

من هذا يتضح لنا أن الفكرة الرئيسية في هذا الفصل هي أن مشيئة الله قصدت بالمؤمنين تدبيراً مجيداً في المسيح. ولكي يوضح الرسول هذه الفكرة رجع بقارئيه إلى تدبير الفداء، مذ كان قصداً كامناً في فكر لببه، حتى أصبح عملية متدرجة، مُحكمة الحلقات، تتم كل حلقة منها في وقتها المعين، وقد وجه الرسول نظرنا إلى ثلاث مراحل في هذا البرنامج الفدائي- تنتهي كل منها بعبارة شبيهة بقرار يتردد حيناً بين الثلاثة الأدوار التي تتألف منها هذه الأنشودة- هذا القرار هو قوله: "لمدح مجده" (عدد6 و12 و14). في الدور الأول (1: 3-6) تغنى الرسول بمجد المحبة الفدائية في تدبيرها الأزلي- في قلب الماضي. وفي الدور الثاني (1: 7-12) سبّح بمجد هذه المحبة الفدائية في هباتها الحاضرة وفي الدور الثالث (1: 13 و14) عظّم الرسول جلال هذه المحبة الفدائية كرجاء وطيد يتم تحقيقه في حياة الأبد. "من الأزل- إلى الأبد" هذا هو الخيط الذهبي الذي يربط بدء هذا الفصل بختامه.،

في هذا الفصل ذكر الرسول عمل كل من أقانيم الثالوث الأقدس، في برنامج الفداء. فهنا نجد هذا الفصل خاصة بعمل الله الآب في هذا البرنامج. (عدد3). وقلبه مكرس لنصيب الله الابن. بدليل تكرار كلمة "فيه" مراراً (عدد4 و7 و10 و11)، وخاتمته متوَّجة بختم الروح القدس (عدد13) فالأقنوم الأول دبّر الفداء ووهبنا بركاته، والأقنوم الثاني نفّذ تدبير الفداء وهو أُسّ بركاته، والأقنوم الثالث هو مخصص لنا فوائد الفداء وضامن بركاته.،

مع أن هذا الفصل مكتوب بلغة يونانية، إلا أن عبرية الرسول قد نمّت عنه في أسلوبه. ما أشبه هذه التسبحة الرسولية ببعض المزامير التي كان يرتلها بولس الرسول في يهوديته قبل اعتناقه المسيحية (مزمور 42- 43 و99). فكلمة "خلاص وجهي" تقسم المزمورين الأولين إلى ثلاثة أدوار (مزمور42: 5 و11 ومز43: 5) كما أن العبارة "قدوس هو" تقسم ثالث هذه المزامير إلى ثلاثة أدوار أيضاً (مز99: 3 و5 و9) وعلى نفس هذا القياس تفصل عبارة "لمدح مجده" بين الثلاثة الأدوار الرئيسية في هذه التسبحة الرسولية.،

إن مطلع هذه التسبحة الرسولية جميل في مبناه، جامع في معناه، فيه تلتقي جميع المعاني المنبثة في ثنايا هذه التسبحة، ومنه تتفرع فهو للتسبحة بمثابة الرأس للجسد:،

3مُبَارَكٌ اللهُ أَبُو رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، الَّذِي بَارَكَنَا بِكُلِّ بَرَكَةٍ رُوحِيَّةٍ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ،،

عدد3 "مبارك الله"! هذه هي الأنشودة التي تلتقي فيها رغبات الأرض بمقاصد السماء. عندما أُبدعت الخليقة الأولى، "ترنمت كواكب الصبح معاً وهتف جميع بني الله". ومذ سقط الجنس البشري، وأُفسدت الخليقة الأولى، ضجت الأرض، وأنّت الخليقة كلها. ولكن حالما أعلن الله قصده الفدائي الذي دبره لخلاص البشرية الساقطة، استرد المؤمنون من بني آدم تلك الأنشودة التي أضاعتها عليهم الخطية، وعادوا يهتفون لفاديهم الذي خلقهم خليقة جديدة، ويسبحون له تسبحة جديدة، تمتاز عن التسبحة الأولى، بمقدار ما تمتاز الخليقة الجديدة عن الخليقة العتيقة. ولقد أجاد بولس الرسول إذ نظم للبشرية المفدية أنشودتها الجديدة التي مطلعها وخاتمتها: "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح!".،

يتألف هذا العدد الذي يتكون منه مطلع هذه الرسالة من مقطعين متقابلين، متوازيين- كلاهما يبدأ بالبركة ويختتم بشخص المسيح،

المقطع الأول- "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح"،

المقطع الثاني- "الذي باركنا بكل بركة.. في المسيح"،

في المقطع الأول، المؤمنون يباركون الله بالحمد والشكر. وفي المقطع الثاني الله يبارك المؤمنين بإغداقه عليهم بركات السماء. نحن نباركه بتقديمنا له ثمرات الفكر، والقلب واللسان، وهو باركنا بتقديمه لنا ابن محبته الذي هو أُس كل البركات.،

"مبارك الله"!- هذه هي النغمة التي وقعها رجال العهد القديم- من ملكي صادق إلى دانيال- سواء منهم من كان في ظفره وسعادته كداود وسليمان، أو من كان في حسرته وشقاوته، أمثال أيوب وإرميا. ولكن لم يستطع أحد أن يقول "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح"، غلا بعد أن بزغ نور "المشرق من العلاء"، وتجسد "الكلمة" في شخص المسيح الذي كشف عن أبوة الله- بالنسبة له أولاً بدرجة خاصة، ونوع ممتاز. لا يدانيه فيهما سواه-  ثم لجميع المؤمنين، على درجة أدنى من النوع، وفي الدرجة.،

وفي العهد القديم كان الله معروفاً لشعبه بهذه الألقاب: "الإله العلي"، "الإله القدير"، "إله السماء"، "إله إسرائيل"، "الراعي"، "الصخرة"، "الإله الحقيقي"، "الإله الحقيقي"، "الإله الحي"، "الملك الأبدي"- وكلها ألقاب مجيدة تبعث في النفس روعة وخشوعاً. أما ذلك اللقب الجليل: "الآب"، الذي يضيف إلى روعته في النفس حباً وثقة، فقد ظل مخفي عن عيون رجال العهد القديم، ولكنه اُعلن لرجال العهد الجديد ولرسله الأطهار- وفي طليعتهم بولس، الذي جعل من هذا اللقب الجليل أبهى غرة لجلّ رسائله.،

إن قوله: "أبو ربنا يسوع المسيح" يعتبر على مثال قول المسيح "أبي وأبيكم" (يوحنا20: 17). (انظر شرح بشارة يوحنا للمؤلف صفحة 806).،

"مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح"- وردت أيضاً هذه العبارة بنصها في2كو1: 3 و1بط1: 3. والكلمة الأصلية المترجمة "مبارك" وردت ثماني مرات في العهد الجديد، وفي كل مرة منها، لها صلة بذات الله. (انظر بنوع خاص مرقس 14: 61 حيث قال رئيس الكهنة للمسيح "أأنت المسيح ابن المبارك"؟). وقد استعمل الرسول كلمة "باركنا" بصيغة الماضي، للتوكيد، لتبيان أن هذه البركات وُهبت للمؤمنين في قصد الله قبل كون العالم.،

في هذا العدد يصف الرسول بركات الله الموهوبة لنا، في ثلاثة أوصاف:،

-أ- في طبيعتها: "كل بركة روحية"،

-ب- في دائرتها: "في السماويات"،

-جـ- في أساسها ووسيطها: "في المسيح".،

(1) طبيعة البركات الموهوبة لنا من الله الآب:"الذي باركنا بكل بركة روحية"، تختلف البركات التي جعلها الرسول موضوع شكره لله، عن البركات الموعودة في العهد القديم، في أن بركات العهد الجديد روحية خالدة، وتلك بركات مادية زمنية. فمن بركات العهد القديم قوله: "مباركاً تكون في المدينة. ومباركاً تكون في الحقل. ومباركة تكون ثمرة بطنك وثمرة أرضك وثمرة بهائمك نتاج بقرك وإناث غنمك" (تث28: 3-6). "أباركك مباركة وأكثر نسلك تكثيراً كنجوم السماء. ويرث نسلك باب أعدائه" (تك22: 18). "إن سمعتم وأطعتم تأكلون خير الأرض. وإن أبيتم وتمردتم تؤكلون بالسيف لأن فم الرب تكلم" (إشعياء 1: 19 و20): لكن بركات العهد الجديد على طراز أعلى وأرقى: "طوبى للمساكين بالروح لأن لهم ملكوت السموات" (مت5: 3-10)،

كان بولس الرسول نفسه من أبعد الناس تمتعاً بالبركات الزمنية. فقد قضى حياته ولم يكن له زوج، ولا ولد، ولا مال، ولا عقار، ولا مأوى. فما كان أسعده وأمجده، على رغم كونه يهودي الأصل متعوداً على بركات الأرض: لأنه بعد أن صار مسيحياً وهو في حرمانه أسعد حالاً منه في تمتعه. لأن حرمانه من كل شيء أتاح له فرصة التمتع باللؤلؤة الواحدة الكثيرة الثمن: فكان وهو فقير، مغنياً كثيرين. وكان وهو لا يملك شيئاً مالكاً كل شيء. ومن ظلمات سجنه أراق نوراً على حياة الكثيرين. فكان في خيمته ناعماً بغنى لا يزول، وكان في سجنه المظلم متمتعاً بحرية السماء. وكان وهو يتقلب على الطوى، راتعاً في أمجاد العلي، فهو على هذه الحال خير مثال للمستمتعين بكل بركة روحية.،

فالبركات "الروحية" هي تلك التي أغدقها الله على روح الإنسان، لا على جسده، لأن لها علاقة متينة بميلاده الجديد (يو3: 16)، وهي تنعش حياته الروحية وتغنيها (رومية8: 9 و10) كما أنها تتوج مصيره الروحي الخالد (رومية7: 11، 1كو15: 44).،

يعتقد بعضهم أن كلمة "روحية" تعني أنها بركات "الروح القدس". وحجتهم في ذلك: أن الرسول أشار في هذا العدد إلى الأقنوم الأول في اللاهوت، وإلى الأقنوم الثاني، فلا بد من أن يكون قد أشار هنا إلى الروح القدس، الذي هو الأقنوم الثالث في اللاهوت. ولكننا نميل إلى الرأي القائل إنها بركات خاصة بروح الإنسان. فمن البركات ما يشترك فيها الإنسان والحيوان- مثل الحياة والصحة- هذه بركات جسدية. ومنها يتمتع به الإنسان الطبيعي- نظير المعرفة والتمييز والذوق، والعقل والمنطق- هذه بركات عقلية. ومنها ما لا يتمتع به سوى المؤمنين شركاء الطبيعة الإلهية- هذه هي البركات الروحية المقصودة هنا. وفي الوقت نفسه نقرر أنه من المحال فصل البركات الروحية عن "الروح القدس" لأن هو روح هذه البركات،

(ب) دائرة هذه البركات: "في السماويات". بما أن هذه البركات آتية من السماويات، فهي تسمو بالمؤمنين إلى "السماويات"، على رغم كونهم يعيشون على الأرض. وهي أيضاً بركات محفوظة في "السماويات". لا يمكن أن ترتفع إليها يد الزمان ولا تطرقات الحدثان. "لأن حيلتهم مستترة مع المسيح في الله" (كولوسي3: 3)، "لفإن سيرتنا نحن هي في السموات" (فيليبي3: 20).،

لم ترد هذه العبارة: "في السماويات" في كل الكتاب المقدس سوى خمس مرات- كلها في هذه الرسالة (1: 3 و2: 6 و3: 10 و6: 12): ويجوز أن تترجم إلى "في الدائرة السماوية". ولدى تصفح هذه المواضع يتبين لنا، أن "السماويات" بيئة روحية غير منظورة، فيها يكثر نشاط القوات الروحية بما فيها قوات الشر التي تحاول أن تقاوم مقاصد الله في المؤمنين، وقوات الخير المؤيدة لقصده تعالى. وفوقها جميعاً يتسلط المسيح ويسود بنفوذه العجيب الذي كسبه بقيامته من الأموات: ليجمع كل شيء في المسيح- ما في السموات وما على الأرض في ذاك" (1: 10) "ويصالح به الكل لنفسه عاملاً الصلح بدم صليبه بواسطته سواء أكان ما على الأرض أم ما في السموات" (كولوسي1: 20) فهي لا تعني حالة مقبلة، بل حالة راهنة. وخير ضمان لنا إزاءها، أن المسيح متسلط عليها بمجده. فإن كانت هي ساحة مصارعتنا، فإن المسيح هو ضامن ظفرنا. وإن كانت هي مستودع بركاتنا الروحية، فإن المسيح هو ضامن تمتعنا بها. لأن به وفيه كل شيء لنا "ونحن غير ناظرين إلى الأشياء التي تُرى بل إلى التي لا تُرى لأن التي ترى وقتية وأما التي لا ترى فأبدية" (2كو4: 18).،

وإذا كانت هذه العبارة تعين دائرة البركات التي نتمتع بها، فهي تعين مقامنا في المسيح: "الذي أقامه الآب وأجلسه عن يمينه في السماويات، وأقامنا نحن أيضاً معه وأجلسنا معه في السماويات" (1: 20 و2: 6). فالمسيح هو هروننا الذي انسكب دهن المسحة على رأسه أولاً، ثم نزل إلى طرف ثيابه.،

4كَمَا اخْتَارَنَا فِيهِ قَبْلَ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ، لِنَكُونَ قِدِّيسِينَ وَبِلاَ لَوْمٍ قُدَّامَهُ فِي الْمَحَبَّةِ،،

(جـ) أساس هذه البركات ووسيطها: "في المسيح". هذه العبارة من مميزات أسلوب بولس الرسول. ومع أنها وردت في كل رسالته إلى كولوسي. وقد وردت كلمة "المسيح"- في الأصل- تارة معرّفة بأداة التعريف وطوراً مجردة عنها. في الحالة الأولى، تشير إلى وظيفة المسيح، وفي الثانية تعني شخصه بالذات. وقد وردت هنا خالية من أداة التعريف، لتعني شخص المسيح الذي "فيه باركنا الآب بكل بركة روحية في السماويات".،

منذ القديم، والأمة اليهودية تضع كل رجائها في "مسيا" الموعود، فكانت كل انتظارات اليهود موجهّة إلى شخصه. وفي ملء الزمان ولد يسوع الناصري في بيت لحم اليهودية. لكن الأمة اليهودية كمجموع جهلت حقيقته- أو تجاهلتها- إذ اصطدمت بصخرة صليبه. ولما أعلن الله "سره" لبولس رسول الأمم، طفق يعلم اليهود والأمم، أن يسوع الناصري هو هو مسيا- المسيح المنتظر- الذي تمت فيه كل نبوات العهد القديم، فينبغي أن يكون هو محط آمال اليهود والأمم سواء بسواء. فهو رأس المؤمنين وهو رئيسهم ونائبهم الأعظم، وقاطع العهد معهم، وضامن عهدهم، ورأس حياتهم، ورأسهم الروحي. فهو الكرمة وهم الأغصان- لذلك هم "فيه" مباركون، وفيه يقومون، وفيه هم مقامون، وممجدون (2تي1: 9) لأنهم متصلون به صلة حيوية، فعلية، فضلاً عن كونها شرعية.،

5إِذْ سَبَقَ فَعَيَّنَنَا لِلتَّبَنِّي بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ لِنَفْسِهِ، حَسَبَ مَسَرَّةِ مَشِيئَتِهِ،،

ومن مميزات كتابات بولس الرسول أن يقرن فيها اسم "يسوع" بوظيفته: "المسيح"، إلا في المرات التي أراد أن يحدثنا فيها عن ناحية من نواحي اتضاعه (2كو4: 10).،

ومن العجيب حقاً، أن بولس اليهودي الأصل يجعل جل تفكيره وتعليمه مركزاً، لا في يسوع حسب الجسد، بل في المسيح السماوي، الإلهي الذي هو الله ظاهراً في الجسد. فرسالته "من السماويات إلى السماويات". فلا غرابة إذ سمعناه يقول: "إذاً نحن من الآن لا نعرف أحداً حسب الجسد وإن كنا قد عرفنا المسيح حسب الجسد لكن الآن لا نعرفه بعد" (1كو5: 16). فالمدة التي قضاها المسيح على الأرض ليست كل حياته ولا هي جلها، وإنما هي فترة قصيرة المدى ظهر فيها المسيح متضعاً فهو أزلي في وجوده أبدي في كيانه. لكنه "افتقر لأجلنا وهو غني"، "وإذ كان في صورة الله... أخلى نفسه آخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس". وإذ انتهت مدة اتضاعه "رفعه الله أيضاً وأعطاه اسماً فوق كل اسم". (2كو8: 9 وفيليبي2: 6-9).،

إن معرفة بولس بالمسيح سارت على درجات متتابعة. فقد عرّفه أولاً باعتبار كونه: "يسوع" المتضع، المضطهد: "أنا يسوع الذي أنت تضطهده"(أعمال9: 5)، وفيما بعد وجد فيه "مسيا" المنتظر. وبعد أن تلقن هذا الدرس لقنه للآخرين: "وأما شاول فكان يزداد قوة ويحير اليهود الساكنين في دمشق محققاً أن (يسوع) هذا هو المسيح" (أعمال9: 22).،

هذا هو المسيح المصلوب، المقام، الممجد، الجالس عن يمين تاعظمة في الأعالي المتسلط على كل القوات والسلاطين، الذي "فيه باركنا الآب بكل بركة روحية في السماويات".،

هذه هي البركات الموهوبة لنا فيه- من حيث طبيعتها ودائرتها، وأساسها، ووسيطها. وفيما بعد فصّل الرسول ما سبق فأجمله في العدد الثالث، سيما قوله: "في المسيح". فأبان لنا أن هذه البركات ليست مستحدثة كما لو كانت فكرة طارئة على قصد الله وتدبيره، بل هي بركات مقضي بها منذ الأزل، ولذلك فهي أكيدة محققة،

الإختيار،

يحدثنا الرسول في هذا العدد عن أساس البركات الروحية الموهوبة لنا : اختيارنا في المسيح. ويرينا هذا الاختيار في أربعة أوجه:،

-أ- حقيقة اختيارنا: "كما اختارنا"،

- ب- علة اختيارنا: "فيه"،

- جـ- وقت اختيارنا "قبل تأسيس العالم"،

– د- غاية اختيارنا: "لنكون...."،

في هذا العدد شرع بولس في تفصيل ما أجمله في عدد3، فاستهل كلامه بكلمة "كما". إن هذه البركات الروحية موهوبة لنا "في المسيح"، لأن الله سبق فاختارنا فيه منذ الأزل. فقبل أن يعد الله هباته، اختار الموهوبين إياها. وقد باركنا في المسيح، لأنه سبق فاختارنا فيه قبل كون العالم.،

حقيقة اختيارنا: "كما اختارنا"، إن هذه العبارة ترجع بنا إلى ذلك القول الإلهي الوارد في سفر التثنية: "لأنك شعب مقدس للرب إلهك وقد اختارك الرب لكي تكون له شعباً خاصاً فوق جميع الشعوب الذين على وجه الأرض" (تث24: 2)، وقول المرنم "رنموا لاسمه لأن ذاك حلو". لأن الرب قد اختار يعقوب لذاته وإسرائيل لخاصته" (مزمور 135: 4)، وقول الله على لسان إشعياء: "وأما أنت يا إسرائيل عبدي يا يعقوب الذي اخترته... وقلت لك أنت عبدي اخترتك ولم أرفضك"... "هوذا عبدي الذي أعضده مختاري الذي سُرّت به نفسي". (إشعياء41: 8 و9 و42: 1).،

6لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي الْمَحْبُوبِ،،

غير أن الاختيار كما علمنا إياه العهد القديم، يختلف عما عرفنا إياه العهد الجديد. فالأول يتناول الأمة اليهودية كمجموع، والثاني يتناول المؤمنين أفراداً. وكان من الطبيعي أن يتحدث بولس الرسول عن الاختيار، لأنه كان أحد أفراد تلك الأمة اليهودية، التي اختارها الله من قبائل الأرض. وجدير بعناية كل دارس لكلمة الله ألاّ يفعل أن جلّ العقائد التي ينادي بها العهد الجديد، إنما هي عقائد سبق فأوحى بها العهد القديم، ثم صاغها العهد الجديد في قالب جديد. هذا يؤيد قول رب العهدين: "لا تظنوا أني جئت لأنقض الناموس أو الأنبياء. ما جئت لأنقض بل لأكمل" (مت5: 17). وإنما الفرق بين شعب الله المختار في العهد القديم، وشعبه المختار في العهد الجديد، هو أن شعبه في العهد القديم كان منحصراً في أمة خاصة، تتكلم لساناً خاصاً، وتقطن أرضاً خاصة، لكن شعب الله في العهد الجديد منبثّ في كل أمة، وفي كل شعب، وينطق بكل لسان، لا تحده حدود جغرافية ولا تقيده قيود الزمن.،

إن الاختيار، كما علمنا إياه بولس الرسول، هو رسالة خاصة، بعث بها الله إلى أبنائه، ليثبتهم في الإيمان، ويحفظهم من كل ارتداد. ولم يقصد به قط أن يكون حجر صدمة يتعثر به الذين لم يؤمنوا بعد. وهو اختيار للخلاص والحياة، لا للهلاك والموت، فالمخلّصون يتمتعون بنعمة الحياة نتيجة عمل إيجابي فعّال، يجريه الله في قلوبهم ولكن الغير المؤمنين ينحدرون إلى الهلاك نتيجة حكم أصدروه هم على أنفسهم بعدم استحقاقهم الحياة الأبدية: "فجاهر بولس وبرنابا وقالا. كان يجب أن تُكلموا أنتم أولاً بكلمة الله، ولكن إذ دفعتموها عنكم وحكمتم أنكم غير مستحقين للحياة الأبدية، هوذا نتوجه إلى الأمم" (أعمال13: 46). وما يسري على الأفراد يسري على الأمم.،

أضف إلى هذا، أنه ليس اختياراً جهلياً كخبط عشواء، لكنه اختيار رشيد مبني على حكمة أزلية، كامنة في قصد الله الأزلي، فلا نستطيع أن نفهم أسرار الاختيار إلا متى أتيح لنا أن نعرف أسرار قلب الله: "فما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء".،

ولا يفوتنا أن نشير إلى هذه الحقيقة الأساسية، وهي: "أن الاختيار ليس جواز سفر" يتسلمه المؤمن ليدخل به السماء اعتباطاً، وبغير قيد ولا شرط، فيدوس به شريعة الله الأدبية وينتهك حرمة الأخلاق، وإنما هو رادع داخلي قويّ يرفع المؤمن عن الدنايا، ودافع قوي يدفعه إلى سلوك طريق الله "اختارنا فيه لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة".فالسماء مكان مُعدّ لأناس معدّين.،

فمع أن الاختيار عمل إلهي مبني على مسرّة مشيئة الله إلا أنه لا يلغي الإرادة البشرية، فليس البشر آلات ميكانيكية صماء يدفعون إلى أفعالهم دفعاً، وإنما هم خلائق مدركة عاقلة تسير بناموس التأثير والتأثر. ومن فرط حكمة الله وقدرته، أنه يجعل الناس أحراراً يعملون ما يشاؤون، وفي الوقت نفسه يكونون متممين مشيئته تعالى. وليس في الإمكان معرفة ما يحيط بالاختيار من أسرار إلا مت استطعنا أن نكشف ذلك الخيط السري الدقيق الذي يفصل بين إرادة الله، وإرادة البشر في حياة البشر.،

- ب- علة اختيارنا: "فيه": "كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم" – هذا هو الفصل الأول من سفر التكوين الجديد، الذي كتبه بولس الرسول. إن سفر التكوين الأول، يتكلم عن الخليقة الطبيعية الأولى، ولكن سفر التكوين الثاني يتكلم عن الخليقة الروحية الجديدة- خليقة النعمة. يُستهل سفر التكوين الأول بالقول: "في البدء خلق الله السموات والأرض". ويُستهل سفر التكوين الثاني بالقول: "قبل تأسيس العالم اختارنا الله في المسيح". فالمسيح هو كلمة الله "الذي به عمل العالمين"- فهو علة الخليقة الأولى. وهو أيضاً علة الخليقة الثانية وأساس اختيارها.،

- جـ- وقت اختيارنا: "قبل تأسيس العالم"- هذا دليل على أن أعمال الله في دائرة النعمة- نظير أعماله في دائرة الخلق والعناية- ليست بنت ساعتها، ولا هي مرتجلة كأنها فكرة طارئة، لكنها مدبرة تدبيراً محكماً، لأن كل أعمال الله حلقات متماسكة في سلسلة واحدة. ولا شيء يوازي غنى حكمة الله وعلمه، نظير غزارة نعمته (رومية11: 33). في رسالة أخرى تكلم الرسول عن اختياره هو للرسولية فقال: "... سُرّ الله الذي أفرزني من بطن أمي ودعاني بنعمته، ان يعلن فيّ لأبشر به" (غلاطية1: 15 و16)، وهنا في غرة هذه الرسالة، يرجع بنا خطوتين إلى الماضي البعيد البعيد- الخطوة الأولى تسير بنا من بدء تكوين الفرد إلى بدء تكوين الجنس البشري، والخطوة الثانية ترجع بنا من بدء تكوين الجنس البشري إلى ما "قبل تأسيس العالم" بأسره. وفي ذلك الزمن الذي يعتبر نقطة الزوال أمام الفكر البشري. "قد اختارنا الله في المسيح".،

إن هذا العالم الكائن قد خُلق ورُتب على نظام خاص، وإن هذا النظام المتين مبني على أساس معين، وإن وراء هذا الأساس، فكر الإله الحكيم المدبر. فالعقل البشري يستطيع أن يكتشف في العالم المنظور تلك الآثار التي طبعها عليه الفكر الإلهي الغير المنظور. فقبل تأسيس العالم وتكوينه، كان الإنسان ماثلاً أمام فكر الله، في شخص المسيح الكائن قبل كل الدهور، ففيه عرفنا الله وفيه تفكر فينا، وفيه نظر إلينا، وفيه اختارنا.،

في عرف الحقيقة والواقع، لا تفاوت في تدبيرات الله من حيث الزمن، فليس في تدبيراته ما يحسب سابقاً ولا لاحقاً. ولكن في عرف المنطق، واللغة التي يفهمها العقل البشري، نستطيع أن نقرر أن الله اختارنا للفداء قبل أن يخلقنا، أي أنه دبر أن يخلقنا الخليقة الثانية قبل أن يخلقنا الخليقة الأولى. فنحن إذاً مخلوقون للحياة التي أتاحتها لنا النعمة، لا للموت الذي قدمته الخطية أجرة للذين باعوا أنفسهم لها، والملكوت الذي يرثه مباركو الآب، قد أُعد لهم منذ تأسيس العالم" (متى25: 34)، وذبيح فدائنا قد دُبر قبل كون العالم: "عالمين أنكم افتديتم... بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس دم المسيح معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم" (بط1: 18-20) . وأبناء الملكوت، قد سُجلت أسماؤهم في سفر الفداء منذ تأسيس العالم" (رؤيا13: 8).،

فالحقيقة والفداء، والطبيعة والكنيسة، إن هي إلا حلقات متماسكة في سلسلة تدبير الله، قد رتبت سابقاً، ثم نفذت. ومع أن اختيار المؤمنين للحياة الأبدية يرى لنا تاريخياً كأنه أحداث من اختيار الأمة اليهودية لأنه جاء بعد رفضها، إلا أنه في الحقيقة والواقع مدبر في فكر الله "قبل تأسيس العالم".،

د- غاية اختيارنا: " لنكون قديسين في المحبة" في تربة الاختيار تنمو نبتتان جميلتان في جو حسن جميل، أما النبتتان فهما: القداسة، وعدم اللوم. وأما الجو فهو: "المحبة". في هذا أكبر دليل على أن الاختيار لا يدفع الناس إلى التوغل في مجاهل الشر والفساد، بل هو أكبر مشجع يرفعهم إلى مستوى القداسة وعدم اللوم "لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة".،

رغب بعض المفسرين في اعتبار هذه العبارة وصفاً لموقفنا النظري كما يرانا الله في المسيح، ونعتقد نحن- مع الترجمة العربية- أن هذه الجملة تصف تصرفنا العملي نتيجة تمتعنا ببركات الفداء، فمع أننا في المسيح "قديسون وبلا لوم" حكماً وشرعاً، إلا أنه من الواجب أن نكون أيضاً "قديسين وبلا لوم" فعلاً واختباراً.،

والفرق بين القداسة وعدم اللوم، هو أن القداسة اختبار داخلي ، لكن عدم اللوم حالة خارجية. فالأولى أساس الثانية، والثانية ثمرة الأولى وحجتها. الأولى تصف حالة إيجابية، والثانية تصف حالة سلبية. الأولى حالة كمالية، والثانية حالة ممكنة. فقد يكون الإنسان "بلا لوم" من حيث المنتظر منه، ومع ذلك يكون بعيداً عن مستوى القداسة الراقي. إن كل قديس بلا لوم، لكن ليس كل من هو بلا لوم قديساً.،

"قدامه"... ما أرهب الحياة المسيحية وما أرحبها! لأن المؤمن يقضي كل حياته "قدام الله". هذا دليل على أن القداسة التي يتصف بها المسيحي الحقيقي، ليست قداسة سطحية وإنما هي قداسة داخلية عميقة، لأن عيني الله مخترقتان كل حجاب.،

قبل أن تقدم الذبيحة في العهد القديم، كان يفحصها الكاهن ليعرف ما إذا كان فيها عيب، ومتى تبين له أنها "بلا عيب"، كان يقدمها على المذبح. وبما أن كاهننا الأعلى وذبيحنا الأعظم، قدم نفسه عنا "بلا عيب ولا دنس" وَجب أن يكون المختارون فيه، مثله- "قديسين وبلا لوم".،

"في المحبة": هذه العبارة- كما وردت في الأصل- قد تصف ما قبلها أو ما بعدها، ونحن نميل إلى اعتبارها وصفاً لما قبلها فهي الجو المقدس الذي تنمو فيه القداسة وتترعرع. وحجتنا في هذا: - أ- أن نفس هذه العبارة وردت خمس مرات أُخر في هذه الرسالة على اعتبار أنها من الفضائل المسيحية (3: 17، 4: 2 و15 و16، 5: 2).- ب-إن مقامها في هذه القرينة، بمثابة الصدى لصوت اختيار الله لنا، فهي خير حجة على أن نعم الله لم تُسبغ علينا عبثاً. فالله، من جانبه، اختارنا "حسب مسرة مشيئته" لنكون نحن من جانبنا قديسين وبلا لوم قدامه "في المحبة" التي هي أسّ الفضائل ورباط الكمال. وليس بخاف أن ما في قلوبنا نحن البشر من محبة، ليس سوى صدى محبة الله لنا، وما محبتنا لله إلا فتح قلوبنا لتُنشر فيها أشعة أنوار محبة الله- "نحن نحبه لأنه هو أحبنا أولاً". إن قوله "قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة" ليس أساس اختيار الله لنا، بل هو غاية هذا الاختيار، فلم يخترنا الله لكوننا "قديسين"، بل لنكون "قديسين" لأنه اختارنا ونحن خطاة ليقدسنا.،

التبني،

نرى هذين العددين - أ- حقيقة التبني. "عيننا للتبني". - ب - الوقت الذي فيه تبنانا الله: "سبق فعيننا" - جـ - وسيط التبني: "بيسوع المسيح" - د - علة التبني: "حسب مسرة مشيئته". - هـ - غاية التبني: "لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب".،

أ- حقيقة التبني:"إذ سبق فعيننا للتبني لنفسه".،

التبني في اصطلاح علماء اللاهوت "هو فعل نعمة الله المجانية، الذي به يُقبل في عداد بني الله فيصير لنا حق في جميع أنعامهم". وكلمة "تبنّ" يُراد بها اتخاذ شخص ابناً، ومعاملته كذلك. فالمتبنون ليسوا أبناء بالطبيعة، لكنهم محسوبون كذلك، لا لشيء صالح فيهم، ولا لفضل يُنتظر منهم، بل لمجرد نعمة الله المجانية. فقد ينفق لأحد الموسرين أن يزور أحد ملاجئ اليتامى أو اللقطاء، فيعجب بذكاء أحد الأولاد، ويكون الزائر بلا ولد، فيتخذ ذلك اليتيم ابناً له. ولكن اله قد تفضل كرماً منه، فتبنانا لنفسه، ونحن نجسون لا شيء فينا يدعو إلى الإعجاب والحب، فضلاً عن ذلك، فإن الله لم يعوزه أبناء، إذ كان يكفيه أن يتمتع بالمسيح ابن محبته الأوحد، "وكنا نحن بالطبيعة أبناء الغضب - لا أبناء المحبة- كالباقين أيضاً"، لكن الله حسبنا أبناء له تعالى. هذا هو تبني النعمة. وهو يختلف عن التبني العام، في أن الثاني يُراد به حسبان جميع البشر أبناء الله، باعتبار كونه خالقهم وحافظهم. لكن "تبني النعمة" يُراد به اختيار الله بعضاً من الناس ليكونوا أبناءه، بنوع خاص يمتاز عن بنوة البشر العامة. وفي الوقت نفسه لا نبلغ مرتبة بنوة المسيح لله، لأن بنوتنا اكتسابية بالحسبان، لكن بنوة المسيح حق جوهري وصلة أزلية.،

هذا هو التبني، الذي ظل فكرة غامضة مبهمة في العهد القديم، فأراق عليه تجسد المسيح نوراً سماوياً ساطعاً، أرانا فيه امتيازاً مجيداً يتمتع به الفرد نتيجة إيمانه بالمسيح (غلاطية3: 26، 4: 4 و5، يوحنا1: 12 و13)، بعد أن كان حقاً مشاعاً على الأمة اليهودية (مزمور103: 13، هوشع11: 1). "لنفسه"- هنا يلتقي طرفا درج التبني- فباعثه ونشأته من قلب الله، ومآله إليه تعالى.،

- ب – الوقت الذي فيه تبنانا الله:"إذ سبق فعيننا للتبني". معروفة لدى الله منذ الأزل، كل أعماله. فالمستقبل ماثل أمامه كالماضي، والحاضر. فمن هذا القبيل ليس في أعمال الله سابق ولا لاحق، ولكن في لغة المنطق، أو بالحري في عرف اللغة التي يحاول العقل أن يفهم بها شيئاً عن أعمال الله، قد عرَّفنا الرسول أن التبني سابق للاختيار لأن قوله "إذ سبق" عائد على قوله "اختارنا فيه" فالله سبحانه وتعالى، أحبنا أولاً، ثم عيننا للتبني، ومن ثمّ اختارنا ليحقق فينا هذا القصد المجيد كل هذا قد دبره الله قبل تأسيس العالم (رومية8: 29).،

في العدد السابق استعمل الرسول كلمة: "اختارنا"، وفي هذا العدد استعمل كلمة: "عيّننا- وهما تعبيران إلهيّان لحق واحد. والفرق بينهما- على الغالب- هو أن أولاهما: "اختارنا" تشير ضمناً إلى معدن الخطأ الذي انتقانا الله منه، وثانيهما: "عيّننا" تشير إلى الامتياز الذي رفعنا الله إليه فالأولى ترجع بنا ضمناً إلى "المنجم" الذي أخذنا الله منه. والثانية تشير إلى المقام الذي وضعنا الله فيه. الأولى تشير إلى الأشخاص، والثانية تشير إلى الغاية التي اختيروا لها. وما دمنا أولاد لله، فكل ما لله لنا. وجميع الأشياء تعمل معاً لخيرنا. والثقة المتبادلة بيننا وبينه من نصيبنا. والهداية والإرشاد من حقنا. ومجد الخلود، وخلود المجد، لنا.،

- جـ - وسيط التبني: "بيسوع المسيح". في المسيح اختارنا الله، وبه عيّننا للتبني. فهو وسيط الاختيار ووسيط التبني. فيه رآنا الله قبل أن نخلق، فأحبنا. وبه تبنانا لنفسه. وقد تم لنا هذا الامتياز بواسطة تجسد المسيح وموته على الصليب، وكما أن المسيح هو الوسيط الذي به تبنانا الله. فهو أيضاً الوسيط الذي به نتمتع بهذا الامتياز، بإيماننا باسمه (يوحنا1: 12 وغلاطية3: 26).،

- د – باعث التبني:"حسب مسرة مشيئته". إن هذه العبارة عائدة إلى ما قبلها إلى بدء العدد الرابع: "كما اختارنا فيه". فهي تصف الباعث الإلهي للاختيار والتبني معاً. وقد وردت في الكتاب المقدس بمعنيين: أولهما: سلطان الله المطلق الذي به يدبر كل ما يحسن في عينيه، بعيداً عن كل مؤثر أو دافع، أو باعث خارجي، ومن غير أن يكون في حاجة إلى تقديم حساب من أعماله، بدليل ما جاء في متى11: 26 ولوقا10: 21. والمعنى الثاني يشير إلى رضى الله ونعمته، وتعطفه المتفاضل على أبنائه، وإرادته الصالحة المرضية الكاملة نحوهم. هذا، في الغالب، هو المعنى الذي أراده الرسول هنا، وفي سائر كتاباته (رومية12: 2). فالاختيار ينطوي على محض مسرة الله التي أظهرها نحو شعبه، فلا يداخله شيء من غضب الله على غير المؤمنين لأن الاختيار هو علة خلاص المؤمنين، لكنه ليس علة رفض الغير المؤمنين. فإذا حق للمختارين أن يفرحوا به وأن يشكروا الله عليه، فلا حق لغير المخلصين أن يتذمروا أو يشكوا منه لأنه ليس علة هلاكهم وإنما العلة هي عدم إيمانهم.،

6لِمَدْحِ مَجْدِ نِعْمَتِهِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْنَا فِي الْمَحْبُوبِ،،

- هـ - غاية التبني: "لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب".،

هنا تتجاوب الغاية النهائية مع العلة الأساسية. فالعلة الأساسية هي "مسرة مشيئته"، والغاية النهائية هي: "مدح مجد هذه النعمة".،

إن نعمة الله، مجانية في أساسها. فليس لها من دافع سوى نفسها، فلا تستدرّها الدموع، ولا تستعطفها الأنات، إلا إذا كانت حرارة الفتيلة المدخنة تضيف شيئاً إلى حرارة الشمس، وهي مجانية في طريق الحصول عليها، فلا الذهب يشتريها. ولا الحسنات تحييها، ولا الصلوات تغذيها، فهب منبت الحسنات. ومبعث الصلوات، وهي مجانية في غايتها، لأنها لا تنتظر من المنعم عليهم أجراً ولا شكوراً.،

يحدثنا هذا العدد عن ثلاث حقائق متعلقة بالنعمة

 (1) مجد النعمة. (2) مدح مجد النعمة. (3) وسيط النعمة:،

"مجد النعمة". بما ان هذه النعمة منحدرة على البشر من علوّ شاهق،،

وصادرة عن الله ذي الجلال والإكرام والمجد، فهي إذاً نعمة ذات مجد، لأنها مشتقة من غنى الله في المجد، ولأنها ترفع المتمتعين بها إلى ذُرى المجد- فهي كالمياه، ترتقي إلى المستوى الذي منه نبعت، وهي ذات مجد لأنها مظهر كمال الله الممجد، ومجلى صلاحه المطلق، ومجتمع صفاته القدسية المجيدة، فمجد النعمة هو كمالها، وفيضها، ومجانيتها، وتنازلها، وسموّها. فكما أن مجد الله هو التناسق المتكون من مجتمع صفاته، كذلك مجد النعمة هو التناسق المتكوّن من مجتمع كل مزاياها.،

(2) "مدح مجد نعمته" إن الهوة السحيقة التي هوى إليها البشر، قدّمت مجالاً متسعاً لإعلان مجد نعمة الله، وإعلائه. فمع أن مجد نعمة الله عال، وسام في ذاته، سواء أخُلق البشر وافتُدوا أم لم يخلقوا ويفتدوا، إلا أن لوحة خطايا البشر السوداء، كانت أداة لإظهار مجد نعمة الله، وإعلائه وإعلانه للرؤساء والسلاطين في السماويات والأرضين. فلو كان البشر أطهاراً في أنفسهم، أو كان لهم أقل يد في تخليص ذواتهم، لنقص جمال مجد نعمة الله. فمجد نعمة الله، ظاهر في مجانيتها وفي المسافة الشاسعة التي قطعتها النعمة في تنازلها من السماء إلى أركان الأرض السفلى، وفي رفع الخطاة من مهاوي الفساد إلى أوج المجد ومدح مجد هذه النعمة، هو إظهار هذا المجد، وشكر الله عليه، والتغني به، ليعرفه كل دان وقاص "إذ الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله، متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع المسيح" (رومية3: 23 و24)، ".... لكي يبين غنى مجده على آنية رحمة قد سبق فأعدها للمجد... التي أيضاً دعانا إليها ليس من اليهود فقط بل من الأمم أيضاً (رومية9: 23 و24).،

الفداء

7الَّذِي فِيهِ لَنَا الْفِدَاءُ، بِدَمِهِ غُفْرَانُ الْخَطَايَا، حَسَبَ غِنَى نِعْمَتِهِ،،

إلى هنا حدثنا الرسول عن البركات الروحية السماوية التي أغدقها الله علينا في المسيح-من اختيار سابق، وتينّ وفق تدبير معين، بدافع من نفسه، لرفع لواء مجد نعمته التي أنعم بها علينا في ابن محبته.،

وجدير بالاعتبار، أن الرسول لم يذكر إلى الآن شيئاً عن الخطية، ولا عن التربة التي منها اختارنا الله، فيكاد القارئ يعتقد، أن هؤلاء الذين اختارهم الله وعينّهم للتبني، إنما هم أطهار بالفطرة، وقديسون بالطبيعة، لم يقترفوا إثماً ولم يرتكبوا جريرة . لكن العدد السابع ينم عن طبيعة أصلهم، وحقيقة حالهم:"الذي فيه لنا الفداء بدمه غفران الخطايا". فالمختارون كانوا أصلاً غارقين في لجّ الآثام والخطايا. والمتبنون كانوا"بالطبيعة أبناء الغضب كالباقين أيضاً". فالفضل في اختيارهم ليس لأصلهم ولا لحالهم، بل لله وحده.،

إن كلمة "فداء" يعني الفكاك من الأسر بواسطة دفع فدية أو دية. والثمن الذي دفعه المسيح فدية عنّا هو دمه الثمين. هذا ما سبق فأنبأ به تلاميذه (مت 20: 28)،

والدم كما ذكر في الكتاب المقدس، له قوة التكفير عن ذنب، والفكاك من أسر، وتثبيت عهد، وإزالة معصية.،

فما أثمن هذا الدم الكريم!‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍ فهو أساس فدائنا (أفسس 1: 7 ). وأداة تبريرنا(رو 5: 8و9). ومطّهر ضمائرنا(عب 9: 14). ورأس شركتنا مع الله(1 يو 1: 7). وثمن المصالحة معه (1 كو 1 : 20-22).،

ولقد أشار الرسول في هذا العدد، إلى الفداء، باعتبار كونه امتيازاً يملكه المؤمنون المطعّمون في المسيح، رأسهم الأعلى، ورئيسهم، وهو بركة يتمتعون فيها في الحال. هذا واضح من قوله:"الذي فيه لنا الفداء". فالفداء بركة حالية وإن كان في كماله رجاءً عتيداً   ( رو 8: 23).،

ومن الحقائق التي عرفّنا بها الرسول في هذا الفداء:- ا- وسيطه: "فيه". ما أغنى هذه الكلمة الصغيرة، المركّبة من حرف جر:"في"، ومن ضمير الغائب"ﻫ"‍‍‍‍!لكنها في عُرف لغة النعمة، كلمة مركبة من حرف رفع وبناء، ومن ضمير المفرد العلم الحاضر في كل زمان ومكان –"في المسيح". "فيه" تم اختيارنا. وتعييننا للتبني، وفيه حق لنا الفداء.،

- ب- وسيلته: "بدمه"-دم المسيح حمل لله الكريم"الذي رفع خطية العالم. إن هذه الوسيلة التي تمّ بها فداؤنا، تعين طبيعة هذا الفداء- فهو كفارى، لم يتم بمجرد رغبة من الله"ولا بكلمة صدرت عنه، ولا بقدرة كامنة فيه، بل بدم ابن محبته الذي مات عنا طوعاً واختياراً. فهو فداء كريم، كلف الآب تضحية ابن محبته، وكلف ابن محبته تضحية نفسه وحياته-والجود بالنفس أقصى غاية لجود. وقد ذكر الرسول هذا الفداء معرّفاً إياه بأداة التعريف، فقال"الفداء"، مميزاً إياه عن كل أشباه الفداء وظلاله، التي تمت ي العهد القديم وفي نظم أخرى- بدم كباش وحملان. وبديهي أن الله المقتصد في كلل تدابيره، ما كان ليجري فداءنا بدم المسيح لو كان في الإمكان تفادي هذا الثمن العظيم:"كريمة هي فدية النفوس فغلقت إلى الدهر". يُضاف إلى هذا، أن كرامة الشريعة الإلهية فوق كل كرامة، لأن كرامة الشريعة مشتقة من كرامة صاحب الشريعة. الإله الذي أراد أن يغفر خطايا البشر،هو بذاته الذي قال"إن النفس التي تخطئ هي تموت". فبر الله يتطلب احترام شريعته بإدانة كل نفس تخطئ. ورحمة الله تنادي بمغفرة خطايا الفجار الأثمة. فليس في السماء ولا في الأرض ملتقى لبر لله برحمته سوى الصليب، ذلك قدّم الله ابن محبته فداء وكفارة عن خطايا البشر. ولو كان في الإمكان أن يكتفي في أمر الفداء بمعجزات المسيح، أو بأمثاله وتعاليمه، أو بحياته وسيرته. لما وُجد داع لإراقة قطرة واحدة من دمه الثمين على الصليب، فالصليب إذاً ضرورة ملحّة، قضت بها رحمة الله ي التقائها بعدالته.،

-ج- ثمرة الفداء: "غفران الخطايا"- هذه هي الثمرة الناضجة التي ينالها مفديو يسوع المسيح- "غفران الخطايا". فما هو هذا الغفران؟ إذا اعتبرناه عاطفة قلبية، قلنا إنه ارتداد تيار غضب الله عن الخطاة، وتدفق تيار رضوانه تعالى عليهم. وإذا حسبناه قوة أدبية، قلنا إنه كسر شوكة الآلام المبرحة التي ينشئها الضمير اللوام المحتج في قلب الإنسان. وإذا نظرنا إليه باعتبار كونه حقيقة شرعية، قلنا إنه رفع العقاب الذي يستحقه البشر بسبب خطاياهم. فالغفران إذاً هو عاطفة قلبية شريفة، أظهرها الله نحو البشر، وهو قوة أدبية تتسرّب في قوى الإنسان النفسية، وهو حقيقة شرعية، يتمتع بها الخاطئ المتبرّر مجاناً بنعمة المسيح. فهو نعمة متدفقة من قلب اله، وهو أثر أدبي متصل بالضمير وهو حكم شرعي يحظى به الخاطئ تجاه الناموس.،

إن الكلمة المترجمة "خطية": تعني حرفياً "الخروج عن الخط" أو "الانحراف عن السبيل" أو "عدم إصابة المرمى" (رومية 4: 25 ،2كو 5: 19 ،كولوسي 2: 13) وقد استعملت أيضاً للتعبير عنا الارتداد(عب6: 6).،

غير أن الغفران، لا يزيل الآثار الطبيعية التي تتركها الخطية في حياة المرء. فقد يصفح الإنسان عن خطية صديق ائتمنه فخانه وجرده من كل ما يملك، لكن هذا الصفح لن يرد لذلك الصديق الخائن تلك الثقة التي أضاعها، وقد تصح زوجة طيبة، وهي على فراش الموت، عن خطايا زوج خائن، لكن هذا الغفران لن يسترجع لذلك الزوج تاج وفائه الذي حطمه تحت قدميه القاسيتين، والشاب الذي يعبث بزهرة طهارته، لن يستعيدها ولو ذُرفت منه دموع التوبة مدراراً، أو تساقطت سحب ندامته أمطاراً.،

- د- قياس الفداء وغفران الخطايا: "حسب غنى نعمته". هذا هو قياس الغفران الذي أثمره لنا الفداء، وهو قياس الفداء الذي أثمر الغفران. فمثَل الفداء و الغفران مثَل شجرة وثمرها، ومتى ذكرنا أن غنى نعمة الله لا يُحد، تحققنا أن هذا قياس، وحد غير محدود.،

إذا كانت غاية بركات الله علينا، مدح مجد نعمته، فإن باعث هذه البركات وقياسها-غنى نعمته. ومن الملاحظ، إن كلمة "غنى"- وقد وردت في الأصل بصيغة الجمع- هي إحدى مميزات كتابات بولس الرسول، لأنه وجد لذة خاصة في التعبير بها عن بركات الله وآلائه، ونعمه (أفسس 1: 18، 2: 4و7، 3: 8و16، رو 2: 4، 9: 23، 10: 12، 11: 12و33، 1 كو 1: 5، 2 كو 8: 9، 9: 11، فيلبي 4: 19، كولوسي 1: 27 ، 2: 2).،

في جمال الطبيعة نستطيع أن نرى شيئاً من غنى جمال الله، وفي دقة النواميس المحيطة بالكون، نشهد شيئاً من غنى حكمة الله، وفي قوة المادة وقدرتها، نستطيع أن نلمس شيئاً من غنى قدرة الله، لكننا في الصليب وحده نستطيع أن نرى غنى نعمة الله.،

على أنه وإن تكن بركات الله موهوبة لنا"حسب غنى نعمته"، إلا أننا لا نتمتع بها، إلا على قدر ما نوسع في قلوبنا مكاناً لها: "افغر فاك فأملأه". فقياس البركات من حيث مصدرها هو غنى نعمة المعطي. وقياس هذه البركات من حيث الاستمتاع بها، هو درجة إيمان المعطى. فما أعظم غنى الله، وما أكبر مسؤولية الإنسان.،

الحكمة والفطنة،

أعداد 8 و 9 و 10،

في هذه الأعداد ذكر الرسول الحلقة الرابعة في سلسلة البركات الإلهية الموهوبة للمؤمنين- الحكمة والفطنة. فأشار إلى هاتين البركتين، إشارة مجملة في عدد 7، ثم فصلها في الأعداد 8- 10، فذكر المعلنات الإلهية التي كفلتها لنا الحكمة والفطنة الموهوبتان لنا من إله النعم والعطايا ومن فرط غنى الله، وحكمته، ونعمته، أنه لم يكتفِ بأن أنعم علينا بالفداء حسب غنى نعمته، بل أفاض علينا نعمته، وأردفها بفضيلتين ناجمتين عنها: الحكمة والفطنة.،

8ﭐلَّتِي أَجْزَلَهَا لَنَا بِكُلِّ حِكْمَةٍ وَفِطْنَةٍ، 9إِذْ عَرَّفَنَا بِسِرِّ مَشِيئَتِهِ، حَسَبَ مَسَرَّتِهِ الَّتِي قَصَدَهَا فِي نَفْسِهِ، 10لِتَدْبِيرِ مِلْءِ الأَزْمِنَةِ، لِيَجْمَعَ كُلَّ شَيْءٍ فِي الْمَسِيحِ، مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا عَلَى الأَرْضِ، فِي ذَاكَ،

وقد حرص الرسول على أن يرينا غنى هاتين الهبتين فقال: "كل حكمة وفطنة" – فالله قد وهبنا هاتين النعمتين بأعلى قياس. هذا دليل آخر على غنى نعمته، وفيض سخائه، إذ أفاض علينا كل حكمة وفطنة. بل هذا برهان حكمته المتعالية، لأنه لم يقتصر على أن يهبنا نعمة الفداء، بل وهبنا مع الفداء كل حكمة وفطنة، لنميز بركات الفداء، ونقدّرها حق قدرها، فنستمتع بها ونشكر الله عليها، وإلا فما قيمة اللآلىء والجواهر في نظر غِرّ جهول لا يعرف قدرها؟ وفي إمكاننا أن تتحقق شدة لزوم هاتين الهبتين- "الحكمة والفطنة"، متى ذكرنا أن بين الذين يكتب إليهم بولس، قوماً هم عبيد وخدم (6: 5-9). ومع أنه من الجائز أن نفسر هاتين الكلمتين على اعتبار أنهما صفتان للإله لمعطي، كما ارتأى بعض المفسرين، إلا أنهما نعمتان موهوبتان للإنسان المعطى، فالحكمة (فرونيزيس) هي القدرة التي بها ندرك مقاصد الله المعلنة في إنجيله الطاهر، ونميز بركات الفداء. والفطنة (صوفيا) هي الشعور الباطني الذي به نتمتع بما تدركه الحكمة.،

الحكمة لغةً، هي العلم بحقائق الأشياء_ وهي عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل الوسائل- وضدها الجهالة.،

والفطنة هي الحذق والفهم. وقد تُفسر بجودة تهيؤ النفس لتصوُّر ما يرد عليها من الغير- وتقابلها الغباوة.،

فإذا كانت الحكمة هي العلم بحقائق الأشياء، فالفطنة هي تذوّق ثمرة العلم.،

وإذا كانت الحكمة هي الوصول إلى أفضل الغايات بأفضل الوسائل.،

فالفطنة هي الحيطة والاتزان والتدبر في استعمال هذه الوسائل.،

الحكمة هي إحدى ملكات العقل والإدراك بها نحاط علماً بالأشياء.،

والفطنة تتعلق بالفهم والتمييز، بها نقارن بين الغث والسمين فنتخير السمين ونوجهه أحسن اتجاه في حياتنا.،

إن الحكمة التي يعنيها الرسول في هذا الباب، تختلف عن الحكمة الكلامية التي وبخ الكورنثيين عليها. هذه حكمة "أسرار" عملية، مشبعة، ومروية، وتلك حكمة مماحكات سفسطية لا تشبع إلا لتجيع ولا تروي إلا لتعطش. هذه حكمة الجهلاء الحكماء (مت 11: 25 )، وتلك حكمة الحكماء الجهلاء (كولوسي 2: 4و8). إن خير سلاح نصرع به كبرياء المعرفة العقلية، ليس الجهالة الفكرية، بل الحكمة القلبية.،

فنعمة الله تعزي القلب، وتغذي العقل، وتنير الضمير، وتشحذ العزيمة، وتقوي الإرادة.،

-ب- مشتملات الحكمة والفطنة: "إذ عرفنا ... "،

في هذه الأعداد (8 و 9و10)، فصَّل الرسول ما سبق فأجمله في العدد السابع، فذكر "سر" الفداء الذي كان مكتوماً منذ الدهور، إلى أن جاء الوقت المعين لإذاعته، ومن ثمَّ أعلن لنا تجسيد المسيح الذي سرّ الآب أن "يجمع فيه كل شئ- ما في السموات وما على الأرض ".،

إن كلمة "سر" كما وردت في العهد الجديد تحمل معنى غير الذي تحمله الآن. فهي،

بحسب الاستعمال الحاضر، تعني الأشياء التي نعجز عن فهمها حتى بعدما نحاط علماً بها_ مثال ذلك: "ميلاد المسيح من عذراء"، و"اتحاد اللاهوت بالناسوت في شخص المسيح"،"وكون الله ثلاثة أقانيم في إله واحد، والهاً واحداً في ثلاثة أقانيم" و لكن كلمة "سر" في هذا العدد، تعني الخبر المكتوم في الصدر إلى أن يجئ وقت الإفصاح عنه، ومن ثم يصبح العلم به في حيّز الإمكان فهي تعني "المجهول" الذي يصير معلوماً بإذاعته، وإنه علا، وكشفه(رؤ 1: 20،17: 7، متى 13: 11). وفي الغالب استقى بولس الرسول كلمة "سر" من مصادر يهودية كسفر دانيال ومن الملاحظ أن البقية الباقية من السفر التاريخي القديم، المعروف بسفر أخنوخ- وهو أحد الأسفار غير القانونية- يكثر فيه ورود كلمة "السر" الإلهي الذي أحيط به البشر علماً.،

ومن المحتمل، أن بعض الهيئات اليونانية التي كان لبعض أعضاء كنيسة أفسس علاقة بها، قبل إيمانهم، كانت تحتفظ"بأسرار"لها، فلا تفضي بها إلا لأخصاء من تابعيها، يكونون حائزين على اختبارات معينة، ومن المحتمل أن بولس كان يخاطب أمثال هؤلاء القوم بلغتهم، مظهراً لهم أن المسيحية ليست خالية من" الأسرار"، لكنها عامرة بالأسرار الشريفة، الراقية الإلهية، التي أعلنت للبشر بتجسد "الكلمة" الحي.،

أما هذا "السر" الإلهي، الذي أعلن لنا بتجسد المسيح فهو سر مشيئة الله في الفداء وفي العناية، إذ"قصد أن يجمع كل شئ في المسيح في ملء الأزمنة". فموضوع الحكمة والفطنة إذاً هو معرفة مشيئة الله. ومن أوصاف هذه المشيئة-1- أنها صالحة ومرضية، مفعمة رحمة وسعادة وهناء للبشرية، لذلك قال فيها الرسول:"حسب مسرة مشيئته". وهي أيضاً مشيئة مستقلة منبعثة من قلب الله مباشرة، غير خاضعة لمشورات ولا لمؤثرات خارجة عنه، لأنه قصدها "في نفسه"، أي"في فكره، وفي أعماق قلبه".،

ويفضل بعض ثقات المفسرين أن يفسر كلمة"فيه" على اعتبار أن قصد الله تم في المسيح المتجسد والمصلوب، والمقام، والممجد، الذي فيه يجتمع كل شئ (أفسس 1: 11 ورومية 8: 28، 9: 11، 2تي 1: 9).،

عدد 10: (2) إن قصد هذه المشيئة- أو بالحري، مشيئة هذه المشيئة- هو إن"يجمع الله كل شئ في المسيح ما في السموات وما على الأرض". وقد عبر الرسول عن هذا القصد بكلمات أخرى إذ قال: "تدبير ملء الأزمنة". إن أفضل تفسير لهذه العبارة الأخيرة، هو ما جاء في ص3 : 8-11 من هذه الرسالة عينها: "لي أنا أصغر جميع القديسين أعطيت هذه النعمة أن أبشر بين الأمم بغنى المسيح الذي لا يستقصى. وأنير الجميع في ما هو شركة السر المكتوم منذ الدهور، في خالق الله الجميع بيسوع المسيح لكي يُعرف الآن عند الرؤساء والسلاطين في السماويات بواسطة الكنيسة بحكمة الله المتنوعة. حسب قصد الدهور الذي صنعه في المسيح يسوع ربنا".،

"تدبير ملء الأزمنة"- هذه أول مرة نلتقي فيها بكلمة: "تدبير" في هذه الرسالة. وهي من مميزات كتابات بولس الرسول. وقد وردت خمس مرات في العهد الجديد: "لهذه الأمة مصالح بتدبيرك" (أعمال 24: 3)، "لا تصنعوا تدبيراً للجسد" (رومية 13: 14)، "لتدبير ملء الأزمنة" (أفسس 1: 10)، "سمعتم بتدبير نعمة الله" (أفسس 3: 2)، "حسب تدبير الله المعطى لي" (كولوسي 1: 25). والكلمة في معناها النهائي تنطوي على الحكمة، والاقتصاد، والعناية، وبعد النظر. وقد استعملت ابتدائياً- في اليونانية والعربية- للتدبير المنزلي. ثم عُمّمت لتشير إلى تدبير الكنيسة. لذلك وصفت بها طغمة خاصة من خدام الكنيسة- "الشيوخ المدبرون حسناً" (1 تي 5: 17، 1 كو 12: 28).،

ويعتقد الدكتور مواليه، أنها تعني "وكالة" أو "توكيل". أي أن يسوع المسيح هو الوكيل الأعلى لبيت الله الذي هو كنيسته تعالى، وقد وضعت في يديه مقاليد جميع شؤون الكنيسة والكون. وفي ملء الأزمنة يكون كل شيء وكل شخص مركزاً فيه، ويكون هو رأساً ورئيساً لكل ما في السموات وما على الأرض. والمستفاد من كلمة "ملء الأزمنة". أنَّ سياسة الله للكون- في دائرة الفداء وفي دائرة العناية- تسير على نظام تدريجي متناسق، فلا تُكتمل إلا في عصور متعاقبة، وأدوار متوالية: فالتجسيد تم في ملء زمن آخر معين (غلاطية 4: 4)، وكذلك استقر الروح القدس في الكنيسة في ملء زمن آخر معين، وستتم الكرازة بالإنجيل في ملء زمن آخر معين. ومن ثم ننتقل من ملء "أزمنة النعمة" تدريجياً إلى ملء "أزمنة المجد". وفي هذا إشارة ضمنية إلى ما جاء في سفر دانيال: "زمان وزمانين ونصف زمان (دانيال 12: 7). أو بعبارة أخرى: أن الآب دبر أن يكون الابن سيداً، ورأساً، ومدبراً، ومديراً لكل شيء في عصور النعمة المتعاقبة، التي ستُتوج وتختم بعصر المجد. فالمجد هو النعمة في نضوجها وإثمارها، والنعمة هي المجد في بدايته وأزهاره.أما ماهية هذا التدبير فقد أوضحها الرسول فيما يلي. والأزمنة المقصودة في هذه القرينة هي تلك المدة الممتدة بين مجيء المسيح الأول ومجيئه الثاني.،

"ليجمع كل شيء في المسيح ...." هذه العبارة بدلٌ لما قبلها، ومفسرة لها: "تدبير ملء الأزمنة". "ليجمع"- هذه كلمة حسابية. فالجمع هو "ضمّ" أشياء متفرقة، وربطها بعضها ببعض لتكون على نسق واحد، تحت رأس واحد- هذا هو القصد النهائي في الفداء: "أن يجمع الله كل شيء في المسيح". فمع أن الفداء في فعله الابتدائي يُقصد به خلاص المؤمنين، إلا أنه في معناه الكمالي. وفي بلوغه، يتناول جميع الأشياء- "ما في السماء وما على الأرض" فتتوحد كلها تحت سلطان ابن الإنسان المطلق. هذه هي النصرة النهائية التي أوضحها الرسول في رسالة أخرى معاصرة لهذه الرسالة. "لكي تجثو باسم يسوع كل ركبة ممن في السماء ومن تحت الأرض ويعترف كل لسان أن يسوع المسيح هو رب لمجد الله الآب" (فيلبي 2: 11).،

إن قوله: "كل شيء...ما في السموات وما على الأرض" يعني طبقات مختلفة من الخلائق- من الملائكة المختارين (1 تي : 21) إلى أبناء الله المؤمنين المتفرقين مذاهب وجماعات في أنحاء المعمورة، في كل عصر ومصر (يوحنا 11: 52)، إلى جميع الخلائق الحية الناطقة، إلى الخلائق الغير الناطقة التي شاطرت الإنسان آلام السقوط، لتشاطره شيئاً من حرية المجد (رومية 8: 21). فتخضع كلها تحت سلطان المسيح: "الذي قد مضى إلى السماء وملائكة وسلاطين وقوات مخضعة له" (1 بط 3: 22)، "الذي هو رأس كل رياسة وسلطان" (كولوسي 2: 10).،

ويميل بعض المفسرين أمثال يوحنا الذهبي الفم، وموليه، إلى حصر هذه العبارة في المؤمنين من البشر، وفي الملائكة المختارين. ولكن الترجمة العربية تؤيد ما ذهب إليه فريق كبير من المفسرين كما أسلفنا- بدليل قول الرسول: "كل شيء" لا "كل شخص". "وما في السموات وما على الأرض"، لا "من في السموات ومن على الأرض".،

كما أن الأرض هي المركز الرئيسي للنظام الشمسي بأسره، كذلك "يسوع المسيح" شمس البر هو الرأس الذي "فيه" يجتمع كل ما في السموات وما على الأرض (كو 1: 16). "فيه خلق الكل ما في السموات وما على الأرض، ما يُرى وما لا يُرى سواء كان عروشاً أم رياسات أم سيادات أم سلاطين. الكل به وله قد خُلق".،

ومن الملاحظة، أن كلمة "المسيح" كما وردت في الأصل، متصلة بأداة التعريف. فيراد بها إذاً- المسيح في وظيفته الفدائية.،

الميراث الإلهي،

عدد 11 و12،

11الَّذِي فِيهِ أَيْضاً نِلْنَا نَصِيباً، مُعَيَّنِينَ سَابِقاً حَسَبَ قَصْدِ الَّذِي يَعْمَلُ كُلَّ شَيْءٍ حَسَبَ رَأْيِ مَشِيئَتِهِ، 12لِنَكُونَ لِمَدْحِ مَجْدِهِ، نَحْنُ الَّذِينَ قَدْ سَبَقَ رَجَاؤُنَا فِي الْمَسِيحِ.،

إلى هنا بلغ بولس قمة المعلنات السماوية التي شرع يفضي بها إلى من كتب لهم هذه الرسالة. وقد كان من المتوقع أن يختم مقدمة هذه الرسالة بالعدد السابق. لذلك هبط بقارئيه من جبال المعلنات السماوية، إلى وادي الحياة العملية على الأرض. فصار لزاماً عليه، أن يمس الصلة التاريخية- بين اليهود والأمم. فرسم الرسول في الأربعة الأعداد التالية صورة بديعة للرجاء اليهودي الصحيح الذي تحقق في أيامه مبدئياً في المسيح. وفي هذا الرجاء المحقق، التقى اليهودي بالأممي، فأضحى كلاهما أمة واحدة مقدسة لله، "وشعب اقتناء ليخبروا بفضائل الذي دعاهم من الظلمة إلى نوره العجيب" هذه هي البركة التي يحدثنا عنها الرسول في خمسة أوجه:،

- ا- ماهيتها: "الذي يه أيضاً نلنا نصيباً". هذه هي الحلقة الخامسة في سلسلة البركات التي جعلها بولس الرسول موضوع شكر له تعالى- بركة الميراث الإلهي.،

تختلف ماهية هذا الميراث، باختلاف فهمنا العبارة التي استُهل بها هذا العدد. فإذا أخذنا بالترجمة الحالية القائلة: "الذي فيه أيضاً- في المسيح نلنا نصيباً"، استطعنا أن نفهم أن جميع المؤمنين ممثلين في الكاتب والمكتوب إليهم، صاروا ورثة في الملكوت الروحي. هذا يؤيده قول الرسول نفسه في رسالته إلى كولوسي: "شاكرين الآب الذي أهلنا لشركة ميراث القديسين في النور" (كولوسي 1: 12). ولكن ربما كان أقرب إلى الأصل أن نترجمها إلى: "الذي فيه صرنا نحن ميراثه ونصيبه" هذا يوافق الفكر الأساسي في اختيار الله الأمة اليهودية قديماً لتكون له: "شعب ميراث" (تث 4: 20، 9: 29). فقد قال موسى في الخطبة الخالدة التي فاه بها قبيل وفاته: "إن قسم الرب هو شعبه يعقوب حبل نصيبه" (تث 32: 9) وفي موضع آخر قال الله لإسرائيل: "تكونون لي خاصة من بين الشعوب" (خروج 19: 5) بل هذا هو المعنى الذي تغنى به زكريا: "والرب يرث يهوذا نصيبه في الأرض المقدسة ويختار أورشليم بعد. اسكتوا يا كل البشر قدام الرب لأنه قد استيقظ من مسكن قدسه" (زكريا 2: 12 و13). هذا هو الرجاء الذي رآه بولس محققاً في المسيح فتغنى به أيضاً في العدد الثامن عشر من هذا الإصحاح.،

لسنا ندري أي البركتين أعظم: أن نكون ورثة الله في ملكوته (رومية 8: 27) أم أن نكون نحن ميراثاً لله في تدبير الفداء ؟.،

يلوح لنا أن ثانيتهما أعظم. لأنها تحمل دلالة عظمى على أن لنا قيمة في نظر الله جل شأنه، حتى يعتبرنا نصيباً له وميراثاً !!!.،

فاسمعي أيتها السموات وتعجبي أيتها الأرض !!!.،

- ب – الزمن الذي صرنا فيه أهلاً لهذه البركة: "معينين سابقاً" – إذاً ليست هذه البركة بنت ساعتها، ولا هي فكرة طارئة. كما أنها ليست أجرة صرنا لها أهلاً بسبب صلاح أتيناه، ولا هي مكافأة على خير كان مرّجواً منا. وإنما هي هبة رتبت لنا "بتعيين سابق". (لمعرفة القصد من هاتين الكلمتين راجع تفسير غرة العدد الخامس).،

- ج – الباعث الإلهي: "حسب قصد الذي يعمل كل شيء حسب رأي مشيئته". هذه بركة جاءتنا نتيجة تدبير إلهي محكم- "حسب قصد" غير أن هذا التدبير المحكم ليس جهلياً، ولا هو تعسفي، وإنما هو نتيجة "رأي"، وحكمة، ومشورة: "حسب رأي مشيئة الله" الصالحة المرضية الكاملة. فالله جل شأنه، لم يتأثر في هذا التدبير المحكم بمؤثر خارجي، ولم يكن هو فيه مخالفاً طبيعته القدسية المتعالية، ولا مغتصباً حرية إرادة البشر.،

إن لمشيئته السماوية، رأياً عالياً وحكمة رشيدة. فلئن غابت عنا هذه الحكمة، إلا أننا نثق بها ونطمئن إلى أحكامها.،

- د – غاية هذه البركة: "لنكون لمدح مجده". في العددين الخامس والسادس، تكلم الرسول عن "مدح مجد نعمة الله"، وهنا يحدثنا عن "مدح مجده". فيليق بنا أن نوازن بين كلامه هنا وهنالك لنتبين أوجه الشبه وأوجه التباين في كلامه في هذين الموضعين:،

عدد 5 و6 عدد 11 و12،

(ا) الموضوع: "التبني" .................................. "الميراث"،

(ب) الزمن: "سبق فعيننا" .............................. "معينين سابقاً"،

(ج) الوسيط: "بيسوع المسيح" ......................... "به"،

(د) لباعث: "حسب مسرة مشيئته" .... حسب قصد ... "رأي مشيئته"،

(ﻫ) الغاية: "لمدح مجد نعمته" ........................... "لمدح مجده"،

فالتشابه متوفر من حيث: الزمن، والوسيط، والباعث، والغاية. ولا يوجد سوى وجه واحد للتباين: وهو أن الرسول تكلم في العددين الخامس والسادس عن التبني لكنه في العددين الحادي عشر والثاني عشر تكلم عن إحدى ثمرات التبني – الميراث. وهنالك فارق طفيف في الغاية: هناك تحدث الرسول عن "مدح مجد نعمة" الله، لكنه يحدثنا هنا عن "مدح مجده" تعالى: وعلة هذا الفارق ترجع إلى وجهة نظر الرسول إلى طبيعة "الإنجيل" فتارة يدعوه "بشارة (إنجيل) نعمة الله" (أعمال 20: 24) وطوراً يسميه: "إنجيل مجد الله" (1 تي 1: 11، 2 كو 5: 4) والمراد بمدح مجده، حمد جلاله تعالى.،

(ﻫ) المتمتعون بهذه البركة: "نحن الذين قد سبق رجاؤنا في المسيح" هؤلاء هم المؤمنون من اليهود، الذين كانوا سابقين للمؤمنين في رجائهم بالمسيح- ذلك الرجاء الذي ولدته في نفوسهم مواعيد الله الثمينة في العهد القديم، وأذكت ناره في صدورهم تلك النبوات التاريخية التي فاه بها إشعيا وزكريا وملاخي وسائر أنبيائهم.،

والظاهر أن نزعة بولس اليهودية، قد انتعشت في نفسه في هذه الآونة فأراد أن يبين للأمم، أن يهوديته لم تكن عبثاً، لأن رجاؤه في المسيح كان سابقاً لرجاء الأمم فيه. ولكن على رغم كون المؤمنين من اليهود، هم أصحاب الحق الأول في المسيح، إلا أن الأمم أيضاً "شركاء في الجسد والميراث ونوال موعده في المسيح بالإنجيل" (3: 6). هذه هي الوكالة التي شعر بولس بأنه مؤتمن عليها بنوع خاص: "أن يبشر بين الأمم بغنى المسيح الذي لا يُستقى" (2: 8). فالإنجيل قُدم لليهود أولاً ثم للأمم. لكن الأولين صاروا آخرين، والآخرين أولين. هذا من جهة اليهود كأمة. أما الأفراد المؤمنين منهم، أمثال بولس الرسول، فقد ظلوا إلى النهاية أولين. وغير خاف أن الكنيسة الأولى، كانت إلى أجل معيّن في القرن الأول، يهودية الصبغة والمسحة. لأن الرسل يهود أصلاً، ولأن الأغلبية الساحقة من المؤمنين الأولين كانت من اليهود.،

ولا يغرب عن البال، أنه على قدر الامتيازات تكون المسؤوليات. فإذا كانت المزايا قد قُدمت لليهودي أولاً ثم لليوناني، فإن العقاب أيضاً منصبّ على رأس "اليهودي" أولاً ثم اليوناني "لأن ليس عند الله محاباة".،

"لليهود أولاً" – أولاً فقط، لا أولاً وآخراً – فأسبقية اليهود منحصرة في الزمن ليس إلا. "ومن يودعونه كثيراً يطالبونه بأكثر".،

بركة الخلاص،

عدد 13،

13الَّذِي فِيهِ أَيْضاً أَنْتُمْ، إِذْ سَمِعْتُمْ كَلِمَةَ الْحَقِّ، إِنْجِيلَ خَلاَصِكُمُ، الَّذِي فِيهِ أَيْضاً إِذْ آمَنْتُمْ خُتِمْتُمْ بِرُوحِ الْمَوْعِدِ الْقُدُّوسِ،،

مع أن الرسول فخور بيهوديته، التي خوّلته حقّ الأسبقية على الأمم، في لرجاء بالمسيح، إلا أنه حرص شديد الحرص، على أن لا يغمط الأمم حقهم في المسيح. فما كاد يفرغ من كلامه عن المؤمنين من اليهود، الذين "سبق رجاءهم في المسيح"، حتى انتقل حالاً إلى الأممين الذين لهم أيضاً في المسيح رجاء حي، فسرعان ما تكلم عن "نحن" حتى انتقل إلى "أنتم أيضاً" إنَّ في هذا استدراكاً بليغاً لما كان يمكن أن يتبادر إلى أذهان بعض اليهود، فيحسبوا أنفسهم أصحاب الحق الأوحد في المسيح، فيحتكروه لأنفسهم. وفي هذا أيضاً خير تشجيع للأمم: مخافة أن يتوهموا أن لاحق لهم في المسيح، فيحتقروا أنفسهم ويظلموها. فقال الرسول،موجهاً الخطاب إلى المؤمنين من الأمم: "الذي يه أيضاً أنتم ذ سمعتم كلمة الحق إنجيل خلاصكم".،

إن الفرصة التي أتيحت للأمم ليسمعوا فيها كلمة الإنجيل، أضحت لكثيرين منهم مصدر خير وبركة، لأنها آلت إلى خلاصهم لذلك استحالت لهم "كلمة الحق" إلى "إنجيل خلاصهم". فهم بشروا أولاً، ثم سمعوا، فصدّقوا، فقبلوا، فختموا.،

عبر الرسول عن البشارة التي سمعها الأمم، بكلمتين – أولاهما: "كلمة الحق"، وثانيهما: "إنجيل خلاصكم". فالأولى تعبر عن البشارة في جوهرها، ومضمونها، ومصدرها "كلمة الحق". فهي تتضمن "الحق، وكل الحق، ولا شيء إلا الحق" وهي صادرة عن الإله الحق، كما أنها تحدثنا عن المسيح الذي هو "الطريق، والحق، والحياة". وفي الغالب لقبها الرسول بـ "كلمة الحق" مقابل طقوس العهد القديم، ورموزه، وخرافات اليونان وأساطيرهم. فالعهد القديم الذي أُؤتمن اليهود عليه، يتضمن رمز الحق، وظلال الحق، لكن العهد الجديد يتضمن جوهر الحق وقلب الحق. والكلمة الثانية "لإنجيل خلاصكم" – تشير إلى البشارة في غايتها، وثمرها، ونتيجتها الفعالة – لأنها تعلن الخلاص وتقدمه للناس، وهي أيضاً تؤدي بهم إلى الخلاص إذا هم صدَّقوا وآمنوا: "لست أستحي بإنجيل المسيح لأنه قوة الله للخلاص لكل من يؤمن" (رومية 1: 16).،

والحقيقة المشتركة في هذين الإسمين، هي – أن هذا الحق الذي تتضمنه كلمة البشارة هو "الحق الخلاصي"، الذي ينبئنا بأن الله موجود، وأنه محب، وأنه تجسد في المسيح لكي يصالحنا لنفسه (1 كورنثوس 5: 19). وقد وصف الرسول هذا الإنجيل بقوله "كلمة"، لأن الإنجيل يحمل رسالة مقولة ومسموعة وموّحدة القصد والمرمى. وقال فيه أيضاً: "إنجيل"، لأنه يحوي بشارة مفرحة. ولاشك في أن بشرى الخلاص، هي أبهج خبر يزَف إلى الإنسان الغارق في لج الخطايا، سواء أسمع الإنسان رسالة الإنجيل بأذنه، أم قرأها بنظره، وتدبرها بفكره، فمن المحقق أن هذه الرسالة ليست من إيحاآت الإنسان ولا هي وليدة تصوراته الداخلية، وإنما هي صادرة عن مصدر خارجي.،

ختم الروح القدس،

عدد 14،

"الذي فيه أيضاً آمنتم ختمتم بروح الموعد القدوس الذي هو عربون ميراثنا لفداء المقتني لمدح مجده".،

جميل أن خاتمة البركات الإلهية الموهوبة للمؤمنين، هي بركة ختم الروح القدس. فيليق بنا أن نتَّئد في سيرنا، لنتأمل جمال هذه الماسة البديعة، مقبلين إياها على أوجهها الأربعة، لأن لكل وجه فيها جمالاً خاصاً: - ا– القصد من الختم – ب– وقت الختم – ج– طبيعة الختم – د– دلالة الختم.،

- ا- القصد من الختم: يُستعمل الختم عادة لأحد الأغراض الآتية، أو لبعضها، أو لجميعها معاً: - للملكية كما تعودت السلطات أن تدمغ الأشياء التابعة لها، دليلاً على امتلاكها إياها. أو لتقرير صحة الشيء المختوم، مثلما تختم الوثائق الرسمية دلالة على صحتها. أو لإذاعة الاسم أو الرسم الذي يحمله الختم مثلما تحمل قطع النقود صورة الملك. فصورة الملك تشهد بصحة قطعة النقود، كما أن قطعة النقود تحمل صورة الملك وتذيعها بين الملأ. أو لضمان حفظ الشيء وصيانته من الأيدي التي قد تعبث به، مثلما تختم أهراء الغلال بختم صاحبها، أو مثلما تختم أبواب خزانة بها ودائع أو مضبوطات للإبقاء عليها وحفظها من العبث بها. وفي الغالب خُتم المؤمنون لهذه الغايات الأربع. لأنهم ملك لله (رؤيا 7: 3)، ولأنهم أولاد الله بالحقيقة (رومية 8: 16 و5: 5)، ولأن الله افتداهم "ليخبروا بفضائل الذي دعاهم من الظلمة إلى نوره العجيب، وأن يحدثوا بمجد الله الذي أنقذهم من سلطان الظلمة ونقلهم إلى ملكوت ابن محبته "(كولوسي 1: 12 و13) ولأن الفادي وعد بحفظهم من كل خطر وصيانتهم من كل ضرر (يوحنا 10: 28 و29).،

إن هذا الختم هو معمودية الروح القدس التي ينالها المؤمن، وبها يحصل على يقين الخلاص والبهجة، والنصرة والحرية في الخدمة، والصلاة. فقوله:"ختم الروح" مرادف للقول:"معمودية الروح" و"حلول الروح".،

وهنا نقرر بكل وضوح وجلاء أن "ختم الروح" لا يشير إلى تلك المواهب الروحية الخارقة التي منحها الله لبعض الناس، في بعض الكنائس، لبعض مناسبات – كموهبة التكلم بالألسن وما إليها. لكن الإشارة هنا منصرفة إلى النعم الروحية الداخلية العميقة التي جعلها الله حقاً لكل مؤمن متجدد في كل عصر وفي كل مصر – كنعمة المحبة، والرجاء، واليقين، والبهجة، والسلام، والوداعة، والطهارة وما إليها. قابل ما جاء في 1 كورنثوس 12: 31، 13: 1 و2، 14: 22 بما ورد في 1 كورنثوس 13: 8 يتضح لك أن المواهب الخارقة وُهبت لأناس معينين في عصر معين وأنه قُصد بها أن تُبطل يوماً، بخلاف المواهب الروحية الباطنة فإنها باقية ما بقي الله.

- ب- وقت الختم: "إذ آمنتم ختمتم". يختم المؤمن حالما يؤمن. ومع أن المؤمن لا يشعر بالختم ولا يتحققه إلا بعد الإيمان، إلا أن الله يختمه وقت الإيمان. فالإيمان فعل داخلي، يوجّه قلب المؤمن إلى الله، والختم هو جواب الله على لإيمان المؤمن، فالختم ليس ثمرة من ثمرات الإيمان، بل هو دلالته، وعلامته، وصحته. في العهد القديم أخذ ابراهيم علامة الختان ختماً لبر الإيمان، وفي العهد الجديد ينال المؤمنون معمودية الروح علامة لبنوَّتهم لله.

- ج- طبيعة الختم: "خُتمتم بروح الموعد القدوس". إن نسبة الختم إلى الروح، نسبة وصفية – أي أن الله الآب ختمنا بالروح القدس – "وأعطى عربون الروح في قلوبنا" (2 كو 1: 22).

وُصف الروح القدس في هذه العبارة بوصفين: أولهما: "روح الموعد"، لأن الروح القدس حل في الكنيسة وفق الموعد. ففي العهد القديم كان الوعد بمجيئه موضوع نبوات الأنبياء (إرميا 31: 31- 34 ويوثيل 2: 28- 30 وحزقيال 36: 27). وفي العهد الجديد وعد المسيح تلاميذه مرات بمجيء الروح القدس، على اعتباراته وعد منه هو. وفي ظروف أخرى حدثهم عن مجيء الروح باعتبار كونه وعداً من الآب (يوحنا 14: 15- 21 و26، 15: 26، 16: 7- 10، أعمال 1: 4).،

إن كلمة، "موعد" ترجع بنا إلى الوعد الأول الذي وعد به الله ابراهيم رئيس العائلة اليهودية. وقد أبان الرسول بولس في رسالة أخرى، الصلة الكائنة بين الموعد الابتدائي الذي وعد به ابراهيم ونسله، وبين موعده النهائي الذي شمل الأمم أيضاً إذ قال، "وأما المواعيد فقيلت في ابراهيم وفي نسله .... لتصير بركة ابراهيم للأمم في المسيح يسوع، لننال بالإيمان موعد الروح" (غلاطية 3: 16 و14). وفي هذا الصدد عينه يقول بطرس الرسول في خطابه الخمسيني: "لأن الموعد" – موعد الروح القدس – "هو لكم ولأولادكم ولكل الذين هم على بعد كل من يدعوه الرب إلهنا" (أعمال 2: 39).،

والوصف الثاني الذي وُصف به الروح، هو: "القدوس". وقد جاء هذا الوصف بعد الوصف الأول في الترتيب من باب التوكيد، فهو الوصف الذي اختص به الأقنوم الثالث في اللاهوت، متميزاً عن الروح البشرية الإنسانية، وهو "قدوس" في طبيعته، ومقدس في عمله.،

14الَّذِي هُوَ عَرْبُونُ مِيرَاثِنَا، لِفِدَاءِ الْمُقْتَنَى، لِمَدْحِ مَجْدِهِ.،

عدد 14: - د- فاعلية الختم: "الذي هو عربون ميراثنا لفداء المقتني لمدح مجده".،

إن كلمة "عربون" مستعارة من لغة التجارة، وهي في اللغة الأصلية "أرّابون"- ولعلها فينيقية الأصل.،

"العربون" في عُرف التجارة، هو جزء من الثمن يُدفع مقدماً كضمان لصحة الصفقة، على أمل أن يُدفع باقي الثمن بعد تسلم البضاعة. ويراد به هنا، أن الله أعطى المؤمنين روحه القدوس كضمان لحقهم الأكمل في ميراثهم العتيد في المجد الأبدي. فالروح القدس الذي به ختم المؤمنون، ليشهد لأرواحهم أنهم أولاد الله هو ذات الروح الذي يضمن لهم ميراثهم الأبدي بوصف كونهم أبناء الله. وفي هذا الصدد يقول بولس في رسالة أخرى: "أخذتم روح التبني الذي به نصرخ يا أبا الآب. الروح نفسه يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله. فإن كنا أولاداً فإننا ورثة أيضاً ورثة الله ووارثون مع المسيح إن كنا نتألم معه لكي نتمجد أيضاً معه" (رومية 8: 15- 27). والحقيقة المشجعة هي أن الميراث محفوظ للورثة، والورثة محفوظون للميراث (1 بط 1: 4 و5).،

إن النعم الروحية المعطاة للمؤمنين، نتيجة حلول الروح القدس في قلوبهم كالفرح والمحبة والسلام والوداعة، هي عربون المجد الذي يتمتع به المؤمنين في الحياة العتيدة. فالنعمة هي المجد في البذرة، والمجد هو النعمة في البلوغ.،

وهنالك حقيقة أخرى مكملة لهذه – هي أن نعم الروح القدوس، التي بها خُتم المؤمنون، ليست فقط عربون ميراث المؤمنين في الله، بل هي أيضاً عربون ميراث الله في المؤمنين، بدليل قول الرسول في تتمة هذا العدد: "لفداء المقتني". إن هاتين الحقيقتين ليستا سوى وجهين لحقيقة واحدة شهد بها قديماً إرميا: "ليس كهذه نصيب يعقوب. لأنه" - الله – "مصور الجميع وإسرائيل قضيب ميراثه" (إرميا 10: 16).،

إن قوله "لفداء المقتني" – يراد به نوال المِلك المكتسب بحق الشراء والفداء. وقد ورد الفعل الأصلي المشتقة منه كلمة: "مقتني" في أعمال 20: 28 – في كلام بولس الرسول نفسه " .... ارعوا كنيسة الله التي اقتناها بدمه". والفكر الذي تنطوي عليه العبارة "لفداء المقتني" هو أن المؤمنين بالمسيح – من اليهود والأمم – هم شعب اقتناه الله واشتراه بدم الفادي، فأصبحوا ملكه، وخاصته، وميراثه. ومع أن الله – في الوقت الحاضر– لم يمتلكهم تماماً، لكونهم عائشين في بيئة مفسدة، ومعرضين لهجمات الشيطان وسهامه الملتهبة، إلا أنهم مازالوا لله ومختومين له. غير أن الله تعالى، لا يستولي عليهم تماماً، إلا متى حررهم وفكهم من هذا العالم الشرير، وأتم فداء أجسادهم مثلما أنجز فداء أرواحهم – وذلك عند مجيء المسيح ثانية (ملاخي 3: 17 و1 بطرس 2: 9).،

ومع الملاحظ، أن بولس الرسول، عاد إلى استعمال ضمير المتكلم في قوله: "ميراثنا" بعد أن كان قد استعمل ضمير المخاطب: "سمعتم"... "خلاصكم" ... "آمنتم" ... "خُتمتم"، في العدد السابق.،

في ختام هذه الأنشودة البديعة كرر الرسول – للمرة الثالثة – ذلك القرار الجميل: "لمدح مجده".،

قديماً أريد ببني إسرائيل أن يكونوا "لمدح مجد الله"، كما قبل في إرميا 13: 11 "لأنه كما تلتصق المنطقة بحقوى الإنسان، هكذا ألصقت بنفسي كل بيت إسرائيل وكل بيت يهوذا يقول الرب ليكونوا لي شعباً، واسماً، وفخراً، ومجداً" – لكنهم لم يسمعوا" – على أن وجه العزاء هو أن ما فشل فيه إسرائيل العالمي سينجح فيه إسرائيل الروحي ليكون "لمدح مجد الله". وما قصرت دونه الأمة، سيفوز به الفرد.

 الإصحاح الثاني

مجد الرأس والجسد

في نهاية الأصحاح الماضي، رأينا المسيح مَلكاً مُقاماً مرفوعاً، ممجداً، متسلطاً على كل القوات الملائكية وغير الملائكية، في السماويات، مالئاً كنيسته بحياته وشخصه، منفّذاً بها مشيئته، ومعلناً بواسطتها جلال مجد نعمته، ومالئاً كلّ الكون بجلال حضرته، وسلطان قوته. فهو مركز الدائرة في الكون بأسره "حامل كل الأشياء بكلمة قدرته". هو علة "كل ما هو حق، وجليل، وعادل، وطاهر، ومسر" في الكون. هو حياة الكل وكل الحياة!

 على أن رسول الأمم، لم يكتفي بتبيان المجد الذي ناله المسيح رأسنا ورئيسنا الأعلى، بل أظهر أن المجد الذي تكلل به "الرأس" هو عين المجد الذي صار من نصيب "الجسد"-والقياس مع الفارق. لأن الجسد يشاطر الرأس آلامه وآماله. وما جسد المسيح إلا جماعة المؤمنين المفديين في كل أُُُمة، وفي كل جيل. فكما أُقيم المسيحُ بعد أن مات عن الخطية، كذلك أقمنا نحن أيضاً معه بعد أن كنا أمواتاً بالذنوب والخطايا، وكما أُُُُجلس المسيح على عرش المجد، كذلك أُُُجلسنا نحن أيضاً معه في السماوات. فعمل شدة قوة الله الذي عمله في المسيح، قد عمله أيضاً، في المؤمنين به من اليهود-وبولس الرسول واحد منهم-ومن الأمم، هؤلاء هم المعنيُّون بقوله: "...وأنتم". هذه هي عظمة قدرة الله الفائقة التي يريدهم الرسول أن يعرفوها (1: 19).

فلنستقبل هذا الفصل الجديد بروح الخشوع والتعبد. لأن الرسول لم يكتب هذه الحقائق بقلم جاف، كما لو كان محاضراً، بل كتبها بمحلول من ذوب قلبه، لأنه في كتابته كان متعبداً، ومخبراً بحقائق جليلة سامية، تمس المؤمن في تاريخه الماضي، وحالته الحاضرة، وحياته العتيدة.

 في الأصحاح الأول تكلم الرسول عن دعوة الله العليا التي قصدها بالكنيسة، وعن الأمجاد العلوية التي رُفع إليها رأس الكنيسة-فكان بذلك متكلماً عن عمل شدة قوة الله في علوه. وفي هذا الأصحاح الثاني رغب الرسول إلى المؤمنين أن يلقوا نظرةً إلى "النقرة" التي منها أخذوا، بل إلى المقبرة التي منها أُقيموا ورفعوا-فكان بهذا متكلماً عن عمل شدة قوة الله في عمقه. لذا وجه الخطاب أولاً إلى الأمم بقوله: "إذ كنتم أمواتاً". ولئلا يلتبس الأمر على الأمم فيظنوا أنهم هم الموتى دون سواهم، أزال الرسول عنهم هذا اللبس، فقرر أن اليهود، بلا استثناء-بما فيهم الرسول نفسه- يشاطرون الأمم هذا الماضي المظلم، فقال في بدء العدد الثالث... نحن أيضاً جميعاً تصرفنا قبلاً بينهم في شهوات جسدنا... وكنا بالطبيعة أبناء الغضب كالباقين" -أي الأمم- "أيضاً". إن هذا الاستدراك شبيه بذاك الذي مررنا به في العدد الثالث عشر من الأصحاح الأول. ولكنهما يختلفان في هذا: في الأصحاح الأول تكلم الرسول عما نال اليهود من بركات في المسيح (1: 11). ولئلا يظن الأمم أن اليهود هم وحدهم أصحاب هذه المزايا، أزاح عنهم هذا الظن بقوله: "الذي فيه أنتم أيضاً" -أيها الأمم- "...إذ آمنتم ختمتم بروح الموعد القدوس". لكنه في الأصحاح الثاني تكلم عن "المقبرة" المظلمة التي أُقيم منها الأمم، ولئلا يتوهموا أن الرسول أراد أن يذكرهم دون سواهم بماضيهم المظلم، أزال عنهم هذا الوهم بقوله في العدد الثالث: "الذين نحن أيضاً جميعاً تصرفنا قبلاً بينهم" –أي لستم أنتم وحدكم أصحاب الماضي التعيس الغير المشرّف، بل نحن أيضاً "كنا بالطبيعة أبناء الغضب كالباقين".

 ومن الملاحظ أن الرسول - من فرط المعلنات المسلمة له - كثيراً ما عرّج في سياق كلامه على بعض العبارات ليزيد المعنى إيضاحاً.

 وما قصد بولس بتوجيه التفات الأمم واليهود معاً، إلى حالتهم الطبيعية الساقطة، إلا ليرفع أنظارهم إلى أمجاد الحالة الراقية التي رفعتهم إليها النعمة الإلهية. فيحق لنا أن نلقب هذا الفصل ب "معجزة النعمة" -أو "من الطبيعة إلى النعمة"- أو "ما كنا عليه بالطبيعة، وما صرنا عليه بالنعمة" وعلة العلل في هذا الفارق العظيم ما بين ماضينا ومستقبلنا – "الله"! (2: 4) أما قصده في كل هذا، فهو إظهار "غنى نعمته الفائقة باللطف علينا في المسيح يسوع" (2: 7). هذا ملتقى الأصحاح الأول، بالأصحاح الثاني من هذه الرسالة: في العدد السادس من الأصحاح الأول، نجد القول: "لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في المحبوب". وفي العدد السابع من الأصحاح الثاني، نجد القول: "ليظهر غنى نعمته الفائق باللطف علينا في المسيح يسوع". وكل قول منهما مواز للآخر ومكمل له، ومفسر.

 هذا الأصحاح يماشي الأصحاح الأول من سفر التكوين –هذا يتكلم عن الخليقة الثانية وذاك عن الخليقة الأولى.

معجزة النعمة  (2: 1 –10)

أولاً: ما كنا عليه بالطبيعة – 2: 1- 3

(1) ماضينا –2: 1- الأمم وحدهم

(2) مسلكنا –2: 2-3 (أ)- اليهود والأمم معاً

(3) استحقاقنا الطبيعي –2: 3 (ب)- اليهود وحدهم

ثانياً: ما صرنا إليه بالنعمة 2: 4- 10

(1) أساس عمل إله النعمة –2: 4و 5 (ب)

-أ-غنى رحمة الله- 2: 4 (أ)

-ب-عظمة محبة الله- 2: 4 (ب)

-ج-مجانية نعمة الله- 2: 5 (ب)

(2) ماهية عمل إله النعمة- 2: 5 ( أ) "أحيانا"

(3) قوة عمل إله النعمة 2: 6

 -أ-أقامنا- 2: 6 (أ)

-ب-أجلسنا- 2: 6 (ب)

(4) غرض إله النعمة من عمل نعمته- 2: 7

-أ-وقت إظهار غرضه- 2: 7 (أ)

-ب-حقيقة غرضه- 2: 7 (ب)

(5) أسلوب عمل إله النعمة- 2: 8- 10

-أ-علة خلاصنا "النعمة" 2: 8 (أ)

-ب-وسيلة خلاصنا "الإيمان" 2: 8 (ب)

-ج-غاية خلاصنا-تمجيد الله وحده- 2: 9

-د-ثمر خلاصنا-أعمال صالحة معدة- 2: 10

هذه تسبحة النعمة، أنشأها رسول النعمة –مطلعها: "أنتم" (عدد 1)، وقلبها النابض: "الله" (عدد 4)، وقرارها المتكرر: "بالنعمة أنتم مخلصون" (عدد 5و 8) وختامها: "لأعمال صالحة... نسلك فيها". فلنترنم بها، ونحن على ركبنا جاثون، لأننا إن ارتكبنا شراً فلا عُذر، وإن أتينا خيراً فلا فخر.

أولاً: ما كنا عليه بالطبيعة 2: 1- 3

عدد 1:

1وَأَنْتُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَمْوَاتاً بِالذُّنُوبِ وَالْخَطَايَا،

(1) ماضينا – (2: 1). "وأنتم إذ كنتم أمواتاً بالذنوب والخطايا". هذا تعبير مجمل، يصف الغير المؤمنين في:

-أ-حالتهم الطبيعية: "أمواتاً" : إن الموت المقصود هنا هو الموت الروحي، الذي هو بعد النفس عن الله. وكما أن الموت الجسدي ينشأ عن انقطاع كل صلة بين الجسد وبين أسباب الحياة الطبيعية المحيطة به –كالهواء وما إليه، كذلك يقع الموت الروحي عند انقطاع الصلة بين النفس وبين الإله الحي الذي هو مصدر حياتنا، وعلة كيانها. يؤيد هذا، وصف آخر وصف به الرسول الغير مؤمنين: "إذ هم مظلموا الفكر ومتجنبون عن حياة الله"- هذه هي البيئة الروحية، فمتى انقطعت كل صلة تربطهم بها، أمسوا أمواتاً فعلاً وحقاً.

-ب-علة موتهم: "بالذنوب والخطايا". هذا هو الداء الدفين الذي تغلغل في البشرية، فأبعدها عن الله الذي هو مصدر الحياة والنور فماتت البشرية بهذا الداء العياء. وإذا كانت الخطية علة موت الإنسان، فهي أيضاً المقبرة التي يُطوى فيها، ولذلك فهو أيضاً ميت في "الذنوب والخطايا". قد يجوز أن نميز بين الذنوب والخطايا، فنقول: إن الذنوب هي الاعتداء على شريعة أو هي كسر حاجز والاصطدام به، والخطايا هي القصور أو التقصير في عدم إصابة المرمى. ويقول بعضهم: إن الأولى تشير إلى خطايا الترك، وأن الثانية تعني خطايا الفعل. ويقول البعض الآخر: إن الأولى تشير إلى الخطايا الفعلية التي يرتكبها الإنسان متعمداً مختاراً، وأن الثانية تعني الخطايا الأصلية الموروثة من آدم الأول. ويعتقد سواهم: أن الذنوب هي ما يُرتكب ضد الإنسان. وأن الخطايا هي ما يُرتكب ضد الله تعالى. ويقول آخرون: إن الذنوب تشير إلى الفعال الظاهرة، الخطايا تتناول النيات الخفية التي في القلب. ومع ميلنا إلى الأخذ بالرأي السابق للأخير، إلا أنه ليس من السهل أن نحكم بأفضلية أحدها.

عدد 2 :

 2الَّتِي سَلَكْتُمْ فِيهَا قَبْلاً حَسَبَ دَهْرِ هَذَا الْعَالَمِ، حَسَبَ رَئِيسِ سُلْطَانِ الْهَوَاءِ، الرُّوحِ الَّذِي يَعْمَلُ الآنَ فِي أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ،

(2) مسلكنا –(2: 2- 3 (أ)). "التي سلكتم" هذه حالة شاذة غريبة، لأننا لم نكن بالطبيعة أمواتاً جامدين بغير حركة، مثلما يكون عادة موتى الأجساد، بل كنا أمواتاً متحركين: "سالكين". فليست "الذنوب والخطايا" مجرد مقبرة يتوارى فيها موتى النفوس والأرواح، وإنما هي "بيئة" حية، أدبية، "فيها يوجد الخطاة، ويحيون، ويتحركون"، ويسلكون. إن مسألة السلوك غاية في الأهمية، وهي ذات اعتبار خاص لدى أحبار اليهود الذين سبقوا بولس والذين عاصروه. فقد استُهل سفر المزامير بالكلام عن السلوك: "طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار".

العدو المثلث للإنسان ولليهود سفر جليل مختص بآداب السلوك يُعرف ب "كتاب الهالخا" وجاء فيه:

"قبل سقوط الإنسان، كان الله علة حياة نفوس البشر، ومشتهى أرواحهم، وغاية آمالهم. لكن بعد السقوط، أضحت الخطايا أمنية نفوسهم، ومطمح أرواحهم، ومنتهى آمالهم".

إن كلمة "قبلاً" تصف المكتوب إليهم في حالتهم قبل إيمانهم بالمسيح و"السلوك في الذنوب والخطايا" –يعني: سلباً: سير الإنسان في هذه الحياة، بعيداً عن مصدر الإرشاد الإلهي، وهو غير شاعر بالحب الإلهي وغير مُلب للنداء السماوي. وإيجاباً: هو السير حسب اتجاهات روح العالم وإيحاآت الشيطان ومشيئات الجسد. هذا هو العدو المثلث الذي يستأسر بأفكار الإنسان الغير المتجدد، ويستهويه لذاته، ويخضعه لنفوذه وسلطته: العالم، والشيطان، والجسد –هذا هو مثلث الشر، والفساد والدمار. فالعالم حوالينا، والشيطان علينا، والجسد داخلنا. العالم عصر، والشيطان روح، والجسد مبدأ.

-أ- "العالم"-(كوزموس)- لا يراد به هذا الكون المنظور، بما فيه من أفلاك، وجبال ووديان، وبحار وأنهار –فكلها من صنع الإله الحكيم، وهي تحدثنا دوماً بمجده وجلاله (مز 19: 1- 6) ولا الناس الذين في العالم. لأن هؤلاء "أحبهم الله" (يوحنا 3: 16). ولا يُقصد به الوظائف، والصنائع، والحرف، التي يحترفها الناس في العالم، لأن المسيح نفسه كان نجاراً. وإنما يراد ب"العالم" –مظاهر الحياة الجذابة الخلابة، التي تسلب اللب، وتستهوي القلب: "شهوة الجسد، وشهوة العيون، وتعظم المعيشة، ليس من الآب بل من العالم" (1يو 2: 16).

"دهر هذا العالم" –هذا نموذج من غنى أسلوب الرسول. فربما كانت إحدى هاتين الكلمتين كافية للإفصاح عما في فكره، لكنه أضاف كلمة إلى أخرى ليجعل غنى المبنى متمشياً مع غنى المعنى. ويستفاد مما جاء في بعض أسفار الرابيين، أن كلمة "دهر هذا العالم" تعني العصر الحاضر السابق لمجيء مسيّا، تقابلها كلمة "الدهر الآتي" أو "العالم الآتي"، التي تشير إلى العصر اللاحق لمجيء مسيّا، ومما جاء في كتاب الرابيين من هذا القبيل: "أن الإله العلي قد أعطى "العالم الحاضر" لكثيرين، وأما العالم العتيد فلقليلين" (قابل اسداراس 8: 1و 6: 9 مع متى 12: 32). فالدهر هو روح العصر الذي يلهي الإنسان بالساعة الحاضرة البائدة عن الحياة الأبدية الخالدة. ويصرفه بالمنظور عن غير المنظور. ويبيعه مجد بركة باقية، بلذة أكلة ذاهبة (عب 12: 16). هذا ما أراده بولس بقوله: "لأن هيئة هذا العالم تزول" (1كو 7: 31)، "ديماس قد تركني إذ أحب العالم الحاضر" (2تي 4: 10). بل هذا ما قصده يوحنا بالقول "والعالم يمضي وشهوته" (1يو 2: 17). هذا هو "الدهر" الذي يطلب إلينا الرسول "أن لا نشاكله، بل أن نتغير عن شكلنا بتجديد أذهاننا، لنختبر ما هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة" (رؤ 12: 2).

الكلمة اليونانية التي ترجمت إلى "الدهر" يجوز أن تُترجم أيضاً إلى "أسلوب" أو "نمط" أو "مسلك"، فتُقرأ العبارة كلها هكذا: "التي سلكتم فيها قبلاً حسب مسلك هذا العالم". هذا هو المسلك الذي ينافي إرادة الله، ويكون غالباً مقاوماً لها (أطلب يوحنا 8: 23و 9: 39و 12: 25و 31و 13: 1و 16: 11و 18: 36، 1كو 1: 20و 3: 19و 7: 31و 1يو 2: 17). غير أن موقف المؤمن الحقيقي إزاء العالم، واضح في قوله: "قد صُلب العالم لي وأنا للعالم" (غلا 6: 14).

إن كلمة "سلوك" هي إحدى الكلمات الاستعارية المميّزة لأسلوب بولس الرسول. وهو يشير بها هنا إلى الحياة التي يكون حب الذات قائدها، وروح الشيطان مرشدها، وأسلوب العالم الملتوي رائدها، بدلاً من أن يكون الله هاديها وعضدها. وقد استعمل الرسول هذه الاستعارة سبع مرات في هذه الرسالة (2: 2و 10و 4: 1و 17و 5: 2و 8و 15). وليس بغريب أن يكثر الرسول من ترديد هذه الكلمة فهو الذي يعتبر الديانة "طريقاً" سواء أكانت يهودية أم مسيحية (أعمال 24: 14). ولعل لوقا استعارها منه للتعبير عن فكرته في الديانة المسيحية.

-ب-الشيطان: "حسب رئيس سلطان الهواء، الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية". ذُكرت هاتان العبارتان وصفاً للشيطان –

(1)أولاهما تصفه في مقامه، ومكانه: "رئيس سلطان الهواء". هذا مكان أعلى من "العالم" حيث يعيش الإنسان (عدد 2)، وأدنى من "السماويات" حيث "أُجلس المسيح، وأُجلس معه المؤمنون" (عدد 6) ولعله تعبير عبريّ استعاره بولس من مصادر يهودية. والظاهر أن العالم بعد السقوط، صار هدفاً لهجمات إبليس. ولكن لما جاء المسيح ليفتدي المؤمنين من هذا العالم الشرير "رأى الشيطان نازلاً مثل البرق من السماء" (لوقا 10: 18).

إن "سلطان الهواء" هو نفسه "سلطان الظلمة" المقاوم والمضاد لملكوت المسيح –ملكوت النور، والحق، والمحبة. في هذا يقول بولس في رسالة أخرى "شاكرين الآب... الذي أنقذنا من سلطان الظلمة، ونقلنا إلى ملكوت ابن محبته" (كولوسي 1: 13). هذا يؤيد قول المسيح للمتآمرين عليه: "هذه ساعتكم وسلطان الظلمة" (لوقا 21: 53).

"رئيس سلطان الهواء" أو "أمير سلطنة الهواء". هذا دليل على أن الشيطان ليس مجرد تأثير أو قوة، بل هو ذات وشخصية. إلا أنها شخصية ساقطة شقية –على خلاف جبرائيل "الواقف أمام الله"، فإنه شخصية صالحة تقية. ومع أننا لا نعلم الشيء الكثير عن حقيقة شخصية الشيطان، إلا أننا نفهم من الكتاب المقدس، أنه محدود في كيانه، ومقيد في سلطانه. فلا يمكنه أن يجرب إنساناً إلا بسماح من الله تعالى (أيوب 1: 11و 2: 5)، كما أنه لا يجرب شخصاً إلا بالقدر الذي يسمح به الله (أيوب 1: 12و 2: 6). ولكنه رئيس، فمن الضروري أن يكون تحت إمرته جنود يأتمرون بأمره، ويخضعون لنصحه، وينفذون تعليماته. ومع أن "سلطان" الهواء، الذي يرأسه الشيطان، ليس بسلطان مشروع بل جائر، تعسفي، اعتباطيّ، عدوانيّ، إلا أنه موجود بسماح من الله –ولكن إلى حين- حتى تخضع جميع الأعادي لسلطان المسيح الحق، ويسجد الكل ضد موطئ قدميه. ولا سبيل إلى تحقيق ذلك إلا بإعلان كلمة البشارة وإعلانها حتى تعمَّ المسكونة كما تغطي المياه أرض البحر.

"رئيس سلطان الهواء" –هذا يذكرنا بقول المسيح في مثل الزارع: "...وفيما هو يزرع سقط بعض على الطريق فانداس وأكلته طيور السماء" –في الأصل- "طيور الجوّ أو الهواء". وفي تفسير هذا المثل قال المخلّص: "والذين على الطريق هم الذين يسمعون ثم يأتي إبليس وينزع الكلمة من قلوبهم" (لوقا 8: 5و 12). وقد لاحظ بعض المفسرين أن هذا التعبير: "رئيس سلطان الهواء" ورد مراراً في كتابات المعاصرين لبولس من كتّاب اليهود والإغريق، ولكن هذا لا يدل بالضرورة على أن بولس اقتبسه من أحدهم (راجع أعمال 26: 18، متى 12: 16، أفسس 6: 12).

(2)العبارة الثانية: "الروح الذب يعمل الآن في أبناء المعصية" –هذه تصف الشيطان في سلطته- أي أن الشيطان هو رئيس "الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية". وقد استعملت كلمة "روح" اسماً لنوعٍ، كقولنا: "حديد"، و"شوك" –فهي لا تعني المفرد لكنها اسم جمع تركَّزت فيه كل الوحدات، فهي تصف طبيعة سلطان الهواء –إنه "روح غير منظور" لا "جسد هيولي" –وهي بالتالي تصف طبيعة الشيطان الذي هو رئيس سلطان الهواء، ورئيس هذا الروح.

إذا كان الروح النجس الشرير، يعمل الآن في أبناء المعصية، فلا نفشل، لأن الرسول صرح في الأصحاح الأول مرتين (1: 11و 20) بأن روح الله القدوس يعمل أيضاً، بل قد عمل حقاً، وأظهر عمله في المسيح، وسيظهر عمله على توالي الأيام في أبناء الله العتيدين أن يرثوا الخلاص، فليست النصرة النهائية للظلام، بل للنور، ولا هي للباطل بل للحق، ولا هي لأبناء المعصية بل لابن محبته.

إن قوله: "أبناء المعصية"، تعبير عبريّ، ورد أيضاً في العدد السادس من الأصحاح الخامس في هذه الرسالة: "يأتي غضب الله على أبناء المعصية". ويقابله قول الرسول: "أبناء نور" و"أبناء نهار" (1تس 5: 5) ويماثله قول المسيح: "أبناء هذا الدهر" (لوقا 16: 8و 20: 34). إن "أبناء المعصية" هم الأشخاص المسومون بعصيان الله ومقاومة إرادته لدرجة يُحسب فيها العصيان ميزةً خاصةً لهم، وطابعاً لاصقاً بهم، وشيمةً لاحقة بهم، وداءً متغلغلاً في دمهم –كل هذا بسبب حالتهم الطبيعية من جهة، وبفعل روح العصيان فيهم من الجهة الأخرى. لأن الشيطان هو"المعاند" –كما يدل على ذلك معنى الأصل العبريّ: "شَطسَنَ". فعمله متفق وطبيعته، ومشتق من صفاته، لأن العصيان من أظهر هذه الصفات. وسواء أكان العصيان كامناً بين ضلوعهم، أم ظاهراً في أعمالهم وتصرفاتهم، فهو سيماؤهم المميزة لهم. إن علة هذا العصيان هي اكتفاء الإنسان بإرادته النفسانية الشريرة، ورفضه إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة. وأساس هذا الرضى هو عدم الإيمان،وأساس عدم الإيمان هو البعد عن الله أو الارتداد عنه –كما قال كاتب الرسالة إلى العبرانيين: "انظروا أيها الأخوة أن لا يكون في أحدكم قلب شرير بعدم إيمان في الارتداد عن الله الحي" (عب 3: 12).

ويقول الدكتور كندلش –إن قول الرسول: "أبناء المعصية" هو تعبير مركز يصف قوماً في قبضة المعصية، بل في مخالبها حتى أضحوا ملكاً لها وأبناء بجدتها.

عدد 3:

3الَّذِينَ نَحْنُ أَيْضاً جَمِيعاً تَصَرَّفْنَا قَبْلاً بَيْنَهُمْ فِي شَهَوَاتِ جَسَدِنَا، عَامِلِينَ مَشِيئَاتِ الْجَسَدِ وَالأَفْكَارِ، وَكُنَّا بِالطَّبِيعَةِ أَبْنَاءَ الْغَضَبِ كَالْبَاقِينَ أَيْضاً،

اليهود يشاطرون الأمم مسلكهم وماضيهم

-ج-العدوّ الثالث: "الجسد". "الذين نحن أيضاً جميعاً تصرفنا قبلاً بينهم في شهوات جسدنا". تكلم بولس في العدد السابق عن ماضي الأمم ومسلكهم. ولئلا يظن الأمم أن الرسول قصد أن يخصهم بذلك الماضي التعيس، وهذا المسلك الشائن، عرّج على اليهود، فادمجهم مع الأمم في مسلكهم وماضيهم. ولأن الرسول بولس يهودي، أورد عبارته في صيغة المتكلم، فقال: "الذين نحن أيضاً" ولئلا يتوهم أن الرسول يقصد فريقاً معيناً دون آخر، أجمل الكل، فقال: "...نحن جميعاً"، ولئلا يتطرق إلى ذهن الأمم أي خاطر من جهة فضل أسبقية اليهود عليهم في المجد والكرامة، أبان لهم الكاتب أن لليهود أيضاً ميزة الأسبقية عليهم في العصيان والتمرد، فقال: "تصرّفنا قبلاً". فما أحكم الرسول وما أعدله!! أليس هو القائل في رسالة أخرى: "أما الذين هم من أهل التحزب ولا يطاوعون للحق بل يطاوعون للإثم فسخط، وغضب. شدة، وضيق على كل نفس إنسان يفعل الشر –اليهودي أولاً ثم اليوناني.ومجدٌ، وكرامةٌ، وسلامٌ لكلّ من يفعل الصلاح- اليهودي أولاً ثم اليوناني"؟ (رومية 2: 9- 11).

فلا يعادل ضياء النور الساطع، إلا قتام ظله. ولا يوازي عظمة الامتيازات، قدر ثقل مسئولياتها. فاليهودي شريك الأممي في:

-أ-التصرف السابق في شهوات الجسد –ب-إطاعة مشيئات الجسد والأفكار -ج-كونه ابن الغضب بالطبيعة. وكل هذه الثلاثة الأوصاف منصبة على الجسد الذي هو عدونا الثالث.

-أ-إن "شهوات الجسد" بحصر اللفظ، تعني الخطايا الحيوانية المنحطة.

-ب-و"مشيئات..الأفكار" تعني الخطايا الفكرية الناشئة عن الكبرياء العقلية نظير الانتفاخ العلمي، وحب السلطة، وطلب الجاه والشهرة، اللواتي هن بعض أخوات محبة الذات.

ومن الملاحظ، أن الرسول بولس، حين كان يتكلم عن نفسه بالذات في هذا العدد الثالث وصف الخطية في منابعها الداخلية، لكنه لم يتكلم عن خطايا الآخرين (عدد 2) وصف الخطية في مظاهرها الخارجية التي تبدو في الحياة بالتصرف والسلوك.

-ج-"أبناء الغضب" –لئلا يتبقى في قلب اليهود أثر من الفخر بحسبهم على اعتبار أنهم "أولاد إبراهيم"، انتزع الرسول من قلوبهم كل أسباب الافتخار بميلادهم الطبيعي، لأنهم بالطبيعة أبناء الغضب كالباقين- أي أنهم في ميلادهم الطبيعي يستوون والغير المؤمنين من الوثنيين. فليست العلة في البيئة المحيطة بهم، ولا في مرافقهم وظروفهم الخارجية، ولا في الزمان العائشين فيه، بل فيهم هم، لأنهم بالطبيعة أبناء الغضب. نعم أن الله يبنى الأمة الإسرائيلية، ولكن على أساس الإيمان، لا على أساس حياتهم الطبيعية، ولا بناء على استحقاقهم، كورثة جسديين لإبراهيم. لأن بولس نفسه يقول في رسالة أخرى: "كما آمن إبراهيم فَحُسِب له (الإيمان) براً. فاعلموا إذاً أن الذين هم من الإيمان، أولئك هم بنو إبراهيم" (غلاطية 3: 6و 7). فإذا كان بعض اليهود يظنون أنهم يمتازون عن الأمم بكونهم أبناء إبراهيم بميلادهم الطبيعي، فقد هدم بولس صرح تفاخرهم هذا، وأبان لهم أن لا وجه لفخرهم لأنهم بحكم ميلادهم الطبيعي، هم "أبناء الغضب" كسائر الناس، فإن لم يولدوا ثانية ميلاداً روحياً من الأعالي، فلا سبيل إلى تمتعهم برضى الله.

أبناء الغضب بالطبيعة

"وكنا بالطبيعة أبناء الغضب" – تنطوي هذه العبارة على إشارة ضمنية إلى الخطية الأصلية التي يولد بها كل إنسان غير متجدد، وبسببها يدخل في عداد أبناء الغضب. وليس من الضروري أن تبرز خطية الإنسان إلى حيز الفعل، حتى تُوجب عليه غضب الله. إذ يكفي بقاؤها كامنة في طبيعته لإثارة غضب الإله الذي "عيناه أطهر من أن تنظرا الشر" (حبقوق 1: 13). فالأسد الرابض في قفص من حديد، ليس حَملاً لكنه أسد عاجز عن إيقاع الأذى. وكذلك الخطية الكامنة في طبيعتنا إنما هي خطية حقيقية حتى في الأوقات التي لا تجد فيها مجالاً للظهور. فالخطية الأصلية هي خطية عامة. يولد فيها كل إنسان، لا على سبيل المصادفة، ولا من قبيل الحظ العاثر، بل بحكم ناموس عام لا يتخطاه زرع بشر ولا يتحداه. وبحكم هذا الناموس العام المشترك أضحت الخطية طبيعة أصلية في الإنسان، وأضحت طبيعته البشرية خطية أصلية فيه. فكل ما يصدر عن هذه الطبيعة ليس سوى خطأ في خطأ. وأن أقدس أعمالها فساد في فساد- حتى الصلاة التي نرفعها تحسب مكرهة لدى الله. فبحكمها وبموجب نواميسها وأنظمتها تصبح كل أعمال الإنسان الطبيعية التي تصدر عنه عفواً، خاطئة، بل خطية متمثلة في صورة أعمال، وتصبح الخطية حالة طبيعية، أصيلة فيه. بهذه الطبيعة الخاطئة، وهذه الخطية الطبيعية الأصلية، يولد الإنسان، وفيها ينمو، وفيها يسلك، فيستعذب مرارتها، وبها يصير له المر حلواً والحلو مراً؛ ما لم تتداركه النعمة الإلهية فتخلق منه إنساناً جديد.

يقول الدكتور ارمتاج روبنسون- إن كلمة: "بالطبيعة" تصف البشر كما هم في ذاتهم وفي حالتهم الأصلية من غير أن تتداخل في أمرهم قوة خارجة عنهم أو تتداركهم نعمة أرفع منهم. مثال ذلك قول بولس: "لأن الأمم الذين ليس عندهم الناموس متى فعلوا بالطبيعة –أي بدون إعلان إلهي خارج عنهم- ما هو في الناموس. فهؤلاء إذ ليس لهم الناموس، هم ناموس لأنفسهم" (رو 2: 14).

أما قول الرسول: "أبناء الغضب" فهو على مثال قوله في عدد سابق "أبناء المعصية" وهو يصف الواقعين تحت الغضب طبعاً واستحقاقاً فأبناء المعصية لا يمكن إلا أن يكونوا "أبناء الغضب" كما قال الرسول نفسه: "...بسبب هذه الأمور يأتي غضب الله على أبناء المعصية فلا تكونوا شركاءهم لأنكم كنتّم ظلمة. وأما الآن فنور في الرب".

فالغضب المقصود هنا هو غضب الله في الحال وفي يوم الدين. و"أبناء الغضب" هم موضوع هذا الغضب ومقضي عليهم به، وإياه يستحقون سواء أكانوا يهوداً أم أمميين، "لأن غضب الله معلن من السماء على جميع فجور الناس وإثمهم... وأما الذين من أهل التحزب، ولا يطاوعون للحق، بل يطاوعون للإثم، فسخط وغضب... على كل نفس إنسان يعمل الشر، اليهودي أولاً ثم اليوناني" (رومية 1: 18و 2: 5و 8).

هذا ما بينه الرسول، إن الأمم واليهود، على السواء، هم أبناء الغضب بالطبيعة إذا ما تركوا على حالهم الطبيعية التي فيها ولدوا ونشأوا، ونموا ما لم تنتشلهم النعمة الإلهية المخلصة.

عمل النعمة

 3: 4- 10

عدد 4 و5:

4اَللهُ الَّذِي هُوَ غَنِيٌّ فِي الرَّحْمَةِ، مِنْ أَجْلِ مَحَبَّتِهِ الْكَثِيرَةِ الَّتِي أَحَبَّنَا بِهَا، 5وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ - بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ

من السحب المتكاثفة التي تلبدت في جو الأعداد الماضية المفصحة بالكلام عن خطايا اليهود والأمم، انتقل بنا الرسول إلى جو صاف تضيء فيه أنوار النعمة الإلهية، وتشرق وتشع فيه أشعة شمس إله النعمة. فما أحلى هذه الكلمة العظيمة التي يستهل بها هذا العدد الرابع: "الله"! ما أشبه هذا الاستهلال بمطلع الرسالة إلى العبرانيين: "الله...!!". وهل من كلمة يمتلئ بها الفم المعبر عن سرور القلب وبهجته، مثيل هذه الكلمة الجليلة الممتازة: "الله"!؟

 كما تشرق الشمس بأشعتها النورانية فتشق كبد اليوم إلى ليل حالك ونهار مشرق، كذلك تدخل الله بنعمته في تاريخ المؤمنين ففصل بين ماض مليء بالسيئات والمعاصي، وبين حاضر غمرته النعمة المجانية. تأمل هذه القائمة السوداء:

"أمواتاً بالذنوب والخطايا"... "دهر هذا العالم"... "رئيس سلطان الهواء"... "أبناء المعصية"..."أبناء الغضب"... وكأن نفس الرسول شعرت بانقباض إذ أطالت التحليق في هذا الجو الخانق، وسرعان ما شعرت بحرية مجيدة وتنفست الصعداء حالما انتقل بولس إلى هذا العدد الرابع فتنسمت نفسه نسيم الحرية والمجد، وطربت لدى سمعها عذب نغم هذه الكلمات:

"الله"... "غني في الرحمة"... "محبته الكثيرة"... "أحيانا"... "المسيح" ، "النعمة"، "مخلصون"، "أقامنا"... "أجلسنا"... "السماويات". ولا شك أن السرور أخذ من نفس الرسول كل مأخذ عندما وصل إلى هذه العبارة المركزية التي تصلح قراراً لأنشودته الجميلة: "غنى نعمته الفائق باللطف علينا في المسيح" !!

-أ-غنى رحمة الله (2: 4 (أ)). هذه صفحة مجيدة في سفر الخليقة الجديدة. فيها يتجلى البون الشاسع بين حالين: حال طبيعية كان عليها المؤمنون قبل إيمانهم، وحال أخرى أوصلتهم إليها النعمة الإلهية. ما أشبهها بأول صفحة يُستهل بها كتاب الخليقة الأولى في غرة سفر التكوين: "كانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة" –هذا هو جانبها المظلم "... وروح الله يرف على وجه المياه. وقال الله ليكن نور فكان نور.. وفصل الله بين النور والظلمة"- هذا جانبها المنير. فما أقرب الشبه بين الصفحتين –صفحة الكون المخلوق بكلمة الله المقولة، وصفحة الإنسان الجديد المخلوق في المسيح كلمة الله المتجسد.

وفي هذا العدد الرابع وما بعده، عاد الرسول إلى إتمام العبارة التي استهل بها هذا الأصحاح: "وأنتم إذ كنتم أمواتاً... الله الذي هو غني في الرحمة... أحيانا مع المسيح". وإذا كان الرسول قد أظهر في الأعداد السابقة سواد الخطية وفسادها، فما ذلك إلا ليظهر في الأعداد اللاحقة جمال النعمة وأمجادها ومثلما كثرت الخطية، ازدادت النعمة جداً. وأي وصف يعبر عن وفرة النعمة أبلغ من قول الرسول: "الله الذي هو غني في الرحمة" من أجل "محبته الكثيرة"... "ليظهر في الدهور الآتية غنى نعمته".

هذه تعبيرات جليلة متجّمع بعضُها على بعض كما تتجمع أمواج البحر الخضم فوق بعضها البعض: "غنى الرحمة" "كثرة المحبة"، "غنى النعمة". لو اقتصر الرسول على استعمال إحدى هذه الثلاث الكلمات وحدها، لكان فيها الكفاية للتعبير عن جلال النعمة وجمالها. لكنه نظم حبات هذا العقد الثلاثي الثمين، بعد أن أحاط كلاً منها بإطار مرصع ليزيدها جمالاً على جمال، فأرانا الرحمة في غناها بل في غنى الله، والمحبة في كثرتها ووفرتها، والنعم في فيضها، فقال: "غني في الرحمة، من أجل محبته الكثيرة"، ليظهر "غنى نعمته". فالرحمة وحدها كافية. والمحبة وحدها مقتدرة. والنعمة وحدها فعالة. فما بالك إذا اجتمعت ثلاثتها معاً كما اجتمع الثلاثة الملائكة قديماً في ضيافة إبراهيم عند بلوطات ممرا (تكوين 18: 2)؟ فكم بالحري إذا اجتمعت لها ثلاثة أوصاف جامعة؟. في ختام الأصحاح الثالث عشر من الرسالة الأولى إلى كورنثوس ذكر الرسول ثلاث فضائل: "الإيمان، والرجاء، والمحبة" ثم وازن بين بعضها البعض فرجحت لديه كفة الأخيرة، فقال: "وأعظمهن المحبة" لكنه لو أراد أن يوازن بين هذه الثلاث الفضائل التي نحن بصددها: "الرحمة" و"المحبة" و"النعمة"، أترى كان يجد سبيلاً إلى المفاضلة بينها؟! وهل من مفاضلة بين أشعة الشمس الواحدة؟ أليست كلها منبعثة من نبع واحد هو المحبة؟ فالرحمة هي المحبة مترفقة، والنعمة هي المحبة متدفقة.

-ب-عظمة محبة الله (2: 4 (ب)): غنى رحمته، ووفرة محبته، وغنى نعمته- لقد تجلت هذه كلها بصورة واضحة في سفر الفداء. فإذا رأينا قدرة الإله المبدع منقوشة على لوحات سفر الخلق، بحروف صخرية حجرية، وإذا تبينا حكمة الله مرتسمة على صفحات سفر العناية، بحروف من نور ونار، فإننا نلمس رحمته تعالى مطبوعة على سفر الفداء بحروف من دم. نعم قد يُتاح لبعض الناس أن يروا آثار خطوات الله موجودة في سفر الخلق، وأن يتبينوا آيات يديه مطبوعة على سفر العناية، إلا أنهم يحسون بنبضات قلبه المحب متى تصفحوا سفر الفداء. إن لغة محبته سهلة المأخذ لدى الأطفال، بل هي سر غامض لا يفهمه إلا الأطفال! ألم يقل فادينا المجيد: "أحمدك أيها الآب رب السماء والأرض، لأنك أخفيت هذه عن الحكماء والفهماء وأعلنتها للأطفال"؟

"الله الذي هو غني في الرحمة". أن إلهنا غني في القدرة، والعظمة، والجلال، والحكمة. فهو غير محدود في ذاته وفي صفاته، لكن الرسول يحدثنا بنوع خاص عن غنى الله في الرحمة، فأيد بذلك قول إشعياء: "ليترك الشرير طريقه ورجل الإثم أفكاره، وليتب إلى الرب فيرحمه وإلى إلهنا لأنه يكثر الغفران" (إشعياء 55: 7)، وقول مرنم إسرائيل الحلو: "الرب رحيم ورؤوف طويل الروح وكثير الرحمة" (مزمور 102: 8).

"الله الذي هو غني في الرحمة" –في الأصحاح الأول، عرَّفنا الرسول إن علة اختيارنا للتبني هي مسرة مشيئة الله، لكنه في هذا الأصحاح الثاني أظهر أن علة خلاصنا هي "محبة الله المتفاضلة". على أنها علة ثانوية. لكن العلة الأساسية هي الله نفسه، بدليل قول الرسول: "الله الذي هو غني في الرحمة" فنحن مدينون كثيراً لرحمة الله، ومحبته، ونعمته. لكن ديننا لإله الرحمة، والمحبة، والنعمة، أجلّ وأكبر. فالرحمة لم تخلصنا، لكن الله الذي هو غني في الرحمة، هو الذي خلصنا، وأحيانا بعد أن كنا أمواتاً بالذنوب والخطايا. فوراء التبني، الاختيار. ووراء الاختيار، مسرة المشيئة الإلهية. وراء المشيئة الإلهية، النعمة المجانية. ووراء النعمة المجانية، المحبة الإلهية. ووراء المحبة الإلهية، الله المحب.

إن محبة الله الموصوفة هنا، ليست محبته العامة لجميع الناس المعبّر عنها بإحسانه ولطفه (تيطس 3: 4)، وإنما هي عاطفته القلبية التي اختص بها أبناءه المؤمنين به، الذين هم اسرايئله الروحي المختار "إياك قد اختار الرب إلهك لتكون له شعباً أخص من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض. ليس من كونهم أكثر من سائر الشعوب التصق الرب بكم واختاركم لأنكم أقلّ من سائر الشعوب. بل من محبة الرب إياكم وحفظه القسم الذي أقسم لآبائكم أخرجكم الرب بيد شديدة وفداكم من بيت العبودية من يد فرعون ملك مصر" (تث 7: 6- 8). لقد أحبنا لأنه أراد، وأراد لأنه أحب. فهو لا يعرف علة خارجة عن نفسه، ولا محركاً سوى ذاته، فهو الكائن بذاته، الذي يكون بذاته. وبهذا الاسم عُرف لإسرائيل قديماً:

هذا هو المثلث الرئيسي الذي يقوم عليه صرح التعاليم الإنجيلية –ضلعه الأول: رحمة الله الواسعة. والثاني: محبته المتفاضلة. والثالث: نعمته المجانية. وكلها تشير إلى حقيقة واحدة أساسية- هي أن الله يسرّ بالعطاء. لأن الإحسان من طبعه، وهو لا ينتظر من البشر إلا أن يقبلوا عطاياه بروح الشكر. وهو يسر بالعطاء أضعاف سرورنا نحن بالأخذ. فالإحسان من صفاته، والبذل من ميزاته. (تكلم الرسول عن إحدى نواحي غنى الله في 1: 18، فاطلب تفسيرها على صفحة 92).

عدد 5:

5وَنَحْنُ أَمْوَاتٌ بِالْخَطَايَا أَحْيَانَا مَعَ الْمَسِيحِ - بِالنِّعْمَةِ أَنْتُمْ مُخَلَّصُونَ

 -ج-ماهية عمل نعمة الله: "ونحن أموات بالخطايا أحيانا مع المسيح". عبر الرسول عن الحجر الأساسي في بناء عمل النعمة بكلمتين متماثلتين –إحداهما: "الحياة"، والثانية: "الخلاص". وقد استعملت كل منهما في مناسبة خاصة فأولاهما: "الحياة" استُعملت على اعتبار أننا كنا أمواتاً. والثانية: "الخلاص" استُعملت على اعتبار أننا كنا قبل إيماننا بالمسيح هالكين. وقد أبان الرسول في هذا العدد ثلاث حقائق –الأولى خاصة بالعامل الأولى في خلاصنا: "ونحن أموات بالخطايا أحيانا..."، والثانية خاصة بالقياس الأعلى لخلاصنا: "... مع المسيح" والثالثة تتعلق بالعلة الثانوية في خلاصنا: "بالنعمة أنتم مخلصون" في نور الحقيقة الأولى نعلم أن الخلاص من عمل الله أولاً وآخراً لأننا نحن البشر لم نفكر في هذا الخلاص، ولم نطلبه، ولم نسع إليه، لأن "الله خلصنا ونحن أموات بالذنوب والخطايا". والحقيقة الثانية ترينا أن قياس خلاصنا هو التمتع بالحياة الجديدة مع المسيح "... أحيانا مع المسيح". والحقيقة الثالثة تظهر لنا أن هذا الخلاص مجاني لأننا نلناه بالنعمة لا على سبيل الأجرة: "بالنعمة مخلصون" وجدير بالملاحظة أن كلمة "مخلصون" قد وردت في خاتمة هذا العدد بالصيغة الحالية التي تفيد الاستمرار المتجدد، على اعتبار أن الخلاص عملية مستمرة تتم على خطوات متتابعة، ولو أنها تبدأ في لحظة (1كو 15: 2، 2كو 2: 15). هذا هو الخلاص الذي يعتبر في بدايته تبريراً، وفي مجراه تقديساً، وفي كماله تمجيداً. فنحن إذاً متبررون بالنعمة، ومقدسون بالنعمة، وممجدون بالنعمة: إن دَيننا للنعمة التي أوصلتنا إلى منطقة الخلاص لا يزيد عن دَيننا للنعمة التي تحفظنا الآن لتوصلنا إلى ديار المجد.

عجيبة حقاً هذه المحبة السامية التي وجهها الله إلينا. وبها أحيانا ونحن أموات بسبب خطايانا. وأعجب منها. أن هذه المحبة لم تقف بنا عند حد الحياة المجردة، لكنها رفعتنا وسمت بنا إلى الحياة في أسمى مراتبها، وأرفع درجاتها إلى حياة المسيح نفسه "أحيانا مع المسيح". إنه لشرف عظيم لنا، أن يحيينا الله بواسطة المسيح، أو في المسيح، ولكن أن يحيينا مع المسيح –هذه نعمة ممتازة تشتهي الملائكة أن تتطلع عليها!!

هذا اختبار يحصل عليه المؤمن عند الولادة الجديدة التي هي انتقال من الموت إلى الحياة ومع أن المؤمن يكون في هذه الحياة عائشاً على هذه الأرض إلا أنه يكون شرعاً وحقاً، حياً مع المسيح في السماء: "لأنكم قدمتم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله". على أن كمال هذه الحال،لا يتحقق إلا عند التمجيد: "ومتى أظهر المسيح حياتنا، فحينئذٍ تظهرون أنتم أيضاً معه في المجد". في هذا تُعتبر قيامة المسيح من الأموات أساساً، ورمزاً، وقياساً، لقيامتنا الروحية: "إن كنتم قد قمتم مع المسيح" (كو 3: 1- 3، 2: 11- 15).

 فإذا كان موت المسيح قد أعتقنا من الموت الذي هو أجرة الخطية، فإن قيامة المسيح قد أدخلتنا إلى جدة الحياة التي يسودها الفرح، والرجاء والنصرة. إذاً لم تكن حياتنا الأولى التي كنا نحياها قبل إيماننا بالمسيح، سوى الموت بعينه (رومية 6: 4- 11، متى 16: 24- 26، يوحنا 12: 23- 26).

 إن كلمة: "مع" تعني اتحادنا الحي بالمسيح، باعتبار كوننا أعضاء في جسده الروحي، وهي تعينّ صلتنا الشرعية باعتبار كونه ضامن عهدنا وولينا. فبموته قد متنا معه، وبقيامته قمنا معه. هذا يؤيد قول المسيح لتلاميذه في خطابه الوداعي: "إني أنا حي فأنتم ستحيون" (يوحنا 14: 19).

 استعمل الرسول كلمة "مخلَّصون" بصيغة الفعل التام المتواصل لتفيد الاستمرار المتجدد لا بالصيغة الحاليَّة (كما في 1كو 1: 18، 15: 2، 2كو 2: !15، أعمال 2: 47) :"الذين يخلصون"، ولا بصيغة الماضي التام كما لو كان الخلاص فعلاً تم من جانب الله وحده دفعة واحدة كما في رومية 8: 4- "خلَصنا".

 الخلاص عملية كملت لكنها تتم على درجات متتابعة حتى تكمل في المجد. كصورة تمَّ التقاطها في لحظة لكنها تستغرق وقتاً حتى يظهر جمالها. هذا هو الخلاص الذي يعتبر عند التبرير بذرة، وفي التقديس شجرة، وفي التمجيد ثمرة ناضجة (1بطرس 1: 5، رومية 13: 11).

 أما الواسطة الثانوية لهذا الخلاص فهي النعمة. أوضحنا معنى هذه الكلمة في تفسير العدد الثاني من الأصحاح الأول. وجدير بالملاحظة، أن الله ما كان يريد أن يخلصنا بالنعمة لو كان في الإمكان أن نخلّص أنفسنا بقوتنا أو مجهودنا الذاتيّ. أما عجزنا عن تخليص أنفسنا، فظاهر من حالنا التي كنا عليها: "أمواتاً بالذنوب والخطايا"، ومن الحال التي صرنا إليها: "أحيانا مع المسيح". فلا حياة أصلية فينا، لكنها مستمدة من نبع "حياة المسيح".

 "بالنعمة أنتم مخلصون" –مرتين كرر الرسول هذه العبارة العذبة المرة الأولى في هذا العدد، والثانية في العدد الثامن، بعد أن أضاف إليها كلمة: "بالإيمان" ليبين أن الإيمان ليس عملاً نأتيه من جانبنا فنصير به مستحقين الخلاص كأجرة، وإنما هو بمثابة اليد المفتوحة التي تقبل عطايا الله. وأنَّى لميت أن يفتح يده! فإذاً نحن مدينون للنعمة الإلهية بالإيمان الذي هو اليد المفتوحة التي تقبل من المسيح هبة الخلاص. ولعل بولس كرر هذه العبارة ليجعل منها قراراً عذباً لأنشودة الخلاص المجاني. هذه هي الأنشودة التي مطلعها: "لستُ مستحقاً"، وختامها: "مستحق أنت... أن تأخذ الغنى والمجد والكرامة والقدرة"، وقلبها النابض "ليس من أعمال كيلا يفتخر أحد"!

 وهل من فضل لمتسوّل يمد يده ليقبل نعمة مقدمة إليه من مُحسنٍ كريم؟!

عدد 6:

6وَأَقَامَنَا مَعَهُ، وَأَجْلَسَنَا مَعَهُ فِي السَّمَاوِيَّاتِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ،

(3) قوة عمل إله النعمة (2: 6)

(أ‌) "أقامنا".. (ب) "أجلسنا"

إن الحياة التي وهبنا الله إياها بالنعمة ليست مجرد حياة هزيلة ضعيفة نقضيها على هذه الدنيا، لكنها حياة نتمتع بها مع المسيح يسوع في السماويات. فهي معه وإليه.إنه لجلي واضح أن كلمة: "أقامنا" ترجع بنا إلى قيامة المسيح من الأموات. وكلمة: "وأجلسنا معه" ترفع أفكارنا إلى صعود المسيح. فنحن إذاً شركاؤه في القيامة والصعود باعتبار كونه رأسنا، ورئيسنا، وفادينا، وولينا، ونائبنا. ولأجلنا مات وقام وعاش، وفيه متنا نحن وقمنا ونعيش، فأرواحنا عائشة معه في السماويات ظافرة منتصرة، وأجسادنا تتمشى على وجه هذه الدنيا، الملطخ بالدماء والدموع.

في العدد الثاني رأينا المؤمن في ماضيه سالكاً "حسب دهر هذا العالم" والآن نراه جالساً متربعاً على عرش المسيح في الأعالي.

هذه حالة، وإن تكن مستقبلة في تمامها، إلا أنها حاضرة في فعلها فهي تعيّن موقف المؤمن كظافر منتصر فوق رئيس سلطان هواء، الروح الذي يعمل الآن في أبناء المعصية.

إن قوله "في المسيح" يبين أن قيامة المسيح وصعوده وتمجيده، لها صلة حية بكنيسته على الأرض، إذ هي عربون! وحجة، وضمان، وأساس قيامة الكنيسة، صعودها، وتمجيدها.

(قابل هذا بما جاء في لوقا 10: 18و 19).

لقد أوضحنا معنى كلمة: "في السماويات" في سياق تفسير العدد الثالث من الأصحاح الأول فاطلبها في موضعها.

قصد الله

عدد 7:

7لِيُظْهِرَ فِي الدُّهُورِ الآتِيَةِ غِنَى نِعْمَتِهِ الْفَائِقَ بِاللُّطْفِ عَلَيْنَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ.

قصد الله من عمل نعمته، ووقت إعلان هذا القصد، "ليظهر في الدهور الآتية غنى نعمته الفائق".

(أ) قصد الله من عمل نعمته: "ليظهر... غنى نعمته الفائق". لقد أحيانا الله وقدسنا، لا لأننا نستحق شيئاً من هذا، ولا لأننا قمنا من جانبنا بمجهود في هذا السبيل، بل لإظهار غنى نعمته المجانية. وكما أبان الرسول في الأصحاح الأول، أن الله اختارنا "لمدح مجد نعمته" (1: 6)، أظهر أيضاً في الأصحاح الثاني، أن الله خلّصنا وأحيانا "ليظهر غنى نعمته الفائق باللطف علينا".

(ب)وقت إعلان هذا القصد: "في الدهور الآتية". يراد ب"الدهور الآتية" العصور والحقب المتعاقبة التي تشهد تقدم ملكوت المسيح ورفع لوائه لا في هذا الدهر فقط بل في الأجيال العتيدة: "الآن وإلى كل الدهور". وليس من شك في أن "ملك الدهور وحده" هو العليم بما تتضمنه هذه العبارة من معان دفينة، يستتر جلها وراء حجب المستقبل الكثيفة. فمع أن الباعث لإله النعمة على عمل نعمته، هو لطفه علينا، إلا أن عمل نعمته ليس مقصوراً علينا. لكنه ذات صلة وثيقة بملائكة، ورؤساء في الدهور الآتية. وليس هو وقفاً على عصر معين لكنه يمتد إلى الدهور الآتية. هذا دليل على أنه عمل حيّ، فعَّال، دائم. وهل نستحق نحن البشر الساقطين أن نكون موضوع إعجاب الملائكة وتعجبهم "عند استعلان أبناء الله" (رومية 8: 19)؟

حقاً إن السموات تحدّث بمجد الله،والفلك يخبر بعمل يديه، وأن "أمور الله غير المنظورة تُرى منذ خلق العالم مدركة بالمصنوعات قدرته السرمدية ولاهوته" لكن جلال نعمته الفائقة، لا يُرى ظاهراً جلياً إلا في أشخاص المفديين الذين كانوا عمياناً فاستنيروا، وظلاماً فأناروا. هذه هي "اللوحة الحية" المتحركة التي يُستعرض عليها جلال نعمة الله الفائقة باللطف علينا. بقدر ما تعتبر هذه الحقيقة معظمة لله، ومظهرة جلال نعمته، نراها في الوقت نفسه، مظهرة ضعة الإنسان وحقارته، ومذكرة إياه على الدوام "بالنُّقرة" التي منها أخذ، والصخرة التي منها اقتُطع. وكأن الله يقول باستمرار للبشر "ليس من أجلكم وحدكم قد عملت هذا بل من أجل اسمي الذي دعي عليكم ولأجل مجدي"..."وكرامتي لا أعطيها لآخر".

(ج) صلة هذا القصد بالإنسان: "باللطف علينا". الكلمة الأصلية المترجمة "لطف" تعني حرفياً "التأهب لإغاثة الملهوف". وقد استعملت وصفاً لنعمة الله المترفقة بنا نحن الجهال، السريعة الخطى إلى المغفرة والصفح. وردت في لوقا 6: 35 وصفاً لجودة الله "المنعم على غير الشاكرين والأشرار" وجاءت في رومية 2: 4 مقترنة "بإمهال الله وطول أناته"، وفي رومية 11: 22 مضادة لشدة الله وصرامته. وفي تيطس 3: 4 مرتبطة بإحسان الله ولطفه.

يراد بقوله: "في المسيح يسوع" أن المسيح كان بحياته، وأعماله، وكلماته، ومماته، خير مترجم لنا عن لطف الله نحونا. هذا فضل شهدت به الأعداد: "هذا يقبل خطاة ويأكل معهم" (لوقا 15: 1)، "انظروا كيف كان يحبه" (يوحنا 11: 36). نعم إن لطف الله نحو البشر ظهر في الطبيعة، وما أعده الله فيها للإنسان من أسباب التمتع، إلا أن الطبيعة مشوبة بشيء غير قليل من الأمور القاسية التي لا نفهم لها قصداً خيرّاً –كالزلازل والبراكين. وظهر لطف الله أيضاً على لوحة العناية الإلهية التي تُلمَّ بكل شاردة وواردة في حياة الإنسان، لكننا كثيراً ما نرى على لوحة العناية أعمالاً نقف دونها حيارى –كآلام الطفولة البريئة، والمجاعات. لكننا نرى في حياة المسيح وموته عنا لطفاً لا تشوبه قسوة، ومحبة لا يتطرق إليها ظل من الفتور أو التغاضي، وتفانياً لا يعرف الوهن إليه باباً.

أسلوب عمل إله النعمة

 (2: 8- 10)

عدد 8:

8لأَنَّكُمْ بِالنِّعْمَةِ مُخَلَّصُونَ، بِالإِيمَانِ، وَذَلِكَ لَيْسَ مِنْكُمْ. هُوَ عَطِيَّةُ اللهِ.

-أ-علة خلاصنا- النعمة: "لأنكم بالنعمة مخلصون بالإيمان. وذلك ليس منكم هو عطية الله". هذا تقرير وتوكيد وتوضيح لما ذكره الرسول عرضاً في العدد الخامس. فأوضح هنا عقيدة الخلاص بالنعمة إيضاحاً ليس بعده من مزيد. ولئن كان قد سبق فكتب عن هذه الحقيقة بجلاء في رسالتي رومية وفيلبي (رومية 3: 27و 4: 25، في 3: 2- 9) إلا أن كتابته عنها في هذا العدد، أجلى وأوضح. فقد أبان بجلاء لا يأتيه الشك من إحدى نواحيه، إن عملية الخلاص كلها من عمل النعمة وحدها. فهي تبدأ بالنعمة، وتسير بالنعمة، وتُتوّج بالنعمة.فقد شاءت المسرة الإلهية أن لا تترك مجالاً للإنسان في عملية الفداء، لكي يعود كل المجد على الله وحده، كيلا يفتخر أمامه جسد ما. هذه الحقيقة قررها المسيح حين قال على الصليب: "قد أكمل"، فالوليمة السماوية أعدت من جانب الله، وما على الإنسان إلا أن يقبل الدعوة، ويتمتع بأفخر أطايب الوليمة –هذا القبول يعبّر عنه بالإيمان. لذلك يقول الرسول: "بالنعمة أنتم مخلصون بالإيمان". فالنعمة هي العامل الأساسي، والإيمان هو العامل الثانوي.

-ب-وسيلة قبولنا الخلاص: الإيمان. لئلا يخطر ببال أحد أن للإنسان فضلاً في إيمانه، فيتخذ منه أداة للفخر ويبني على أساسه صرحاً للبر الذاتي، عمل الرسول على هدم هذا الصرح من أساسه فقال. "وذلك –أي الإيمان- ليس منكم. هو عطية الله". وهل من فضل لمتسول يمد يده ليقبل العطية التي يجود بها عليه محسن كريم؟ ومع ذلك، فإذا جاز للمتسول أن يفخر بيده الممدودة لتناول الإحسان، فلا يجوز قطعاً لإنسان مفتدى بالدم الكريم، أن يفتخر بإيمانه، لأن "الإيمان ليس منه. هو عطية الله". ويمكننا أن نتحقق ذلك جيداً، متى ذكرنا أن الخلاص مقدم للإنسان وهو ميت بالذنوب والخطايا، وأنىّ لميت أن يحرك يداً أو أن يظهر استعداداً وقابلية؟! على إتمام إرادته الصالحة: "لأن الله هو العامل فيكم أن تريدوا...من أجل المسرة" (اطلب 2كو 4: 13، فيلبي 2: 13). ولعل الإيمان عنصر من العناصر المكملة للتوبة الحقيقية التي تقوم بتغيير فكر الإنسان فيرفض إرادته الذاتية ويعتنق إرادة الله من جهته (أعمال 5: 31، 2تي 2: 25).

يعتقد بعض المفسرين –وبينهم كلفن- أن كلمة: "وذلك" تعود على كل الجملة التي بها يبدأ هذا العدد: "لأنكم بالنعمة مخلَّصون"، لا على كلمة: "الإيمان" وحدها. والظاهر أن وضع العبارة في اللغة الأصلية يجيز لنا أن نحسبها وصفاً للإيمان أو للخلاص. وعلى كلٍ، فجوهر المعنى في كلا الحالين واحد (قارن هذا بما جاء في رومية 3: 27و 28، 4: 14- 16).

عدد 9:

9لَيْسَ مِنْ أَعْمَالٍ كَيْلاَ يَفْتَخِرَ أَحَدٌ.

-ج-غاية خلاصنا- تمجيد الله وحده "ليس من أعمال كيلا يفتخر أحد". هذا صدى الصوت القوي الذي رفعه بولس عالياً في العدد السابق، وهو قرار الأنشودة التي تغنى بها الرسول في رسالتي رومية (ص 4) وغلاطية (ص 3)، فأبان الرسول في هذا العدد، أن الإيمان الخلاصي، أو الخلاص بما فيه الإيمان، ليس ثمرة مجهود بشري، ولا هو أجرة على عمل أتاه الإنسان أو سيأتيه، وإلا كان سبباً للفخر، وداعياً للارتكان على عكاز الاستحقاق الذاتي –بذلك تبطل النعمة، لأن الإنسان لم يعد بعد في حاجة إليها، فتنعكس الآية ويتمجد الإنسان، وينسى إله النعم والخيرات. من أجل ذلك أراد الرسول أن ينتزع هذا الوهم انتزاعاً، فبين حقيقة الحال، إذ قال: "ليس من أعمال كيلا يفتخر أحد" (قابل هذا بما جاء في رومية 3: 27، 1كو1: 29، 74، غلاطية 6: 14 وفيلبي 3: 3). وفي هذه الأمور مجتمعة معاً، تتجلى لنا غيرة الرسول المتقدة على مجد الله، وجلال نعمته، كيلا يرتفع رأس في حضرة الله، ولكي تكون أنشودة كل إنسان مكونة من مقطعين –أحدهما "لست مستحقاً" وثانيهما: "مستحق أنت".

ثمر الخلاص

عدد 10:

 10لأَنَّنَا نَحْنُ عَمَلُهُ، مَخْلُوقِينَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَعْمَالٍ صَالِحَةٍ، قَدْ سَبَقَ اللهُ فَأَعَدَّهَا لِكَيْ نَسْلُكَ فِيهَا.

-د-ثمر خلاصنا أو القصيدة الإلهية المجيدة:

"لأننا نحن عمله.... لأعمال صالحة معدّة"

"لأننا نحن عمله" –وفي اللغة الأصلية "قصيدته"- "مخلوقين في المسيح يسوع لأعمال صالحة قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها".

هذه حجة قوية، قصد الرسول أن يدعم بها حقيقة الخلاص بالنعمة، مبيناً بها أن لا فضل للإنسان في الأعمال الصالحة التي تصدر عنه، لأن الإنسان مدين لله بكيانه الروحي المطلق. وما دام أصل الشجرة ديناً، فكل ثمارها ديون مركبة. فالإله المنعم قد خلقنا خليقة جديدة، وأهلنا بحكمة وقوة لكي نعرف إرادته الصالحة وننفذها في حياتنا، وفق برنامج معين قصده الله بنا. فإذا ما أتممنا برنامجاً مرسوماً لنا، فلا فضل لنا ولا فخر، لأننا لم نرسمه لأنفسنا، لكنه مخلوق لنا ونحن له مخلوقون، ولولا حرصنا على ما للإنسان من حرية إرادة لقلنا أننا لم نرده لأنفسنا لكن الله أراده لنا وأرادنا له، قبل أن يكون لنا كيان أو إرادة. هذه هي الأعمال الصالحة التي سبق الله فأعدها لكي يسلك فيها، إذاً لم تكن لنا يد في إعداد هذا الطريق ولا في تعبيده، ولا فخر لنا في هذه الأعمال الصالحة، لأنها تصدر عن طبيعتنا المتجددة عفواً واختياراً، لا قهراً واضطراراً. فكما أن التنفس عمل طبيعي تأتيه الرئتان السليمتان، وكما أن الهضم عمل طبيعي تقوم به المعدة السليمة، كذلك تعتبر هذه الأعمال الصالحة من مستلزمات الطبيعة المتجددة "المخلوقة في الله حسب البر وقداسة الحق". فإذا كنا نحسب يوماً أننا أتينا هذه الأعمال لله، فإننا قد أتيناها أيضاً بالله ومن الله. فإذا ذكرنا "أعمالنا" فلا ننسَ "عمله" الذي هو "نحن وأعمالنا".

ويهمنا أن نذكر أننا وإن كنا لم نخلص بسبب هذه الأعمال الصالحة، إلا أننا قد خلصنا لها، فهي ليست علة خلاصنا، لكنها ثمرة خلاصنا.

وجميل بنا أن نلاحظ أن الكلمة التي تُرجمت من الأصل اليوناني إلى: "عمله" قد تترجم حرفياً إلى: "قصيدته" –شعره. هذه حقيقة ممتازة تدعو إلى شكر الله وحمده. لأنها تعلمنا ضمناً، إننا تعبير جميل عن إرادته الصالحة، وأفكاره الجميلة، وتصوراته القدسية –لأننا "قصيدته". فإذا كانت ملائكة السماء قد ترنمت وقت الخليقة الأولى، فإن الله نفسه قد فرح مترنماً عندما خلقنا الخليقة الجديدة "فيالعمق غنى الله، وحكمته وعلمه! ما أبعد أحكامه عن الفحص وطرقه عن الاستقصاء لأنه من عرف فكر الرب أو من صار له مشيراً. أو من سبق فأعطاه ليكافأ لأن منه وبه وله كل الأشياء. له المجد إلى الأبد. آمين".

هذه ثالث مرة وردت فيها العبارة: "في المسيح يسوع" في خلال الخمسة الأعداد الفائتة. فالله قد أقامنا وأحيانا "في المسيح يسوع"، ليظهر غنى نعمته الفائق باللطف علينا "في المسيح يسوع"، لأننا نحن عمله مخلوقين "في المسيح يسوع".

بين عهدين: أو دخول الأمم إلى ملكوت النعمة

(3: 11- 12)

جدير بنا، وقد قطعنا مرحلةً كهذه في ميدان هذه الرسالة، أن نستوقف أنفسنا قليلاً لنُلقي نظرةً عاجلةً على ما مرَّ بنا، لنتبين الخيط المنطقي الدقيق الذي يربط ما مضى منها بما يأتي.

في منتصف الأصحاح الأول، رأينا بولس الرسول ساجداً مصلياً لأجل المكتوب إليهم، كي يعطيهم الله "روح الحكمة والإعلان في معرفته. ليعلموا ما هو رجاء دعوته وما هو غنى مجد ميراثه في القديسين. وما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين" –تلك القدرة التي تجلت في إقامة المسيح من الأموات وفي إقامة المؤمنين معه، ورفعهم، وإجلاسهم معه في السماويات. لأن قيامة الرأس عربون وضمان، وحجة لقيامة الجسد، إذ لا يمكن فصل الجسد عن رأسه الحيّ.

وكان من نتائج هذه الرفعة وهذا السمو، أن الرسول أماط اللثام عن أمجاد المؤمنين،فأرانا إياهم في غرة الأصحاح الثاني مرتفعين فوق " دهر هذا العالم"، متحرّرين من سلطة "رئيس سلطان الهواء"، متسلطين على "مشيئات الجسد والأفكار". لأنهم "في السماويات" مقيمون. ولو أن أجسادهم تتمشى على هذه الأرض الدنيا. وفوق ذلك، فقد أصبحوا جميعاً متمتعين بوحدانية مقدسة أزالت ما بينهم من فوارق.

غير أن الرسول أراد أن يذكر المكتوب إليهم بحالهم الأولى الوضيعة، كي يجعل نصب أعينهم مجد الله الذي تجلى في نعمته المجانية التي أغدقها بكل حكمة وفطنة على اليهود والأمم على السواء.

ومع أن المفاضلة غير جائزة في باب النعمة، لأن النعمة شملت اليهوديّ والأمميّ، وكلاهما ميت بالذنوب والخطايا –ولا مفاضلة بين درجات الموت- إلا أن اليهوديّ قد خص بمزايا اجتماعية ودينية كان الأمميّ محروماً منها. فمن هذه الوجهة يعتبر دين النعمة على الأمميّ أثقل منه على اليهودي. لذلك قصد الرسول: أولاً –أن يذكر الأمميين بمعدنهم الأصلي الذي أخذوا منه، وبالصخرة الأولى التي منها نقروا- في ماضيهم (2: 11و 12). ثانياً –أن يحيطهم علماً بالسلام الذي هم فيه مقيمون- في حاضرهم (2: 13- 18). ثالثاً –أن يجعل نصب أعينهم الغاية المجيدة التي أعدهم الله لها- في مستقبلهم (2: 19- 22). فماضيهم، ظاهر في قوله: "قبلاً". وحاضرهم، بيّن في كلمة. "الآن". ومستقبلهم، واضح في كلمة. "ينمو".

عدد 11و 12 :

11لِذَلِكَ اذْكُرُوا أَنَّكُمْ أَنْتُمُ الأُمَمُ قَبْلاً فِي الْجَسَدِ، الْمَدْعُوِّينَ غُرْلَةً مِنَ الْمَدْعُوِّ خِتَاناً مَصْنُوعاً بِالْيَدِ فِي الْجَسَدِ، 12أَنَّكُمْ كُنْتُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِدُونِ مَسِيحٍ، أَجْنَبِيِّينَ عَنْ رَعَوِيَّةِ إِسْرَائِيلَ، وَغُرَبَاءَ عَنْ عُهُودِ الْمَوْعِدِ، لاَ رَجَاءَ لَكُمْ وَبِلاَ إِلَهٍ فِي الْعَالَمِ.

أولاً: الرسول يذكر الأمم بمعدنهم الأصلي الذي منه جُبلوا –في الماضي (2: 11و 12)

"لذلك اذكروا أنكم أنتم الأمم قبلاً... والآن"!! من ذكر ماضيه المظلم، شكر الله على حاضره النيّر. هذا هو الدرس الذي أراد الرسول أن يطبعه على قلوب قارئيه من الأمم. فمن المحقق أن ضياء صفحة النعمة اللامع، يزداد تألقاً ولمعاناً إذا ما انعكس على سواد صفحة الذنوب والمعاصي. وبضدها تتبيّن الأشياء.

ومن المسلّم به، أننا نحن الأمميين العائشين في القرن العشرين، لا نستطيع أن نقدّر الحرمان العظيم الذي كان واقعاً على الأمم قديماً، فقد كانوا في نظر اليهود من سقط المتاع، المزدري والغير الموجود. فما كان اليهوديّ ليأكل طعامه إذا وقع عليه ظل إنسان أممي. وقد ذكر بولس نفسه –وهو رسول الأمم- أن اليهود كانوا متمتعين بمزايا جمة لا يستهان بها:

"... لهم التبني، والمجد، والعهود، والاشتراع، والعبادة، والمواعيد. ولهم الآباء ومنهم المسيح حسب الجسد الكائن على الكل إلهاً مباركاً إلى الأبد آمين". لكن هذه المعركة الحامية التي ظلت نيرانها مستعرة بين اليهود والأمم بسبب الامتيازات المتمتع بها الأولون والمحروم منها الآخرون، قد خمدت نيرانها. لأن كل هذه القرون المتعاقبة قد كسرت حدة الخلافات الكثيرة التي كانت قائمة بين اليهود والأمم.ولقد كانت حرب المفاضلة بين اليهود والأمم على أشدها في منتصف القرن الأول للميلاد، فيها كانت كفة اليهود راجحة لدرجة جُبن أمامها بطرس الرسول، الذي كان متصفاً بالشجاعة والإقدام، فاضطر بولس الرسول "أن يقاومه مواجهة لأنه كان ملوماً. لأنه قبلما أتى قوم من عند يعقوب كان بطرس يأكل مع الأمم. ولكن لما أتوا كان يؤخر ويفرز نفسه خائفاً من الذين هم من الختان. وراءى معه باقي اليهود أيضاً حتى أن برنابا أيضاً انقاد إلى ريائهم" (غلاطية 1: 10- 13). فلا غرابة إذا كان الأمميون يحسبون مساواتهم باليهود نعمة ممتازة، يذكرونها فيشكرون الله عليها. وكان بولس الرسول يعلم ذلك حق العلم سيما وأن الأمم كانوا قد ظفروا بهذه المزايا حديثاً، لذلك أراد أن يذكرهم بماضيهم القريب، فقال لهم: "اذكروا... ". وقد ذكر الرسول في هذين العددين (11و 12) بضع مزايا كان الأمميون محرومين منها –واحدة جسدية- ميزة الختان (عدد 11). وواحدة اجتماعية ظاهرة، في قوله "بدون مسيح". "أجنبيين عن رعوية إسرائيل" وأربعاً روحية ظاهرة، في قوله: "غرباء عن عهود الموعد". "لا رجاء لهم". "وبلا إله. في العالم".

إن ذكر الماضي الوضيع، يرفع الإنسان إلى حصن الشكر المنيع. حسناً قال إرميا قديماً: "أردّد هذا في قلبي. من أجل ذلك أرجو. أنه من إحسانات الرب أننا لم نفن لأن مراحمه لا تزول. هي جديدة في كل صباح. كثيرة أمانتك. نصيبي هو الرب قالت نفسي. من أجل ذلك أرجو" حسناً قيل عن أحد كبار أهل الغرب العصاميين أنه بعد أن رفعه مليكه إلى مرتبة الأشراف، كان يحتفظ في غرفة استقباله، أيام عزه وغناه. بتلك المنطقة التي كان يتمنطق بها في أيام بؤسه وبلواه.

فالذكرى تنفع من يريد أن ينتفع، وهي أيضاً ترفع من يبغي أن يسمو بها ويرتفع.

عدد 11 :

11لِذَلِكَ اذْكُرُوا أَنَّكُمْ أَنْتُمُ الأُمَمُ قَبْلاً فِي الْجَسَدِ، الْمَدْعُوِّينَ غُرْلَةً مِنَ الْمَدْعُوِّ خِتَاناً مَصْنُوعاً بِالْيَدِ فِي الْجَسَدِ،

-أ-الميزة الأولى- الميزة الجسدية- التي كان الأمميون محرومين منها، وكان اليهود يفتخرون بها عليهم-الختان.يلوح لنا أن الرسول –وقد أضحى الآن رسول الأمم- لا يعتقد أن في هذه العلامة الجسدية ما يميز جماعة عن جماعة أخرى في ملكوت النعمة. لذلك استعمل لهجة تهكمية لاذعة إذ قال: "المدعوين غرلة من المدعو ختاناً، مصنوعاً باليد في الجسد" –فهي إذاً ميزة عرضية، جسدية، اسمية، لا هي جوهرية، ولا روحية، ولا حقيقية بدليل تكرار كلمة "في الجسد" مرتين في هذا العدد. هذا مؤيد لكلام الرسول في رومية 2: 28و 29 "لأن اليهودي في الظاهر ليس هو يهودياً ولا الختان الذي هو في اللحم ختاناً. بل اليهودي في الخفاء هو اليهودي، وختان القلب بالروح لا بالكتاب هو الختان الذي مدحه" –وفي الأصل "يهوديته"- "ليس من الناس بل من الله". فالميزة الحقيقية هي الميلاد الثاني الذي تبدعه يد الله في القلب، بخلاف الختان الذي تجريه يد إنسان في الجسد. فالختان إذاً ليس سوى ميزة في عُرف اليهودي لا في عُرف الحقيقة والواقع: "المدعوين غرلة من المدعو ختاناً" –يؤيد هذا قول التلمود. إن الفريسيين كانوا يلقبون أنفسهم "بالختان" والأمميين ب"الغرلة".

عدد 12:

12أَنَّكُمْ كُنْتُمْ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بِدُونِ مَسِيحٍ، أَجْنَبِيِّينَ عَنْ رَعَوِيَّةِ إِسْرَائِيلَ، وَغُرَبَاءَ عَنْ عُهُودِ الْمَوْعِدِ، لاَ رَجَاءَ لَكُمْ وَبِلاَ إِلَهٍ فِي الْعَالَمِ.

خلاصة المزايا الحقيقية التي نالها الأمميون. "إنكم كنتم في ذلك الوقت بدون مسيح" بعد أن فرغ الرسول من الكلام عن الختان الذي كان يحسبه اليهود ميزة عظمى يتفاخرون بها على الأمم –ولم يكن الرسول نفسه يشاطرهم هذا الرأي اعتقاداً منه أن الختان علامة جسدية ليست ذات بال ولا خطر في ملكوت الله الروحي- انتقل إلى الكلام عن المزايا الحقيقية التي كان الأمميون محرومين منها قبل إتيانهم إلى المسيح. وقد أجمل هذه المزايا في كلمتين: "بدون مسيح". فأجاد الرسول كل الإجادة إذ جمع كل المزايا الاجتماعية والروحية التي كان الأمميون محرومين منها، في هذه العبارة الموجزة، الجامعة، المانعة: "بدون مسيح". هذا بحر خضم من المزايا مركزة في قطرة. بل قصيدة خالدة مجملة في شطرة.

"بدون مسيح" – وماذا يتبقى بعد هذا؟! قد يعيش إنسان بغير عينين،وقد يسلك الأعمى بغير عكاز، وقد يحيا الجسد بغير قلب- أما أن يكون إنسان "بدون مسيح"، فهذا جحيم مقيم! قد تعيش أمة بغير حكام، وقد يحكم حكام بغير برلمان، وقد ينعقد برلمان بغير دستور –أما أن تكون أمة "بدون مسيح"، فهذا فناء وإعدام! قد يسافر مسافر في قلب الصحراء بغير جرة، وقد يحمل جرة على ظهره بغير ماء، أما أن يكون الإنسان مسافراً في برية هذا الوجود "بدون مسيح" فهذا انتحار محقق! قد يستغني سكان الغبراء عن نور الشمس في النهار. وقد لا يحتاجون إلى ضوء القمر في الليل، وقد يعيشون طوال أعوامهم من غير أن يروا ربيعاً في الحياة فيجمدوا في الشتاء، ويذوبوا في الصيف، ويفنوا في الخريف، لكن أن يكون الإنسان "بدون مسيح" فهذا هو الموت الزؤام!

"بدون مسيح" –هذه خلاصة المزايا الحقيقية التي كان الأمميون محرومين منها- ومنها تتفرع سائر المزايا- اجتماعية كانت أم روحية: فالمسيح هو منبع كل المزايا الاجتماعية، ومصدر كل البركات الروحية.

(ب)المزية الاجتماعية: "أجنبيين عن رعوية إسرائيل" –الكلمة المترجمة "أجنبيين" يجوز أن تترجم حرفياً إلى "مُبعَدين"، وهي ذات الكلمة المترجمة "متجنبون" في 4: 18. إن قوله: "عن رعوية إسرائيل" يرسم أمامنا صورة جماعة منتظمة تحت لواء ملك عظيم قد منحهم حقوقاً اجتماعية ومزايا مدنية باعتبار كونهم رعاياه. كذلك كانت الأمة الإسرائيلية قديماً حين كان الرب إلهاً لها وملكاً ومشيراً وحامياً. ولعل الرسول نظر إلى الأمة الإسرائيلية باعتبار كونها رعية "لمسيّا"، بدليل قوله: "أجنبيين عن رعوية إسرائيل"، كتعقيب، وشرح، ونتيجة لقوله: "بدون مسيح".

إننا مدينون للوقا الطبيب كاتب سفر الأعمال بحوار دار بين بولس وأمير، يلقي ضوءاً على كلمة: "رعوية" –فجاء الأمير وقال له قل لي. أنت روماني. فقال : نعم. فأجاب الأمير: أما أنا فبمبلغ كبير اقتنيت هذه الرعوية. فقال بولس:أما أنا فقد وُلِدت فيها" (أعمال 22: 27و 28). فالأمميون كانوا أجنبيين عن رعوية إسرائيل لأنهم لم يولدوا فيها ولم يكن لهم سبيل إلى اقتنائها وهم أمميون. ولعل أقرب كلمة إليها في عصرنا الحاضر، هي: "حرية المدينة" أو "تقدير الوطن".

(ج)أولى المزايا الروحية: "وغرباء في عهود الموعد". الموعد واحد لكن عهوده كثيرة. هو وعد الله لإبراهيم: "تتبارك فيك جميع قبائل الأرض" (تكوين 12: 3، 22: 18). لكن العهود التي قطعها الله مع شعبه بمناسبة هذا الموعد، كثيرة العدد. فمنها: عهده مع إبراهيم، وموسى، ولاوي، وداود، ويشوع. وجدير بالملاحظة، أن "الموعد" لم يكن مقصوراً على الأمة الإسرائيلية، لكنه تناول "جميع قبائل الأرض". وما كان بنوا إسرائيل سوى أداة إيصال بركة الله إلى "جميع قبائل الأرض". لذلك حُسب الأمم في نظر الرسول "مبعَدين عن رعوية إسرائيل"، "وغرباء عن عهود الموعد" على اعتبار أنهم كانوا أصحاب حق طبيعي فيه –حسب الموعد. لكنهم أُبعدوا عنه لكونهم "بدون مسيح". وفي هذا يقول الرسول: "فإن كنتم للمسيح، فأنتم إذاً نسل إبراهيم وحسب الموعد ورثة" (غلاطية 3: 29). فهو موعد الخلاص، والتبرير، والتبني، بالإيمان بالمسيح يسوع –هذه أولى المزايا الروحية التي كان الأمميون محرومين منها، بسبب بعدهم عن المسيح.

(د)المزية الروحية الثانية: "لا رجاء لكم" –إن خير مفسر لهذه العبارة هو ما قاله الرسول نفسه في 1تس 4: 13 "ثم لا أريد أن تجهلوا أيها الأخوة من جهة الراقدين لكي لا تحزنوا كالباقين الذين لا رجاء لهم". فالرجاء المقصود هنا، هو رجاء الخلود. نعم عند الأمم تصورات وانتظارات في الخلود، قد تكون أوهاماً وقد تكون آمالاً لأنها ليست مبنية على أساس يقيني ثابت، بخلاف الرجاء الوطيد الذي أبدعته حياة المسيح، وموته، وقيامته، في قلوب المؤمنين به. وأن من تتاح له فرصة الإطلاع على مؤلفات الرومان واليونان، في العصور الأولى، يتحقق جلياً مقدار الغموض والإبهام اللذين كانا مستوليين على عقولهم من جهة حقيقة الخلود. ويقول المؤرخون أنه في أبَّان حكم إسكندر الأكبر، كان هذا القول مأثوراً ومتداولاً على ألسنة حكماء اليونان، والسواد الأعظم فيهم: "الخير الأعظم: أن لا يولد الإنسان قط، والخير الذي يليه: أن يموت حالاً".

قد تكون كلمة: "لا رجاء لهم" غير مقصورة على رجاء الخلود، بل تتناول الحياة كلها وتصف نظرة الإنسان إلى الحياة بأسرها. لأن انعدام الرجاء في ما بعد الموت، ينعدم معه كل رجاء في الحياة. يتبين لنا ذلك، متى ذكرنا أن أقوال شعراء الرومان واليونان، وفلاسفتهم، في أيام بولس الرسول، كانت منصبة على أمجاد الماضي ومنسحبة على عظمة القرون السالفة. فكانوا يحسبون أن عصرهم الذهبي قد مضى وانقضى. لذلك ملوا الحاضر وأصبحوا بغير رجاء من جهة المستقبل. لأنه كان مظلماً أمام عقولهم المظلمة. بخلاف كتابات شعراء اليهود وأنبيائهم فإنها كانت منصرفة كلها إلى التغني بالأمجاد العتيدة، وتوقع استعلان أبناء الله، وانتظار المدينة التي لها الأساسات التي صانعها وبارئها الله، والاشتياق إلى مجيء "مسيّا" بمجده ظافراً منصوراً.

(ه)المزية الروحية الثالثة: "بلا إله". لقد عبد الوثنيون آلهة كثيرة وخضعوا لأرباب عديدين، لكنهم كانوا يجهلون الإله الواحد الحي الحقيقي الذي يطلب تخصيص القلب كله له. وإلا فهو بعيد عن القلب كلية. إن إله اليهود هو إله الأمم (رومية 3: 29). لكن هذه الحقيقة لم تكن قد أعلنت للأمم بعد: لأنهم كانوا بغير مسيح. فكانوا بغير إنجيل. فمع أن "معرفة الله كانت ظاهرة فيهم لأن الله أظهرها لهم" (رومية 1: 19)، إلا أنهم "لم يستحسنوا أن يبقوا الله في معرفتهم" (رومية 1: 28). ولعل العلة الرئيسية في كونهم "بلا إله"، هي أنهم لم يكونوا قد عرفوا بعد –من الإنجيل-أن إله اليهود هو هو إله الأمم.

ولكونهم "بلا إله" يسيطر على عقولهم، ويتسلط على قلوبهم، صارت مرتعاً للأفكار الدنسة، وأمست قلوبهم بؤرة لكل شر وفساد. "ففعلوا ما لا يليق مملوئين من كل إثم وزنا وشر وطمع وخبث، مشحونين حسداً وقتلاً وخصاماً ومكراً وسوءاً. نمامين مفترين، مبغضين لله، ثالبين متعظمين مدعين مبتدعين شروراً غير طائعين للوالدين. بلا فهم ولا عهد ولا حنو ولا رضى ولا رحمة".

الكلمة الأصلية المترجمة "إله" وردت هنا نكرة، وهي المرة الوحيدة التي وردت فيها بهذه الصيغة في العهد الجديد، ومنها اشتقت الكلمة الشائعة التي تعني "ملحد" أو "كافر". ومن الغريب أن المسيحيين الأولين كانوا يضطهدون من الوثنيين بحجة كونهم ملحدين وكفرة. مع أنهم هم الكفرة. فكأنما الإنسان يتبرع لغيره بالتهمة اللاصقة به هو دون سواه!!

كان الأمميون محرومين من كل هذه المزايا لأنهم كانوا "بدون مسيح" فحرمانهم من المسيح يترتب عليه حرمانهم من كل ميزة، وصلاح، ونعمة.

لأنهم "بدون مسيح"، أصبحوا "أجنبيين عن الرعوية الملكية"

ولأنهم "بدون مسيح"، أضحوا "غرباء عن عهود الموعد"

ولأنهم "بدون مسيح"، أمسوا "بلا رجاء"

ولأنهم كانوا "بدون مسيح"، باتوا "بلا إله" ([1])

ولأنهم كانوا "بدون مسيح"، تركوا "في العالم"

فالمسيح هو مصدر الحياة الوطنية الصحيحة، وهو مصدر الحياة الروحية الراقية، وهو منبع الرجاء الوطيد، وهو معلن لنا حقيقة الله، لأنه هو "الطريق والحق والحياة. فما من أحد يأتي إلى الآب إلا به".

ختام المأساة: "في العالم". إن هذه العبارة، وإن كانت غير قائمة بذاتها بل مرتبطة بسابقاتها، إلا أنها تعبير إيجابي مركز اختتمت به كل العبارات السلبية السابقة. فإذا كانت كلمة: "بدون مسيح" أساساً لكل الحرمان الذي أصاب الأمم، فإن كلمة "في العالم" قياس لكل نواحي حياتهم. فرعويتهم... في العالم... ورجاؤهم... في العالم، وإلههم... في العالم. ومعبودهم... في العالم. وهل تعلو المياه عن المستوى الذي منه تنحدر؟ هم من العالم –وفي العالم- فإلى العالم!!

"في العالم" –على عكس قوله: "في المسيح". من الطبيعي إن من كان بدون مسيح، يصبح مطروداً من العالم و"بلا إله". لأن هذا "العالم" قد وُضع في الشرير، وكل ما فيه مضاد للمسيح، لأن إله هذا الدهر قد أعمى أذهان غير المؤمنين بحجاب المادة الكثيف.

عدد 13 :

13وَلَكِنِ الآنَ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ، أَنْتُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ قَبْلاً بَعِيدِينَ صِرْتُمْ قَرِيبِينَ بِدَمِ الْمَسِيحِ.

 ثانياً: الرسول ينبه الأمم إلى السلام الذي هم فيه مقيمون في حاضرهم (2: 13- 18).

 جميل بالمرء أن يذكر ماضيه فلا تبرح عن باله الصخرة التي منها قطع: لكن انصراف الفكر إلى الماضي وحده، يجعل المرء منقطعاً عن مستقبله وحاضره، متحسراً على ما فات إن كان جميلاً مقبولاً، فزعاً منه إن كان قبيحاً مرذولاً، فليس من الحكمة أن يقضي الإنسان أعزَّ أوقات حاضره ليذرف الدموع السخية على الماء المهراق بالأمس. لأن ما مضى قد انقضى وفات. وأمام الإنسان حاضره، وما هو آتٍ آت. لذلك بعد أن فرغ الرسول من تذكير الأمم بماضيهم التعس، وجَّه أبصارهم وبصائرهم إلى حاضرهم المقدس فقال: ". ولكن الآن". وكما أن شقاوتهم الغابرة حلت بهم لكونهم "بدون مسيح"، كذلك سعادتهم الحاضرة أحاطت بهم لكونهم "في المسيح" فالبون العظيم الكائن بين الهاوية والسماء يعيّنه موقف الإنسان من المسيح –أهو "بدون مسيح" أم "في المسيح". "لذلك اذكروا أنكم كنتم في ذلك الوقت بدون مسيح أجنبيين.. في العالم... لكن الآن في المسيح... صرتم قريبين".

 يعتبر هذا العدد خير مفسر لما جاء في إشعياء 57: 19 "...سلام سلام للبعيد (الأممي)، وللقريب (اليهودي) قال الرب وسأشفيه". وفيه أجمل الرسول حقيقة السلام الذي صنعه المسيح بين الأممي واليهودي، ثمّ بينهما معاً وبين الله تعالى. وفي الأعداد التالية (2: 14- 18) فصّل الرسول ما أجمله في هذا العدد. فكأن هذا العدد هو المحور الذي عليه يدور هذا الفصل، وهو بمثابة مقدمة له. وفيه أبان الرسول ثلاثة أمور.

 -أ-الامتياز الحالي الذي يتمتع به الأمم: "ولكن الآن... صرتم قريبين"- هذا هو السلام الذي تم بينهم وبين اليهود، ثم بينهم واليهود معاً وبين الله كان الأمميون بعيدين عن المزايا اليهودية حساً ومعنى –تفصلهم عن بعضهم البعض فوارق وفواصل عدة، بعضها: جغرافي –لأن اليهود كانوا يركّزون كل شيء في اليهودية، ويركزون كل اليهودية في أورشليم وكان الأمميون –إلى عصر الرسول- بعيدين جغرافياً عن أورشليم. وبعض تلك الفواصل معنوي، روحي. فالأمميون كانوا يختلفون عن اليهود في تفكيرهم، وفي طقوس عبادتهم، وفي نظرتهم إلى الحياة بوجه عام سواء أكان في جانبها الشخصي أم الاجتماعي أم الديني وفوق ذلك، كان الأمميون أجنبيين عن الله في حقيقة حالهم، وفي خطاياهم التي أقاموها فاصلاً بينهم وبين إلههم وفي أفكارهم الحمقاء وقلوبهم الغبية (رومية 1: 21)، فحقّ إذاً لبولس أن يقول لهم: "ولكن الآن أنتم الذين كنتم قبلاً بعيدين". لأنهم كانوا بعيدين عن اليهود، بعيدين عن أنفسهم الحقيقية الشريفة (لوقا 15: 17)، بعيدين عن الله.

 -ب-مقامهم الحالي: "الآن في المسيح يسوع". أما مقامهم السابق فقد بيّنه الرسول في عبارتين سالفتين تبعد كلتاهما عن هذه بُعد الهاوية عن السماء. وقد وردت إحداهما في غرة العدد السابق: "بدون مسيح" وثانيهما في خاتمته: "في العالم". فالعامل الأساسي في هذا المقام الممتاز هو المسيح نفسه الذي أجرى سلاماً بين اليهود والأمم، ثم بينهما كليهما وبين الله. هذا مقام حي، بل صلة حيوية، كتلك التي بين الشجرة وأغصانها، وهي صلة نامية. لأن كل حي نام، فهي بالتالي صلة باقية. هذه صلتهم الجديدة بعد أن كانوا زيتونة برية، فطعموا في الكرمة الحقيقية، فصاروا رعية تحمل لواء "مسيّا" الملك الحقيقي.

 -ج-أساس مقامهم الحالي: "بدم المسيح". إذا كان المسيح هو العامل الأساسي في توحيد الأمم واليهود معاً، وفي مصالحتهما كليهما مع الله، فإن الدم هو الوسيلة التي بها أجرى المسيح هذه المصالحة بجانبيها. ويقول بعض العارفين بدخائل اللغة الأصلية: إن كلمة "بدم المسيح" يجوز أن تترجم إلى "في دم المسيح". في دم المسيح تمحى الفوارق التي تفصل بين الناس وبين بعضهم البعض. وفي دم المسيح تغسل الخطايا التي تقف حائلاً بين الله والناس.

 منذ العصور الأولى التي نشأت فيها البشرية على الأرض، كانت معاهدات الصلح تعقد وتختم بالدم. فالدم كان ختماً لكل محالفة تتم بين إنسان وإنسان، وأساساً لكل مصالحة تجرى بين الله والناس "هذا هو دم العهد الذي أوصاكم الله به.. والمسكن أيضاً وجميع آنية الخدمة رشها كذلك بالدم وكل شيء تقريباً يتطهر حسب الناموس بالدم، وبدون سفك دم لا تحصل مغفرة". فهذه المصالحة بين الله والناس هو عهد دم. وعهد التحالف بين فرد وفرد أو بين أمة وأمة هو عهد دم. قديماً كان هذا دم حملان وكباش، ولكن في ملء الزمان، جاء المسيح وقدم نفسه ذبيحة عنا نحن الخطاة، فأدخلنا بدمه إلى عهد جديد. من ثم قال لتلاميذه وقت العشاء الأخير: "هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي". ومع أن موته كان يُحسب في حينه علامة ضعف من جانب المسيح المصلوب، إلا أن قيامته قد بددّت كل شيء في نصرته، فأراقت نوراً خالداً على صليبه، وجعلت من صليبه أرفع أريكة لأرفع مليك، فصار دمُ الصليب دم المصالحة. فكأن المسيح إذ مد ذراعيه على الصليب، صالح أقاصي الأرض بأقاصيها، وضم سكان الأرض إلى قلب رب الأرض والسماء. فكأن جسد المسيح المصلوب صار تلك "السلم" التي ربطت الأرض بالسماء.

 هذا هو العهد الجديد الذي لم ينسخ العهد القديم بل أيده ووسع أفقه وجعله يضم القريبين والبعيدين معاً، بهذا اكتسب اليهود كثيراً من غير أن يخسروا شيئاً، إذ اكتسبوا أخوة آخرين وضموا إلى حظيرتهم رعية أخرى لم تكن أصلاً في حظيرتهم، وفي المسيح صارت لهم الأمم ميراثاً وأقاصي الأرض ملكاً. بهذا أيضاً اكتسب الأمم الشيء الكثير من غير أن يخسروا شيئاً إذ أصبحوا ضمن العائلة الواحدة المقدسة، وأضحوا في عداد بني الله وباتوا أحجاراً في الهيكل الإلهي الواحد، وأمسوا مطعمين في الكرمة الحقيقية بعد أن كانوا زيتونة برية، وصار لهم حق الدخول إلى الأقداس المجيدة ليتمتعوا بالشركة القدسية مع الله.

-------

[1] يقول يوستنيان "الشهيد" إن المسيحيين الأولين كانوا يضطهدون بحجة كونهم كافرين بالآلهة المتعددة فكان هو يذكر المضطهدين بأن سقراط أعدم بحجة كونه كافراً بالله الحي. وفي مناسبة تاريخية مشهورة، ارتدت سهام هذه التهمة إلى صدور الذين تبرعوا بها لسواهم، ذلك أنه لما حانت ساعة إعدام الشهيد وليكاربوس ناشده الحاكم بهذه الكلمات المأثورة: "أقسم بعظمة الإمبراطور وتب. وقل: مالي والملحدين (يعني المسيحيين) فليسقطوا!!" أما بوليكاربوس فقد أجابه إلى ما طلب بمعنى غير الذي قصد. لأنه التفت إلى جماعة الوثنيين –لا المسيحيين- ثم رفع يديه نحوهم وهتف بلهجة قاطعة: "مالي والملحدين (يعني الوثنيين) فليسقطوا"!! ولقد أصاب بوليكاربوس كبد الحقيقة لأن الملحدين حقاً هم الوثنيين الذين بلا إله".

سلامنا والمسيح

 (2: 14- 18)

 في هذا الفصل فصّل الرسول ما أجمله في العدد السابق في ثلاث حقائق:

 الحقيقة الأولى: السلام كعملية أجراها المسيح (2: 14 أ)

"لأنه هو سلامنا". النبرة في هذه العبارة واقعة على الكلمة الوسطى: "هو" ويجوز أن تترجم حرفياً إلى: "هو بنفسه" أو هو "هو لا سواه".قديماً تنبأ عنه إشعياء فلقبه ب"رئيس السلام" (إشعياء 9: 15). وفي يوم ميلاده هبطت على الأرض بشرى السلام: "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام وبالناس المسرة". وقبيل صلبه رأينا فيه واهب السلام ومعطيه لتلاميذه ومريديه: سلاماً أترك لكم سلامي أعطيكم". لكن بولس يحدثنا عنه في هذا العدد أنه "هو سلامنا". فشخصيته، وذاته، وطبيعته كلها سلام، وهو بنفسه رابطة السلام بين الناس والناس، وبين الله والناس، وشخصه الحي المجيد هو ضمان سلامنا، بل جوهر سلامنا، فالسلام مشتق منه ومنبعث، مثلما تنبعث أشعة الشمس من كلف الشمس انبعاثا طبيعياً. وهو أيضاً "سلامنا" لأننا لا نتمتع بالسلام، إلا إذا كنا فيه.

 إن كلمة: "سلامنا" تشير على الوئام والانسجام بين العنصرين الرئيسيين اللذين تتألف منهما كنيسة المسيح: "حيث ليس يهودي ولا يوناني..." (غلاطية 3: 28، كولوسي 3: 11)، ثم إلى السلام الشامل الذي تم بين رب السماء وساكني الأرض: لكن المعنى الأول هو المقصود على كلمة "الاثنين" في هذا العدد.

 الحقيقة الثانية: المسيح صانع سلامنا (2: 14ب- 16)

تتألف هذه الحقيقة الثانية من عنصرين رئيسيين: العنصر الأول: ماهية السلام الذي أجراه المسيح –وهذه عبر عنها الرسول بكلمتين رئيسيتين، وبكلمة تفصيلية. أما الكلمتان الرئيسيتان فقد وردتا بصيغة الماضي: "جعل" و"نقض" –أولاهما تفيد البناء، والثانية تفيد الهدم. فكل بناء حقيقي لا يخلو من هدم، وكل هدم حقيقي هو خطوة إلى البناء. وأما الكلمة التفصيلية والعنصر الثاني: غاية السلام الذي أجراه المسيح: "لكي يخلق... صانعاً ويصالح... قاتلاً"

14لأَنَّهُ هُوَ سَلاَمُنَا، الَّذِي جَعَلَ الِاثْنَيْنِ وَاحِداً، وَنَقَضَ حَائِطَ السِّيَاجِ الْمُتَوَسِّطَ

 العنصر الأول: ماهية السلام الذي أجراه المسيح معبّر عنها بعاملين:

(أ)عامل البناء في عملية السلام: "الذي جعل الاثنين واحداً". يراد ب"الاثنين" اليهود والأمم اللذين جعلهما المسيح "واحداً": فهو لم يجعل اليهودي أممياً ولا الأممي يهودياً، بل أنسى اليهودي يهوديته، وأنسى الأممي أمميته، وصار الاثنان يذكران أنهما مسيحيان قبل كل شيء، وفوق كل شيء، ويقول العارفون بأصول اللغة الأصلية: إن كلمتي: "الاثنين" "واحداً" وردتا بصيغة، لا مذكرة ولا مؤنثة، ويعتقد الدكتور مونود أنهما تعنيان نظامين أو هيئتين باعتبار أن المسيح جعل من هاتين الهيئتين المختلفتين –اليهود والأمم- هيئة واحدة، واتحاداً واحداً، ونظاماً واحداً وكتلة واحدة، وكلمة: "واحداً" تعني أيضاً "جوهراً واحداً" لأنها هي ذات الكلمة التي استعملها المسيح في قوله: "أنا والآب واحد" (يوحنا 10: 30).

 لسنا ندري هل وجدت بين العوامل الطبيعية مادة تصهر معدنين متباينين فتصيغ منهما معدناً واحداً. لكننا نعلم علم اليقين أن المسيح قد استطاع بدمه الثمين أن يصوغ من اليهود والأمم –اللذين لا يقبلان نماذجاً بطبيعتهما- معدناً واحداً صافياً، إذ أمعنت النظر فيه ألفيته عنصراً واحداً.

 (ب)عامل الهدم في عملية السلام: "ونقض حائط السياج المتوسط". لكي نفهم المراد من هذه العبارة، يجب أن نرجع بأفكارنا على الحالة التي كان عليها الهيكل وقت كتابة هذه الرسالة. فمن المسلم به، أن هيرودس الأكبر أضاف إلى الهيكل قطعة فسيحة من الأرض كانت مؤلفة من دار متداخلة في دار، حتى تصل إلى القدس، ومنه إلى قدس الأقداس. وكانت كل دار تزيد في درجة "القدسية" عن الدار الخارجة عنها، حتى تنتهي إلى قدس الأقداس –الذي لا يُسمح بدخوله إلا لرئيس الكهنة وحده، مرة واحدة في السنة. وأما القدس فكان يسمح للكاهن بدخوله يومياً ليحرق البخور على مذبح المحرقة وقت تقديم ذبيحتي الصباح والمساء. وكانت تُقدم هاتان الذبيحتان في دار الكهنة على مذبح المحرقة. وخارج هذه الدار، داران أخريان: إحداهما –وهي الملاصقة لدار الكهنة مباشرة- تسمى "دار بني إسرائيل"، والثانية –وهي خارج الأولى شرقاً- تسمى "دار النساء"

 كل هذه الأمكنة –قدس الأقداس، والقدس، ودار الكهنة، ودار بني إسرائيل، ودار النساء –كانت مقامة على مستوى عال حساً ومعنى- ينتهي في عدة مواضع منه إلى خمس درجات تؤدي إلى أبواب مفتوحة في جدار مرتفع، تتصل به منصة ضيقة تشرف على دار خارجية فسيحة. وهذه الدار الخارجية كانت مخصصة للأمميين الذين يريدون أن يجتلوا محاسن أمجاد هيكل اليهود،أو أن يقدموا ذبائح وتقدمات لإله إسرائيل –ولكن لم يكن مسموحاً لهم بحال، أن يتخطوا هذا الحائط الذي كان يفصل هذه الدار عن الهيكل. وكل من تحدثه نفسه باقتحام ذلك الحائط يقع تحت طائلة الإعدام. ومبالغة في التحوط، لمنع الأمم من أن يمسوا الجدار المرتفع ذات الأبواب، أقام اليهود حائط سياج منحوتاً من حجر، مطوّفاً أبنية الهيكل، يبلغ ارتفاعه نحو خمسة أقدام. هذا هو الحد الفاصل الذي كان قائماً بين الأمم واليهود، كما حدثنا عنه يوسيفوس في "سفر الآثار" هذا هو حائط السياج المتوسط الذي قصده بولس في هذا العدد. ويقول علماء الآثار إن جماعة من المستكشفين في فلسطين، رفعوا الردم أخيراً عن أحد الأعمدة، وقد كان مقاماً فوق ذلك السياج المتوسط –وهو محفوظ الآن في الأستانة- منقوشة عليه هذه الكلمات باللغة اليونانية:

"لا يجوز لإنسان ما، من أمة أجنبية، أن يتخطى هذا السياج ويجتاز منه إلى الهيكل. وكل من يجسر على اقتراف هذا الذنب، ويُقبض عليه، يكون هو الجاني على نفسه".

ويقول كاتب سفر "الأعمال" إن يهود أورشليم ثارت ثائرتهم على بولس الرسول لأنهم ظنوه أخذ تروفيموس الأفسسي وأدخله إلى الهيكل مجتازاً به حائط السياج المتوسط (أعمال 21: 28- 30).

إن "حائط السياج المتوسط" لم يكن موجوداً في الهيكل فقط، بل كان قائماً في قلوب اليهود، فمنع دخول الأمم إليها –هذا هو الحائط المعنوي الذي يفوق في سمكه ذلك الحائط الحجري. وكم من مرة يكون فيه اللحم أقسى من الحجر!!

ومع أن "حائط السياج المتوسط" هذا، كان لم يزل بعد قائماً بأعمدته المنقوشة، حتى كتابة هذه الرسالة، إلا أن المعنى الذي يرمز إليه، كان قد زال مذ أن انشق حجاب الهيكل، والمسيح معلق على الصليب. فمع أن الحجارة المادية كانت قائمة وقتئذٍ، إلا أن معناها الجوهري كان قد زال. وبعد كتابة هذه الرسالة بقليل، تهدَّم الجدار فعلاً، ولم يبقَ فيه حجر على حجر. فزال الرمز والمرموز إليه كلاهما.

أما المعنى المراد من "نقض حائط السياج المتوسط" فقد زاده بولس وضوحاً وجلاء في العدد التالي –الذي يعتبر جملة تفسيرية لهذا العدد ولسابقه.

عدد 15 :

15أَيِ الْعَدَاوَةَ. مُبْطِلاً بِجَسَدِهِ نَامُوسَ الْوَصَايَا فِي فَرَائِضَ، لِكَيْ يَخْلُقَ الِاثْنَيْنِ فِي نَفْسِهِ إِنْسَاناً وَاحِداً جَدِيداً، صَانِعاً سَلاَماً،

جملة تفسيرية: (2: 15 أ) "أي العداوة. مبطلاً بجسده ناموس الوصايا في فرائض". يحدثنا الرسول في هذه العبارة عن أمرين:

أولهما: ما أبطله المسيح: "ناموس الوصايا"

ثانيهما: أداة إبطاله: "بجسده"

-أ-ما أبطله المسيح: "ناموس الوصايا". إن المسيح، إذ نقض حائط السياج المتوسط بين الأمم واليهود، استأصل العداوة التي كانت متأصلة بينهما. ولقد أبطل المسيح هذه العداوة إذ أبطل العلة الأساسية لها، لأنه إنما يعالج الداء من أساسه، وينتزع الأشواك من جذعها. فالعلة الدفينة لهذا الداء هي: "ناموس الوصايا في فرائض". فلكي يزيل المسيح تلك العداوة المتأصلة، أبطل علتها المستعصية: "مبطلاً ناموس الوصايا في فرائض"

فما هو الناموس الذي أبطله المسيح؟ أهو الناموس الطقسي؟ أم هو الناموس الأدبي؟ أم هو كلاهما معاً؟

يلوح لي أن الناموس المقصود أكثر من سواه في هذه القرينة، هو الناموس الطقسي. لأن وصاياه مفرغة في قالب أوامر ونواهٍ مفروضة فرضاً: "لا تمس ولا تذق ولا تجس التي هي جميعها للفناء في الاستعمال" (كولوسي 2: 21و 22). هذه هي الفرائض التي أقام منها اليهود سوراً رفيعاً، كانوا يشرفون من قمته على الأمم، فينظرون إليهم نظرة كلها زراية واحتقار فاليهود كانوا يتورّعون عن أن يمسوا شيئاً في الأسواق العامة، متى علموا أن يداً أممية مسته قبلهم، لئلا يتنجسوا. وكانوا يأنفون من أن يأكلوا على مائدة واحدة مع شخص أممي، لئلا يتلوثوا. فجعلوا من هذه الفرائض الطقسية حصناً منيعاً تحصنوا وراءه ضد الأمم. وما الفواصل القائمة في عصرنا لحاضر بين البرهميين والهندوكيين سوى بعض الفواصل التي أقامها اليهود من هذه الفرائض، حائلاً بينهم وبين الأمم. ومن الغريب أن تلك الفرائض وضعت قديماً على اليهود لتقيهم شر الاختلاط بالأمم، فأقام اليهود منها تمثالاً عبدوه!

غير أن "ناموس الوصايا" قد يعني أيضاً الناموس الأدبي إذا نُظر إليه كواسطة لنوال الخلاص أو كشرط أساسي للتمتع بالسلام مع الله. هذا يؤيد قول الرسول في رسالة رومية (7: 1- 6، 8: 2- 4) "... لأن ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت. لأنه ما كان الناموس عاجزاً عنه في ما كان ضعيفاً بالجسد، فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية ولأجل الخطية دان الخطية في الجسد لكي يتم حكم الناموس فينا نحن السالكين ليس حسب الجسد بل حسب الروح". فالمسيح أبطل الناموس الطقسي برفعه أثقاله عن الإنسان وتحريره إياه من كل مطاليبه. وقد أبطل الناموس الأدبي بتغييره موقف المؤمن بالنسبة إليه، إذ غير موقف المؤمن بالنسبة إلى الله. فبدل أن كان المؤمن مطالباً بإطاعة الناموس والخضوع له لكي يتمتع برضوان الله وغفرانه وسلامه، أضحى متمتعاً بسلام الله الذي اشتراه له المسيح بدماه، فأصبح ينظر إلى الناموس لا كأنه أداة خلاصه، بل مظهر من مظاهر إرادة الله المعلنة للبشر. قبلاً كان الإنسان مطالباً بالعمل بموجب الناموس ليتمتع بسلام الله، والآن اصبح متمتعاً بسلام الله، فهو لذلك يحترم الناموس، لأنه مجلي فكر الله الذي أحبه وافتداه. قبلاً كان يعمل بالناموس ليخلص، واليوم يعمل وفق الناموس لأنه نال الخلاص. قبلاً كان الناموس عليه سيداً جباراً عتياً. واليوم صار له خادماً وفياً. قبلاً كان يخضع لناموس الوصايا، واليوم صار يعمل بناموس المحبة.

"ما جاء المسيح لينقض بل ليكمل". لكنه إذ أكمل الناموس ألغاه. قل زوالاً إذا ما قيل تمّ.

-ب-أداة إبطاله: "بجسده". هذا تعبير آخر لقوله: "جسم بشريته" (كولوسي 1: 22) أو "شبه جسد الخطية" (رومية 8: 3) وكلها تشير إلى تجسد المسيح، وموته الذي قاساه في جسده على الصليب. فلولا تجسد المسيح لما أتيح لرب الحياة أن يموت عن البشر. فجسد المسيح هو أداة تجسده، واتضاعه، وافتقاره،وموته عنا على الصليب. فهو "جسم" الفداء الذي به صنع لنا سلاماً مع الله، هو السلم التي ربطت الأرض بالسماء، هو أداة البناء وهو أداة الهدم التي بها أبطل ناموس الوصايا في فرائض. فالمسيح بصليبه صنع سلاماً، وبصليبه ألغى أحكام الناموس، "لأنه ما كان الناموس عاجزاً عنه في ما كان ضعيفاً بالجسد، فالله إذ أرسل ابنه في شبه جسد الخطية ولأجل الخطية دان الخطية في الجسد لكي يتم حكم الناموس فينا" هذا يوافق قول الرسول في كولوسي 1: 19- 22 "لأنه فيه سُرَّ أن يحل كل الملء وأن يصالح به الكل لنفسه عاملاً الصلح بدم صليبه بواسطته... وأنتم الذين كنتم قبلاً أجنبيين وأعداء في الفكر في الأعمال الشريرة قد صالحكم الآن في جسم بشريته بالموت" فالمسيح بجسده أوجد أداة اتصال بين اليهود والأمم، وبدم صليبه مزجهما معاً، وصالحهما مع السماء.

العنصر الثاني: غاية السلام الذي أجره المسيح: "لكي يخلق صانعاً... ويصالح قاتلاً". عبر الرسول عن هذه الغاية بفعلين –كل منهما متبوع باسم فاعل موضح له ومفسر: فالفعل الأول "يخلق" متبوع باسم الفاعل: "صانعاً". والفعل الثاني: "يصالح" متبوع باسم الفاعل: "قاتلاً" أولهما: "يخلق" يرينا أن المسيح بموته قد اتحد في نفسه اليهود والأمم وكوّن منهما إنساناً واحداً جديداً –هذه خطوة أولية ابتدائية تمهيدية للخطوة الثانية المبينة في الفعل الثاني: "يصالح" بعد لأن خلق المسيح من اليهود والأمم إنساناً واحداً جديداً، صالح هذا الإنسان الجديد مع الله. فالخطوة الأولى هي إجراء السلام بين طرفي الأرض المتباعدين –اليهود والأمم. والخطوة الثانية هي إجراء السلام بين سكان الأرض باعتبارهم إنساناً واحداً، وبين الله. هذه هي المصالحة المزدوجة التي أجراها المسيح بدم صليبه- فهو خلق من اليهود والأمم إنساناً واحداً، قد صنع سلاماً. وإذ صالح الاثنين في جسد واحد مع الله، قد قتل العداوة بالصليب.

في مصالحة اليهود مع الأمم قد خلق المسيح "إنساناً واحداً جديداً" هذه هي الإنسانية الجديدة الموحدة المكونة من وحدات حية متحدة هي الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة الحق، لا مجال فيها للخلاف الذي توجده الجنسية، ولا للعداء الذي يسببه اللون، ولا للمشاحنة التي يولدها المذهب، لكنها إنسانية واحدة حية جديدة –كجسد واحد كل عضو فيه للآخر نصير. لأنه يحيا ويتحرك معه بالروح الواحد.

في رسالته الثانية إلى كورنثوس. ذكر الرسول أن المؤمن الفرد هو خليقة جديدة في المسيح (1كو 5: 17). وفي هذا العدد أبان أن جماعة المؤمنين المتصالحين والمتحدين معاً في المسيح، هم أيضاً خليقة جديدة باعتبار كونهم إنساناً واحداً جديداً في المسيح.

ورد هذا التعبير "إنساناً واحداً جديداً" مرة واحدة غير هذه في هذه الرسالة (4: 24).

كما أننا بالجسد إنسان واحد عتيق في آدم، كذلك نحن بالروح إنسان واحد جديد في المسيح.

عدد 16 :

16وَيُصَالِحَ الِاثْنَيْنِ فِي جَسَدٍ وَاحِدٍ مَعَ اللهِ بِالصَّلِيبِ، قَاتِلاً الْعَدَاوَةَ بِهِ.

 الغاية الثانية: "ويصالح الاثنين في جسد واحد مع الله بالصليب قاتلاً العداوة به". هذه هي الغاية الثانية والقصوى في برنامج الفداء –مصالحة الأرض بالسماء. وبها تمّ استرداد هذه البقعة السوداء المسماة بالأرض التي استلبها الشيطان من التاج السماوي، فرُدت إلى مركزها في تاج السماء.

 الكلمة الأصلية المترجمة: "يصالح" وردت كما هي، مرة واحدة في غير هذا الموضع: "وأن يصالح به الكل لنفسه" (كولوسي 1: 20و 21). لكن صيغة مجانسة لها وردت في عدة مواضع (رومية 5: 10، 1كو7: 11و 2كو5: 18و 19و 20). والفكرة الرئيسية المطوية عليها هذه الكلمة، هي أن شخصاً سامياً رفيعاً ضحى أكبر تضحية في سبيل رده جماعة متمردة عليه، لتكون فدية لهذه المصالحة (2كو 5: 19). والمسيح صالحنا مع الله إذ قدم ذاته فدية لهذه المصالحة، لأن لا مصالحة بغير فدية "وبدون سفك دم لا تحصل مغفرة"

 أنبأنا الرسول في هذا العدد عن أربعة أمور:

 (1)معنى المصالحة: "ويصالح...". إن المصالحة التي أجراها المسيح بين الأرض والسماء تتضمن التفكير والتبرير. لأن عدالة السماء تطالب بمعاقبة الأرض على سيئاتها التي اقترفتها في الماضي –وهذا تمّ بالتكفير. وهي أيضاً تنتظر من الأرض أن تكون في حالة بارة تؤهلها للشركة مع السماء- وهذا تمّ بالتبرير. على أنه لا يُفهم من هذا أن الله جلَّ جلاله، كان حاقداً على البشر، معادياً لهم، متحفزاً للانتقام منهم، لكن المراد بهذا أن الله غير راضٍ عن البشر، ما داموا عائشين في خطاياهم ، وأنه حاجب وجهه عنهم ما داموا راضين بآثامهم. فإن كثروا الصلاة لا يسمع، وإن عرضوا عليه طلباتهم، أعرض هو عنها وعنهم. لكن قلبه من جهتهم لم يتغير لأنه هو الذي دبر الفداء: "هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد".

 (2)الفريقان اللذان تمت بينهما المصالحة: "ويصالح الاثنين في جسد واحد مع الله". فالفريق الأول بيّن في قوله: "الاثنين" أي اليهود والأمم معاً، بعد أن صارا متحدين معاً ومكوّنين إنساناً واحداً جديداً فبعد أن كان اليهود والأمم فريقين متنازعين، أصبحا واحداً في المسيح. غير أن اتحادهما هذا ليس غاية نهائية، وإنما هو وسيلة لغاية –أن يتصالح كلاهما مع الله. فبعد أن وفق المسيح بينهما أدمجهما معاً في "جسد واحد" فجعلهما شخصاً واحداً وصالحهما مع السماء إن قوله "جسد واحد" يقابل قوله "روح واحد" في عدد 18-ومعناه: "هيئة واحدة". ولعله أراد كنيسة المسيح المجيدة. ويقول بعضهم إنه أراد جسد المسيح الذي صُلب فيه.

 (3)أداة المصالحة: "... بالصليب". هذه هي المرة الوحيدة التي ذكرت فيها كلمة "صليب" بحصر اللفظ في هذه الرسالة والمراد ب"الصليب" تقديم المسيح نفسه ذبيحة كفارة لإجراء المصالحة بين الأرض والسماء. إن ما قاساه المسيح على الصليب من آلام لا توصف، وتعييرات لا تنسى، وموت مهين، يدل على أن المصالحة ليست من الهنات الهيّنات، لكنها من أدق المهام وأشقها، لأنه يتحتم على المصالح أن يقوم بكل ما تتطلبه المصالحة من نفقة. وما أعظم تكاليف نفقة هذه المصالحة العظمى التي هي أعظم المصالحات! "بدون سفك دم لا تحصل مغفرة". فالذبائح كانت منذ القديم ثمناً للمصالحة "أجمعوا إلى أتقيائي القاطعين عهدي على ذبيحة".

 قد يجد الإنسان الطبيعي صعوبة في الاعتقاد بأن الصليب أداة المصالحة فيقول مثلاً: وما الداعي لكل هذه التضحية الكريمة، متى كان في الإمكان أن يجري الله هذه المصالحة بغير هذه الآلام المبرّحة التي تحملها المسيح؟ أما كانت تكفي كلمة واحدة من فم الله صاحب الشأن الأعلى، وبهذه الكلمة تتم المصالحة! وجواباً على هذا القول: لو كانت كلمة واحدة أو كلمات عدة تكفي لإجراء المصالحة، لما أقدم الله على تضحية ابن محبته. لأن الله مدبر حكيم، لا يسمح بالإسراف والتبذير في تدبير الفداء.

 من السهل على الإنسان الغارق في بحر الخطايا والآثام أن يتكلم باستخفاف عن الخطية وغفرانها. مثله مثل والد مستبيح، يرى ابنه يرتكب الشر والموبقات فلا يبالي. لكن الوالد المقدس السريرة، النقي السيرة، لا يسمع بخطايا ابنه إلا وعينه دامعة وقلبه دامٍ. لأن خطية ابنه تكون له بمثابة صليب يقاسي عليه مُرّ العذاب. فكم بالحري يكون موقف الله الكلي القداسة، تجاه البشر، وهو لهم بمثابة الأب الذي يتألم لخطايا أولاده! فكيف به إذا كان عليهم قاضياً عادلاً مكلفاً بتنفيذ أحكام شريعته القائلة: "إن النفس التي تخطئ هي تموت"؟!

 فالصليب –بل المصلوب- هو أداة المصالحة بين الأرض والسماء. أليس من عوامل شكرنا لله أن نكون نحن المخطئين، فيقوم هو بواجب التكفير؟ أن يكون لنا الغنم، وأن يمون عليه الغرم؟ فأين القلوب الشاكرة، وأين الألسن التي تكف عن الاعتراض والاستجواب وتنصرف إلى الحمد والشكر والتمجيد؟!!

 (4)أساس المصالحة: "قاتلاً العداوة به" إن عمل المصالحة يفترض وجود عداء بين الفريقين اللذين تمت بينهما المصالحة. وما لم يُقتل هذا العداء لا تصلح المصالحة ولا تقوم لها قائمة. إن مثل من يحاول أن يجري مصالحة من غير قتل العداء، كمثل من يحاول أن يعالج مريضاً من غير أن يصل إلى علة الداء، أو كمن يريد أن يقيم بيتاً على غير أساس، أو على أساس واهٍ.

 إن "العداوة " المقصودة هنا هي تلك التي تحدّث عنها الرسول في العدد الخامس عشر. وهي ذات سهمين –أولهما له اتجاه أفقي- بين اليهود والأمم والثاني له اتجاه علوي –بين الله والناس (رومية 5: 10، كولوسي 2: 14)

 ولعل الرسول استعمل كلمة: "قاتلاً" بدلاً من كلمة: "ماحياً" أو "مزيلاً" أو "رافعاً"، لأن أداة المصالحة هي الصليب، وفي الصليب قتل وإعدام. فالذي قُتل فعلاً على الصليب ليس المسيح، بل الخطية والعداوة. كأن زعيم الخطاة عندما أراد أن يقتل المسيح بالصليب، قتل نفسه وهو لا يدري. فالسهم الذي أرشه في صدر المسيح قد انخلع منه وارتد إلى قلبه، فأصاب منه مقتلاً، وبذلك أضحى القتيل قاتلاً، والقاتل قتيلاً!!

 فكلمة "به" تشير إلى الصليب، أو بالحري إلى الصلب الذي به تم فداؤنا بموت المسيح الكفاري عنا.

 وهنا نقرر بكل وضوح أن لا مكان للعداء في قلب الله من جهة البشر، لأن الله محب، بل الله محبة، ولكن هذا العداء متمكن من أفكار البشر من جهة الله بسبب خطاياهم وجهالتهم "وأنتم الذين كنتم قبلاً أجنبيين وأعداء في الفكر في الأعمال الشريرة" (كولوسي 1: 21) فالجهل ينشئ عداوة، والاعتداء يولد عداء.

 أما شعور الله من جهة الخطاة، فيجوز أن نعبّر عنه بكلمة: "عدم رضاه عنهم" أو "تحويل وجهه عنهم"، ماداموا مصرين على التمادي في المعاصي.

المصالحة مع الله

 ثمرتان شهيتان جادت بهما المصالحة: (2: 17و 18)

 -أ-أولاهما: بشرى السلام (2: 17)

 -ب-والثانية: فتح طريق تقدمنا إلى الله (2: 18)

عدد 17 :

17فَجَاءَ وَبَشَّرَكُمْ بِسَلاَمٍ، أَنْتُمُ الْبَعِيدِينَ وَالْقَرِيبِينَ.

 -أ-الثمرة الأولى: بشرى السلام: "فجاء وبشركم بسلام أنتم البعيدين والقريبين". في هذا العدد، جمع بولس بين نبوتين وردتا ضمن نبوات إشعياء، وحاك منهما نسيجاً واحداً لخيمة السلام –ألم يكن هو في صناعته خياميا.ً النبوة الأولى وردت في إشعياء 57: 19 "خالقاً ثمر الشفتين. سلام سلام للبعيد وللقريب. قال الرب وسأشفيه". ووردت الثانية في إشعياء 52: 7 "ما أجمل على الجبال قدمي المبشر المخبر بالسلام المبشر بالخير، المخبر بالخلاص القائل لصهيون قد ملك إلهك". والظاهر أن الرسول استقى كلمة "بشركم" من كلمات النبوة الأولى –حسبما وردت في الترجمة السبعينية.

 (1)حامل البشرى: "فجاء". المسيح –"وبشركم". إن مجيء المسيح للبشرى، لا يشير إلى مجيئه عند التجسد، ولا إلى مدة كرازته على الأرض قبل الصلب، بل يشير إلى بشرى المسيح المقام، والمرفوع، والممجد، التي قام بها بشخصه (يو 20: 19و 20) وبواسطة روحه الأقدس العامل في رسله وأتباعه (2كو 5: 20، أعمال 10: 36، أعمال 3: 36).

 (2)موضوع البشرى: "السلام" :وهو يعني هنا، الوئام الداخلي الذي أقيم بين عنصري كنيسته الأولى –اليهود والأمم، وهو يشير أيضاً إلى المصالحة التي تمت بين الله والبشر بدم المصلوب.

 (3)أصحاب البشرى: "أنتم البعيدين والقريبين" أما "القريبون" فهم "الإسرائيليون الذين لهم التبني والمجد والعهود والاشتراع والعبادة والمواعيد ولهم الآباء ومنهم المسيح حسب الجسد" (رو 9: 4و 5). أما "البعيدون" فهم "الأمميون الذين كانوا قبلاً أجنبيين عن رعوية إسرائيل" (أفسس 2: 12و 13). وقد ابتدأ الرسول "بالبعيدين" لأن المكتوب إليهم أمميون.

عدد 18 :

18لأَنَّ بِهِ لَنَا كِلَيْنَا قُدُوماً فِي رُوحٍ وَاحِدٍ إِلَى الآبِ.

-ب-الثمرة الثانية: فتح طريق تقدمنا إلى الله "لأن به لنا كلينا قدوماً في روح واحد". ترتسم أمامنا في هذا العدد، صورة شخصين كانا قاصدين قصراً ملكياً، ثم ضرب عدو الخير بينهما بسهم من العداوة والشقاق، فتناحرا، وتنابذا، حتى أوصد دونهما باب القصر الملكي. وإذا بسيد كريم، لقيهما فألفاهما على هذه الحال، فتحنن عليهما، وضحى بأعز ما عنده في سبيل مصالحتهما، فسار وإياهما إلى ذلك القصر الملكي، وإذ وجد الباب موصداً دونهما بسبب عدم استحقاقهما، مسّ ذلك الباب بيده المغموسة بدم تضحيته، فانفتح الباب من تلقاء ذاته، فأدخلهما –واضعاً يد كل منهما في يد أخيه- إلى حضرة الملك العظيم، فقبلهما وجعلهما من أبناء ذلك القصر.

(1)فريقا المصالحة: "كلينا...الآب" –هما اليهود والأمم. وقد تمثلهما الرسول في شخصين، فقال "كلينا". إن ذلك النزاع القديم الذي كان قائماً بين اليهود والأمم، قد مُحى بالصليب فأمحت كل آثاره. في البداية كان اليهودي والأممي أخوين، ثم فرّق بينهما عدو الخير والسلام فجعلهما عدوين، وأخيراً جاء رب السلام فألف بين قلبهما وجعلهما أخوين كما كانا بل أفضل، إذ خلق منهما "جسداً واحداً، وإنساناً واحداً"

هذا من جانب. ومن الجانب الآخر، نرى اليهود والأمم مكوّنين معاً فريقاً واحداً متعادياً مع الله. فكان باب التقدم إلى الله موصداً دون وجوه اليهود والأمم على السواء: "لأن الجميع زاغوا وفسدوا معاً". "فأغلق الكتاب على الكل تحت الخطية".

قبل المصالحة كان اليهودي عدو الأممي، وكان كلاهما عدواً لله ولكن بعد أن تمّت المصالحة، وضع اليهودي يده في يد الأممي، وأصبح كلاهما في عداد بني الله، أيدخل إلى حضرة أبيه بغير استئذان. هذا حق مجيد لا يتمتع به اليهود والأمم ككتلة بل كأفراد. هذه هي حرية امتياز أولاد الله، وامتياز حريتهم: "أنا هو الباب إن دخل بي أحد فيخلص ويدخل ويخرج ويجد مرعى" (يوحنا 10: 9). هذا هو التقدم الذي ذكره الرسول في قوله: "لأن به لنا كلينا قدوماً... إلى الآب".

(2)فاعلية المصالحة: "قدوماً" –يستفاد من هذه الكلمة، كما وردت في الأصل، أن المؤمنين –من الأمم واليهود- لم يتمتعوا بحرية التقدم إلى الله إلا بواسطة شفيع كريم، قدمهم إلى الآب، وأن هذه الحرية لا تقوم إلا بدوام فعل وساطة هذا الشفيع العظيم "الذي هو حي في كل حين ليشفع فينا".

وقد وردت هذه الكلمة عينها: "قدوماً" –في الأصل- مرتين أخريين في العهد الجديد (أفسس 3: 12، رومية 5: 2).

(3)وسيط المصالحة: "به... في روح واحد". إن ضمير الهاء "الغائب" في "به" يشير إلى المسيح "الحاضر" في كل مكان وكل زمان، الذي به تمت مصالحة اليهود بالأمم، وأقيم السلام بين اليهود والأمم من جانب، والله من الجانب الآخر. ولقد أتم المسيح هذه المصالحة بصليبه. وبعد صعوده أرسل روحه القدوس إلى كنيسته ليستقر فيها ويبشر بهذا السلام بواسطة رسله القديسين. هذا هو الروح القدس المقصود بقول الرسول: "في روح واحد" ومن الملاحظ، أن العبارة: "في روح واحد" جاءت مقابلة لقول الرسول: "في جسد واحد" (عدد 16). فهذا الجسد الواحد الذي هو كنيسة المسيح الواحدة مفعم حياة بالروح الواحد، لأن المسيح وجدنا كلنا عظاماً مبعثرة كتلك التي رآها حزقيال، فنفخ فينا من روحه. فلبس الروح عظامنا فتقاربنا من بعضنا البعض، وصرنا كلنا جسداً روحياً واحداً (2كو 13: 14، 1بط 1: 2، يهوذا 20و 21). وقد جاءت كلمة "واحد" بعد "روح" مقابلة لكلمة "كلينا". فإذاً قد صار الفريقان ذاتاً واحدة، وإنساناً واحداً.

(4)مآل المصالحة: "إلى الآب". مع أن لتقريب اليهودي من الأممي مكاناً ممتازاً في برنامج الفداء، إلا أن تقارب اليهودي من الأممي يعتبر عملاً ابتدائياً بالقياس إلى تقرّب الناس من الله –هذا هو المآل النهائي للمصالحة: "إلى الآب".

إن هذه الكلمة القدسية الجليلة "الآب" تصف صلة الله، الأقنوم الأول في اللاهوت، بالمسيح الابن- الأقنوم الثاني في اللاهوت. لاحظ أن الثالوث الأقدس ذُكر في هذا العدد: -"به"- الأقنوم الثاني. روح "واحد" –الأقنوم الثالث. "الآب" الأقنوم الأول.

فما أجل هذه الصلة القدسية وما أعمقها. فقد تاهت عنها كل تخيلات أساطير الأقدمين، وقصرت عنها حكمة المتقدمين والمتأخرين. إذ كانوا ينظرون إلى الله نظرة المتهم المجرم إلى قاض عادل. واقف له بالمرصاد وعلى فمه النطق بالإعدام. أو كمهندس عظيم خلق آلة الكون، ثم تركها واستوى على عرشه ليراقب سيرها عن كثب.إلى أن جاء المسيح، فكشف لنا نحن الأطفال عن هذا السر الدفين الذي ظل مخفي عن الحكماء والفهماء نعم عرف اليهود قديماً شيئاً عن هذه النسبة الجليلة في كتابات الزابوري إلا أنهم عرفوا الله أباً للأمة كمجموع. ولكن المسيح وحده هو الذي أعلمني أنا الإنسان الترابي الساقط إني ابن لهذا الإله الأعظم.

غير أن بنوة المسيح لله غير بنوة البشر له تعالى، بدليل قوله: "أبي وأبيكم" (يو 20: 17)، وكان في إمكانه أن يقول "أبينا"، لو كانت هذه البنوة واحدة. فهي تختلف عنها في النوع وفي الرتبة.

ولكن مالنا من نصيب في هذه النسبة الجليلة، يكفينا ويفضل عنا، ويزيد!!

التآلف بين اليهود والأمم (2: 19- 22)

عدد 19 :

19فَلَسْتُمْ إِذاً بَعْدُ غُرَبَاءَ وَنُزُلاً، بَلْ رَعِيَّةٌ مَعَ الْقِدِّيسِينَ وَأَهْلِ بَيْتِ اللهِ

-أ-ما كانوا عليه بالطبيعة: "فلستم إذاً بعد غرباء ونزلاً" عاد الرسول على استعارته المدنية، فاستعمل تعبيراً مفهوماً لدى عقلية اليونان المستوطنين أفسس وغيرها من سائر البلدان اليونانية "فالغرباء" هم الأجانب عموماً الذين يحلّون بالديار ويقطنونها ويتمتعون ببعض "امتيازاتها" لكنهم يظلون مطبوعين بطابع الاغتراب. "والنزُلُ" هم الغرباء الرحّل المؤقتون الذين يتنقلون بين هنا وهنالك من حين إلى حين. فالغرباء والنزُل كانوا يتمتعون ببعض المزايا الوطنية –ولكن على سبيل "السماح والنعمة"، لا بحسبان أنها حق.فالسكن كان ممنوحاً لهم، لكن حق الرعوية كان ممنوعاً عنهم، فكانوا منه محرومين.

هذا هو الموقف الطبيعي الذي كان يجب أن يكون عليه الأمميون –ومنهم الأفسسيون- الذين اعتنقوا المسيحية،إذ كانوا بالنسبة لليهود غرباء ونزلاً، لكن النعمة خوّلتهم حق امتياز الرعوية فأصبحوا متمتعين بكامل حقوق الرعوية المسيحية مع كونهم غرباء، وأضحوا من أهل البيت على رغم كونهم نزلاً، وأمسوا من أصل الكرمة حال كونهم أغصاناً غريبة طُعمّت فيها.

-ب-ما صاروا إليه بالنعمة: "بل رعية مع القديسين وأهل بيت الله". إن كلمة "قدّيسين" تصف شعب الله القديم الذي أفرزه الله وخصصه لذاته وعبادته. ولما أسست المسيحية احتلت المكانة التي كانت للشعب اليهودي في برنامج الفداء. وعلى هذا الاعتبار –كما يقول الأسقف ليتَفوت- قد آلت إليها كل الحقوق والامتيازات الروحية التي كانت من حق الشعب اليهودي. لأن الكنيسة المسيحية –كما يصفها بطرس الرسول- "جنس مختار"، وكهنوت ملوكي، أمة مقدسة، شعب اقتناء" (1بطرس 2: 9). فكل الذين دخلوا الكنيسة في عهد النعمة أضحوا "قدّيسين" بالدعوة، والتكريس، والتقديس، فالأمميون الذين انضموا إلى زمرة اليهود المنتصرين، أصبحوا مع القديسين في كل شيء لأنهم لا ينقصون عنهم في شيء. وقد خلع عليهم الرسول –في هذا العدد وفي الأعداد التي تليه- خمسة أوصاف تعبّر عن متانة اتحادهم مع المؤمنين الذين سبقوهم من أصل يهودي:

(1)رعية واحدة: "رعية مع القديسين". (2)عائلة واحدة: "أهل بيت الله" (عدد 19). (3)بناء واحد: "مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية" (عدد 20). (4)هيكل واحد: "الذي فيه كل البناء مركباً معاً ينمو هيكلاً مقدساً للرب" (عدد 21). (5)مسكن واحد: " مبنيون معاً مسكناً لله في الروح" (عدد 21).

غير خافٍ، أن الثالوث الأقدس ذُكر بوضوح وجلاء في هذه الأوصاف التي هي استعارات ومجازات متجمعة ومتراكمة فوق بعضها البعض، مما ينمّ عن بصيرة الرسول النيرة، وروحه المحلقة في سماء الوحي، وعقله الخصيب الذي تتزاحم فيه المعاني فيلبسها من الاستعارات والكنايات أجمل الحلل وأبهاها. فالأقنوم الأول: الله الآب –ذُكر في عدد 19: "وأهل بيت الله". والأقنوم الثاني: الله الابن –ذُكر في عدد 20- "ويسوع المسيح نفسه". والأقنوم الثالث: الروح القدس –ذُكر في عدد 22- "مسكناً لله في الروح".

إن كلام الرسول في هذا الفصل الموجز (2: 19- 22) مرتبط بعضه ببعض ارتباط الحلقات المكينة، في سلسلة متينة. فعباراته كدرجات متصاعدة في سلم واحدة. فالكلام في عدد 19 تناول "فكرة" البيت المعنوي. وطبيعي أن الكلام عن البيت، يرجع بالفكر إلى الكلام عن "بناء" البيت –هذا ما عالجه الرسول في عدد 20. وطبيعي أيضاً أن الكلام عن البيت المبني، يؤدي إلى الكلام عن "الهيكل" الذي هو أقدس بيت- هذا ما أوضحه الرسول في عدد 21. ومنطقي أن الكلام عن الهيكل، ينتقل بالفكر إلى "المسكن" الذي هو "قدس" الهيكل –هذا ما بينه الرسول في عدد 22.

(1)الوصف الأول- رعية واحدة: "رعية مع القديسين".

من الملاحظ أن بولس الرسول استعمل التشبيهات سالفة الذكر، بحسب الصور المختلفة التي ارتسمت في ذهنه عن حقيقة كنيسة المسيح. وبحسب وصف الكنيسة، يكون وصف المؤمنين الداخلين إلى أحضانها. فقال عن المؤمنين أنهم "رعية واحدة"، باعتبار كون الكنيسة ملكوتاً روحياً، والمسيح ملكه. وقال عنهم أنهم "أهل بيت واحد" باعتبار كون الكنيسة عائلة واحدة، والمسيح ربها. وقال أنهم "بناء واحد" على اعتبار أن الكنيسة بيت مبني، والمسيح نفسه حجر الزاوية. وقال إنهم "مسكن واحد" باعتبار كون الكنيسة هيكل الله الحي، والمسيح كاهنه الأعلى وربه.

(2)الوصف الثاني-عائلة واحدة: "أهل بيت الله".

إنه لمشجع حقاً أن الأممي الذي كان غريباً ونزيلاً حسب الطبيعة مستحقاً الطرد في أي وقت، والحرمان من كل الحقوق، يصبح ابناً في بيت الله. متمتعاً بكامل حقوق البنوة، هانئاً، ناعم البال.

عدد 20:

20مَبْنِيِّينَ عَلَى أَسَاسِ الرُّسُلِ وَالأَنْبِيَاءِ، وَيَسُوعُ الْمَسِيحُ نَفْسُهُ حَجَرُ الزَّاوِيَةِ،

 (3)الوصف الثالث-بناء واحد: "مبنيين على أساس الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية".

 إن كلام الرسول في العدد السابق عن "البيت" يرجع بالفكر إلى بناء هذا البيت. فالعدد السابق يتناول الكلام عن أهل البيت، وهذا العدد يتناول الكلام عن البيت ذاته. فقال الرسول عن الأمم أنهم مبنيون على الرسل والأنبياء ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية. فأبان لنا في هذا العدد ثلاث حقائق:

 -أ-أحجار البناء: "مبنيين" –أعني المؤمنين من الأمم، ومن اليهود الذين سبقوهم إلى الإيمان المسيحي. هؤلاء هم الأحجار الحية في هذا البناء. إن كلمة. "مبنيين" تعين حالة استقرت وتمت في الماضي يوماً ما، بيد الفادي المجيد. على أن الرسول أوضح أن المؤمنين من الأمم واليهود ليسوا أول أحجار في البناء، لكنهم مبنيون على أساس قائم.

 -ب-أساس البناء: "على أساس الرسل والأنبياء". إن الرسل والأنبياء المعنيين هنا، هم رسل العهد الجديد وأنبياؤه. أما "الرسل" فهم الاثنا عشر المعروفون. وأما "الأنبياء" فهم الذين وإن كانوا لم يشاطروا الرسل وظيفتهم الفريدة إلا أنهم استنيروا وأُلهموا بطريق مباشر فأنبأوا بالمستقبل حيناً (أعمال 11: 28)، ونادوا بحقائق روحية راسخة (أعمال 3: 5، 1كو 14)، لأنهم كانوا مكلفين بإبلاغ الحقائق التي أُودعوا إياها –أمثال يهوذا وسيلا (أعمال 15: 32).

 ويجدر بنا أن نلاحظ أن "الرسل والأنبياء" معتبرين أساس البناء لا في أشخاصهم بل بالنظر إلى التعاليم والمبادئ التي وضعوها بإلهام الروح، وبها صار للأمم حق الدخول إلى ملكوت النعمة، والتمتع بالنعم والمزايا التي يتمتع بها اليهود.

 في رسالة سابقة، استعمل الرسول استعارة البناء والأساس، حيث قال: "فإنه لا يستطيع أحد أن يضع أساساً آخر غير الذي وُضع الذي هو يسوع المسيح" (1كو 3: 11) ولكن كلام الرسول في رسالة كورنثوس الأولى يختلف عنه في رسالة أفسس. في أولاهما تكلم عن الرسل باعتبار كونهم بنائين، لكنه تكلم عنهم في أفسس باعتبار كونهم أحجاراً حية في أساس البناء. في أولاهما –المسيح حجر الزاوية، وفي الثانية –المسيح أساس البناء.

 -ج-حجر الزاوية: "ويسوع المسيح نفسه حجر الزاوية".

 إذ اعتبرنا الكنيسة جسداً حياً، فإن المسيح هو رأس هذا الجسد وبالتالي هو العنصر الرئيسي في الجسد، لأن الرأس متمم للجسد. وإذ اعتبرنا الكنيسة بناء حياً، فإن المسيح هو حجر الزاوية في هذا البناء، وهو بالتالي الركن الركين في هذا البناء. ولعل بولس عندما استعمل هذه الاستعارة، كان يردد في ذهنه الكلمات الواردة في إشعياء 28: 16 "لذلك هكذا يقول السيد الرب: هأنذا أؤسس في صهيون حجراً –حجر امتحان حجر زاوية، كريماً أساساً مؤسساً" هذا يذكرنا بكلام المسيح لبطرس: "وأنا أقول لك أيضاً أنت بطرس وعلى هذه الصخرة أبني كنيستي" (متى 16: 18).

 الكلمة المترجمة هنا "حجر الزاوية"، هي في الأصل كلمة واحدة. وهي تعني الحجر الرئيسي الذي يُوضع فوق الأساس ليربط جدارين معاً في بناء واحد. أليس لنا أن نستنتج من هذا، أن المسيح باعتبار كونه حجر الزاوية في بناء الكنيسة، قد ربط اليهود والأمم معاً في هذا البناء المعنوي، فحفظ البناء كله من التفكك والانهيار؟

 وجدير بالملاحظة: أن وضع حجر الزاوية في البناء لم يكن مألوفاً لدى اليونان بقدر ما كان معروفاً ومألوفاً لدى الشرقيين سيما العبرانيين. وقد اكتشف السر هنري ليارد في حفريات نينوى بعض أحجار ضخمة، منحوتة على شكل زوايا قائمة، كانت مستعملة قديماً لربط جدارين متجاورين في بناء واحد، مما دلَّ على أن أهل نينوى كانوا يضعون "أحجار زاوية" في أبنيتهم.

إن كلمة "نفسه" الواردة بعد اسم المخلص المجيد، تنمّ عما لفادينا العظيم من مجد وجلال ممتازين. لا يشاطره إياهما الرسل والأنبياء. فإذا كانت مهمة الأنبياء، إذاعة الحق الإلهي، فإن المسيح هو أساس هذا الحق بل هو الحق نفسه.

عدد 21:

21الَّذِي فِيهِ كُلُّ الْبِنَاءِ مُرَكَّباً مَعاً يَنْمُو هَيْكَلاً مُقَدَّساً فِي الرَّبِّ.

 (4)الوصف الرابع –هيكل واحد: "الذي في كل البناء مركباً معاً ينمو هيكلاً مقدساً في الرب".

 يحدثنا الرسول في هذا العدد عن أربعة أمور: أولاً: تعاون عناصر البناء في النمو: "كل البناء مركباً معاً". ثانياً: عنصر النمو في هذا التعاون: "ينمو" ثالثاً: الغاية التي يبلغها هذا النمو: "ينمو هيكلاً مقدساً" رابعاً: العامل الحي في هذا النمو: "في الرب".

 أولاً: تعاون عناصر البناء في النمو: "الذي فيه كل البناء مركباً معاً ينمو". مما لا جدال فيه، أن بولس الرسول، وهو يكتب هذا العدد، كان واضعاَ نصب عينيه هيكل أرطاميس الذي كان مفخرة أفسس في هاتيك العصور. أفلا يجوز لنا أن نعتقد أن الرسول أراد أن يوجد مقارنة بين هيكل أرطاميس –الذي هو مفخرة، حسب الظاهر، ومعرّة في الواقع- وبين الهيكل العظيم الذي أقامه المسيح على الأرض بنشره ملكوته في المعمور؟ فكلاهما هيكل، وكلاهما هيكل ذو بناء، وكلاهما هيكل عظيم. إلى هنا تنتهي أوجه الشبه بين الهيكلين، وتبتدئ أوجه الخلاف. فلئن اقترب الهيكلان حيناً إلا أنهما يتباعدان إلى الأبد تباعد الظلام عن النور، والجحيم عن النعيم. فهيكل أرطاميس بناء مادي، لكن هيكل المسيح بناء روحي. هيكل أرطاميس بناء ميت لأنه مقام من أحجار جامدة ميتة، لكن هيكل المسيح بناء حي نامٍ لأنه مُقام من أحجار حية معنوية. هيكل أرطاميس هيكل نجس كانت تُرتكب فيه الموبقات باسم العبادة، لكن هيكل المسيح مقدس تسمو فيه النفس فوق الدنايا. هيكل أرطاميس كان مكرساً ل"ديانا" آلهة الصيد لكن هيكل المسيح مكرس للفادي المجيد.

 ثانياً: عنصر النمو في هذا التعاون: هذا التعاون عملية نامية: "ينمو". غير خافٍ أن بولس، اليهودي الأصل والثقافة، لا يمكن أن يخط كلمة عن هيكل ما، من غير أن يحضر في ذهنه هيكل سليمان. والمستفاد من قوله: "كل البناء مركباً معاً ينمو هيكلاً"، إن الرسول –وقت كتابة هذه العبارة- كان متفكراً بالأروقة الكثيرة المنوعة، التي تركّب منها هيكل سليمان، فقد كان كل رواق منها متوَّجاً بقبة، وكانت كل القباب متصلة معاً ومتماسكة، لتكوّن هيكلاً واحداً رئيسياً. فالأبنية كثيرة ومنوّعة، لكنها متعاونة كلها ومتساندة في تأليف هيكل واحد. وبما أن هيكل سليمان لم يكن بناء ساعته بل كان مرتباً ومنظماً وفق تصميم خاص، لدرجة لم يُسمع فيها صوت وقت بنائه، لذلك كان من السهل على من يراقب بناء الهيكل، أن يرى كل بنائه نامياً يوماً فيوماً، ومتقارباً عند سقفه نحو سائر الأبنية، لتكوّن كلها مجتمعاً واحداً رئيسياً ينتهي إلى قبة الهيكل الرئيسية التي كانت مفخرة فن البناء في تلك العصور.

 إن تآلف الأروقة الكثيرة المتضمنة في الهيكل لتكوّن هيكلاً واحداً، لهو رمز إلى تآلف الأجناس المختلفة التي تتألف منها كنيسة المسيح –لا فرق بين بربري وسكيني، عبد وحر، يهودي ويوناني، بل الجميع يؤلفون هيئة واحدة.

 هذا رأي بعض المفسرين في معنى قول الرسول: "كل البناء" –أي كل العناصر أو الأروقة التي يتألف منها الهيكل. ويرى البعض الآخر –وبينهم الدكتور ارمتاج روبنسون- أن بولس الرسول نظر إلى البناء نظرته إلى جسم حي نامٍ مدة عملية بنائه، وإن كل حجر فيه يقوم بقسط من هذا النمو. ونميل نحن على ترجيح الرأي الثاني كما يتبين من معنى كلمة "هيكل" فيما يلي:

 ثالثاً: الغاية التي يبلغها هذا النمو: "ينمو هيكلاً مقدساً". في اللغة اليونانية كلمتان تعنيان "هيكلاً" –الأولى: "ناؤس". والثانية: "هيرون".فالكلمة الأولى: "ناؤس" –المستعملة في هذا العدد- تعني، بحصر اللفظ، ذلك البناء المقدس المكوّن من "القدس وقدس الأقداس" والكلمة الثانية: "هيرون" تعني الهيكل بكل أروقته الخارجية التي اجتمع فيها كل الشعب للعبادة. ويلاحظ هذا الفرق في المعنى المراد من الكلمتين في كتابات يوسيفوس المؤرخ اليهودي، وفي رسائل كتبة العهد الجديد. فالهيكل –كما تدل عليه الكلمة الثانية- هو المكان الذي وقف فيه الفريسي والعشار مُصلين، وهو المكان الذي طالما علم فيه ربنا وفادينا، ومنه طرد التجار. لكن الهيكل –كما تدل الكلمة الأولى- هو المكان الذي ظهر فيه الملاك لزكريا الكاهن، وهو المسكن الذي انشق حجابه وقت الصلب. وبين هذا المكان وبين المذبح، قتل زكريا بن برخيا.

 رابعاً: العامل الحي في هذا النمو: "في الرب". هذه أول مرة استعمل فيها الرسول هذه العبارة الجليلة في هذه الرسالة. ومن الملاحظ أن بولس –حينما يريد وصف الصلة العلوية الفائقة الكائنة بين المسيح والمؤمنين- التي على أساسها يقبلون أمام الله- يعبر عنها بقوله: "في المسيح". ولكنه عندما يريد أن يصف نتائج هذه الصلة التي تظهر في الحياة العملية، يعبر عنها بقوله: "في الرب". قارن بين قوله: "مخلوقين في المسيح يسوع" (أفسس 2: 10) وقوله: "تقوّوا في الرب" (أفسس 6: 10). "في المسيح" –نحن في السماء- من حيث المركز والمقام. "في الرب" –نحن في هذه الحياة- من حيث التصرف والسلوك.

 أورد بولس هذه العبارة القدسية "في الرب"، ليبين لنا أن الرب هو العامل الحي الفعال في هذه الوحدانية. وأنه هو سر النمو والتقديس.

عدد 22 :

22الَّذِي فِيهِ أَنْتُمْ أَيْضاً مَبْنِيُّونَ مَعاً، مَسْكَناً لِلَّهِ فِي الرُّوحِ.

(5)الوصف الخامس-مسكن واحد: "الذي فيه أنتم أيضاً مبنيون معاً مسكناً لله في الروح".

 في هذا العدد ذُكر الثالوث الأقدس بجلاء ووضوح: "فيه" –في المسيح الأقنوم الثاني. "الله" –الأقنوم الأول. "في الروح" –الأقنوم الثالث.

 -أ-أساس البناء وروحه: "الذي فيه" –في المسيح- "أنتم أيضاً" -أيها الأمم باعتبار كونكم شركاء اليهود في تدبير الفداء وفي عهد النعمة- فأصبحتم وإياهم رعية واحدة.

 -ب-التآلف بين عناصر البناء: "مبنيون معاً". هذه العبارة تنمّ عن عملية حالية مستمرة، ومتجددة في كل آونةٍ يُقبل فيها أعضاء أحياء إلى كنيسة المسيح. لأن قبولهم يكون بمثابة إضافة أحجار إلى البناء النامي القائم. وكلمة "معاً" تشير إلى التعاون المتبادل، والتساند الكائن بين عناصر البناء الواحد.

 -ج-غاية البناء المتآلفة عناصره: "مسكناً لله". الكلمة اليونانية المترجمة: "مسكن" لم ترد في العهد الجديد سوى مرة أخرى (رؤيا 18: 2). وهي تعني بالذات "البناء الدائم المقيم". فالإشارة فيها منصرفة إلى اعتبار الكنيسة مسكن الله الدائم. ولا شك أن هذه الفكرة ستتم كمالياً في الكنيسة الممجدة بعد أن تتحقق جزئياً في الكنيسة المجاهدة على الأرض. وغاية الغايات من هذا البناء، أن ينمو مسكناً "لله"، الذي إليه مآب الجميع، ليكون "هو الكل في الكل" (1كو 15: 28).

 -د-واسطة تآلف عناصر هذا البناء: "في الروح". إن الروح القدس هو العامل في إحياء عناصر البناء، وفي إبلاغ كل غايته المثلى التي وُضع لها، ووضعت هي له. هذه إشارة أخرى واضحة إلى عمل الروح القدس في الكنيسة.

 بمراجعة الأعداد القليلة، التي مرت بنا، يتضح لنا أن عناصر البناء مؤسسة على المسيح، تنمو هيكلاً مقدساً لله، بواسطة الروح القدس.

 إن قوله: "في الروح"، الذي به يختتم هذا الأصحاح، يعتبر عبارة وصفية للهيكل الجديد المقدس. فليس هو بالهيكل المادي المبني من لبنٍ، وأحجار، ورمال. لكنه هيكل روحي، قوامه "أحجار" حية من نساء ورجال (1بطرس 2: 5). ولعل هذه العبارة تنطوي على إشارة ضمنية إلى نبوة المسيح، التي تخطت عقول من وقعت على مسمعهم لأول مرة: "انقضوا هذا الهيكل، وفي ثلاثة أيام أقيمه". فلئن فسرها أعداؤه وحسبوها منصبة على الهيكل المادي الذهبي الذاهب، إلا أن تلاميذه الروحيين يفهمون مغزاها الحقيقي. فهيكل سليمان عبثت بسه عوامل الهدم والفناء، لكن هذا الهيكل الروحي باقٍ ما بقي رب الأرض والسماء.

الإصحَاحُ الثَّالِثُ

بولس يعرف عن نفسه

كشف الرسول في الأصحاحين السابقين عن جانب من أمجاد الفداء المسيحي العجيب، الذي أعده الله لبني البشر – يهوداً وأمميين على السواء، خالقاً منهم "إنساناً واحداً جديداً"، ليبني منهم "بناء مركباً ينمو هيكلاً مقدساً في الرب"، ليكوّن منهم "مسكناً لله في الروح".

 إلى هنا رأينا كلام الرسول عمومياً، لا يحمل إشارة إلى شخصه ولا إلى عمله، سوى في قوله: "لذلك أنا أيضاً إذ قد سمعت بإيمانكم... لا أزال شاكراً لأجلكم ذاكراً إياكم في صلواتي" (1: 15و 16).فلم يذكر شيئاً عن وظيفته الخاصة باعتبار كونه "الإناء المختار" لحمل رسالة الخلاص إلى الأمم، ولا عن آلامه التي تحملها في هذا السبيل من سجن وتعذيب وتشريد. والظاهر أن الموضوع الهام الذي كان يشغل فكره، كان أرفع من أن يحتمل إشارات شخصية. ولكن ما كاد الرسول يصل إلى كلمة "الأمم" التي يختتم بها أول عدد من هذا الأصحاح، حتى رأى لزاماً عليه أن يعرج بإشارة شخصية إلى وظيفته، وعمله، ورسالته التي أؤتمن عليها([1]).وقد لذّ له الحديث وطاب، حتى امتدّ به الكلام إلى نهاية العدد الثالث عشر، وبعد أن فرغ من هذه الإشارة الشخصية، استأنف حديثه الذي به استهل هذا الأصحاح: "بسبب هذا أنا بولس أسير المسيح يسوع لأجلكم أيها الأمم (عدد 1)...(3). "بسبب هذا أحني ركبتي لدى أبي ربنا يسوع المسيح" (عدد 14). وهكذا اختتم الرسول هذا القسم التعليمي من رسالته بصلاة لأجل المكتوب إليهم (3: 14- 21)، مثلما بدأه أيضاً بصلاة (1: 15- 23) فصلاة بولس في كل من هذين الموضعين، عماد هذا القسم من رسالته، لدرجة يعتبر فيها ما بينهما حلقة اتصال بين الصلاة الأولى، والثانية –كأن هذا القسم كله صلاة واحدة متصلة الحلقات.

 أولاً: بولس وإنجيل الأمم –أو بولس رسول الأمم (3: 1- 13)

ثانياً: بولس والمكتوب إليهم من الأمم –أو بولس متضرعاً لأجل الأمم (3: 14- 21)

أولاً: بولس وإنجيل الأمم : (3: 1- 13)

من خلال كلمات هذا الفصل، تتجلى لنا صورة مختلفة للرسول بولس –كل صورة منها تنمّ عن ناحية من نواحي حياته المتعددة الجوانب، فنرى في الطليعة: "بولس الأسير" (عدد1) و"بولس الخبير بالأسرار" (عدد 3و 4) "بولس الرسول" (عدد 5و 6) و"بولس الخادم الأمين" (عدد 7) و"بولس أصغر جميع المؤمنين" (عدد 8) و"بولس البشير" (عدد 8) و"بولس حامل النور" (عدد 9) و"بولس رجل الشدائد" (عدد 13) و"بولس رجل الصلاة" (عدد 14).

ولكي نلم بعض الإلمام بكلام الرسول في هذا الفصل. يجمل بنا أن ندرسه دراسة تحليلية. إن موضوعه الرئيسي هو: "بولس وسر إنجيل الأمم" والكلام فيه منقسم إلى أربعة أقسام، مسبوقة بكلمة تمهيدية (عدد 1) ومختتمة بكلمة ختامية (عدد 13)، ومن محاسن الاتفاق أن موضوع الكلام في المقدمة وفي الخاتمة يكاد يكون واحداً –فالمقدمة ترينا بولس في الأسر، والخاتمة تحدثنا عن بولس في الشدائد- والأسر والشدائد من مصدر واحد.

كلمة تمهيدية مجملة: بولس سجين إنجيل الأمم (3: 1)

أولاً: اتصال هذا "السر" ببولس (3: 2- 5):

 (1)عن طريق الإيهاب (3: 2)

 (2)عن طريق الإعلان (3: 3و 4)

 (3)وقت إعلان هذا السر (3: 5)

ثانياً: موضوع هذا "السر" (3: 6)

ثالثاً: موقف بولس إزاء هذا "السر" (3: 7- 9):

 (1)خادم له (3: 7)

 (2)مبشر به (3: 8)

 (3)حامل مصباحه (3: 9)

رابعاً: الغاية القصوى من إعلان هذا "السر" (3: 10- 12)

 "لكي يعرّف عند الرؤساء والسلاطين":

 (1)بحكمة الله الممنوعة (3: 10)

 (2)بقصد الدهور (3: 11)

 (3)بسلام الله (3: 12)

كلمة ختامية مجملة: بولس في شدائد إنجيل الأمم (3: 13)

عدد 1 :

1بِسَبَبِ هَذَا أَنَا بُولُسُ، أَسِيرُ الْمَسِيحِ يَسُوعَ لأَجْلِكُمْ أَيُّهَا الأُمَمُ،

كلمة تمهيدية مجملة –بولس سجين إنجيل الأمم يصلي لأجل الأمم "بسبب هذا أنا بولس أسير المسيح..."

-أ-علة صلاته: "بسبب هذا" –خط الرسول هذه العبارة، ولكنه قبل أن يُتمها، عرّج في كلامه على ذلك "السر" العجيب الذي ظل مستوراً عن الناس حتى جاء ملء الزمان فتجسد المسيح، وعاش، ومات، وقام. ومن مكان عليائه في المجد، أشرف على شاول الطرسوسي مضطهد الكنيسة فأخضعه لإرادته، ثم أشرق عليه بنوره العجيب وكشف له عن ذلك السر العظيم: وهو أن إله اليهود، هو هو إله الأمم أيضاً، وأن إنجيل الأمة الإسرائيلية المختارة هو بالذات إنجيل الأمم: "فلا يهودي ولا يوناني، لا عبد ولا حر... لأن الجميع واحد في المسيح يسوع". "فالأمم شركاء في الميراث والجسد ونوال موعده في المسيح بالإنجيل". هذا هو السر الذي أفضى به بولس إلى قارئيه في الأصحاحين اللذين مررنا بهما في هذه الرسالة –من اختيار، وتبنّ، وتقديس، وتمجيد، إلى مصالحة تمت بين الناس والناس، ثم بين الله والناس، إلى تلك الوحدانية المجيدة التي تؤلف من اليهود والأمم- على السواء- مسكناً مقدساً لله، في الروح، بالمسيح.

"بسبب هذا" الإعلان المجيد، أراد بولس أن يضع القلم عن يمينه ورقّ الكتابة عن يساره، ليحني ركبتيه لدى ربنا يسوع المسيح، مصلياً لأجل المكتوب إليهم، "ليحل المسيح بالإيمان في قلوبهم لكي يمتلئوا إلى كل ملء الله". ولكنه قبل أن يلقي القلم جانباً أراد أن يُسِرّ إلى المكتوب إليهم بكلمة عن الحق المخوّل له، والسلطان الذي تقلده في مناداته بالإنجيل للأمم –كأن هذا الحق كان موضوع جدل ومناقشة ومنافسة بين أعداء الرسول، الذين هم أعداء إنجيل الأمم- ولعلهم من اليهود الذين ضاقت أفكارهم وقلوبهم عن أن تسع الأمم معهم في حيز الإنجيل الواحد، حاسبين عن خطأ وجهل، أن "يهوه" هو إله الإسرائيليين وحدهم، مثلما كانت آلهة الوثنيين مقصورة عليهم هم دون سواهم. وقد فاتهم أن "يهوه" هو "رب واحد للجميع لكل من يؤمن"، "لأنه لا فرق". إذ "ليس عند الله محاباة"

-ب-رجل الصلاة، وأسير الإنجيل، هو المؤتمن على السر: "أنا بولس أسير المسيح يسوع". تكلم بولس عن نفسه في هذا المقام بلهجة التوكيد: "أنا بولس"، لكنه توكيد المتواضع، الشاعر بنعمة الله عليه، لا توكيد الفخور المعجب بذاته. وإذا كان بولس فخوراً بشيء في هذا المجال، فهو إنما يفخر بالسجن، والسلاسل، والقيود التي تحمّلها في سبيل الإنجيل، بل يفخر بكونه "أسير المسيح يسوع". أوَ ليس أسير المسيح أشرف من أسير الخطايا؟ وأرفع شأناً من أسير الذات؟ وأسمى مقاماً من أسير أحد ملوك العالم؟ بل أليس أسير المسيح خيراً من أمير مقاطعة وأرفع قدراً من زعيم دولة؟ إلا أن السجن في سبيل المسيح، أفضل من الجلوس على أفخر العروش. والاستعباد له هو نِعمَ الحرية، والسلاسل الحديدية التي تُغَلّ بها الأيدي والأرجل في سبيله، لهي أحلى من أغلى الحلي التي تزين أجمل المعاصم.

"بولس أسير المسيح يسوع" –هذه العبارة ترسم أمامنا صورة رجل نحيل الجسم، مرتد ملابس بسيطة، ويده اليسرى مغلولة بسلسلة من أحد طرفيها- وطرفها الثاني مُطوِّق مِعصَم أحد الجنود الرومان القائمين على حراسته. وغير خاف أن بولس صار أسير محبة المسيح قبل أن يلج أبواب السجن المادي لأجل المسيح. ولعله أصبح أسير الفادي منذ تلك اللحظة التي قال فيها: "يا رب ماذا تريد أن أفعل"؟ (أعمال 9: 6). وقد ظل طوال حياته أسير حب المسيح سواء أكان في السجون أم خارج السجون. أليس هو القائل: "إن محبة المسيح تحصرنا" (2كو 5: 12)؟ ألم يقل قبل ختام حياته: "إني حامل في جسدي سمات الرب يسوع" (غلاطية 6: 17)؟ كان كثيرون في أيام بولس أسرى في قصر قيصر، لكن بولس أسير المسيح يسوع (أعمال 23: 11). فهو لم يفقد حريته نتيجة تعديه على شريعة أو وصية، بل نتيجة إطاعته وصية المسيح القائلة: "اذهبوا إلى العالم أجمع"

"أسير المسيح يسوع" –نلاحظ أن الرسول، في هذه العبارة، قدّم وظيفة المسيح كفادٍ: "المسيح" على اسمه الإنساني "يسوع".والظاهر أن كرازة بولس بأن الفادي هو "مسيح" الأمم، لا"مسيح" اليهود وحدهم، قد أثارت حفيظة اليهود عليه، فعملوا على طرحه في غياهب السجون.

-ج-تضحيات بولس لأجل المكتوب إليهم: "لأجلكم أيها الأمم". إننا مدينون للوقا الطبيب بحادث دونَّه في سفر الأعمال (21: 26- 30) يلقي ضوءاً ساطعاً على قول بولس: "أسير... لأجلكم أيها الأمم". "حينئذٍ أخذ بولس الرجال في الغد وتطهر معهم في الهيكل...فرآه اليهود من آسيا في الهيكل فأهاجوا كل الجمع صارخين يا أيها الرجال الإسرائيليون أعينوا. هذا الرجل الذي يعلّم في كل مكان ضداً للشعب والناموس وهذا الموضع حتى أدخل يونانيين أيضاً إلى الهيكل ودنّسَ هذا الموضع المقدس. لأنهم كانوا قد رأوا معه في المدينة تروفيمس الأفسسي فكانوا يظنون أن بولس أدخله إلى الهيكل. فهاجت المدينة كلها وتراكض الشعب وأمسكوا بولس وجرّوه خارج الهيكل وللوقت أُغلقت الأبواب".

هذا ضرب من ضروب العذابات التي تحملها بولس من أيدي اليهود قصاصاً وتأديباً على تلك "الجريمة التي لا تغتفر" –تبشير الأمم بالإنجيل!! فكان هذا الاختبار عربوناً لآلام مبرّحة، عاناها رسول الأمم لأجل الأمم، وقد اختتمت هذه الآلام بسجنه الأخير في روما حيث قضى شهيد الحق والواجب، في سبيل إبلاغ الأمم رسالة الحق والخلاص. ومن المعلوم أن قضية تبشير الأمم قد اجتازت أزمة حادة موصوفة في أعمال ص 15. اطلب أيضاً أعمال 22: 21و 22.

هذا هو "سر إنجيل الأمم". فكيف سُلمت مفاتيحه لبولس؟ هذا ما يعرفنا عنه الرسول في العدد التالي: أنه تقلد المفاتيح لا نتيجة مجهود من عنده، بل هبة إلهية مجانية –"مجاناً أخذتم. مجاناً أعطوا".

عدد 2 :

2إِنْ كُنْتُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ بِتَدْبِيرِ نِعْمَةِ اللهِ الْمُعْطَاةِ لِي لأَجْلِكُمْ

(1)بولس تقلد مفاتيح هذا السر، بتدبير من نعمة الله المعطاة بالإيهاب: "إن كنتم قد سمعتم بتدبير نعمة الله المعطاة لي لأجلكم"

-أ-معرفة المكتوب إليهم برسالة بولس إلى الأمم: "إن كنتم" –استعملت "إن" هنا للتعليل لا للشك، فهي يقينية لا شرطية، مع أنها أُفرغت في قالب الشرط شكلاً. ومعناها: "ما دمتم قد سمعتم حقاً بتدبير نعمة الله المعطاة لي لأجلكم". والظاهر أن الرسول التجأ إلى هذا الأسلوب في التوكيد، تلطفاً منه، واتضاعاً، وتودداً نحو المكتوب إليهم الذين تربطهم به روابط البنوة المقدسة في الرب. وقد لا تخلو هذه العبارة من التهكم اللاذع المؤسس على شدة الثقة وقوة اليقين. أو قل إنه يقين أُفرغ في صيغة فرض (4: 21). وإن من يقرأ أعمال 19: 10و 26، لا يمكن أن يخالجه شيء من الشك في أن بولس كان معروفاً لدى أهل أفسس، وأن رسالته لم تكن موضوع شك عندهم، إلا إذا احتاج النهار إلى دليل، فمن المحقق أن "رسالته" إلى الأمم لم تكن بعد سراً مخفي، بل صارت هي نفسها بشارة ذاع خبرها وشاع، وملأ الأسماع، وقت كتابة هذه الرسالة. ويقول الدكتور كاندليش إن بولس، بقوله: "إن كنتم قد سمعتم" قد وجه الخطاب إلى فريق من غير أهل أفسس ممن لم يسمعوا يقيناً برسالته إلى الأمم، سيما وأن هذه الرسالة غير مقصورة على كنيسة أفسس، لكنها رسالة دورية بعث بها إلى كنائس أخرى، مع العلم بأن كثيرين من آسيا ومن أماكن أخرى مجاورة لها، تشككوا كثيراً في رسالة بولس إلى الأمم بنوع خاص، وفي رسوليته بنوع عام، بل كانوا يستحون بقيوده.

-ب-النعمة الجزيلة التي وهبها بولس، والقصد منها: "بتدبير نعمة الله المعطاة لي لأجلكم". إن كلمة "تدبير" تصور لنا رب بيت مدبر حكيم، يوزع بركاته السخية على كل واحد من أفراد بيته، بتدبير محكم ونظام دقيق، يضمن كفاية البركات للجميع، فيأخذ كل منهم نصيبه الحق. وهو يجود بنعم وفيرة على بعض الأفراد لكي يوزعوها هم على غيرهم. هذه الكلمة من مميزات كتابات الرسول. وهي تعني "التوكيل"، أو "التوزيع" أو "تسليم الوديعة" (انظر 1كو 4: 1و 2، 9: 17، كولوسي 1: 25، 1 بطرس 1: 10). هذا هو "التدبير" الإلهي المحكم بموجبه وُهب بولس نعمة جزيلة، وهي نعمة الكرازة للأمم، لا مجرد النعمة الخلاصية. فالإنسان بعد أن ينال النعمة المخلِّصة له، يُوهب درجة أرقى في مراتب النعمة لتخليص غيره. هذه هي النعمة التي قال عنها بولس في رومية 1: 5 "الذي به لأجل اسمه قبلنا نعمة ورسالة لإطاعة الإيمان في جميع الأمم"، وفي عددي 7و 8 من هذا الأصحاح الذي نحن بصدده الآن: "الذي صرت أنا خادماً له حسب موهبة نعمة الله المعطاة لي حسب قوته، لي أنا أصغر جميع القديسين أُعطيت هذه النعمة أن أبشر بين الأمم بغنى المسيح الذي لا يستقصى".

هذه هي النعمة التي حصل عليها بولس "إذ سُرّ الله الذي أفرزه من بطن أمه ودعاه بنعمته، أن يعلن ابنه فيه ليبشر به بين الأمم" (غلاطية 1: 16). غير أنه ليس من الضروري أن يمضي وقت ما، بين نوال النعمة المخلصة للكارز، والنعمة التي تعينه على تخليص غيره –وإن شئت قل: بين نعمة البشارة، ونعمة التبشير. لأن بولس نال النعمة الخلاصية، وأحيط علماً بتدبير الله الفدائي، وتقلد نعمة حمل بشارة الخلاص إلى الأمم، في وقت واحد. فكأن كل هذه الثلاثة الأدوار المجيدة قد تمت له في آن واحد، حين التقى به المسيح في طريق دمشق. ولكن النعمة المقصودة في هذا العدد بالذات، هي نعمة تبشير الآخرين. وكل إنسان ينال الدرجة الأولى في النعمة لا يمكنه أن يقف عند هذا الحد، لأننا خلصنا لنخلّص، وبُشرنا لنبشر. فبولس لم يُوهب هذه النعمة لكي ينعمَ بها، ولا لكي يتمتع بها تمتعاً ذاتياً، وإن يكن هذا التمتع روحياً، لكنه وُهبها "لأجل الأمم" فهي إذاً ليست له وإنما هي لهم: "لأجلكم" – هذا أسمى مجال التنعم بالنعمة، لأن "المروي هو أيضاً يُروي".

------------------

(2) يرى بعض المفسرين في تنقل الرسول من موضوع إلى موضوع آخر قبل إتمام الموضوع الأول، دليلاً على أنه لم يكن يكتب بخطه بل كان يملي رسالته إملاء.

(3) يعتقد جماعة من المفسرين، أن الرسول بعد أن قطع سياق كلامه في نهاية العدد الأول، عاد فأستأنف في العدد الثامن. ويظن آخرون أنه استأنفه في العدد الثالث عشر. يقول قوم آخرون إنه وصله ببدء الأصحاح الرابع. ولكننا نرجح الرأي القائل بأنه استأنف الكلام في العدد الرابع عشر سيما وأن الرسول كرر في بدء هذا العدد نفس العبارة التي استهل بها العدد الأول "بسبب هذا"...

الإعلان والسر

عدد 3

3أَنَّهُ بِإِعْلاَنٍ عَرَّفَنِي بِالسِّرِّ. كَمَا سَبَقْتُ فَكَتَبْتُ بِالإِيجَازِ.

(2)بولس تقلد هذا السر –عن طريق الإعلان: "إنه بإعلان عرفني بالسر".

الكلمتان الرئيسيتان في هذا العدد هما: "إعلان". و"سر". وحتى نعرف معنى أولاهما، ينبغي أن نعرف معنى ثانيتهما. لقد مرّت بنا هاتان الكلمتان في العدد التاسع من الأصحاح الأول، حيث قال الرسول عن الله: "إذا عرفنا بسر مشيئته". "فالمعرفة" و"الإعلان" هما من مصدر واحد. فليرجع القارئ إلى الصفحة 61 من هذا الكتاب، ليعرف المعنى الأساسي لهاتين الكلمتين.

"إنه بإعلان عرفني بالسر" –أراد الرسول، أن يُفهم المكتوب إليهم، أن وديعة إنجيل الأمم لم تنته إليه نتيجة بحث عقلي قام به، ولا هي من مبتكراته الخاصة التي أوحت إليه بها غيرة نفسانية، ولا هي نتيجة اكتشاف اجتهادي قام به هو من عنديّاته، ولا هي تقليد أو رسالة تقلدهما من سُلفائه أو رؤسائه، وإنما هي إعلان خارجي عنه، خصّه الله به، وافتقده به في مراحمه، في وقت كان بولس لاهياً عنه، بل معرضاً عنه، بل معارضاً له.

غالباً جداً أفضى الله إلى بولس بهذا "السر" مجملاً، حين عرَّفه بحقيقة ذاته وصفاته يوم تجديده (أعمال 26: 17و 18). ثم كشف له عن مخبئات هذا السر، الكامنة بين ثناياه فعرفه ببعض مشتملاته وتفصيلاته أثناء الثلاثة الأعوام التي قضاها بولس في العربية، باحثاً، دارساً، متفكراً، متعبداً، كما يقول هو في موضع آخر: "لما سُر الله الذي أفرزه لي من بطن أمي ودعاني بنعمته. أن يُعلن ابنه فيَّّ لأبشر به بين الأمم، للوقت لم أستشر لحماً ولا دماً. ولا صعدت إلى أورشليم إلى الرسل الذين قبلي بل انطلقت إلى العربية ثم رجعت أيضاً إلى دمشق. ثم بعد ثلاث سنين صعدت أيضاً إلى أورشليم (غلاطية 1: 15- 18). هذا مطابق لاختبار نبي قديم: "قبلما صورتك في البطن عرفتك. وقبلما خرجت من الرحم قدستك. جعلتك نبياً للشعوب" (إرميا 1: 5) فرسالة الإنجيل، وسلطة تقلدها، وطريقة المناداة بها، نزلت كلها على بولس عن طريق الإعلان المباشر.

إن طبيعة الرسالة بما فيها من جلال ممتاز، وطبيعة الرسول الذي كان زعيم شيعة اليهود الفريسيين المتعصبين فأصبح رسول الأمم، وطبيعة المرسل إليهم –الأمميين، كل هذا يجعل الإعلان الإلهي المباشر لازماً شديد اللزوم. لأن الأشياء العادية تتطلب وسائل عادية مثلها، لكن الأشياء الخارقة للطبيعة تتطلب وسائل من وراء الطبيعة نظيرها. وهل من المستبعد على الإله العلي الذي استخدم وسيلة ممتازة في إقناع بطرس بالإقلاع عن أفكاره الطبيعية المتمكنة منه والمتأصلة فيه (أعمال 10)، أن يستخدم مثل هذه الوسيلة أو أبلغ منها، لانتزاع جذور التعصب الفكري من ذهن بولس نحو الأمم، وزرع أشجار المودة والصفاء والتسامح عوضاً عنها‍‍‍‍‍‍ ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‌‌‌!! أما عن كون الرسول بولس مستودعاً لسر الإعلان الإلهي، فهذا ظاهر من ترديده كلمة: "إعلان" بين ثنايا رسائله وكتاباته (رومية 16: 25، غلاطية 2: 2). وأما عن كونه مهبطاً لهذا الإعلان، فهذا واضح من (2كورنثوس 12: 1و 7، غلاطية 1: 16)

-أ-موجز هذا السر: "كما سبقتُ فكتبتُ بالإيجاز". يشير الرسول في هذه الكلمات إلى ما مرّ به، في الأصحاحين السابقين من هذه الرسالة. فالرسول لم يفصّل هذا السر تفصيلاً ولكنه ذكره موجزاً. وأتّى للغة البشر أن تحيط بما في هذا السر الجليل، من عرض، وطول، وعمق، وعلو!! فمهما أطال الرسول في شرحه وأطنب، لا يكون في إطنابه إلا موجزاً، ومهما أسهب في تفسيره، فلا يكن في إسهابه إلا قاصراً أو مقصراً.إن قوله: "كما سبقت فكتبت" مرادف لقولنا: "كما ذكرت آنفاً"

عدد 4 :

4الَّذِي بِحَسَبِهِ حِينَمَا تَقْرَأُونَهُ تَقْدِرُونَ أَنْ تَفْهَمُوا دِرَايَتِي بِسِرِّ الْمَسِيحِ.

-ب-طبيعة كلام الرسول تشهد لسمو مصدره، وتؤيد رسالته: "الذي يحسبه حينما تقرأونه تقدرون أن تفهموا درايتي بسر المسيح". قال المسيح: "بكلامك تتبرر وبكلامك تُدان". وقال في موضع آخر: "...الأعمال التي أعطاني الآب لأكملها. هذه الأعمال بعينها التي أنا أعملها هي تشهد لي أن الآب قد أرسلني... فتشوا الكتب... وهي التي تشهد لي". وقال أيضاً: "من ثمارهم تعرفونهم". على هذا المبدأ تُعتبر كلمات الرسول خير شاهد له أو عليه. ومع أنه لم يقدم للمكتوب إليهم شرحاً لبرنامج الفداء الذي أعده الله للمفديين بما فيهم الأمم، بل اجتزأ بخلاصة موجزة منه، إلا أن القليل ينمّ عن الكثير. فكما أن تحليل قطرة من مياه البحر يكشف عن ذات العناصر التي يتركب منها البحر كله، كذلك كلمات الرسول التي كتبها بالإيجاز، عن النصيب العظيم الذي جعله الله للأمم في برنامج الفداء، تتضمن جوهر الفداء بالذات. فيحق للمكتوب إليهم أن يجعلوا من هذا القليل الموجز خير دليل على المطول المعجز: " الذي منه تقدرون أن تفهموا درايتي بسر المسيح". إن الفهم المراد هنا، هو فهم التمييز."والسر" المقصود، هو الذي حدثنا عنه الرسول في العدد الثالث من هذا الأصحاح.

ولا يغرب عن بالنا، أن الرسول لم يرغب في الاستشهاد بأهل أفسس لدرايته بسر المسيح، حباً بهذه الشهادة في ذاتها، ولا طمعاً في المجد الذاتي الذي يناله من هذه الشهادة، لكنه كان ينبغي من وراء ذلك، إبلاغ رسالته إلى قلوبهم. فخيرهم هم لا خيره هو، كان مطلبه الأسمى. فهو لم يرغب إلى المكتوب إليهم، أن يشهدوا بمقدار ما أرادهم أن يحكموا لأنفسهم. ولم ينتظر منهم أن يؤخذوا بسمو مداركه، وإنما أرادهم أن يقتنعوا بصدق رسالته، وسلطانها الإلهي، ومبلغ فهمه لها –لأن رسالته لا تنفعهم إلا بمقدار إقناعهم بسمو مصدرها، وأنّى لهم أن يعرفوا "سر المسيح" إلا من شخص ذي خبرة ودراية؟ فالبصيرة الروحية النافذة –لا المعرفة العقلية المكتسبة- هي المقصودة بقوله: "درايتي بسر المسيح". فليس هذا كلام الفخور بنفسه ومؤهلاته، بل كلام الشاعر بضعفه وقدرة المسيح.

إن "سر المسيح" مرتبط تمام الارتباط بعمله (2: 14) وبمجده، (1: 10). فجوهر خلاصه هو: "المسيح فيكم رجاء المجد" (كولوسي 1: 27) وموضوعه هو: "المسيح المعلن". إن سراً عظيماً كهذا، لهو حقيق بأن يدعى "سر المسيح" أو "المسيح السر". فلا يمكن أن يكون من مبتكرات بولس، ولا من ثمرات خياله. لأن سمو السر شاهد لسمو مصدره. فكما أن قوة انحدار المياه تشهد لعلو منبعها، كذلك عمق هذا السر وسموه يشهدان له بأنه صادر من أعماق قلب الإله السامي بسلطانه، والسخي بنعمته، والغني بمحبته.

يقول بعض المفسرين: إن كلمة "تقرأونه" تعني التلاوة بصوت مسموع كما من منبر الكنيسة مثلاً. ولسنا نجد في القرينة ما يؤيد أو يفنّد هذا الرأي.

عدد 5 :

5الَّذِي فِي أَجْيَالٍ أُخَرَ لَمْ يُعَرَّفْ بِهِ بَنُو الْبَشَرِ، كَمَا قَدْ أُعْلِنَ الآنَ لِرُسُلِهِ الْقِدِّيسِينَ وَأَنْبِيَائِهِ بِالرُّوحِ:

(3)وقت إعلان هذا السر. ووسيلة إعلانه

هذا العدد يقسم نفسه إلى قسمين متقابلين، تفصل بينهما كلمة "كما". فهما شبيهان كفتيّ الميزان، كلمة "كما" شبيهة "بقصبة الميزان":

-أ-الزمن: "في أجيال أخر"...... "الآن"

-ب-درجة الوحي }..."قد أعلن بالروح"

 والإعلان } "لم يعرّف به"

..."لرسله القديسين

-ج-مهبط الوحي: "بنو البشر".....وأنبيائه...."

-أ-المقابلة الأولى تحدثنا عن الزمن الذي فيه أُعلن هذا السرّ. "الآن" مقابل "الأجيال الأخر" التي كان فيها هذا السر مكتوماً ومختوماً. وقد أراد ب"الأجيال الأخر" الأزمنة السابقة لعصر الإنجيل، حين كان اليهود يعتقدون أن "يهوه" هو إلههم هم دون سواهم، وأن لا نصيب للأمم معهم في التبني والعهود والمواعيد، لأن "سر" إنجيل الأمم كان مكتوماً عنهم.

-ب-المقابلة الثانية ترينا أن هذا "السر" قد "أعلن" لبولس ولغيره من الرسل "بالروح القدس"، مع أن بني البشر لم "يُعرَّفوا به" في "الأجيال الأخر". فالبشر قديماً لم يستطيعوا بمقدرتهم الفكرية، ولا باستنتاجاتهم العقلية، ولا بتصوراتهم الخيالية، أن يكتشفوا هذا السر ولا أن يكشفوه. وأنّى للعقل البشري أن يصل إلى كنه معلنات "الروح"! وكما أنه يستحيل على الطفل الرضيع أن يفهم العلوم الجامعية العويصة، كذلك تعذرَ على العقول البشرية الغير الناضجة أن تفهم هذا السر، لا لأنها لم تقوَ على فهمه أو كشفه فحسب، بل لأن وقت إعلان هذا السر لم يكن قد حلّ بعد، لأن "ملء الزمان" لم يكن قد حان، ولأن "الروح لم يكن قد أعطى بعد لأن يسوع لم يكن قد مُجد بعد". ألا يستفاد من قوله: "كما قد أعلن" إن كلمة "كما" تشير إلى الدرجة الممتازة التي أعلن بها هذا "السر" في العهد الجديد مقابل تلك الدرجة الجزئية الضئيلة الشبيهة بالأشعة المتكسرة، التي أعلن بها هذا "السر" لفئة قليلة ضئيلة من أبطال العهد القديم، الذين كانوا بالنسبة للشعب، مثل قمم الجبال الشاهقة بالنسبة لحصباء الوادي؟ و"السر" ليس بجديد لكن إعلانه هو الأمر الجديد. كان في الماضي "مكنوناً" فأصبح الآن معلناً

-ج-المقابلة الثالثة تصف الفارق العظيم بين من خفي عنهم هذا السر: "بنو البشر" وبين من أعلن لهم بالروح: "رسله القديسين وأنبيائه بالروح". إن كلمة "بنو البشر" تضم بين دفتيها جميع أهل "الأجيال الأخر" من يهود وأمميين. ومن المحتمل أن بعضاً من المستنيرين أمثال إشعياء وسمعان الشيخ قد رأوا بصيصاً من ضوء هذه المعلنات (أعمال 13: 47، رومية 15: 8- 12، إشعياء 56: 6و 7). ولكن أنى لضوء الفجر أن يواجه ضياء الشمس!! (1بطرس 1: 10- 12).

أما الذين شرفهم الله بهذا الإعلان المجيد، فقد وصفهم الرسول بقوله: "رسله القديسين وأنبيائه بالروح". هذه العبارة تنم عن حقيقتين –

أولاهما: مهبط الوحي: "رسله القديسين وأنبيائه"-هؤلاء هم رسل العهد الجديد وأنبيائه (4: 11)- وبولس أحدهم بل على رأس القائمة مع أنه رضي تواضعاً منه أن يضع نفسه في ذيلها (1كورنثوس 15: 9). وإذا كان بولس أحد هؤلاء الرسل والأنبياء، أفلا يُلام على كونه تبرع لنفسه ولهم بكلمة: "قديسين" فكيف يتفق هذا مع ما هو مشهور عنه من الوداعة والتواضع؟ إن هذا اللبس لا يلبث أن يزول من أذهاننا متى ذكرنا المعنى الخاص الذي تنطوي عليه كلمة: "قديسين". فهي لا تصف حالة كمالية منزهة عن كل شر وشبه شر، ولكنها تعني التخصص والفرز، والتكريس. فهؤلاء الرسل والأنبياء هم قديسون لأنهم أفرزوا لله في الروح وبالروح. فهم إذاً مقدسون في مقامهم ووظيفتهم ودعوتهم. وفي الوقت نفسه هم مُقدسون بالدم الثمين، ومتقدسون في الروح القدس، وهم أنقياء بسبب كلام المسيح، الذي هو كلمة الله الحي الباقي إلى الأبد. ولا تنس أن أهل أفسس وصفوا بهذه الكلمة: "قديسين" نسبة لدعوتهم العليا في السماويات في المسيح يسوع. وأن اليهود سموا "شعباً مقدساً" نسبة لكونهم شعباً مقتني من الرب وللرب.

الحقيقة الثانية: واسطة الوحي: "بالروح" هذا هو الروح القدس الذي ألهم الأنبياء والرسل فيه هم مقدسون، وبه هم ملهمون. وكلمة: "بالروح" يجوز أن تترجم حرفياً إلى: "في الروح". لأن هذه المعلنات جاءتهم وهم "في دائرة الروح". قد تعتبر كلمة: "بالروح" وصفاً لكلمة: "أعلن" –أي أن الروح هو واسطة الإعلان. وأن نعتبرها وصفاً لقوله: "لرسله القديسين وأنبيائه" فتكون وصفاً لحالة الرسل القديسين والأنبياء حينما تلقوا المعلنات الإلهية، بخلاف بني البشر –أو بني آدم- الذين كانوا على حالتهم الطبيعية فخفيت عنهم هذه المعلنات العميقة السامية. قال بنغال تعليقاً على كلمة: "أعلن": أن الإذاعة بالإعلان هي سر الإذاعة بالكرازة".

عدد 6 :

6أَنَّ الأُمَمَ شُرَكَاءُ فِي الْمِيرَاثِ وَالْجَسَدِ وَنَوَالِ مَوْعِدِهِ فِي الْمَسِيحِ بِالإِنْجِيلِ.

ثانياً: موضوع هذا السر: "إن الأمم شركاء"

هذه هي خلاصة "السر" الذي أعلن لبولس، بل جوهر السرّ: إن الأمم شركاء اليهود في بركات الإنجيل. وقد أوضح الرسول في هذا العدد ثلاثة أمور:

-أ-بركات هذا السر –ب-العامل الأساسي فيها –ج-العلة الثانوية فيها

-أ-بركات هذا السر: "الميراث، والجسد، ونوال موعده" –هذه إذاً شركة مثلثة يتساوى فيها الأممي واليهودي على السواء (1)شركة في الميراث. "شركاء في الميراث". (2)شركة العضوية في الجسد الواحد: "والجسد". (3)شركة التمتع بروح الموعد المقدس: "ونوال موعده في المسيح بالإنجيل".

فالجانب الأول: "شركة الميراث" يعين نصيب الأمم مع اليهود في الله الآب (رؤ 2: 17، غل 2: 29، 4: 7). والجانب الثاني: " شركة العضوية في الجسد الواحد" يبين نصيب الأمم مع اليهود في الابن الذي هو رأس هذا الجسد الغير المنظور (2: 15- 22). والجانب الثالث: شركة التمتع "بنوال موعده" القدوس، يقرر نصيب الأمم مع اليهود في الروح القدس، الذي هو "روح الموعد المقدس" (أعمال 1: 14). فإذاً هذه الشركة المثلثة الجوانب تعيّن النصيب المشترك الذي للأمم واليهود على السواء في الإله الواحد المثلث الأقانيم. فهم شركاء في الميراث الواحد الذي لهم من الآب، وفي الجسد الواحد الذي رأسه المسيح، وفي شركة الروح القدس الواحد (1: 3، 2: 12، عب 6: 4).

فما أجل هذا السر وما أمجده! قبلاً كان اليهود ينظرون إلى الأمم –ويا ليتهم ينظرون بغير أنفة وترفع- نظرتهم إلى سقط المتاع، المزدري والغير الموجود. نظرة كلها زراية، فيحتقرونهم. وكانوا ينظرون إلى الله نظرة تنم عن قلوب ضيقة فيحتكرونه لأنفسهم –فيظنون أنهم هم وحدهم ورثة مجده، ومنهم وحدهم تتألف الأمة المختارة فلا يختلطون بأحد ولا يمتزجون ولهم وحدهم شركة موعده. كل هذا كان قبل إعلان هذا السر المجيد الذي به صار الأمم ورثة مع اليهود في الله، فأصبحوا وإياهم أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع (غلاطية 3: 26، رومية 8: 17). وقد أضحوا وإياهم أعضاء متآلفين في جسد المسيح الذي هو كنيسته الغير منظورة (2: 16). فبالنسبة لهذا الجسد الواحد، هم مساهمون. وبالنسبة لبعضهم البعض هم متحدون متآلفون –هذا هو المعنى الحرفي لقوله: "شركاء في الجسد". وبالتالي صاروا وإياهم شركاء في نوال موعد الروح، الذي يأخذ مما للمسيح ويعطيهم سوية، "قاسماً لكل واحد بمفرده نصيباً كما يشاء" (1كورنثوس 12: 11). هذا حق في الحال لا في الاستقبال.

-ب-العامل الأساسي في نوالها: "في المسيح" –هذا هو العامل الأساسي في تمتع الأمم مع اليهود بهذه البركات المشتركة: اتحادهم وإياهم في المسيح. بل هذا مقامهم، وامتيازهم، ومجدهم. في المسيح صاروا أبناء الله فأضحوا شركاء مع بعضهم البعض في الميراث المقدس الذي لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل. في المسيح صاروا أغصاناً في الكرمة الواحدة وأعضاء أحياء في الجسد الواحد. في المسيح صار لهم حق نوال الروح والامتلاء بالروح، لأن الروح هو رسول المسيح إلى كنيسته بعد صعوده، وهو معزيها بعد افتراقه عنها بجسده المنظور.

-ج-الوسيلة الثانوية: "بالإنجيل". فالإنجيل هو الواسطة التي بها نُفذ التدبير الإلهي في فداء الأمم واليهود سواء بسواء، وبواسطته أظهر وأعلن بالكرازة والبشارة. بالإنجيل تسلم بولس هذا الإعلان، وبالإنجيل أعلن بولس هذا السر للأمم. وفي الإنجيل ولدهم (1كو 4: 15، رو 10: 8- 15، 16: 25).

هذا من جهة الله، وأما من جهة البشر، فما عليهم إلا قبول الإنجيل بالإيمان. وفي قبولهم إياه يقبلون كل البركات التي تصحبه.

يعتقد الدكتور موفات أن هذه الشركة المثلثة منحصرة كلها في الجانب الأخير –الموعد. فترجم هذا العدد على هذه الصورة: إن الأمم لهم شركة الميراث، وشركة الزمالة، وشركة المساهمة- في الموعد. أي أن الأمم وارثون مع اليهود، وشركاء لليهود، ومساهمون مع اليهود في الموعد الواحد. ولكننا لا نستطيع الأخذ بهذا الرأي لأن فيه إخفاء لكلمة "الجسد"، وإنما أوردناه لمجرد تبيان الأشياء بأضدادها. ولعل هذا المترجم ارتأى هذا الرأي لأن الرسول خلق في هذا العدد كلمتين لم تستعملا قط من قبل. كأنه وجد أن بردة الكلمات اليونانية الموجودة في وقته ليست بكافية ليخلعها على هذا الحق خلعاً، فخلق له كلمتين خلقاً!

موقف بولس إزاء إنجيل الأمم

(3: 7- 9)

بولس خادم لإنجيل الأمم (3: 7):

7الَّذِي صِرْتُ أَنَا خَادِماً لَهُ حَسَبَ مَوْهِبَةِ نِعْمَةِ اللهِ الْمُعْطَاةِ لِي حَسَبَ فِعْلِ قُوَّتِهِ.

إن كلام الرسول هنا موازٍ لكلامه في كولوسي 1: 24- 29 حيث قال: "...الإنجيل الذي سمعتموه.. الذي صرت أنا بولس خادماً له"...، "الكنيسة التي صرت أنا خادماً لها حسب تدبير الله المعطي لي لأجلكم"... "الأمر الذي لأجله أتعب أيضاً مجاهداً بحسب عمله الذي يعمل فيّ بقوة"

تكلم الرسول في هذا العدد عن ثلاث حقائق متتابعة –الحقيقة الأولى: تؤدي بنا إلى الثانية، والثانية تصل بنا إلى الثالثة لكنّ الثالثة قياس للثانية، والثانية قياس للأولى. في الحقيقة الأولى أرانا الرسول صلته بهذا الإنجيل: "الذي صرت أنا له خادماً". وفي الحقيقة الثانية حدّثنا عن قياس كفايته لهذه الخدمة: "حسب موهبة نعمة الله المعطاة لي". وفي الحقيقة الثالثة أبان لنا كفاية قياس النعمة المعطاة له: "حسب فعل قوة الله". ويقول الأسقف موليه –استناداً إلى دلالة الكلام في اللغة الأصلية- إن العبارة "حسب فعل قوته" لا تصف ما قبلها، بل تتخطاه وتعود إلى قول الرسول: "خادماً له" أي أن الرسول صار خادماً للإنجيل بمؤهلين –أولهما: نعمة الله الموهوبة له. وثانيهما: قوة الله العاملة فيه- فهو إذاً خادم بحق الدعوة الإلهية، ومؤيد بفعل قوة الله. فنعمة الله تعيّن سمو خدمته، وقوة الله تعيّن اقتدار خدمته. وربما كان أقرب إلى المنطق أن نأخذ بالرأي الأول المتفق والترجمة العربية، على اعتبار أن نعمة الله هي أساس دعوة بولس للخدمة، وأن فعل الله هو قياس نصيبه من النعمة.

الحقيقة الأولى: صلة بولس بالإنجيل: "الذي صرت أنا خادماً له". إن كلمة: "الذي" تعود على آخر كلمة في العدد السابق: "الإنجيل". ولا شك في أن كلمة "صرت" تنمّ عن تاريخ جليل حافل بالحوادث والعبر، هو تاريخ انتقال الرسول من ملكوت الظلمة إلى ملكوت ابن محبة الله، فأضحى الطرسوسي شاول، بولس الرسول. وأمسى عدو الأمم اللدود، صديقهم الودود وصار مضطهد رب الإنجيل خادماً للإنجيل. وقد يلذ لنا أن نعرف أن الكلمة المترجمة "خادماً" هي في الأصل "ديّا كونوس" ومعناها الحرفي "شماساً" وهي تفيد أمرين –أولهما: خدمة النشاط الفعال، والثاني: التبعية، فبولس خادم نشيط للإنجيل قاسى في سبيله أضعاف ما تحمّله أي شخص آخر في سبيل عملٍ كرّس له مواهبه وقواه. فما نشاط رجل المال في سبيل المال سوى بعض نشاط بولس الرسول في خدمة الإنجيل. وهو أيضاً يدين للإنجيل بحقّ التبعية، فهو خادم وعبد. لأن كل ما لبولس، للإنجيل (رو 1: 15)، فلا عجب إذا كان كل ما للإنجيل من نعم وبركات، لبولس.

إذا كان بولس الرسول قد خلع على نفسه وظيفة "شماس" فهل علم شمامستنا أنهم رسل؟ إننا نعني بالرسولية ما فيها من خدمة وتضحية وأمانة، لا ما فيها من مجد وجلال وزعامة!

الحقيقة الثانية: قياس كفاية بولس للخدمة: "حسب موهبة نعمة الله المعطاة لي". إن النعمة التي أهّلت بولس للخدمة، هي التي خلصته أولاً. وأن "موهبة النعمة" المشار إليها هنا، تتضمن تقليده رسالة الإنجيل، وتعضيده في تبليغها، وإلهامه بنور الحق الإلهي. فخدمة بولس كانت من حيث سعة مداها، وسمو رسالتها، وعمق تأثيرها، من عمل "موهبة نعمة الله المعطاة له" لا عن استحقاق ولا عن جدارة، بل لأن النعمة أرادت. وهل من إرادة للنعمة سوى النعمة؟!

الحقيقة الثالثة: كفاية قياس النعمة الموهوبة لبولس: "حسب فعل قوتّه" إن لهذه العبارة الأخيرة مثيلات في غير هذا الموضع: "حسب عمل شدة قوته" (1: 19)، "حسب عمل استطاعته" (فيلبي 3: 21)، "حسب عمله الذي يعمل فيَّ بقوته" (كولوسي 1: 29). فالرسول يصف بها اختباره فعل قوة الله في حياته وفي خدمته. إن نعمة الله جزيلة وموهبة نعمته جزيلة كنعمته، ولكن لا سبيل إلى إيصال موهبة نعمة الله، إلى بولس، إلا عن طريق فعل قوة الله في بولس. فقوة الله خصصّت لبولس موهبة نعمة الله بقوّتها الفعالة، وفعلها القوي في حياته. إذاً فعل قوة الله في حياة بولس وخدمته، هو قياس نصيبه من موهبة نعمة الله المعطاة له. إن موهبة نعمة الله أُغدقت عليه بسخاء جزيل، وقوة الله عملت في حياته باقتدار جليل. يقول يوحنا الذهبي الفم: "لم تكن موهبة النعمة بكافية، لو لم يخصصها لي فعل القوة.

بولس مبشر بالإنجيل

 (3: 8):

8لِي أَنَا أَصْغَرَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ أُعْطِيَتْ هَذِهِ النِّعْمَةُ، أَنْ أُبَشِّرَ بَيْنَ الأُمَمِ بِغِنَى الْمَسِيحِ الَّذِي لاَ يُسْتَقْصَى، في هذا العدد، ذكر الرسول أربع حقائق: -أ-مقامه: "أنا أصغر جميع القديسين" –ب-مؤهلاته: "لي أعطيت هذه النعمة" –ج-مهمته: "أن أبشر بين الأمم" –د-رسالته: "غنى المسيح الذي لا يُستقصى".

-أ-مقامه: "أنا أصغر جميع القديسين". هذه العبارة متممة لما قبلها. في بدء العدد السابق صدرت من الرسول إشارة عن نفسه إذ قال "الذي صرت أنا...". فمرّ بكلمة "أنا" مرور الكرام على غير عادته. لأن بولس الكريم على غيره، بخيل على نفسه –إلا بألقاب التحقير والمذلة، فلم يسعه إلا أن يعود إلى "أنا" ليعطيها حقها الواجب، فعلقها على الصليب ليرفع المسيح على عرش القلب والحياة! فإلى كل من يداخله في نفسه شكّ من جهة وداعة بولس وتواضعه، وإلى كل من أساء فهم كلام بولس عندما سمعه يتحدث عن نعمة الله التي أوحت إليه بالسرّ الذي خفي عن غيره إلى هؤلاء ومن على شاكلتهم نسوق الحديث راجين منهم أن يقرأوا: الكلمات الآتية بإمعان: "لي أنا أصغر جميع القديسين" –مع العلم أن كلمة "قديسي" لا تعني تلك الطغمة الخاصة التي رفعتها بعض السلطات البشرية إلى مراتب الأملاك، وسمت بها إلى ما فوق الأفلاك، ولكنها تضمّ بين جوانبها أضعف المؤمنين بالمسيح، وأحقرهم شأناً، وأدناهم مقاماً، ممن تساورهم الهواجس أحياناً، وتعصف بهم الضعفات ألواناً. ومع كلّ، فإن بولس، أصغر جميع هؤلاء الأصاغر- ولكن في عيني نفسه فقط! لا في نظر الله ولا في عيون المنصفين من البشر. وغير خافٍ أن الرجل الأممي الذي قال عن نفسه: "لستُ مستحقاً" (لوقا 7: 6). وقال فيه المنصفون من البشر: "إنه مستحق" (لوقا 7: 4) قال فيه المسيح ربّ المجد: "لم أجد ولا في إسرائيل إيماناً بمقدار هذا" (لوقا 7: 9) وجدير بالملاحظة أن الكلمة اليونانية المترجمة "أصغر" تعني حرفياً: "أصغر الأصغرين"- فلا مجال فيها لمزيد من التواضع.

ثلاث مرات وضع بولس تقديراً لنفسه بالنسبة إلى الآخرين –وفي كل مرة كان ينقص تقديره لنفسه عن المرة السابقة لها، مما يدل على أن بولس كان متصاعداً صعوداً متوالياً على سُلم النعمة. وكلما سما الإنسان في درجات النعمة والقداسة، هبطت نفسه في عينيه، فأضحت لا شيء.

في المرة الأولى –عام 59 م قال: "إني أصغر الرسل" (1كو 15: 9)

وفي الثانية –عام 64 م قال: "أنا أصغر جميع القديسين" (أفسس 3: 7)

وفي الثالثة –عام 65 م قال: "أنا أول الخطاة" (1تي 1: 15)

من هذا نرى أن تلك الأنانية النفسانية المعبر عنها بكلمة "أنا" كانت تصغر في عينيه تدريجاً. في البداءة قابلها بالرسل، فإذا هي أصغر منهم. ثم قابلها بالقديسين، فإذا هي أحقر منهم. أخيراً لم يجد بداً من مقابلتها بالخطاة فإذا هي في مقدمتهم!! طوباك يا بولس لأنك كلما صغرت في عيني نفسك عظمت في نظرنا –ولكن ماذا يهمك من نظرنا نحن الخطاة! فأنت أعظم في نظر الملائكة. ولكن ماذا يعنيك من الملائكة وهم خدام للعتيدين أن يرثوا الخلاص؟ لا بل أنت عظيم في نظر الله وكفى بالله شهيداً!!

ليس من الضروري أن تكون هذه العبارات الثلاث: "أصغر الرسل"، و"أصغر جميع القديسين" و"أول الخطاة" معبرة عن ثلاث درجات متتابعة قد ارتقاها بولس في سلم الوداعة، فقد تكون ثلاثة تعبيرات متفاوتة لحقيقة واحدة.

تعوّد يوحنا الذهبي الفم أن يقول "يا رب احمل نفسي على التواضع واحفظها في هذا المستوى دواماً".

-ب-مؤهلاته: "لي... أعطيت هذه النعمة". هذا توكيد لما جاء في العدد الثاني من هذا الأصحاح. حسناً أُطلق على بولس لقب: "رسول النعمة". فبالنعمة نال الخلاص (1تي 1: 14)، وبالنعمة دُعي للخدمة (غلاطية 1: 15)، وبالنعمة بلغ ما هو عليه (1كو 15: 10) وبالنعمة تأهب للكرازة وقام بها (أفسس 3: 8)، وبالنعمة "جاهد وتعب" (1كو 15: 11)

-ج-مهمته: "أن أبشر بين الأمم". جميل بالرسول أن يفخر بكونه "مبشراً". فهلاّ علم "المبشرون" أنهم رسل حاملون البشرى الطيبة المفرحة! "فما أجمل على الجبال قدمي المبشر" –ولكن على شرط أن يكون المبشر مرتقياً، وعائشاً، وسالكاً على جبال القداسة والشركة مع الله، فمن شواهق الجبال يأتيه العون.

إذا كان المنفرون الذين ينفخون في بوق النزاع والشقاق، يرفعون عيونهم إلى الجبال الأرضية الشاهقة، فما أحرى بالمبشرين بغنى المسيح الذي لا يستقصى، أن يرفعوا عيونهم إلى الجبال السماوية لينتظروا العون من رب البشارة. وإذا كان المنادون بأشياء تافهة ذاهبة، لا يستحون ببضاعتهم، فأجمل بحاملي غنى المسيح الذي لا يستقصى، أن يفتخروا بهذه الكنوز التي تصغر دونها أفخر كنوز الذهب.

إن كلمة "أبشر" تعني حمل الخبر المفرح وإذاعته. أليس المستفاد ضمناً من هذا، أن العالم في حزن عميق، بسبب ظلام الخطية، وجروحها الدامية، وطعناتها المميتة! هذه هي الحال التي كان عليها الأمميون قبل أن تصلهم رسالة الإنجيل، فكانوا واليهود سواء بسواء في الحالة الروحية.

-د-رسالته –أو- موضوع بشارته: "غنى المسيح الذي لا يُستقصى". ما أغناك يا بولس وأنت حامل غنى المسيح الذي لا يُستقصى! بل ما أقواك لأنك قدرت أن تحمل "غنى المسيح الذي لا يُستقصى"! أشبه الرسول في هذا الموقف، بشخص كان يبحث عن لآلئ ثمينة، وبعد الجهد الجهيد، اهتدى إلى كنز ملئ باللآلئ الدريّة، والجواهر الكريمة. فما كاد يرى جانباً من هذا الكنز حتى تفتحت أمامه جوانب عدّة رأى فيها أكداساً من الجواهر، وأهراء من اللآلئ، فبُهر من فرط جمالها وضيائها، وأُخذ من وفرة عددها وفيض غناها، فخرج منادياً لكل من لاقاه: "غنى لا يُستقصى"!! "غنى لا يُستقصى"!. بل ما أشبهه بعالم مستكشفٍ مضى إلى بلاد بعيدة باحثاً ومنقباً عن مناجم. فما كاد يكتشف أول منجم حتى ظهرت له من ورائه مناجم غنية بمعادنها، لا حصر لها ولا عدّ، فكفّ عن الاستكشاف لأنه وجد في تلك البلاد الغنية كنوزاً لا تُستقصى. يفنى الزمان، وكنوزها لا تفنى، ويتقادم الجديدان وهي لا تزال جديدة في كل صباح، ثم عاد يهتف بملء فمه: "غنى لا يُستقصى! غنى لا يُستقصى"!!. غنىً لا حد لعرضه لأنه يغني الجميع من دون أن ينقص منه شيء. ولا حصر لطول مداه فالسنون تفنى وهو باقٍ! وتبلى الليالي وهو جديد. ولا نهاية لعمقه الذي لا يسبر له غور لأنه متأصل في أزلية الله. ولا غاية لعلوه لأنه يجري من تحت عرش الله. فهيهات لبشر أو لملاك أن يعرف "ما هو العرض والطول والعمق والعلو".

المعنى الحرفي للكلمة اليونانية المترجمة "لا يستقصى" هو "لا يمكن أن يقتفى له أثر" – وبالتالي لا يمكن أن يسبر له غور. ولم ترد هذه الكلمة في العهد الجديد سوى مرة أخرى غير هذه – "ما أبعد طرقه عن الاستقصاء" (رومية 11: 33). وقد وردت ثلاث مرات في الترجمة السبعينية – الترجمة اليونانية القديمة للعهد القديم – أيوب 5: 9، 9: 10، 34: 24. فتُرجمت في الأولى، وفي الثانية "لا تُفحص"، وفي الثالثة "بدون فحص".

"غنى المسيح الذي لا يُستقصى" – هذه خلاصة الإنجيل، بل نبعه الفياض الذي لا ينضب له معين. فلا خلاص بغير إنجيل، ولا إنجيل بغير مسيح، ولا مسيح بغير غنى لا يُستقصى. إن المسيح غنى في وداعته، غنى في قدرة فعالة، غنى في حكمة أقواله، لكنه فوق الكل غنى في محبته المضحية.

بولس حامل مصباح الإنجيل

 (3: 9)

9وَأُنِيرَ الْجَمِيعَ فِي مَا هُوَ شَرِكَةُ السِّرِّ الْمَكْتُومِ مُنْذُ الدُّهُورِ فِي اللهِ خَالِقِ الْجَمِيعِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ.

 يرسم أمامنا هذا العدد صورة قومٍ يحاولون السير في مسالك متعرّجة يكتنفها ظلام دامس، فيتخبّطون في ظلامها، وإذا بشخصٍ حكيم قد أشفق عليهم فسلّط نوراً كشافاً قوياً، فبدّد الظلمات وأنار الطريق، وأوضح السبيل للبصائر والأبصار. أما القوم المتخبّطون، فهم "الجميع" ـ أي كلّ البشر يهوداً كانوا أم أمميين. وأما السبيل الذي لم يكن واضحاً أمامهم فهو "سرّ" القصد الأزلي في افتداء الأمم. وأما النور الكشّاف الذي أضاء السبيل، فهو نور الإنجيل. وأما حامل النور فهو بولس الرسول.

 وردت كلمة "ينير" مرة أخرى في العهد الجديد "... وأنار الحياة والخلود بالإنجيل) (2تي 1: 10). وهي تعني أن الحقّ الذي كان غامضاً في ضوء فجر نبوّات العهد القديم، أضحى ساطعاً في نور شمس الإنجيل. ومن المحتمل أن بولس استعمل هذه الكلمة في هذه الرسالة بمعناها المتداول عند الأمم وقت كتابة الرسالة ـ أي كشف "السرّ" للمؤمنين من أعضاء جمعياتهم (أطلب تفسير 1: 9و18). إن كلمة "شركة" تعني "تدبير". (أطلب تفسير العدد الثاني من هذا الأصحاح).

 إن لله قصداً أزلياً في خلق الجميع. لكن هذا القصد ظل "سراً" مكنوناً في فكره تعالى، ومخفيّاً عن أفكار البشر والملائكة، مدة أجيال طويلة. وفي ملء الزمان كشف الله عن هذا السرّ لأنبيائه ورسله القديسين فأوضح للجميع، أن الله الذي خلق جميع الخلائق والكائنات في المسيح، لم يخلقهم عبثاً، ولكنّه خلقهم لقصدٍ سامٍ شريف، إذ فداهم بالمسيح، ليحضرهم كاملين في المسيح، وليبلغهم إلى قياس قامة ملء المسيح. هذه هي الحكمة التي خفيت ثم أعلنت بالإنجيل.

رابعاً: الغاية القصوى من إعلان هذا السر (3: 10-13)

10لِكَيْ يُعَرَّفَ الآنَ عِنْدَ الرُّؤَسَاءِ وَالسَّلاَطِينِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ بِوَاسِطَةِ الْكَنِيسَةِ بِحِكْمَةِ اللهِ الْمُتَنَوِّعَةِ،

 عدد10 ـ (1) لكي يعرف عند الرؤساء والسلاطين بحكمة الله المتنوّعة. تحدّث الرسول في العدد السابق عن إطلاق نور الإنجيل الكشّاف أمام عيون جميع البشر من يهود وأمميين، لكي يستنيروا في معرفة قصد الله الأزليّ الذي ظلّ مستوراً عن البشر مدة أجيالٍ طويلة، فأعلن لهم في ملء الزمان. وبما أن البشر وحدهم ليسوا كلّ الخلائق العاقلة، ولكنّهم يؤلّفون مع الملائكة، كتلة الخلائق العاقلة، فلم يكن في إمكان الرسول أن يتغاضى عن نصيب هذه الطغمة الممتازة من نور الإنجيل الكاشف. هذا موضوع الكلام في هذا العدد.

 قال بطرس الرسول (1بط1: 12): إن فداء البشر هو موضوع أشواق الملائكة، وإنّ سرّ هذا الفداء هو الهدف الذي يوجّهون إليه جلّ محاولاتهم في سبيل استكشافه. لأن الشيء الذي يستحقّ أن يكون موضوع تفكير الله، حقيق بأن يكون موضوع تفكير الملائكة ومشتهى آمالهم. وإذا كان الله قد أراد أن ينير جميع البشر في ما هو شركة السرّ المكتوم، قد أراد أيضاً ـ تفضّلاً منه ـ أن يعرّف الملائكة بحكمته المتنوّعة التي ظهرت في تدبير هذا السرّ، وفي إخفائه، وفي إعلانه. أبان الرسول في هذا العد أربع حقائق:

 أ- وقت كشف هذا السرّ: "الآن" ـ أي في "ملء الزمان"، الذي هو عصر الإنجيل.

 ب- لمن يُذاع هذا السر: "عند الرؤساء والسلاطين في السماويات". ورد ما يماثل هذه العبارة في 1: 21 من هذه الرسالة. وهي تعني الملائكة المتشوّقين إلى معرفة أسرار الفداء (1بط1: 12)، ومتلهّفين إلى كشف الغوامض، كما نراهم سيّما في الرؤيا الأخيرة من سفر دانيال. فلئن كانوا أوسع معرفةً واطّلاعاً من بني الإنسان، إلاّ أنهم محدودون في هذه المعرفة، فلا يتّصل بعلمهم إلاّ ما يسمح لهم الله به. ومن الطبيعي أن يهتمّ الملائكة بمعرفة "أسرار" الفداء، لأنها تعلن لهم الحكمة الإلهية التي رتّبت كلّ شيء في وقته، وفي محلّه اللائق به. فلا خطأ ولا إسراف. ومن المحتمل أن الملائكة يبغون الاطّلاع على "أسرار" فداء البشرية لأنها تُنير أمامهم السبيل فيما يجهلون من معاملات الله لهم. لأن إله البشر هو إله الملائكة. فمتى ظهرت حكمته في إحدى نواحي سياسته، كانت هذه حجّة دامغةً على حكمته الممتازة في كلّ أعماله. أما مقام الملائكة ومكانهم، فقد عبّر عنهما الرسول بقوله: "في السماويات". قد أوضحنا المراد من هذه العبارة في تفسير 1: 3 فليطلبها القارئ هناك.

ج- أداة إذاعة هذا السرّ للملائكة: "... الكنيسة". هذه مرة ثانية وردت فيها هذه الكلمة في رسالة أفسس، وفيما بعد نلتقي بها في نهاية هذا الأصحاح، وستواجهنا ستّ مرات أخر في مختتم الأصحاح الخامس. ومن الملاحظ أن بولس لم يستعمل هذه الكلمة في رسالة أفسس للدلالة على جماعة محلية ـ مع أنه استعملها مرتين من أربع مرات في كولوسي ـ لكنّه أراد بها هنا الكنيسة غير المنظورة الجامعة لكلّ المؤمنين في كلّ أمة وفي كلّ جيل.

عندما يتمّ عمل نعمة الله في الكنيسة، ويلبس المفديّون حُلل البرّ والبهاء والمجد، التي حاكتها لهم النعمة، ووشّحتها بدم الفادي الكريم، وطرّزتها بأشعة أنوار مجد الآب العظيم، وجمّلتها بضياء قداسة روح الله القدّوس ـ عندما يتمّ كلّ هذا ويذكر الجميع ما كانوا عليه من حقار، ودنس، وصغار، عندئذاك يدوّي في الفضاء صوتٌ جامعٌ، مترنّماً بمجد الله الذي يستحقّ كلّ إكرامٍ وسجود. لأنه صنع من التراب تبراً، ومن الفحم ماساً، ومن الأشواك ورداً وريحاناً، فيعرف الملائكة، بواسطة هذا الاستعراض الجليل الذي فيه استعلن أولاد الله، أن كلّ أعمال الله بحكمةٍ قد صُنعت.

مع أن الجمال الإلهي الذي زان به الله كلّ مؤمن، يُظهر شعاعاً من أنوار مجد نعمة الله، إلاّ أن جمال كلّ فرد على حدة، غير كافٍ في ذاته لأنه إنما يكشف جانباً ضئيلاً من هذا المجد. كذلك شأن كلّ كنيسة أو طائفةٍ إذا أخذت على حدة، فإنها غير كافية لإظهار هذا المجد كلّه. فمن الضروري لإظهار كمال هذا المجد الإلهي، أن يتجمّع كلّ المؤمنين معاً، في كلّ عصر ومصر، لكي يترنّموا بأنشودةٍ واحدة على أوتار كثيرة متباينة، لكنّها مجتمعة لتكوّن نغمةً واحدة: "مستحقّ أنت أن تأخذ المجد والكرامة".

د- موضوع هذا الكشف أو الإعلان: "بحكمة الله المتنوّعة". إن الكلمة اليونانية المترجمة في العربية إلى "متنوّعة" تُقال وصفاً للألوان الجميلة في باقة زهر، أو في قطعة من "الشبكة" المطرّزة والموشّاة بألوانٍ كثيرة. ولعلّ بولس كان خبيراً بهذا الفنّ الجميل لأنه كان في صناعته "خيّاماً". والكلمة تعني حرفياً "الكثيرة الألوان"، حال كونها حكمة واحدة. ما أشبهها بالنور، بل ما أشبه النور بها! فهو جامع في ذاته السبعة الألوان التي يتكوّن منها قوس قزح. هي حكمة متنوّعة، لأنّها توحّد الوسائل المتباينة والمتشابكة، التي يستخدمها الله في تنفيذ مقاصده، وهي متمشية مع حالات البشر وحاجاتهم المتنوّعة. فهي تظهر في المنح وفي المنع. في الإعلان وفي الإخفاء، في إجراء عدالة الله وفي إظهار رحمته. فما أحكمها في التوفيق بين تعطّفات الرحمة، ومطاليب العدالة، وفي الجمع بين الأمميين واليهود في تدابير الفداء العجيب الذي بانت فيه الحكمة بأسمى معانيها (1كو1: 24 و30).

 لم ترد هذه الكلمة "المتنوّعة" في العهد الجديد سوى هذه المرة. لكن كلمة أخرى تحمل ظلاً من معناها، وردت في رسالة بطرس الرسول الأولى "نعمة الله المتنوّعة" (1بط 4: 10). وهو يريد النعمة في مظاهرها المتنوّعة ـ النعمة المخلّصة، والمعلّمة، والمعزية، والمقوية، والمسندة (تيطس2:11-13، 2كو12: 9).

 ما أحلى ما قاله غريغوري نازينازي في هذه "الحكمة المتنوّعة": "قبل التجسّد، استطاعت الملائكة أن ترى حكمة الله في مظهر واحدٍ بسيط، لكنّهم بعد التجسّد قد رأوها في مظاهرها المتنوّعة ـ إذ خلقت من الموت حياة، وصاغت من الهوان مجداً، وضفرت من إكليل الشوك والعار، تاج مجدٍ وفخار". يا لها من حكمة متنوّعة، صادرة عن غنى عظيم لا يُستقصى، فصاغت من جهالة الكرازة حكمةً جليلة خالدة.

11حَسَبَ قَصْدِ الدُّهُورِ الَّذِي صَنَعَهُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا. 12الَّذِي بِهِ لَنَا جَرَاءَةٌ وَقُدُومٌ بِإِيمَانِهِ عَنْ ثِقَةٍ

 عدد11 ـ (2) لكي يعرّف عند الرؤساء.. بقصد الدهور.

إن قوله: "قصد الدهور" تعبيرٌ عبريّ في صيغته، يُراد به "القصد الدهريّ ـ أو ـ القصد الأزليّ"، على مثال القول: "صخر الدهور" الذي هو "الصخر الدهريّ" أو "الصخر الأبديّ" (إشعيا26: 4). "قصد الدهور" هو القصد الأزليّ الذي لم يكن ارتجالياً ولا وليد ساعته ولا مؤقّتاً لكنه مدبّر منذ الأزل بتدبير محكم، يمتدّ إلى الأبد، لأنه مظهر إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة. ولعلّ الرسول أراد أن يبيّن في هذا العدد أن حكمة الله المتنوّعة الألوان، ليست "متلوّنة" طبق الظروف الطارئة والأحوال المفاجئة، كما لو كانت بلا قصد معيّن، لكنّها تعمل وفق قصدٍ معيّن منذ الأزل، فتلحظه المشيئة الإلهية، وتحفّ به القدرة الإلهية حتى يُنفّذ بحذافيره. ومتى جاء الوقت المعيّن، سوف تُظهر كنيسة الأبكار المفديين، لجمهور الملائكة أمجاد الفداء العجيب الذي دبّره الله بتجسّد المسيح، وحياته، وموته على عود الصليب. هذا هو المسيح ربّنا ومخلّصنا الذي كان معروفاً في أيام جسده. فكنيسة المفديين هي مظهر مشيئة الله وفيها تتحقق مقاصده الأزلية. هذه هي الكنيسة في مجدها وجلالها لا في ضعفها وأمحالها. فلا صفحة الخلق وما تجلّى فيها من قدرة وجلال وإبداع، ولا صفحة العناية وما تعلنه من أسرار الحكمة الإلهية، بكافية لإظهار حكمة الله المتنوّعة. ولكن صفحة الفداء وحدها، التي تتجلّى فيها كنيسة المفديين عند استعلان أبناء الله، هي التي تكشف للرؤساء في الأرض وفي السماء، عن سرّ الفداء العجيب الذي دبّره الله في المسيح ونفّذه بالمسيح. لأنّ محبة الله قد تجلّت بأسمى مظاهرها "في المسيح يسوع ربّنا" (رومية8: 39).

إن قول الرسول "الذي صنعه في المسيح" قد يشير إلى تكوين هذا القصد منذ الأزل في شخص المسيح، بمعنى أن كلّ المقاصد الإلهية المتعلّقة بالخلق والفداء ـ سيّما الفداء ـ قد دبّرها الله في المسيح: فيه خلق الكلّ وفيه فدى الكلّ. وقد يشير أيضاً إلى تحقيقه في شخص المسيح وفي جسده الروحيّ الذي هو كنيسته المجيدة، المفتداة والمقدّسة بالدم الثمين. وقد تكون الإشارة منصبّةً على الأمرين كليهما ـ أي على تكوين القصد الإلهي منذ الأزل، وتنفيذه وتحقيقه على مرّ الأجيال. ويميل الدكتور كاندلش إلى الرأي الثاني، بحجّة أن الرسول أورد في هذه المناسبة اسم فادينا كاملاً "المسيح يسوع ربّنا". ونعتقد نحن ـ مع سائر المفسّرين ـ أن المعنى الأول هو المقصود.

عدد 12 ـ

12الَّذِي بِهِ لَنَا جَرَاءَةٌ وَقُدُومٌ بِإِيمَانِهِ عَنْ ثِقَةٍ.

(3) لكي يعرّف عند الرؤساء.. بدالّتنا نحن البنين.

ردّد الرسول في هذا العدد ما سبق فقرّره في 2: 18، كي يبيّن أن دالّتنا نحن البنين ـ يهوداً كنّا أن أمميين ـ هي موضوع إعجاب الملائكة وتعجّبهم ليس في الدهر الآتي فقط بل في هذا الزمان. لأن هذه نعمة حالية يحظى بها المؤمنون في الحاضر. وقد ذكر الرسول هنا ثلاث حقائق عن هذه الدالّة:

الحقيقة الأولى: مظاهر الدالّة التي لنا نحن المؤمنين: "جراءة وقدوم". إن "الجراءة" المقصودة هنا هي جراءة التكلّم عندما نظهر أمام الله في الصلاة ونملأ أفواهنا حججاً، إذ نفضي إليه بكل ما يُخالجنا من مخاوف وأشواق، ونعترف له بما وقعنا فيه من زلاّت، ونخاطبه بما تكنّه صدورنا من لواعج وطلبات، من غير حاجةٍ إلى وسطاء وشفعاء، لأنّ المسيح هو شفيعنا الأوحد ومحامينا الأكمل. ويُراد بـ "القدوم" حرية المثول بين يديه في كلّ ساعة ولحظة، من غير داعٍ إلى استئذان، ولا حاجة إلى انتظار ظهور صولجان الملك، كما كانت تعمل رعية ملوك الأوثان (أستير3: 2)، ولا لزوم للتقدمات والمحرقات التي كان يقدّمها رؤساء الكهنة قبل مثول الشعب في حضرة الله (كولوسي2: 15، عبرانيين10: 35، 1يوحنا2: 28، عبرانيين4: 16).

الحقيقة الثانية: طبيعة هذه الدالّة: "عن ثقة". إن "الجراءة" التي تحدّث عنها بولس هنا، ليست جراءة المجترئ الوقح الذي لا يعبأ بشيء ولا يبال بتقدير الموقف. وأن "القدوم" الذي وصفه ليس قدوم المقتحم المتصلّف العابث بكلّ شخص، وإنما هي جراءة الواثق، وقدوم المطمئن. هي جراءة الأبناء الواثقين من محبة أبيهم، فيدنون منه وفي قلوبهم يقين، وعلى عيونهم ملامح الرجاء الوطيد، وحواليهم جو سلام وأمن، مفعم بالثقة المتبادلة (رومية8: 38). إن موضوع هذه الثقة هو المسيح نفسه، لا الإيمان به.

الحقيقة الثالثة: أساس هذه الدالّة: "بإيمانه". هذا تعبير يوناني قديم يُراد به "الإيمان بالمسيح" أو "الإيمان في المسيح". وقد وردت هذه الصيغة عينها في مرقس11: 22 "ليكن لكم إيمان بالله" وترجمتها الحرفية : "ليكن لكم إيمان الله" أي "الإيمان الذي في الله". وقد يكون القصد منها الإيمان الذي يولّده المسيح، ويُنشئه، ويربّيه في قلوبنا من جهته. فهو إيمان المسيح لأنه نتيجة عمله في حياتنا (أطلب رومية3: 22، غلاطية2: 16 و20، فيلبي 3: 9، كولوسي2: 12). فنحن إذاً نلج باب ملكوت المسيح بالإيمان بالمسيح، ثم "نحيا ونتحرّك" ونتقدّم في هذا الملكوت بالإيمان بالمسيح. وغالباً تعني هذه العبارة: الإيمان الذي موضوعه المسيح، وغايته المسيح. فالمسيح هو موضوع إيماننا، وهو غايته، وهو نفسه موضوع الثقة التي تكلّم عنها الرسول في العبارة السالفة. لأنّ الثقة الحقيقية التي تولد الجراءة والقدوم لا تقوى بنظرنا إلى أنفسنا، ولا بالتأمّل في اختباراتنا الماضية، ولا بالتفكير في مؤهّلاتنا الحاضرة. ولكنها تنمو وتتزايد وتتقوّى، بالنظر إلى يسوع وحده.

13لِذَلِكَ أَطْلُبُ أَنْ لاَ تَكِلُّوا فِي شَدَائِدِي لأَجْلِكُمُ الَّتِي هِيَ مَجْدُكُمْ.

عدد 13 ـ كلمة ختامية مجملة: بولس في شدائد إنجيل الأمم (3: 13) في رسالة معاصرة لهذه (كولوسي1: 24) قال بولس لقارئيه: "... الآن أفرح في آلامي لأجلكم..". فإذا كانت آلام بولس لأجل رعيّته تُنشئ في قلبه فرحاً، فمن الواجب أن تُنشئ في قلوبهم رجاءً وفخراً.

وردت كلمة "أطلب" في الأصل بصيغة قوية بمعنى "أتوسّل" وهي الصيغة التي تستعمل أحياناً في الصلاة لله. فلا غرابة إذا مال واضعو الترجمة الإنجليزية المنقّحة إلى حسبانها صلاة موجّهةً إلى الله لا طلباً مقدّماً إلى المكتوب إليهم. كأنّهم أرادوا أن يفهموا كلام الرسول على هذه الصورة: لذلك أطلب من الله أن لا أكلّ في شدائدي لأجلكم". لكن ختام الآية: "التي هي مجدكم" مضافاً إليه غرّة هذا الأصحاح، يحملنا على الاعتقاد بأن هذه الكلمة "أطلب" لا تحمل صلاةً مرفوعة إلى الله، بل تتضمّن رجاءً مقدّماً إلى المكتوب إليهم فهي من نوع قوله في رومية12: 1 "أطلب إليكم أيها الأخوة".

أما "الكلل" المشار إليه في قوله "أن لا تكلّوا" فهو وليد الفشل والملل من فرط الآلام وطولها بسبب عدم معرفة القصد منها. وقد وردت هذه الكلمة عينها في لوقا18: 1 "ولا يُملّ" وفي 2كو4: 16 "لذلك لا نفشل".

كان المكتوب إليهم معرّضين لهذا الكلل، لحداثة إيمانهم، من جهة. ومن جهةٍ أخرى لعدم معرفتهم غاية هذه الآلام وتغافلهم عن دلالتها. هذا ما أراد الرسول أن ينبّههم إليه بقوله لهم: "شدائدي التي هي مجدكم". فبدلاً من أن تحرّض فيهم عوامل الفشل، ينبغي أن تولّد فيهم بواعث الشكر والفخر، لأنها تاج إكليلهم ومجد فخارهم. فالأشياء الزهيدة تُنال بأسهل الطرق وأهون الوسائل. لكنّ الأشياء الثمينة لا تُنال إلاّ باقتحام الأهوال وركوب متن الأخطار. ولا بدّ للشهد من إبر النحل. فالإسفنج موجود بكثرة على سطح الماء. لكن من طلب اللآلئ عليه أن يغوص في أعماق اللّجج. وبما أن إنجيلهم كلّف حامله كلّ هذه المتاعب والمشاقّ، فإن في هذا برهاناً جليّاً على أنه إنجيل كريم، وعلى أنّهم هم قوم لهم قيمة في نظر الله، لدرجةٍ استحقّوا فيها كلّ هذه التضحيات والآلام. وكم من ألمٍ يبعث في النفس خير أمل، فيقتل فيها شرّ ملل.

يُعتبر الفصل الذي مرّ بنا في هذا الأصحاح، شرحاً وإيضاحاً لموقف الرسول بالنسبة للمكتوب إليهم، كما أجمله في قوله: "أنا بولس أسير المسيح يسوع لأجلكم أيها الأمم" (3: 1). لكنّه في سبيل إيضاح هذه الحقيقة أفضى إلينا ببيانٍ عظيم وبلاغٍ خطير، عن فلسفة التاريخ المقدّس، فكشف لنا عن سرّ الدهور "الذي في أجيال أخر لم يعرف به بنو البشر كما قد أُعلن الآن لرسله القديسين وأنبيائه بالروح".

في المرحلة التي مرّت بنا من هذه الرسالة، رأينا عمل المسيح في مصالحة اليهود بالأمم، وضمّهما معاً في عهد الفداء. وها قد شرع الرسول يستعرض معاملة الله للبشرية جمعاء، معلناً أن قصد الله، واحدٌ في كلّ أجيال الدهور، وأن هذا القصد مدرسة جليلة يتعلّم فيها الجميع ـ حتى ملائكة السماء.

صلاة بولس الثانية لأجل المكتوب إليهم

حلول المسيح في القلب وبعض نتائجه: القوة والإدراك وكمال الملء

(3: 14-21)

مرتين في هذه الرسالة رأينا بولس الرسول مصلّياً لأجل المكتوب إليهم: المرة الأولى في 1: 16-23، والثانية في ختام هذا الأصحاح، وبها يبلغ الرسول ذروة هذه الرسالة فيختتم القسم التعليميّ منها، ليستهلّ القسم العمليّ، بقوله "فأطلب إليكم أنا الأسير". في الصلاة الأولى يطلب بولس لأجل المكتوب إليهم أن يُعطوا معرفةً وحكمةً. وفي الصلاة الثانية طلب لأجلهم قوةً وإدراكاً وملئاً كاملاً. في قلب كلّ صلاةٍ منهما، طلبٌ رئيسيّ: - في الأولى "روح الحكمة" (1: 17)، وفي الثانية "قوّة الروح" (3: 16): في الأولى طلب الرسول لأجلهم "معرفة الله"، وفي الثانية طلب "معرفة المسيح". الفكرة الرئيسية في الصلاة الأولى هي: "نحن في المسيح"، وفي الصلاة الثانية: "المسيح فينا". قياس الطلبات التي طلبها بولس في الصلاة الأولى هو: "حسب عمل شدّة قوّة الله" (1: 12)، وقياس الطلبات المتضمّنة في الصلاة الثانية هو: "بحسب غنى مجد الله"... "أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر بحسب القوة التي تعمل فينا" (3: 16و20).

يجمل بنا في المقابلة بين هاتين الطلبتين، أن نذكر أوجه الشبه الرباعية في كلّ منهما:

(1) الصلاة في كلّ منهما موجّهة إلى الله الآب: "أبو المجد" (1: 17)، "أبي ربّنا يسوع المسيح" (3: 14). (ب) تتضمن كلّ منهما طلبة بنوال عطيّة الروح القدس: "......كي يعطيكم... روح الحكمة والإعلان في معرفته" (1: 17)، "لكي يعطيكم أن تتأيّدوا بالقوة بروحه في الإنسان الباطن" (3: 17). (ج) دائرة عمل الروح في كلّ منهما واحدة: فهي في الصلاة: الأولى "عيون الأذهان" (1: 18) وفي الصلاة الثانية: "الإنسان الباطن" (3: 16). (د) الغاية القصوى في كلّ منهما تكاد تكون متشابهة: فهي في الصلاة الأولى: "لتعملوا ما هو رجاء دعوته" (1: 18)، وفي الصلاة الثانية: "حتى تستطيعوا أن تدركوا مع جميع القديسين... وتعرفوا" (3: 18).

فالمعرفة والقوة مرتبطتان تمام الارتباط في هاتين الطلبتين فالصلاة لأجل "معرفة القوة المقتدرة" (1: 19) تتطوّر فتصبح صلاةً لأجل "نوال القوة المقتدرة" (3: 16)، فتُمسي وسيلة يصبح الإنسان بها قادراً على أن يعرف (3: 19). فالمعرفة تساعد على القوة والقوة تعين على المعرفة.

تتضمّن رسائل بولس التي كتبت أثناء سجنه في رومه: فيلبي وكولوسي، وأفسس، أربع صلوات رئيسية رفعها الرسول لأجل المكتوب إليهم: الصلاة الأولى نجدها في الأصحاح الأول عن رسالة فيلبي، والصلاة الثانية في الأصحاح الأول من رسالة كولوسي، والصلاة الثالثة في الأصحاح الأول من رسالة أفسس، والصلاة الأخيرة هي التي نحن بصددها الآن.

موضوع الصلاة الأولى (فيلبي1: 9-11): المحبة الفطنة المميزة.

وموضوع الصلاة الثانية (كولوسي1 :9-12): السلوك النيّر.

وموضوع الصلاة الثالثة (أفسس1: 15-23): الإنارة الروحية.

وموضوع الصلاة التي نحن بصددها (أفسس3: 14-21): الملء الإلهي.

حسناً قال الدكتور الكساندر مكلارن في هذا الصدد: لم يرتقِ بولس في كتاباته إلى الذروة التي بلغها في صلواته. وهو لم يبلغ في كلّ صلواته تلك الذروة التي بلغها في هذه الصلاة المؤلّفة من طلبات متدرّجة.

فلا جدال في أن هذه الصلوات الأربع، من أهم الصلوات التي رفعت إلى عرش النعمة على ممر الدهور. وإذا جازت المفاضلة بينها، فإن أعظمهنّ هي الأخيرة، لأنها تتضمن الشيء الكثير من محتويات سابقاتها. ولأنّ موضوعها هو الذروة العليا التي يمكن أن يبلغها أفضل مصلّ. أفليس بكافٍ للمصلّي أن يبلغ إلى قياس ملء الله. وحلول المسيح في قلبه، وتأييد قوّة الروح القدس له في الإنسان الباطن؟! إنّ مقام هذه الصلاة بالقياس إلى رسائل بولس، كمقام صلاة المسيح المدوّنة في يوحنّا 17، بالقياس إلى البشائر الأربع.

تنقسم هذه الصلاة في مبناها ـ أما معناها فلا يقبل التقسيم والتجزئة إلى ثلاث أقسام رئيسية:

أولاً: مقدمة الصلاة (3: 14و15):

14بِسَبَبِ هَذَا أَحْنِي رُكْبَتَيَّ لَدَى أَبِي رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، 15الَّذِي مِنْهُ تُسَمَّى كُلُّ عَشِيرَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَعَلَى الأَرْضِ.

(1) موقف المصلّي ـ نفسياً: "بسبب هذا" (3: 14أ).

(2) موقف المصلّي ـ جسدياً: "أحني ركبتيّ" (3: 14ب).

(3) المصلّى إليه في نسبته إلى المسيح: (3: 14ج).

(4) المصلّى إليه في نسبته إلى عشائر السموات والأرض: (3: 15).

ثانياً: غرض الصلاة: "لكي يمتلئوا إلى كلّ ملء الله" (3: 16-19).

(1) طلبات إعدادية لهذا الغرض (3: 16-19 أ):

ـ أ ـ القوة الإعدادية لهذا الغرض (3: 16و17):

16لِكَيْ يُعْطِيَكُمْ بِحَسَبِ غِنَى مَجْدِهِ أَنْ تَتَأَيَّدُوا بِالْقُوَّةِ بِرُوحِهِ فِي الإِنْسَانِ الْبَاطِنِ، 17لِيَحِلَّ الْمَسِيحُ بِالإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ،

(1) تأييدهم بالقوة روحه في الإنسان الباطن (3: 16).

(2) حلول المسيح بالإيمان في قلوبهم (3: 17).

ـ ب ـ المعرفة الإعدادية لهذا الغرض: (3: 18و19 أ):

18وَأَنْتُمْ مُتَأَصِّلُونَ وَمُتَأَسِّسُونَ فِي الْمَحَبَّةِ، حَتَّى تَسْتَطِيعُوا أَنْ تُدْرِكُوا مَعَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ مَا هُوَ الْعَرْضُ وَالطُّولُ وَالْعُمْقُ وَالْعُلْوُ، 19وَتَعْرِفُوا مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ الْفَائِقَةَ الْمَعْرِفَةِ، لِكَيْ تَمْتَلِئُوا إِلَى كُلِّ مِلْءِ اللهِ.

(1) "حتى تستطيعوا أن تدركوا... ما هو الغر ض..." (3: 18).

(2) "وتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة" : (3: 19 أ).

(3) تحقيق هذا الغرض: (3: 19 ب وج):

 (أ) حقيقة هذا الغرض: "...لكي تمتلئوا" (3: 19ب).

 (ب) قياس هذا الغرض: "... إلى كلّ ملء الله" (3: 19ج).

ثالثاً: نشيد التجميد: (3: 20و21):

20وَالْقَادِرُ أَنْ يَفْعَلَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ أَكْثَرَ جِدّاً مِمَّا نَطْلُبُ أَوْ نَفْتَكِرُ، بِحَسَبِ الْقُوَّةِ الَّتِي تَعْمَلُ فِينَا، 21لَهُ الْمَجْدُ فِي الْكَنِيسَةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ إِلَى جَمِيعِ أَجْيَالِ دَهْرِ الدُّهُورِ. آمِينَ.

 (أ) موضوع تجميدنا ـ "المسيح.." (3: 20).

 (ب) أساس ثقتنا في تمجيدنا ـ "هو القادر" (3: 20).

 (ج) علّة تمجيدنا: الله ـ إظهار مجده في كنيسته، وفي رأسها الأعلى.

 (د) مدى تمجيدنا له "إلى جميع أجيال دهر الدهور" (3: 21).

أولاً: مقدمة الصلاة:

14بِسَبَبِ هَذَا أَحْنِي رُكْبَتَيَّ لَدَى أَبِي رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ

 عدد 14 ـ (1) موقف المصلي ـ نفسياً: "بسبب هذا" (عدد 14 أ).

 "بسبب هذا": تعرّفنا هاتان الكلمتان عن موقف بولس الرسول إزاء المكتوب إليهم. وهما ترجعان بنا إلى كلمتين مثلهما وردتا في غرة هذا الأصحاح: "بسبب هذا". فما هو هذا الشيء الذي أشار إليه بولس بقوله: "هذا"؟ يتّضح لنا "هذا" الأمر، متى رجعنا إلى الأصحاح السابق، وذكرنا الموضوع الذي كان يشغل ذهن الرسول هنالك ـ ألا وهو نعمة الله المتفاضلة على الأمم، "الذين كانوا قبلاً أجنبيين عن رعوية إسرائيل، وغرباء عن عهود الموعد، لا رجاء لهم، وبلا إله في العالم. ولكن الآن في المسيح يسوع، صاروا قريبين بدمه الثمين".

 "فبسبب هذه" النعمة التي أجزلها الله على الأمم، جاعلاً بولس أداةً صالحةً لإبلاغها إليهم عن طريق الكرازة بالإنجيل للأمم ـ أو بإنجيل الأمم، صار لزاماً على بولس أن يحني ركبتيه أمام الله، طالباً منه أن يملأ الأمم بمعرفة هذا السرّ الذي كان مخفياً فأعلن، وأن يتأيّدوا بالقوة بالروح في الإنسان الباطن، حتى يمتلئوا إلى كلّ ملء الله.

 (2) موقف المصلّي ـ جسدياً: "أحني ركبتيّ" (عدد 14ب).

 يمكننا أن نقدّر رهبة هذه العبارة وجلالها، متى ذكرنا أنها نادرة الورود في العهد الجديد. فالظاهر أن القيام للصلاة كان "الموقف" المألوف في ذلك العصر، بدليل قول المسيح: "ومتى صلّيت فلا تكن كالمرائين. فإنهم يحبّون أن يصلّوا قائمين في المجامع" (متى6: 5)، وقول البشير "أما الفريسيّ فوقف".. "وأما العشّار فوقف" (لوقا18: 11و13). ولكن الركوع كان يُلجأ إليه للتعبير عن التأثّر العميق في مواقف دقيقة خطيرة، كما فعل مخلّصنا في بستان جسثيماني حيث "انفصل عن التلاميذ نحو رمية حجر وجثا على ركبتيه وصلّى". وكذلك فعل بولس عند توديعه قسوس الكنيسة التي وجّهت إليها هذه الرسالة، حين "جثا على ركبتيه مع جميعهم وصلّى" (أعمال20: 36). وبمقابلة ما جاء في لوقا22: 41 "جثا على ركبتيه وصلّى" بما جاء في مرقس14: 35 "وخرّ على الأرض وكان يصلّي" وبما جاء في متى 26: 39 "ثم تقدّم قليلاً وخرّ على وجهه وكان يصلّي"، جاز لنا أن نستنتج أن جبهة الساجد كانت تلامس الأرض في الصلاة، دليلاًَ على التخشّع التام. ويقول المؤرّخون إنّ الكنيسة الأولى منعت السجود على هذه الصورة في يوم الربّ بحجّة أن يوم الربّ يوم فرحٍ وبهجة، فمن المناسب أن يُمتنع فيه التذلل.

 ويلوح لنا، أن بولس اختار السجود "موقفاً" له في صلاته هنا، لخطورة الموضوع الذي جعله هدفاً لصلاته. ولعلّه تحصّن بما جاء في إشعياء45: 23، فاقتبسه في رومية14: 11، وفيلبي2: 10، وعمل بموجبه هنا، :"بذاتي أقسمت خرج من فمي الصدق كلمة لا ترجع. إنه لي تجثو كلّ ركبةٍ ويحلف كلّ لسانٍ".

 ومع أن حالة المصلّي الجسدية لا تدلّ بالضرورة على حالته الروحية، إلاّ أن الجسد والروح ليسا عدوّين متنازعين، لكنّهما صديقان متلازمان وأخوان متآخيان، فما يؤثّر في أحدهما يكون له أكبر الأثر في أخيه.

 (3) المصلّى إليه في نسبته إلى المسيح: "لدى أبي ربّنا يسوع المسيح" ـ هذا تعبير يُراد به إظهار صلة الله الآب بالمسيح في عهد الفداء، وبالتالي صلته بنا نحن المؤمنين في هذا العهد المقدّس. فالمسيح موصوف هنا، باعتبار كونه وسيطنا وشفيعنا.

عدد:15 :

15الَّذِي مِنْهُ تُسَمَّى كُلُّ عَشِيرَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَعَلَى الأَرْضِ.

ـ (4) المصلّى إليه في نسبته إلى كلّ عشيرةٍ في السموات وعلى الأرض: (3: 15).

 الكلمة اليونانية المترجمة "عشيرة" (باتريا) في هذا العدد، هي من ذات الأصل المشتقّة منه كلمة "اب" (باتر) الواردة في العدد السابق، وهي مجانسة لها في اللّفظ، ويجوز أن تترجم كلّ العبارة حرفياً إلى: "لدى الآب الذي منه تسمى كلّ أبوّة في السموات وعلى الأرض". فالمستفاد من هذا، أنّ الأبوّة الإلهية هي النموذج الأساسي والمثل الأعلى لكلّ أبوّة في السموات وعلى الأرض. فليس بكافٍ أن الأبوّة الإلهيّة اتّحدت كلّ المؤمنين معاً وصاغت منها أخوّة واحدة، لكنّها اتّحدت عشائر السموات بعشائر الأرض وصاغت منهم عشيرةً واحدة. كلّ هذا تمّ في المسيح، كما قال بولس في موضع سابق "لتدبير الأزمنة ليجمع كلّ شيءٍ في المسيح ما في السموات وما على الأرض في ذاك ـ المسيح" (1: 10، كولوسي1: 20).

ويجمل بنا هنا أن نذكر المواضيع التي ذكر فيها الرسول "أبوّة الله" في رسالة أفسس. فقد أشار بولس إلى أبوّة الله سبع مرات أخر في هذه الرسالة: "سلام من الله أبينا وربّنا يسوع المسيح" (1: 2)، مباركٌ الله أبو ربّنا يسوع المسيح" (1: 3)، "أبو المجد" (1: 17)، "في روح واحدٍ إلى الآب" (2: 8)، "إلهٌ وآبٌ واحد" (4: 6)، "في اسم ربّنا يسوع المسيح لله الآب" (5: 20)، "محبة بإيمان من الله الآب" (6: 23).

لا أبوّة حقيقية خارج المسيحية، لأنّ المسيحية هي الديانة الوحيدة التي أعلنت للبشر أبوّة الله بصورة قاطعة صريحة: فلا غرابة إذا كانت أجلّ صلاةٍ في المسيحية، هي تلك التي مطلعها: "أبانا الذي في السموات".

ثانياً: غرض الصلاة (3: 16-19)... "لكي تمتلئوا"

 عدد 16:

16لِكَيْ يُعْطِيَكُمْ بِحَسَبِ غِنَى مَجْدِهِ أَنْ تَتَأَيَّدُوا بِالْقُوَّةِ بِرُوحِهِ فِي الإِنْسَانِ الْبَاطِنِ،

 ـ (1) طلبات إعدادية لهذا الغرض (3: 16-19).

 ـ أ ـ القوة الإعدادية لهذا الغرض (3: 16و17):

 (1) تأييدهم بالقوة روحه في الإنسان الباطن (3: 16):

 يحدّثنا الرسول في هذا العدد عن خمس حقائق:

 ـ أ ـ مصدر القوّة : "لكي يعطيكم"، ـ ب ـ قياس القوة: "بحسب غنى مجده"، ـ ج ـ عمل القوة: "أن تتأيّدوا"، ـ د ـ معدن القوة: "بالقوة روحه"، ـ هـ ـ دائرة فعل القوة: "في الإنسان الباطن".

أ ـ مصدر القوّة: "لكي يعطيكم" ـ يستفاد من هذه العبارة، أنّ القوة الروحية صادرة "من فوق من عند أبي الأنوار الذي ليس عنده تغيير ولا ظلّ دوران". فهي ليست نتيجة انفعال بشري، ولا هي وليدة إيحاء نفسانيّ ذاتيّ. وإنما هي هبة من الله وعطيّة جزيلة منه تعالى. حقاً قال المسيح في هذا الصدد: "فإن كنتم وأنتم أشرار تعرفون أن تعطوا أولادكم عطايا جيدة فكم بالحري الآب الذي من السماء يعطي الروح القدس للذين يسألونه".

 ب ـ قياس القوّة: "بحسب غنى مجده" ـ إن "مجد الله" هو مظهر جلال ذاته وكمالاته، و"غنى مجده" هو ذلك المجد في أكمل صوره وأجمل مظاهره، وأجلّها، وأرفعها، وقد أشار بولس إلى "غنى" هذا المجد في رسالةٍ أخرى معاصرة لهذه، حين قال: "فيملأ إلهي كلّ احتياجكم بحسب غناه في المجد في المسيح يسوع" (فيلبي4: 19).

 قد يُتاح لنا أن نعرف شيئاً عن معنى "المجد" متى قابلناه بالنعمة. فالنعمة هي المجد في البزرة، والمجد هو النعمة في البلوغ. فالله الذي هو غنيّ في النعمة، غنيّ أيضاً في المجد. وإذا كنّا غير قادرين على أن نحيط علماً بغنى نعمته، فكم بالحريّ يكون إعجابنا بغنى المجد!! هذا هو قياس العطايا التي طلبها بولس لأجل المكتوب إليهم. فما أحكمه حين يكتب. وما أحكمه حين يصلّي. فقد بلغ في طلبته هذه أقصى المراد من قول الكتاب: "فغر فاك فأملأه". لأنه لم يطلب لهم مجرّد ملء، بل طلبه لهم في أعلى قياس "حسب غنى مجد الله".

 ج ـ عمل القوّة: "أن تتأيّدوا" ـ الكلمة اليونانية المترجمة "تتأيّدوا" تعني القوة والنشاط والثبات (لوقا1: 80، 2: 40، 1كو16: 13) فقد طلب بولس لأجل المكتوب إليهم أن يمتلئوا قوةً وشجاعة كيلا يخافوا ولا يتهيّبوا الاختبارات الروحية الراقية التي تتهيّبها الطبيعة البشرية عادةً، سيّما عند حلول الإله القدّوس في القلب، وسكنه فيه على الدوام، وتسلّطه على جميع حواسّ الإنسان.

 د ـ معدن القوّة: "بالقوّة بروحه". إن القوة المقصودة هنا، هي القوة الروحية التي هي وليدة حلول روح الله القدوس في القلب: "ولكنكم ستنالون قوّة متى حلّ الروح القدس عليكم" (أعمال 1: 8). إنّ للروح القدس مقاماً فريداً في هذه الرسالة. فتأييده لنا في الإنسان الباطن يجعل حلول المسيح في قلوبنا مستديماً. فهو "قائمقام" المسيح في القلب. ففي رسالة رومية8: 9 يقول بولس: "إن كان روح الله ساكناً فيكم"، بينما نسمعه يقول في العدد التالي: "إن كان المسيح فيكم"! فالروح (عدد9) حالّ محلّ المسيح (عدد10) (راجع أقوال المسيح في يوحنا14: 16و18و21و23، 16: 7، 17: 11). فمع أنّ المسيح يقول لتلاميذه إنه "ليس بعد معهم في العالم"، وأنه "خير لهم أن ينطلق" إلاّ أنه قال في موضعٍ آخر "إنه يأتي إليهم" في شخص روحه القدّوس الذي سيحلّ في قلوبهم، ويأخذ مما له ويخبرهم. وفي الرسائل السبع التي يستهلّ بها سفر الرؤيا، نسمع صوت المسيح في نبرات الروح للكنائس.

 هـ ـ دائرة فعل القوّة: "في الإنسان الباطن" ـ الكلمة المترجمة "في" تعني: "في أعماق" كأن فعل الروح يتخلّل كلّ الأركان في أعماق الإنسان الباطن. ويُراد بـ"الإنسان الباطن"، الطبيعة الإلهية الجديدة التي تخلق في المؤمن بعد التجديد (رومية7: 22، 2كو4: 16)، ومع أنّ المراد "بالإنسان الباطن" بوجهٍ عام، الإنسان الروحيّ الغير المنظور، إلاّ أنها تعني ـ في رسائل بولس بنوعٍ خاص ـ الإنسان الجديد.

عدد 17:

17لِيَحِلَّ الْمَسِيحُ بِالإِيمَانِ فِي قُلُوبِكُمْ،

ـ (2): حلول المسيح بالإيمان في قلوبهم (3: 17):

 الطلبة السابقة ممهّدة لهذه الطلبة، كما أن هذه الطلبة ممهّدة للطلبة التالية. فتأييد المؤمنين بالروح القدس في إنسانهم الباطن، ممهّد لحلول المسيح بالإيمان في قلوبهم.

 في هذا العدد تتجلّى أمامنا ثلاث حقائق: (أ) حلول المسيح، (ب) موطن حلول المسيح، (ج) وسيلة المتمتّع بحلول المسيح.

 (أ) الحقيقة الأولى: "حلول المسيح في القلب": من المهمّ أن نذكر أن المكتوب إليهم ـ وبالتالي المصلّى لأجلهم ـ أمميون. وقد ينفعنا أن نذكر أن الرسول حدّثهم فيما سبق من هذه الرسالة (1: 13، 2: 10) عن حقيقة كونهم "في المسيح"، فمن الطبيعي أن يريهم في هذه الآية، الحقيقة الأخرى المكمّلة لها: وهي ـ حلول "المسيح فيهم".

 لقد قرر الرسول في رسالته إلى كولوسي (1: 27)، أنّ حلول المسيح في قلوب الأمميين هو منتهى العجب في قصد الله الأزليّ: "الذين أراد الله أن يعرّفهم ما هو غنى مجد هذا السرّ في الأمم الذي هو المسيح فيكم رجاء المحبّة". فحلول المسيح في قلب المؤمن، في هذه الحياة، هو رجاء المجد في الخلود.

 وردت كلمة: "المسيح" ـ في الأصل ـ معرّفة بأداة التعريف، كعادة الرسول في هذه الرسالة، فلعلّه أراد "مسيا" النبيّ، والكاهن، والملك (1: 10و12و20، 2: 5و13، 3: 4و18و19، 4: 7و12و13و20، 5: 2و5و14و23و25، 6: 5). إنّ الروح القدس الحالّ في قلب المؤمن يشهد له باستمرار، بحلول المسيح الدائم فيه، فيمتلئ المؤمن شجاعةً وثباتاً وإقداماً لعلمه أن المسيح حيّ في كلّ حين، "فمن ثم يقدر أن يخلص أيضاً إلى التمام".

 إن كلمة "يحلّ" تعني الاستقرار المتسمرّ، والسكن الدائم. فهي مجانسة للكلمة التي ترجمت إلى "مسكن" في 2: 22 من هذه الرسالة. وقد وردت في 2بطرس 3: 13 بهذا المعنى عينه: "ولكننا بحسب وعده ننتظر سمواتٍ جديدة وأرضاً جديدة يسكن فيها البرّ".

 (ب) الحقيقة الثانية: موطن حلول المسيح: "في قلوبكم". هذه العبارة مجانسة لقوله: "الإنسان الباطن" في العدد السابق. وإن شئتَ قلْ، إن القلب هو مركز الدائرة في الإنسان الباطن، وهو عرشه الأعلى، الذي يتبوّأه المسيح نبياً، وكاهناً، وملكاً. وبما أنّ القلب، في لغة الكتاب، هو مركز الفهم، والشعور، والعزيمة، والوجدان، فمن الواجب إذاً أن نحبّ المسيح بالعقل، والعاطفة، والإرادة، والضمير (تكوين20:5، تثنية4: 39 وإشعياء6: 10، مرقس11: 23، لوقا21: 14، أعمال11: 23، رومية5: 3، 1كو2: 9، يعقوب1: 26، 1يوحنا3: 20، أفسس1: 18). لا يكفي أن يكون المسيح في عقولنا، بل يجب أن يكون في قلوبنا. ولا يكفي أن يكون في أيّ مكانٍ من قلوبنا، بل على عرشها.

 (ج) وسيلة التمتّع بحلول المسيح: "بالإيمان". هذا هو الإيمان الحيّ، المتجدّد كلّ يوم، الذي هو وسيلة تبريرنا، وتقديسنا، وتمجيدنا. ليس هذا إيمان من يرى المسيح مرة فيكتفي بهذه اللّمحة كمن يلقي نظرةً على صورةٍ جميلة ثم يتحوّل عنها، وإنما هو إيمان النظر المستديم، والتملّي المستمر بطلعته البهيّة، فلا تتحوّل عنه عين الإيمان لحظةً. وبقدر ما يكون إيماننا بالمسيح مستمراً، يكون حلوله في قلوبنا مستديماً. هنا ينطبق القول الجليل: "بحسب إيمانك يكون لك". إن هذا الإيمان هو الثقة التي بها نقبل المسيح، وندخله إلى قلوبنا بالطاعة والولاء له (يوحنا14: 21و23 ورؤيا3: 14). هذا هو الإيمان الشخصيّ، العملي، الفعّال.

 يميل بعض المفسّرين إلى اعتبار كلمة: "في المحبة" التي في العدد الآتي جزءاً من هذا العدد. ونميل نحن إلى إبقائها في موضعها.

 عدد 18:

18وَأَنْتُمْ مُتَأَصِّلُونَ وَمُتَأَسِّسُونَ فِي الْمَحَبَّةِ، حَتَّى تَسْتَطِيعُوا أَنْ تُدْرِكُوا مَعَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ مَا هُوَ الْعَرْضُ وَالطُّولُ وَالْعُمْقُ وَالْعُلْوُ،

 ـ ب ـ المعرفة الإعدادية لهذا الغرض (3: 18و19 أ):

 (أ): إدراك العرض والطول والعمق والعلوّ (3: 18):

 قرّر الرسول في هذه الآية ثلاث حقائق متعلّقة بالمؤمنين: الحقيقة الأولى: مؤهّلاتنا: "وأنتم متأصّلون ومتأسّسون في المحبة". الحقيقة الثانية: معيّتنا: "مع جميع القديسين". الحقيقة الثالثة: دراستنا: "حتى تستطيعوا أن تدركوا ما هو الطول...".

 الحقيقة الأولى ـ مؤهّلاتنا: "وأنتم متأصّلون ومتأسّسون في المحبة". لا يمكننا أن ندرك شيئاً عن المحبة إلاّ إذا كنّا متأصّلين ومتأسسين في المحبة. فالمحبة درس عمليّ لن يقوى على تفهّمه إلاّ من يمارسه عملياً. وهي سلّم رفيعة لن يبلغ الإنسان منها درجةً عليا إلاّ بعد اجتيازه الدرجة التي تحتها. وهي مدرسة راقية لن يفهم الإنسان درساً منها إلاّ بعد تمكّنه من الدروس السابقة. وقد استعمل الرسول كلمتين للتعبير عن هذا التمكّن: "متأصّلون" "ومتأسّسون". الكلمة الأولى مستعارة من النبات، والثانية مستعارة من البناء. فالمستفاد من الكلمة الأولى، هو: أنّ المؤمنين أشجار حية. والمستنتج من الكلمة الثانية: أنهم "هيكل حيّ" (2: 22). الاستعارة الأولى: "متأصّلون" يدعمها ما جاء في مزمور1: 3، 92: 12، 13 وأرميا17: 8 عن المؤمن: "يكون كشجرة مغروسة عند مجاري المياه" "الصديق كالنخلة يزهو كالأرز في لبنان ينمو مغروسين في بيت الربّ في ديار إلهنا يزهرون" "يكون كشجرةٍ مغروسة على مياه وعلى نهر تمدّ أصولها ولا ترى إذا جاء الحرّ ويكون ورقها أخضر وفي سنة القحط لا تخاف ولا تكفّ عن الإثمار". والاستعارة الثانية: "متأسّسون" يدعمها ما جاء في كولوسي2: 7 "متأصّلين ومبنيين فيه وموطّدين في الإيمان"، وكولوسي1: 23 "إن ثبتم على الإيمان متأسّسين وراسخين وغير منتقلين عن رجاء الإنجيل".

 أما التربة التي فيها يتأصّلون وعليها يتأسّسون، فظاهرة في قوله "في المحبة". ولقد تساءل الأسقف موليه عمّا إذا كانت هذه محبة الله للناس أم محبة الناس لله؟ فالتمس الجواب من ألفورد الذي قال: "هي المحبة بوجهٍ عام". فهي دائرة واحدة: نصفها الأول محبّة الله للناس، ونصفها الثاني محبة الناس لله. أو هما دائرتان متراكزتان، الدائرة الداخلية هي محبة الله للناس، والدائرة الخارجية هي محبة الناس لله، فالأولى أساس الثانية وعلّتها، والثانية مظهر الأولى وثمرتها. غير أن المحبة الأولى هي أقرب إلى قصد الرسول من الثانية (1: 4)، فهي غذاء الحياة الروحية، وقوامها، وتاج مجدها، وإكليل عمادها.

 إذا كنا متأصّلين ومتأسسين في المحبة، فنحن متأصّلون ومتأسسون في المسيح لأن "محبة الله" أُعلنت لنا "في المسيح يسوع ربّنا" (رومية8: 39).

 هذه هي المؤهّلات التي على المؤمن أن يكون حاصلاً عليها إذا أراد أن يدرك ما هو العرض والطول والعمق والعلو. ولن يحصل على هذه المؤهّلات إلاّ بالإيمان بالمسيح (عدد 17). فالاختبار المتضمّن في غرّة هذا العدد (عدد 18)، مؤسس على الاختبار الموصوف في العدد السابق (عدد 17)، وممهّد للاختبار المذكور في نهاية هذا العدد (عدد18).

 (ب) الحقيقة الثانية: معيّتنا: "مع جميع القديسين". في هذا العدد، ينظر الرسول إلى المؤمن، لا كأنه فرد مستقلّ بذاته، بل باعتبار كونه عضواً في جسم حيّ، بل جزءاً لا يتجزّأ من جسد المسيح الحيّ، الذي هو الكنيسة (رو12: 5). فمع أن كلّ عضو في الجسم، يقوم بنصيبه في إدراك شيء من العرض والطول والعمق والعلوّ، إلاّ أن نصيبه وحده من هذا الإدراك محدود غاية المحدودية، فلا يُتاح له أن يرى غير جزءٍ يسير من كلّ جانب. فلن يمكنه أن يدرك كلّ "الحقّ" من جميع نواحيه إلاّ إذا ضمّ ما عرفه هو، إلى ما عرفه سائر القديسين، سواء أكانوا عائشين على هذه الدنيا ـ فيتّصل بأشخاصهم، أم مستريحين في عالم الخلود فسجّلوا اختباراتهم في بطون الكتب والأسفار. إنّ "الحقّ" السماوي كقطعة من "الماس" لها أوجه كثيرة ولكلّ وجهٍ جمال خاص، وإشعاع ممتاز، فلا يمكن أن يلمّ المرء بجمال الماسة الكامل، إلاّ إذا نظر إليها من جميع وجوهها. وبما أن "الحقّ الإلهيّ" أوسع من أن يحيط به إنسان فرد، مهما يكن فذاً، فمن الضروري له أن يغني موسوعة معلوماته، بمعلومات الآخرين، وأن يخصب تربة اختباراته بخلاصة اختبارات "جميع القديسين".

 قصد الرسول بكلمة "قديسين" ما أراده بها في غرّة هذه الرسالة، فأطلب تفسيرها هناك.

 من هذا يتبيّن لنا أن معرفة المقاصد الإلهية، حقٌّ يملكه جميع المؤمنين معاً (كولوسي1: 26)، وأن جميع القديسين كتلة واحدة، حية، لا تتجزّأ.

 (ج) الحقيقة الثالثة: دراستنا: "حتى تستطيعوا أن تدركوا... ما هو العرض والطول والعمق والعلوّ". الكلمة المترجمة "يدرك" تعني في اللغة الأصلية الفهم العقليّ المبنيّ على التحقيق والتمييز بالبصيرة. وقد وردت في أعمال4: 13، 10: 34، 25: 15. إنّ هذا الإدراك يستلزم قوة خاصة ممهّدة له، كما يتبيّن من القول "حتى تستطيعوا"، وكما جاء في العدد السابق "أن تتأيّدوا بالقوة بروحه في الإنسان الباطن". هذا إدراك روحيّ لا يقوى عليه إلاّ الروحيّون المستنيرة عيون أذهانهم.

 أما موضوع هذه الدراسة التي على المؤمنين أن يدركوها، فظاهر في قوله: "ما هو العرض والطول والعمق والعلو". فما هو هذا الأمر الذي على المؤمنين أن يدركوا عرضه، وطوله، وعمقه، وعلوّه؟ يعتقد الدكتور أرمتاج روبنسون أن موضوع هذه المعرفة هو تدبير الفداء الذي سبق الرسول فذكره في الأصحاح الأول من هذه الرسالة: "لتعلموا ما هو رجاء دعوته، وما هو غنى مجد ميراثه في القديسين، وما هي عظمة قدرته الفائقة نحونا نحن المؤمنين". فقوله: "ما هو رجاء دعوته" يعين الطول. وقوله: "غنى ميراثه" يعين العرض. والعبارة: "نحونا نحن المؤمنين" تفيد العمق. وقوله: "ما هي عظمة قدرته" يُرينا العلو. ولكننا نعتقد مع غالبية المفسّرين. أن موضوع هذه المعرفة، هو ما ذكره بولس في العدد التالي: أعني المحبة الإلهية التي عبر عنها الرسول بقوله : "محبة المسيح الفائقة المعرفة". هذه هي المحبة التي سبقت هذا القول، ولحقته، فلا غرابة إذا كان الرسول لم يُعد ذكرها بعد قوله: "أن تدركوا مع جميع القديسين"، لا تغافلاً ولا تجاهلاًَ، بل لأن حذف المعلوم جائز.

 ويقول الدكتور جراهام سكروجي متسائلاً: "هل يقصد الرسول كنيسة المسيح ـ التي هي هيكل الله؟ إن كان الأمر كذلك، فإن عرضها هو جميع الأمم التي تنضوي تحت لوائها، وطولها هو قصد الله السرمديّ من جهتها، وعمقها هو مهاوي الشرّ والرذيلة التي منها اختيرت وأخذت، وعلوّها هو الأمجاد السماوية التي رتّبها الله لها. أم هل يعني بولس تدبير الله الفدائي، باعتبار كونه قصداً شاملاً، وأزليّاً، مغيّراً، وفعّالاً؟ غالباً جداً يقصد الرسول "محبة الله الفائقة المعرفة". وعلى هذا الاعتبار نحسب أن عرض المحبة هو سعتها ورحابتها حتى ضمّت العالم بين ذراعيها: "هكذا أحبّ الله العالم". وطولها، هو مدى صبرها وطول أناتها على الخطاة حتى يبرّروا، ويتقدّسوا، ويتمجّدوا. فهي محبة ممتدّة من الأزل إلى الأبد: "محبة أبدية أحببتك من أجل ذلك أدمت لك الرحمة". وعمقها هو مقدار تنازلها إلى مهاوي الأرض السفلى، حيث طوّحت الخطيّة بالناس في ظلمات الشرّ واليأس. وليس في إمكان أحدٍ أن يقدّر عمق اتّضاع محبة المسيح إلاّ إذا استطاع ـ وهيهات ـ أن يقيس المسافة الشاسعة الممتدّة بين العرش... والمذود، بل بين العرش... والصليب. وقد يُقاس عمق محبة الله بمقدار البذل الذي تكبّدته: " هكذا أحبّ الله... حتى بذل". وأما علوّها فهو ذات عمقها من حيث القياس ـ إذا صحّ أن لهذه المحبة قياساًَ. فمن المعلوم أن عمق الشيء هو علوّه، إلاّ أن العمق ينظر إليه من أعلى إلى أسفل، وأما العلو فينظر إليه من أسفل إلى أعلى. فعلوّ المحبة الإلهية يُقاس بمقدار الفارق العظيم بين الحالة التعيسة التي كان عليها الخطاة قبل أن تدركهم المحبة، وبين الحالة المجيدة السامية التي رُفعوا إليها بعد أن انتشلتهم المحبة من وهدة الشرّ والرّذيلة والهلاك.

 اهتمّ كثير من المفسّرين الأقدمين بالتعليق على هذه الآية: فسفريانوس (في القرن الرابع) رأى صورة الصليب مرتسمةً عليها ـ لاهوت المسيح هو العلو، وناسوته هو العمق، وخدمة الكنيسة التبشيرية في اتّساعها وطولها تُشير إلى العرض والطول. وإيرونيموس (في القرن الخامس) حسب أن العلوّ يعني الملائكة الأطهار. والعمق يعني الملائكة الساقطين، والطول يعني جمي البشر الصاعدين على درجات التقدّم إلى الكمال، والعر ض يعني جميع البشر الهابطين إلى دركات الشرّ والضّلال، بانياً هذه العبارة الأخيرة على قول المسيح: "واسعٌ هو الباب ورحبٌ الطريق الذي يؤدّي إلى الهلاك كثيرون هم الذين يدخلونه" (متى7: 13). وفوتيوس (في القرن التاسع) يعتقد أن الرسول يقصد "سرّ الخلاص المجانيّ بالمسيح للأمم، ولسائر الجبس البشريّ. فهو طويلٌ لأنه مقضيّ به منذ الأزل، وعريضٌ لأنه يضمّ الجميع، وعميقٌ لأنّ المسيح نزل بسببه إلى أقسام الأرض السفلى، وعالٍ لأن المسيح صعد بعد إتمامه إلى السموات العليا.

 معرفة محبة المسيح الفائقة المعرفة

 (3: 19)

19وَتَعْرِفُوا مَحَبَّةَ الْمَسِيحِ الْفَائِقَةَ الْمَعْرِفَةِ، لِكَيْ تَمْتَلِئُوا إِلَى كُلِّ مِلْءِ اللهِ.

أ ـ نوع المعرفة: إن المعرفة المقصودة هنا، هي من طراز جديد راقٍ، ذات مستوى روحيّ سام. هي القوة المميّزة التي تمتاز بها الطبيعة المتجددة، وبها تتذوّق حلاوة محبة المسيح الفائقة المعرفة، فهي معرفة روحيّة للمحبة التي تعجز دونها المعرفة الطبيعية ـ هي معرفة قلبية للمحبة التي لا تقوى على إدراكها المعرفة العقلية، فلا يعرف لغة القلب سوى القلب. ولا يميّز محبة الله سوى القلب المتجدد بنعمة الله.

ب ـ موضوع المعرفة: "... محبة المسيح". هذه هي المحبة التي أحبّ بها المسيح الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها (5: 25). وهي المحبة التي أحبّ بها كلّ فردٍ في الكنيسة: "الذي أحبّني وأسلم نفسه لأجلي" (غلاطية2: 10، أنظر أيضاً رومية8: 35و39، 2كو5: 14، رؤيا1: 5). وبما أنّ الرسول طلب لأجل أهل أفسس أن يعرفوا: "مع جميع القديسين"، فواضح أنه أراد محبة المسيح للكنيسة كمجموع أولاً، ثم كأفراد.

وصف الرسول هذه المحبة بقوله: "الفائقة المعرفة". مهما يكن نوع هذه المعرفة، عقلية كانت أم روحية، فهي قاصرة عن أن تدرك محبة المسيح التي تتحدّى كلّ قياس. فكلما عرف الإنسان من هذه المحبة الفائقة، أدرك أنه لا يعرف عنها شيئاً، وكلّما ارتقى إلى قمّة منها، عرف أنه أمام جبلٍ أشمّ. وكلّما ذاق قطرةً منها، تحقّق أنه أمام بحرٍ خضمّ ـ من الآن إلى الأبد يجد أمامه درساً لم يعرفه عنها بعد. إنّ في هذا دليلاًَ على لاهوت المسيح المجيد، وسموّ محبّته الفائقة الوصف والإدراك، فما من محبة بشرية ـ مهما سمت أوصافها ـ ينطبق عليها هذا الوصف الجليل: "الفائقة المعرفة". ولن يعدل "محبة المسيح الفائقة المعرفة"، سوى سلام الله "الذي يفوق كلّ عقلٍ" (فيلبي4 :7). "وليس أحدٌ يعرف الابن إلاّ الآب" (متى11: 27).

ج ـ غاية الغايات: "لكي تمتلئوا إلى كلّ ملء الله" ـ هذه هي الذروة القصوى التي بلغتها صلاة الرسول في هذه الرسالة. بل هي الغاية المجيدة التي بجانبها تُحسب كل الغايات السابقة مجرّد وسائل مؤدية إليها: "(...لكي يعطيكم أن تتأيّدوا".. "ليحلّ المسيح بالإيمان في قلوبكم".. "حتى تستطيعوا أن تدركوا".. "وتعرفوا محبة المسيح" ـ هذه كلّها وسائل تمهيدية لغاية نهائية ـ هي: "لكي تمتلئوا إلى كلّ ملء الله". بل هذا هو قلب صلاة بولس، وكلّ ما سبقه ليس سوى مقدّمات.

في كولوسي1: 9، صلّى بولس لأجل المكتوب إليهم قائلاً: "من أجل ذلك نحن أيضاً منذ يوم سمعنا لم نزل مصلّين وطالبين لأجلكم أن تمتلئوا من معرفة مشيئته". لكنّه في هذه الرسالة وفي هذه الآية التي نحن بصددها، طلب لأجلهم ما هو أفضل ـ إذ قال: "لكي تمتلئوا إلى كلّ ملء الله". فالامتلاء من معرفة مشيئة الله أمرٌ عظيم، ولكن أعظم منه بما لا يقاس، الامتلاء إلى كلّ "ملء الله".

"لكي تمتلئوا إلى كلّ ملء الله" ـ ترسم هذه العبارة في أذهاننا صورة وعاء متّصل بموردٍ عظيم فيّاض. وسيظلّ متّصلاً به حتى يمتلئ إلى كلّ ملئه. أما الوعاء فهو الكنيسة ـ أفراداً أو جماعة. وأما هذا المورد العظيم فهو الإله جلّ وعلا. فطلب الرسول أن يمتلئ كلّ فردٍ إلى كلّ ملء الله، والفرد يمتلئ كلياً أو جزئياً حسب استعداده وقابليته وتشوّقه، لتمتلئ كلّ ملكةٍ فيه بالنعمة، وبالروح القدس، وبالتالي يمتلئ بكلّ بركات الله.

"إلى كلّ ملء الله" هذا هو الحدّ الغير المحدود، والقياس الذي لا يُقاس، والنهاية اللاّنهائية التي إليها تمتلئ النفس. على أنه لا يستنتج من هذا، بالضرورة، إن في إمكان النفس أن تصل إلى هذا الملء ـ إن في الحال أو في الاستقبال، بل المستفاد منه أن أمام النفس مجالاً سامياً متّسعاً إلى ما لا نهاية، إليه تتسامى النفس وترتقي متدرّجةً في مدارج القداسة والأمجاد، وكلّما ارتقت وجدت أمامها مجالاً أسمى وخيراً أعلى. فتنمو طوال الأبدية إلى هذا الحدّ الغير المحدود، إذ لا نهاية لنموّها، وهنيئاً لها بهذا النهاية اللانهائية، لأن وقف النموّ يؤدي إلى الجمود، والجمود هو أول درجات الانحلال، والانحلال يختتم بالزوال.

"إلى كلّ ملء الله" ـ إلى كلّ الغنى الإلهي ـ غنى النعم والصفات والطبيعة، فيصير المؤمنون شركاء الطبيعة الإلهية (2بط 1: 4). إنّ كلّ ملء الله هو في المسيح، وكلّ ملء المسيح، لنا نحن المؤمنين (كولوسي 2: 9و10).

إن قياس امتلائنا، عملياً، ليس ملء الله، بل قابليّتنا نحن واستعدادنا. يقول الدكتور سكروجي: إنّ حرف الجر المترجم "إلى" يجوز أن يُترجم إلى "في" فيكون ملء الله هو البيئة الروحية المقدّسة التي فيها نحيا ونتحرّك ونوجد، وفيها نمتلئ. ويجوز أيضاً أن تترجم إلى حرف الجرّ "بـ" فيكون ملء الله هو موضوع امتلائنا. ولكننا نميل إلى الاحتفاظ بالترجمة العربية: "إلى"، فيكون ملء الله هو الحدّ الأقصى الذي إليه نرتقي، ونتقدّم، وننمو في امتلائنا.

إن الصفات الإلهية المطلقة: مثل العلم بكلّ شيء، والقدرة على كلّ شيء، والوجود في كلّ مكان، لا يمكن أن تكون من نصيب البشر، ولا يمكنهم أن يصيروا شركاء الطبيعة الإلهية في الصفات الأدبية. وفي هذه أيضاً يختلفون عن الذات العليّة في النوع والكميّة. ولكن لن يُتاح لهم شيء من هذا، إلاّ متى حلّ المسيح بالإيمان في قلوبهم، وملأها إلى التمام، ونحن جميعاً ناظرين مجد الربّ بوجهٍ مكشوف كما في مرآة نتغيّر إلى تلك الصورة عينها من مجد إلى مجد كما من الربّ الروح" (2كو3: 17).

في هذه الحياة لا يمكننا أن ننمو فنبلغ كلّ ملء الله، لأننا كنبات منقول من تربته الأصلية إلى تربة غريبة عنه، فنموّه معطّل، وارتقاؤه معرقل. لكننا إذ نبلغ السماء ونتحرر من المادة وأغلالها، ننمو تدريجياً إلى كمال القصد الإلهيّ الذي أراده الله فينا، وبنا، وبواسطتنا.

نشيد التمجيد  (3: 20و21):

(1) أساس التمجيد (3: 20):

20وَالْقَادِرُ أَنْ يَفْعَلَ فَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ أَكْثَرَ جِدّاً مِمَّا نَطْلُبُ أَوْ نَفْتَكِرُ، بِحَسَبِ الْقُوَّةِ الَّتِي تَعْمَلُ فِينَا،

 إن الغاية القصوى التي أوصلنا إليها الرسول في العدد السابق. تضطرّنا إلى أن نقف حيارى، متسائلين "ومن هو كفء لهذه الأمور؟" ولكن الرسول إنسان تحت الآلام مثلنا، فلا شكّ أنه قدّر هذه الصعوبة الكبرى التي قامت في أذهاننا، وفي أذهان المكتوب إليهم، بل في ذهنه هو نفسه، فأسرع إلى إزالة هذه الصعوبة بقوله: "والقادر أن يفعل..". حقاً أن طلبة الرسول في العدد السابق: "لكي تمتلئوا إلى كلّ ملء الله"، قد فاقت حدّ التصوّر، وتخطّت حدود ملكات الفكر، فأقدم الرسول على معالجة هذه العقبة بقوله: "والقادر أن يفعل فوق كلّ شيء أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر". فأساس التمجيد هو قدرة الله، أو قل هو الإله المقتدر، وقياس قدرته، هو "القوة التي تعمل فينا".

(أ) الإله المقتدر: "والقادر أن يفعل فوق كلّ شيء..". لا غذاءً للإيمان يعادل الارتكاز على الله المقتدر، والارتكاز على قدرته الفائقة: "والقادر أن يفعل". هذا هو مسك الختام في خير مقام (أعمال20: 32، رومية 16: 25، يهوذا 24). فلا ترياق للشكّ ولا علاج للضعف مثل التفكير في قدرة الله، والتمسّك بها في الملمّات (متى19: 26، رو4: 21، 11: 23، 14: 2، 2كو8: 9، في3: 21، عب7: 25).

هذا ارتقاء تدرّجي: الدرجة الأولى "والإله القادر أن يفعل". الدرجة الثانية: "والإله القادر أن يفعل فوق كلّ شيء. الدرجة الثالثة: "والإله القادر أن يفعل.. أكثر مما نطلب". الدرجة الرابعة: "والإله القادر أن يفعل.. أكثر جداً مما نطلب". الدرجة الخامسة: "والإله القادر أن يفعل فوق كلّ شيء أكثر جداً مما.. نفتكر".

 (ب) قياس قدرة الله: القياس الأول: القدرة الإلهية الفائقة حدّ الطلب والفكر: "والقادر أن يفعل فوق كلّ شيء أكثر جداً مما نطلب أو نفتكر". الكلمة المترجمة "أكثر جداً" هي في الأصل كلمة واحدة مركّبة صاغها الرسول للتعبير عن خصب المعاني، وغزارة المادة التي ازدحم بها عقله الجبّار، الذي ألهمه روح الحكمة والإعلان في معرفة الله (أفسس3: 10، 5: 13). والكلمة المترجمة "نفتكر" تعني حرفياً "ندرك" أو "نفهم" أو "نعي" (متى15: 17). هذا مما يدعو إلى شكر الله وحمده: أننا مهما فكّرنا وطلبنا فلا يمكننا أن نصل إلى حدود إمكانيات القدرة الإلهية، ولا أن نستنفد بعض الموارد الإلهية المذخرة لنا.

 القياس الثاني: القدرة الإلهية بحسب عملها فينا: "بحسب القوة التي تعمل فينا" ـ هذه قوة الروح القدس. لقد أشار الرسول إلى فعل هذه القوة في رسالته إلى كولوسي1: 29 بقوله: "الأمر الذي لأجله أتعب أيضاً مجاهداً بحسب عمله الذي يعمل فيَّ بقوة". لكنه في رسالته إلى كولوسي تكلّم عن القوة في فعلها الاختباريّ، وفي هذه الرسالة ـ أفسس ـ تكلّم عن فعل القوة في إمكانياتها. أمام هذه الممكنات الإلهية الجليلة، ليس لنا إلا‍ أن نسلّم حياتنا وقلوبنا تسليماً تاماً ليكون المجال متّسعاً أمام هذه القوة لتعمل بنا وفينا كما تشاء وأنّى تشاء. فإذا ما اشتكى أحدهم من ضيق التنفّس، فليس الضيق في الهواء بل في صدره. "ها أنّ يد الربّ لم تقصّر عن أن تخلّص" لكن خطايانا صدّت تيار عملها، وعدم إيماننا حال دون تنفيذ مراميها في حياتنا. لم يقدر المسيح أن يصنع معجزات في الناصرة بسبب عدم إيمان أهلها.

 عدد21:

21لَهُ الْمَجْدُ فِي الْكَنِيسَةِ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ إِلَى جَمِيعِ أَجْيَالِ دَهْرِ الدُّهُورِ. آمِينَ.

ـ الحمدلة الختامية (3: 21).

 في هذه الحمدلة، تتجلّى لنا أربع حقائق عن المجد الإلهي:

(أ) ماهية المجد: "المجد". (ب) مآل المجد: "له". (ج) دائرة إظهار المجد: "في الكنيسة في المسيح يسوع". (د) دوام المجد: "إلى جميع أجيال دهر الدهور". آمين.

(أ): ماهية المجد: "المجد" ـ هو كمالات الصفات الأدبية، المنعكسة من الجلال الإلهي على البشرية المفتداة، والعائدة إليه تعالى. فهي منه منبعثة، وإليه تعود. ويمكننا أن نعرف حقيقة المجد متى قابلناه بالنعمة. فالمجد هو النعمة في نضوجها وكمالها، والنعمة هي المجد في بذرته ونشأته.

(ب) مآل المجد: "له المجد" ـ أي لله الآب. فالمجد لله طبيعياً وذاتياً، سواء أرغبنا نحن أم لم نرغب. والمجد لله، باعتبار كونه واجباً مقدّساً علينا أن نؤدّيه لعزّته. هذا هو مطلع قصيدة الفداء العجيب، يوم ميلاد مخلّصنا المجيد. "المجد لله في الأعالي". وهو قلب قصيدة الفداء، الذي فاه به الفادي: "أنا مجّدتك على الأرض". وهو خاتمة قصيدة الفداء التي يترنّم بها جمهور المفديين الذين انتقلوا من أرض الشقاء إلى سماء الخلود: "أنت مستحقّ أيها الربّ أن تأخذ المجد والكرامة والقدرة. لأنّك أنت خلقتَ كلّ الأشياء وهي بإرادتك كائنة وخُقلت" (رؤيا4" 10-11).

(ج) دائرة إظهار المجد: "في الكنيسة في المسيح يسوع" ـ اختلف المفسّرون في ترجمة هذه الجملة، وبالتالي في تفسيرها: فمنهم ـ أ ـ لوثر وميخائيليس وروزنملير وأولزهوزن يترجمونها إلى: "في الكنيسة التي هي في المسيح يسوع". وب ـ ثيوفلاكت وجروتيوس وكلفن يترجمونها: "في الكنيسة بواسطة المسيح يسوع" أي أن المسيح هو واسطة تجلّي المجد الإلهيّ في الكنيسة. وج ـ ماير وألفورد وأليكوت يتفقون والترجمة العربية في هذا الوضع: "في الكنيسة في المسيح يسوع" ـ أي أن الكنيسة هي الدائرة الخارجية التي يتجلّى فيها المجد الإلهي، لكن المسيح هو الروح الداخليّ والعامل الأساسي في تجلّي هذا المجد في الكنيسة. فلن يُتاح للكنيسة أن تظهر المجد الإلهي إلاّ بقدر ما تكون في المسيح، مستمدّة حياتها وكيانها وكمالها منه. ود ـ روبنسون وموليه وغيرهما من المفسّرين المعاصرين يترجمونها إلى: "في الكنيسة وفي المسيح يسوع" أي أن المجد الإلهي يظهر في الجسد الذي هو الكنيسة، وفي المسيح الذي هو الرأس. فالكنيسة في المسيح، والمسيح متمم رسالته بالكنيسة (1: 23). وفي اعتقادنا أن الرأيين الأخيرين هما أصوب الآراء.

هذه هي المرة الثالثة التي ذُكرت فيها كلمة "كنيسة" في هذه الرسالة: في المرة الأولى (1: 23) أشار بولس الرسول إلى الكنيسة باعتبار كونها "الجسد" الذي يكمّل فيه الرأس. وفي المرة الثانية (3: 10) ذكر الرسول الكنيسة باعتبار كونها "المرآة" التي عليها تنعكس أشعة حكمة الله المتنوّعة. وفي هذه المرة الثالثة (3: 21) تكلّم عن الكنيسة باعتبار كونها "مظهر" تجلّي المجد الإلهي.

(د) دوام المجد الإلهي: "إلى جميع أجيال دهر الدهور" ـ أو بعبارة أخرى ـ إلى أبد الآباد. إن هذه العبارة تنمّ عن سلسلة طويلة مكوّنة من حلقات متراصّة متماسكة. بكلّ حلقة منها ينتهي جيل خاص بتدبير معيّن، وكل هذه الحلقات تكوّن معاً سلسلة الآباد التي لا نهاية لها ولا حدّ.

والظاهر أن العبارة: "دهر الدهور" عبرية الأصل (مزمور72: 5و102: 24) وهي مرادفة لقولنا "أبد الآبدين". فإذاً، إظهار هذا المجد الإلهي في الكنيسة ليس مقصوراً على الكنيسة المجاهدة على الأرض، لكنه يمتدّ إلى الكنيسة الممجدة في السماء.

"آمين". هذه كلمة عبرية معناها "استجب"، وهي من مصدر "أ م ن" ومعناه الحرفي "أيّد". "آمين" ـ هذه كلمة واحدة، لكن يخيّل إلينا أنها خلاصة أناشيد الأجيال كلّها، متجمّعة ومركّزة في هذه الكلمة الواحدة كأنّ كلّ جيل في كلّ دهر يضمّ صوته إلى أصوات الأجيال الأخرى لتلتئم كلّها في مقطع خاص، فتتجمّع كلّ هذه الكلمة الواحدة. آمين.

آمين ـ بهذه الكلمة تختتم صلاة الرسول في هذا الأصحاح،

فيختتم بها القسم التعليمي من هذه الرسالة الجليلة، ويستهل القسم العملي

آمين.

الإصحَاحُ الرَّابعُ

القسم العملي

(4: 1-6: 24)

 قد بلغ بنا الرسول، في خاتمة القسم الذي مرّ بنا، قمة جبال المعلنات الإلهية في هذه الرسالة. ومن ذلك العلوّ الشاهق، بدأ ينزل إلى مستوى الحياة العملية. في القسم الماضي ارتفع بولس إلى "رأس" المصادر العلوية، وفي القسم الآتي، هدانا إلى "عين" النبع حيث تنفجر المياه، وتسيل في الجداول لتروي العطاش المقيمين في برية الحياة المجدبة القاحلة.

في القسم الماضي أرانا الرسول الامتيازات، وفي هذا القسم عرّفنا بالواجبات.

في القسم الماضي كشف الحقائق اللاّهوتية، وفي هذا القسم أرانا ثمار الحياة العملية.

في القسم الماضي وضع الأساس، وفي هذا القسم العملي أقام البناء.

في القسم الماضي أرانا موقفنا، وفي هذا القسم العملي رسم لنا مسلكنا.

في القسم الماضي أبان مقام الكنيسة كمجموع، وفي هذا أوضح عمل المؤمن الفرد.

في القسم الماضي تكلّم عن دعوتنا السماوية، وفي هذا أرانا حقيقة جهادنا الأرضي.

في القسم الماضي عرّفنا ما عمله الله لنا، وفي هذا عرّفنا بما نعمله نحن لله.

أولاً: المسيحي والوحدانية المقدّسة (4: 1-16).

ثانياً: المسيحي في حياته الجديدة (4: 17-6: 24).

(1): المسيحي في حياته الخاصة (4: 17-32)

أولاً: مبادئ الحياة العتيقة ومبادئ الحياة الجديدة (4: 17-24).

 (1) خلع الإنسان العتيق (4: 17-22).

 (2) لبس الإنسان الجديد (4: 23 و24).

ثانياً: تصرّفات عتيقة وتصرّفات جديدة (4: 25-32).

 التصرّفات العتيقة: التصرفات الجديدة.

 (1) الكذب (4: 25) الصدق.

 (2) الغضب الخاطئ. الغضب البريء (4: 26و27).

 (3) السرقة (4: 28) الإحسان.

 (4) الكلام الهادم (4: 29) الكلام الباني.

 (5) الشعور الرديء. الشعور الطيب (4: 30-32).

 مرارة، سخط ـ لطف.

 غضب، صياح ـ شفقة.

 تجديف، خبث ـ تسامح.

(2) المسيحي في حياته الاجتماعية (5: 1-21).

أولاً: اسلكوا في المحبة لا في الفساد (5: 1-5).

 (1) إيجاباً (5: 1و2)، سلباً (5: 3-5).

ثانياً: اسلكوا في النور لا في الظلام (5: 6-14).

 (أ) تحذيرات ضدّ الظلام (5: 6و7).

 (ب) علّة هذه التحذيرات (5: 8).

 (ج) حضّ على النور (5: 8 و10).

 (د) علّة هذا الحضّ (5: 9).

 (هـ) انفصال النور عن الظلام (6: 11-13).

 (و) نداء حيّ (6: 14).

ثالثاً: اسلكوا بحكمة لا بجهالة (5: 15-21).

 حكمة افتداء الوقت لا جهالة قتل الفرض (5: 15-17).

 حكمة الامتلاء بالروح لا جهالة الترنّح بخمر الخلاعة (5: 18).

 الحكمة في العبادة (5: 19-21).

(3) المسيحي في حياته العائلية (5: 22-6: 9)

أولاً: الزوجة والزوج (5: 22-33).

 (أ) واجبات المرأة (5: 22-32و33).

 (1) الطاعة (5: 22-24).

 (2) المهابة (5: 33).

 (ب) واجب الرجل (5: 25-33).

 (1) الواجب نفسه (5: 25و33).

 (2) قياسه (5: 26-30).

 (3) أساسه (5: 31-33).

ثانياً: الأبناء والآباء (6: 1-4).

 (أ) واجبات الأبناء (6: 1-3).

 (1) الطاعة (6: 1).

 (2) الإكرام (6: 2).

 (3) مكافأتهما (6: 3).

 (ب) واجب الآباء (6: 4).

 سلباً: "لا تغيظوهم"، إيجاباً "ربوهم".

ثالثاً: العبيد والسادة (6: 5-9).

 (أ) واجب العبيد (6: 5-8).

 (1) الواجب نفسه (6: 5).

 (2) ماهيته (6: 6).

 (3) أساسه (6: 7).

 (4) مكافأته (6: 8).

 (ب) واجب السادة (6: 9).

(4) المسيحي في الحروب الروحية (6: 10-30).

 (أ) المحارب (6: 10و11).

 (ب) الحرب (6: 12).

 (ج) السلاح (6: 13-20).

 (1) الاستعداد لحمل السلاح (6: 13).

 (2) نوع السلاح (6: 14-17).

(عدد 14) (عدد 15)

"منطقة" "درع" "حذاء"

(عدد 16) (عدد 17)

"ترس"، "خوذة"، "سيف".

 (3) السهر وقت حمل السلاح (6: 18-20).

كلمة شخصية: (6: 21و22).

مسك الختام (6: 23و24).

 "سلام"، "محبة"، "إيمان"، "نعمة"، "عدم فساد".

لقد شوّقنا الرسول إلى هذا الجزء العملي منذ بداية الأصحاح السابق الذي رفعنا فيه إلى أعلى قمم العقيدة، فمن حقّه أن يطلب منا السلوك في جدّة الحياة، ليرقى بنا إلى المستوى الرفيع الذي منه تأتي دعوتنا السماوية من أجل ذلك، استهلّ كلامه في هذا القسم العملي بقوله: "فأطلب". وكلّ من أعطى، له حقّ أن يطلب. وعلى قدر الامتيازات تكون المسئوليات. ومن يُعطي كثيراً، يطالب بأكثر.

"فأطلب" ـ بهذه الكلمة عينها استهلّ الرسول القسم العمليّ من رسالته إلى رومية: "فأطلب إليكم أيها الأخوة برأفة الله" (12: 1). فكأنه اختار هذه الكلمة لتكون فاصلاً بين القسم التعليمي والقسم العمليّ في أهمّ رسائله. فحقّ علينا، بعد أن سمعنا "عظمة مجد ميراث الله فينا"، "وما هو رجاء دعوته لنا"، "وما هو سرّ تدبير نعمته لأجلنا"، أن نسمع شيئاً عن الواجبات المطلوبة منا لله، تلقاء هذه المزايا الجليلة

المسيحي والوحدانية المقدّسة

وحدانية في تنوّع

(4: 1-6).

 بعد أن علّم الرسول المكتوب إليهم وأرشدهم. شرع في أن يستحثّهم ويناشدهم. ولا يغرب عن أذهاننا، إنه وإن يكن القسم الأول من هذه الرسالة خاصاً بالإعلان والإرشاد، والقسم الثاني مفعماً بالحضّ على حسن السلوك وحياة الجهاد، إلاّ أن القسم الأول لا يخلو من الحثّ والتحريض، كما أن القسم الثاني لا يخلو من التعليم والإلهام.

 (عدد1) :

 1فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ، أَنَا الأَسِيرَ فِي الرَّبِّ، أَنْ تَسْلُكُوا كَمَا يَحِقُّ لِلدَّعْوَةِ الَّتِي دُعِيتُمْ بِهَا.

 (1) نقطة الارتكاز في هذا الفصل (4: 1)

 يعتبر هذا العدد نقطة الارتكاز في هذا القسم العملي من الرسالة، وهو ينجلي عن ثلاثة أمور مهمة:

أولها: الطالب: "فأطلب إليكم....". الكلمة الأصلية المترجمة "أطلب" تنمّ عن الحثّ المصحوب بشيء من الاستعطاف. ويمكننا أن نقدر هذا الاستعطاف متى ذكرنا ذلك الشخص العظيم، الذي تقدّم إلى المكتوب إليهم بهذا الطلب، وهو الذي ضحّى براحته وحريته في سبيل إنجيل خلاصهم. وفوق ذلك، فهو يطلب منهم بوجه حقّ، لأنه إنما يطلب حقاً مرتكزاً على ما أعطاهم إياه من المعلنات الإلهية الجليلة. على أن نقطة الارتكاز ليست منبثة في العدد كلّه، بل مرتكزة في حرف "الفاء" (انظر رومية 12: 1، كولوسي3: 1).

ثانيها: موقف الطالب: "أنا الأسير في الربّ". أضحى بولس أسيراً مكبّلاً بالسلاسل، مقيّداً بالأغلال، بسبب اتحاده بالربّ يسوع المسيح وحمله إنجيل كرازته للأمم. فهو إذاً أسير حبّ الفادي، بل أسير إنجيل فدائهم، فهو بالتالي أسير المسيح لأجلهم (3: 1). غير أنّه لم يذكر هذه العبارة ليستدرّ عطفهم عليه، فقد كان محتملاً كلّ آلامه شاكراً مسروراً. لكنّه أراد أن يستمدّ من أسره، حجة قوية تحملهم على إجابة رجائه وتلبية ندائه. لأنّ الإنسان يتسلّط على الآخرين بمقدار حبّه لهم وتضحيته لأجلهم "فطالما استعبد الإنسان إحسان".

ومن المشجّع لنا أن نذكر أن بولس لم يخجل قطّ من قيوده، بل كان يفخر بها. فلا الأساور المرصّعة التي تزيّن معاصم العرائس، ولا "النجوم" اللّوامع التي تزيّن كتف البطل المغوار الذي خرج من المعركة مكللاًَ الغار ـ لا هذه ولا تلك ـ بمساوية للسلاسل الحديدية التي كانت تطوّق إحدى قدمي بولس وإحدى يديه. ومن الجائز، أن الحجّة التي أراد الرسول أن يستمدّها من قيوده، تسير على هذا النسق: "يا أبنائي الأعزاء! ها أنا الآن أسير، فلا أملك حرية الانتقال الانتقال إليكم. ولكن يمكنني أن أتّصل بكم عن طريق الكتابة بقلمي، وعن طريق الصلاة بروحي. ومع ذلك فإني واثقٌ من أنّكم تقدّرون طلبي إليكم وأنا غائب عنكم بسبب أسري، بأكثر مما تقدّرونه لو كنت حاضراً معكم بالجسد. سيّما وأنني لست أسير خطأ ارتكبته إلاّ إذا كان هذا الخطأ هو كرازتي لكم وحملي بشرى إنجيلكم".

رأى بعض المفسّرين الأوّلين مثل يوحنا فم الذهب، وسملر، أن يصلوا قول الرسول: "في الربّ" بقوله: "أطلب إليكم" ـ أي أنه ناشدهم باسم الربّ ولأجل الربّ. لكن وضع الجملة في اللغة الأصلية يجعل قول الرّسول "في الربّ" وصفاً لقوله: "أنا الأسير"، أي أنه أسير بسبب اتّحاده بالربّ، وهو في أسره متقوٍّ وغالب، لأنه "في الربّ" الظافر على جميع القوات بما فيها السجون والظلمات.

ثالثها: ماهية الطلب: "أن تسلكوا كما يحقّ للدعوة التي دُعيتم بها". لم يطلب الرسول منهم تقدمة مالية، ولا رغب إليهم أن يفوهوا بمواعظ بليغة بل طلب منهم تقديم أنفسهم على مذابح الحياة اليومية، في السلوك القويم. هذا أصعب طلب، وأيسر طلب. فهو أصعب طلب لأنه يكلّف أعزّ تضحية ـ الذات والإرادة، لله. وهو أيسر طلب لأنّ كلّ إنسان يقوى عليه، فلا حقّ لفقير أن يعتذر بعدم وفرة موارده، ولا لعييّ أن يستعفي بسبب عقدة في لسانه، أو افتقاره إلى عوزٍ في حدّة جنانه، لأن كلّ إنسان يقدر أن يسلك ـ سيّما متى ترك دور الطفولة.

"أن تسلكوا كما يحقّ للدّعوة التي دُعيتم بها: ـ هذا يُماثل قول الرسول في مواضع أخرى "أن تسلكوا كما يحقّ لإنجيل المسيح" (فيلبي1: 27)، "أن تسلكوا كما يحقّ للربّ" (كولوسي1: 10)، "أن تسلكوا كما يحقّ لله" (1تس2: 12). أما "الدعوة" التي تدعو بها، فهي دعوتهم للخلاص بالمسيح يسوع، حين سمعوا كلمة الإنجيل وقبلوها (انظر1: 18).

لا يغرب عن بالنا، أنّ كلّ سلوك، وإن سما وارتقى، لا يمكن أن يكون لائقاً بالدعوى التي دُعينا بها. فالرسول هنا، يتكلّم عن حالة كمالية، يجب أن نسعى إليها وأن نضعها نصب أعيننا، ولكن إن خبنا عنها بسبب قصور أو تقصير، فلا نفشل، لأنّ لنا عند الآب "شفيعاً هو يسوع المسيح البار".

إن بداية الحياة المسيحية سامية راقية، لأنها متّصلة بالدعوة الإلهية السماوية، لذلك يجب أن تكون سامية راقية في طرفها الآخر الذي هو الحياة العملية. فإذا كان على الماء أن ترتقي إلى المستوي الذي منه نبعت، فمن أوجب واجباتنا أن نرقى بحياتنا العملية، إلى مستوى دعوتنا الإلهية هذا يعلّل قول الرسول مرات عديدة في رسائله: "لا يليق"،"يليق"، "يحقّ"، "يوافق"، "لا يوافق". لأنه وضع نصب عينيه مثلاً أعلى، من واجب الإنسان أن ينسج عليه، وأن يسعى دائماً إليه. فالمثل الأعلى يضبط الحياة العملية، والحياة العملية تترجم عن حقيقة المثل الأعلى.

إن الوحدة البشرية الجامعة، التي يراها بولس متوّجة القصد الإلهي، قد تمّت في المسيح، وهي به قائمة. فمن أوجب الواجبات أن تتحقق على الأرض بواسطة كنيسته التي هي جسده على الأرض. فعلى أعضاء كنيسة المسيح أن يحتفظوا بهذه الوحدانية، وأن يحرصوا عليها، مخافة أن يذهب شيء بجمالها: أو أن يعبث بها عابث. فيما أن أعضاء كنيسة أفسس، وسائر المؤمنين، قد اختيروا لهذه الوحدة المشتركة، وصاروا فيها أحجاراً حية في هيكل المسيحية، وأعضاء في جسد المسيح على الأرض، فمن واجبهم أن يكيّفوا سلوكهم وفق هذه الدعوة، وأن يرتقوا إلى مستواها العالي الرفيع.

عدد3 ـ (2) النية التي يجب أن يتسلّحوا بها (4: 2):

2بِكُلِّ تَوَاضُعٍ، وَوَدَاعَةٍ، وَبِطُولِ أَنَاةٍ، مُحْتَمِلِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فِي الْمَحَبَّةِ. 3مُجْتَهِدِينَ أَنْ تَحْفَظُوا وَحْدَانِيَّةَ الرُّوحِ بِرِبَاطِ السَّلاَمِ.

 كنا ننتظر أن الامتيازات الجليلة السامية التي نادى بها الرسول في الأصحاحات السابقة، تبعث في المؤمنين روح التعظّم والكبرياء، ولكن الأمر عكس ذلك على خطّ مستقيم. فهي تثمر تواضعاً ووداعةً، لأنها ليست امتيازات كسبناها بأعمالنا واستحقاقنا، وإنّما هي امتيازات أغدقتها علينا النعمة عفواً وفضلاً، فهي إذاً ديون وفيرة، ثقّلت بها النعمة كواهلنا، فصرنا بها مضطرّين إلى أن نسير منحنين متواضعين، لا متعالين متشامخين. ويجمل بنا أن نذكر أن بولس نطق عن يقين، لأنه إنما يتكلّم عن اختبار شخصيّ. فهو لا يحمّل المكتوب إليهم أحمالاً ثقيلةً، لا يستطيع هو أن يحرّكها بأصبعه، بل يكلّفهم بما قام به هو فيما بينهم، عفواً وعن طيب خاطر. فلنذكر قوله لقسوس كنيسة أفسس في خطابه الوداعيّ: "أنتم تعلمون من أول يوم دخلتُ آسيا كيف كنت معكم كلّ الزمان أخدم الربّ بكلّ تواضع..".

 في هذا العدد، أوضح الرسول:

أ ـ النية الصالحة التي يجب أن يتسلّح بها جميع المؤمنين: "بكل تواضع ووداعة وطول أناة".

ب ـ واجب المؤمنين نحو بعضهم بعضاً: "محتملين بعضكم بعضاً.

ج ـ الجوّ الروحيّ الذي يجب أن يسود جميع المؤمنين: "في المحبة".

أ ـ النيّة الصالحة التي يجب على المؤمنين أن يتسلّحوا بها:

 تواضع، وداعة، طول أناة ـ ثلاث صفات جميلة يجب أن يتحلّى بها كلّ مؤمن، فتتجلّى في كلّ حركاته وسكناته. وتكون هي الطابع الخاص الذي به يتميّز سلوكه.

 فالتواضع هو معرفة الإنسان نفسه وشعوره بعجزه وعدم استحقاقه نعمَ الله ومراحمه. والوداعة هي تنازل الإنسان عن حقوقه. وطول الأناة هو تذرّعه بالصبر تجاه المكاره. فالتواضع يعيّن موقف الإنسان تجاه الله وبركاته. والوداعة تعين موقف الإنسان إزاء نفسه وحقوقها. وطول الأناة يعين موقف الإنسان تجاه الآخرين وأثقالهم. وجديرٌ بالملاحظة أن المسيح قال عن نفسه: "لأني وديعٌ ومتواضع القلب.. لأن نيري هيّن".

 "التواضع": الكلمة اليونانية المترجمة "تواضع" تعني تقديراً ثابتاً للنفس في حقيقتها ـ كدت أقول في حقارتها ـ فهي حالة نفسية يجب أن تكون مستمرّة ومستقرّة. فلئن كان اليونان قد نادوا بالتحلّي بالتواضع، على اعتبار أنه صفة ممتازة يجمل المرء أن يتحلّى بها عند الضرورة، إلاّ أنها ليست كذلك في كلّ الحالات. لكن بولس يعلّمنا أن التواضع صفة مسيحية يجب أن يتحلّى بها المؤمن في كلّ زمان ومكان. وهي تعني اعتمادنا الكليّ على الله، وتعلّقنا الدائم به كأولاد لا غنى لهم عن أبيهم الذي هو مصدر حياتهم.

 "الوداعة": والكلمة المترجمة "وداعة" تعني التسليم لله في الضيقات، والخشوع لمشيئته في الملمّات. ويقول ترنتش إن الوداعة ترتكز على الأسس والأصول التي تهيّئها لها صفة التواضع. فهي صفة، إلى حدّ ما، أرقى من صفة التواضع أو هي بناء مقام أساسها.

 "طول الأناة": ربط الرسول هذه الصفة بالوداعة في هذه الرسالة كما في غلاطية5: 22 وكولوسي3: 12. إنّ طول الأناة يحفظنا من التعجّل في الكم، فلا نحكم في شيء قبل الوقت، بل نقدّر النتائج قبل وقوعها. فيسهل على المرء أن يسلّم لله الذي يقضي بعدل. وجدير بالملاحظة أن الشخص الطويل الأناة، يحسب حساباً للأبدية، ويجعلها عنصراً مهماً في تفكيره وتصرّفاته. وإذا جازت المقارنة بين الصفات، فإنّ هذه الصفة أرقى من سابقتها بقدر ارتقاء سابقتها عن الصفة الأولى. فكأن الرسول وضع هذه الصفات الثلاث على نسق تدرّجيّ متصاعد: تواضع، وداعة، طول أناة. فهو كشخص دخل إلى الهيكل المقدّس، فمرّ أولاً بالدار، ثمّ بالقدس، حتى وصل إلى قدس الأقداس. ومن دلائل تسامي هذه الصفة على سابقتيها، كونها استعملت في أكثر المرات كصفة للذات العليّة، ونسبتها إلى الله أكثر من نسبتها إلى الإنسان (رومية2: 4و 9: 22، 1تي1: 16، بط3: 20، 2بط3: 15).

 ب ـ واجب المؤمنين نحو بعضهم بعضاً: "محتملين بعضكم بعضاً". إن الصفات الثلاث التي مرّت بنا، ممهّدة لهذا الواجب المطلوب منا. فهي له بمثابة الأساس للبناء، والبزرة للشجرة. فبالتواضع، والوداعة، وطول الأناة يمكننا أن نحتمل بعضنا بعضاً. هذا واجب متبادل "محتملين بعضكم بعضاً"، لأن أوجه الضعف متبادلة، فمن الواجب أن يكون الاحتمال متبادلاً. فما من مؤمن حقيقي يكون على الدوام مسيئاً، أو يكون مساءً إليه باستمرار من غير أن يُسيء هو إلى أحد. بل المسيء اليوم قد يكون مُساء إليه غداً. فكما أنه ينتظر من الآخرين أن يحتملوه إذا هو أساء، كذلك من واجبه هو أن يحتمل الآخرين إذا هم أساؤوا إليه.

 فالمؤمنون بالنسبة لبعضهم لبعض، كأحجار متماسكة في بنيان مرصوص يشدّ بعضها بعضاً، وهم أيضاً أعضاء في جسدٍ واحد، فعليهم أن يتعاونوا. ومن أقوى البواعث على هذا الاحتمال المتبادل، أن يذكر كلّ مؤمن أنه هو ثقل عظيم على النعمة، ولو أنّ النعمة، ولو أن النعمة لا تشكو قطّ من هذا الثقل! وأكبر الظنّ، أنها لا تشعر به، فهي شبيهة بمخلوق عجيب، له ألف عين، وألف يد، وألف قدم، ولسان واحد ـ فهو يخدم باستمرار، ليل نهار، وفي نهاية اليوم يقول: "ما عملت شيئاً"!.

 فلنحتمل بعضنا بعضاً، لأننا في احتمال الآخرين نحمل أنفسنا ونحن لا ندري. فالناظر إلى الكتل الحديدية التي يتركّب منها "الجسر المعلّق" قد يعجب إذ يرى كأن هذه الكتل الحديدية معلّقة في الفضاء، لكنّ عجبه يزول، متى عرف أنها بضغطها على بعضها البعض، واحتمال بعضها البعض، تحمل نفسها وهي لا تدري.

 ج ـ الجوّ الروحيّ الذي يجب أن يسود جميع المؤمنين: "في المحبة" هذا هو الجوّ المقدّس الذي يجب أن يسود كلّ العلائق التي بين المؤمنين: "في المحبة". بهذا يسهل كلّ عسير، ويُحتمل ما لا يُحتمل، ومن لا يحتمل. في هذا يختلف الاحتمال الناشئ عن الضعف والخنوع وعدم القدرة على المقاومة، عن الاحتمال الذي تُنشئه المحبة، وتغذّيه، وتُنضجه، وتتوّجه.

 عدد3 ـ (3) وحدانية الروح، وواجب المؤمنين إزاءها (4: 3):

 هذه أول إشارة صريحة في هذه الرسالة إلى وحدانية الروح، وفيها تكلّم الرسول عن: (أ) طبيعة هذه الوحدانية: "وحدانية الروح"، (ب) واجبنا إزاء هذه الوحدانية: "مجتهدين أن تحفظوا... برباط السلام".

 أ ـ طبيعة هذه الوحدانية: "وحدانية الروح". هذه هي الوحدانية المقدّسة التي ينشئها الروح ويقوّيها، ويغذّيها، ويجعل كلّ المؤمنين واحداً في المسيح، وإيجاد اتّحاد حيّ مكين بين المؤمنين وبعضهم البعض، فهي ليست مجرّد وحدانية جغرافية، مكانية، كوجود جثتين جنباً إلى جنب في قبر واحد. بل هي وحدانية حياة، لأنّ الروح القدس هو روح الحياة. ولا هي مجرّد وحدانية التساند والتعاضد، كوجود حجرين جامدين جنباً إلى جنب إلى جدار واحد مثلما يتعاضد اللصوص على عمل غير شريف، بل هي وحدانية الرابطة الحية الشريفة، الكائنة بين أعضاء حية في جسم حيّ، يتوّجها جميعاً رأس واحد حيّ، ولا هي وحدانية التشابه والتجانس في كلّ شيء، كارتباط حلقات متشابهة في سلسلة واحدة، وإنما هي تآلف العناصر المنوّعة التي يؤلّف بينها قصد إلهيّ واحد، مثلما تجتمع الأصوات الموسيقية المتباينة لتؤلّف نغمةً واحدة، أو كما تأتلف ألوان قوس السحاب المتباينة لتكوّن نوراً واحداً، أو كما تتّحد الأعضاء المتباينة ـ ولكلّ عضو مكانته ـ في جسدٍ حيّ واحد. فقد يختلف أعضاء الكنيسة الواحدة في الرأي من جهة أمر ما، لكنّ الروح القدس يوحّد ما بينهم، متى كانت قلوبهم متآلفةً في الجوهر. ولا هي مجرّد وحدانية عقلية نفسية، وإنما هي الوحدانية يُنشئها الروح القدس بالذات، فهي وحدانية مؤسسة على شركة الروح.

 ب ـ واجبنا إزاء هذه الوحدانية: "مجتهدين أن تحفظوا وحدانية الروح برباط السلام". النقطة المركزية في هذا الواجب، هي قوله: "أن تحفظوا". وأما كلمة "مجتهدين" السابقة لهذا القول، فهي تعني الروح الذي به نؤدي هذا الواجب المقدّس على أتمّ وجه. والعبارة "رباط السلام" التي بها يُختتم العدد، ترينا الوسيلة التي بها نؤدي هذا الواجب.

 أولاً: واجبنا "أن تحفظوا". إننا نحمد الله لأن هذه الوحدانية موجودة حقاً وفعلاً. فليس من واجبنا أن نخلقها خلقاً، ولا أن نوجدها من العدم لأنّ كلّ واحدانية يوجدها البشر مهما سمت مراكزهم، إنما هي وحدانية ميتة، عاطلة، زائفة. ما أشبهها بالجسم الميكانيكي الذي يصنعه مهندس بشريّ، أو بالزهور الصناعية التي تحيكها يد إنسان ماهر أو آلة ميكانيكية صمّاء. لكن هذه الوحدانية المقدّسة هي من عمل ربّ الحياة والقوة، وما علينا نحن البشر إلاّ أن نحافظ عليها. فهي تُكشف ولا تُخترع. وطوبى لمن يستطيع أن يراها بعين الإخلاص، ويغذّيها بقلب المحبة، وينهضها بروح التضحية وإنكار الذات. فعلى المؤمنين أن يحفظوا هذه الوحدانية من كلّ تحزّب، وشقاق، ومن روح الأنانية، وحبّ السيادة.

--------------------------

[1] - تحدّث معلّمو اليهود قديماً في تلمودهم عن سمائين، وسبع سموات. وحدّثنا بولس نفسه عن ثلاث سموات (2كو12: 2)، إشارةً إلى محضر الله. والمراد بقوله جميع السموات" أن المسيح استوى على العرش فوق كلّ الكائنات.

روح الاجتهاد

 ثانياً: الروح الذي نؤدي به هذا الواجب على أتمّ وجه: (روح الاجتهاد): "مجتهدين". الكلمة المترجمة "مجتهدين" هي في اليونانية أقوى منها في العربية، فهي تعني "مقدّمين كلّ اجتهاد" أو "باذلين كلّ اهتمام". فالكلمة العربية "مجتهدين" قد تفيد أن المحافظة على الوحدانية عمل اجتهاديّ، لا عمل جدّي، أو هو كما يقال: "فرض كفاية" لا "فرض عين"، لكنّه في الواقع فرض حتميّ، علينا أن نبذل في سبيله كلّ مرتخص وغالٍ. فكلّ مجهود في سبيله، هيّن وإن عزّ.

 ثالثاً: الوسيلة التي بها نتمم هذا الواجب: "برباط السلام". هذه العبارة كما وردت في الأصل، قد تعني أمراً من اثنين ـ أولهما: السلام الذي هو رباط الوحدانية. وثانيهما: الرباط الذي يضمن السلام ـ أعني المحبة، باعتبار أن المحبة هي رباط السلام. هذا الرأي الثاني، هو رأي العلامة بنجال. ولكن برجوعنا إلى الأصحاح الثاني من هذه الرسالة، يتبيّن لنا، أن المسيح "هو سلامنا الذي جعل الاثنين واحداً" (2: 14). هذا هو رباط الوحدانية المسيح الذي هو سلامنا. فهي إذا وحدانية مقدّسة: الروح منشئها، والمسيح رباطها.

 عدد4و5و6:

4جَسَدٌ وَاحِدٌ، وَرُوحٌ وَاحِدٌ، كَمَا دُعِيتُمْ أَيْضاً فِي رَجَاءِ دَعْوَتِكُمُ الْوَاحِدِ.

5رَبٌّ وَاحِدٌ، إِيمَانٌ وَاحِدٌ، مَعْمُودِيَّةٌ وَاحِدَةٌ،

6إِلَهٌ وَآبٌ وَاحِدٌ لِلْكُلِّ، الَّذِي عَلَى الْكُلِّ وَبِالْكُلِّ وَفِي كُلِّكُمْ.

ـ (4) الأعمدة السبعة التي يُبنى عليها هيكل الوحدانية (4:4و5و6). "جسد واحد، وروح واحد، كما دعيتم أيضاً في رجاء دعوتكم الواحد، ربّ واحد، إيمان واحد، معمودية واحدة، إله وآب واحد للكلّ الذي على الكلّ وبالكلّ وفي كلّكم".

 هذه سهام سباعية من جعبة الوحدانية المقدسة. وهي تبتدئ بالجسد الواحد الذي يحييه الروح الواحد، فيتقدّم نحو جعالة الرجاء الواحد. وهذا الجسد الواحد يستمدّ كيانه من الربّ الواحد الذي هو رأسه الأوحد، فاتّحد به بواسطة الإيمان الواحد والمعمودية الواحدة. على أن كمال هذه الوحدانية يتحقق في الإله الواحد، الذي هو آب لجميع المؤمنين، وهو إله للكلّ، وسيّد على الكل، ومتمم إرادته بالكلّ، لكنه حالٌّ فقط في كلّ المؤمنين. "جسد واحد... إله واحد". مما يلفت نظرنا، أن الرسول، عندما أراد تبيان أوجه الوحدانية المقدّسة، بدأها بأقربها إلى العيان: "جسد واحد"، واختتمها بالإله الأوحد الذي هو غايتنا القصوى وإليه مآلنا "إله وآب واحد". ومهما تعددن أوجه هذه الوحدانية فإن عمادها الأوحد هو الثالث الأقدس: "روح واحد": هذا هو الأقنوم الثالث. "ربّ واحد": هذا هو الأقنوم الثاني. "إله وآب واحد": هذا هو الأول الأقنوم. هذا هو الإله الواحد، موجد هذه الوحدانية ومحييها.

 فإلى الذين لا يفهمون مسيحيّتنا على حقيقتها، ويتّهموننا بالشرك، ظانين أننا نعبد ثلاثة آلهة، إليهم نسوق الحديث بكلّ حبّ، ومودّة، وعطف، قائلين: تعالوا إلى معابدنا تجدونا إلهاً واحداً، وندين بمعمودية واحدة، ونتمسّك بإيمان واحد، ونضع نصب عيوننا الرجاء الواحد. ثم افتقدونا في منازلنا، تجدوها منازل الزوجة الواحدة، والمحبة الواحدة، والوفاء الواحد، ثم جرّبونا في معاملاتنا، تجدونا أصحاب اللّسان الواحد، والكلمة الواحدة، والوجه الواحد، والذمة الواحدة. وإن وجدتم في أحدنا ـ أو في بعضنا ـ غير ذلك، فالعيب ليس في ديننا بل فينا، فإن لم نكن نحن ذلك، وجب أن نكون كذلك.

أركان الوحدانية:

 قديماً حدّثنا الحكيم عن الحكمة قائلاً: "الحكمة بنت بيتها. نحتت أعمدتها السبعة" (أمثال9: 1). ومهما تكن ماهية الحكمة التي تحدّث عنها. الحكيم؛ فلسنا نرى ما يمنعنا من تطبيق كلمات العهد القديم على كلمات رسول العهد الجديد. فالوحدانية المقدّسة بنت بيتها ونحتت أعمدتها السبعة. وهذه الأعمدة السبعة، هي المبادئ السبعة التي نظّمت الكنيسة بموجبها.

 ويهمّنا أن نذكر، أن الرسول لا يتحدّث هنا عن الوحدانية باعتبار ما يجب أن نكون عليه، بل على اعتبار أنها حقيقة واقعة. فعناصرها السبعة المذكورة هنا ليست مثُلاً نسعى إليها، لكنّها أعمدة نبني عليها.

 أما السبعة الأعمدة التي ذكرها الرسول لهذه الوحدانية المقدّسة فهي: "جسدٌ واحد، روجٌ واحد، رجاءٌ واحد، ربٌّ واحد، إيمانٌ واحد، معمودية واحدة، إله وآب واحد". ويجوز أن نجمع بين هذه الأعمدة، فنكوّن منها ثلاثة أركان رئيسية:

 الركن الأول: جسد واحد: هذا يتناول الحياة الروحية الداخلية والرجاء الوطيد الممتدّ إلى الأمام.

 الركن الثاني: رأس واحد: هذا هو رأس الجسد وهو يتضمّن العاملين اللذين يتّحدانه بالجسد ـ الإيمان والمعمودية.

 الركن الثالث: إله وآب واحد: هذا هو رأس الكلّ الذي منه الكلّ وبه الكلّ، وله الكلّ، وإليه الكلّ.

 عدد4 ـ الركن الأول: الجسد الواحد: "جسد واحد، روح واحد، رجاء واحد". هذا "الجسد الواحد" هو كنيسة المسيح الغير المنظورة على الأرض، الواحدة، الجامعة، (1: 22). و"الروح الواحد" هو الروح القدس الذي هو مصدر حياتها الروحية ومنشئها. و"الرجاء الواحد" هو مبعث نشاطها الخارجيّ. فالكنيسة الواحدة التي هي جسد المسيح على الأرض، قائمة على عاملين ـ أحدهما داخليّ، وهو الروح الواحد القدوس الذي استقرّ فيها منذ يوم ميلادها المشهود (أعمال2)، وهو المحرّك الدائم لعوامل الحياة فيها.

وثانيهما: خارجيّ: هو الرجاء الواحد الوطيد الموضوع أمامها، وهو خير محرّض لها على الخدمة، والمثابرة، والجهاد. فالروح المحيي يدفعها من الداخل، والرجاء الحيّ يرفعها من الخارج: وهي كنيسة واحدة وإن انقسمت مذاهب، وتفرّقت شيعاً، وتفرّعت شعباً.

 الروح الواحد: ذكر "الروح الواحد" بعد "الجسد الواحد"، لأن الروح القدس للكنيسة، كالروح للجسد. فالروح للجسد، قوة محيية، وحافظة، وموحّدة. فهو علّة حياة الجسد، وهو حافظه من الاضمحلال، وهو موحّد جميع أعضائه. فعلى رغم اختلاف كلّ عضو في الجسد عن الآخر، ترى كلّ الأعضاء مرتبطة معاً بالروح الواحد. كذلك الروح القدس هو علّة حياة الكنيسة، وهو القوة المؤلّفة بين جميع عناصرها المختلفة. لأنّه يتّحد كلّ الأعضاء معاً في الرأس الواحد.

 الرجاء الواحد: "كما دعيتم أيضاً في رجاء دعوتكم الواحد". يذكّرنا كلام الرسول هنا عن "رجاء الدعوة" بكلامه في غرّة الرسالة: "مستنيرة عيون أذهانكم لتعلموا ما هو رجاء دعوته". فالمؤمنون مدعوون في الرجاء، فيملأهم الرجاء ويمتلكهم. وقد أشار الرسول إلى هذه الحقيقة عينها، ولكن بصيغة أخرى، في رسالة معاصرة لهذه: "من أجل الرجاء الموضوع لكم في السموات الذي سمعتم به قبلاً في كلمة حقّ الإنجيل" (كولوسي1: 4).

هذا الرجاء واحد لجميع المؤمنين. وغايته أن يجعل كلّ المؤمنين رعيّة واحدة في بيت الله.

 عدد5ـ الركن الثاني: الرأس الواحد: ربّ واحد: هذا هو رأس الكنيسة الجامعة، التي هي جسده على الأرض. فهو ملكها ومالكها، ومالئها. وهو ربّ واحد لجميع المؤمنين. فكلّهم فيه متّحدون، وكلّهم فيه متساوون.

 إيمان واحد: هل كلمة "إيمان" كما وردت هنا، تعني خلاصة العقيدة المسيحية المشتركة بين جميع المؤمنين؟ أم هي تعني ثقة الاعتماد والاتّكال والتسليم التي تربط النفس بمخلّصها، فتعرف بالإيمان الخلاصيّ؟ أم هي تعني كلا الأمرين؟ غالباً يقصد الرسول المعنى الثاني، لأنّ كلامه عن "الإيمان الواحد" بعد قوله "الربّ الواحد"، يدلّ على أنه يقصد "الإيمان الواحد" الذي هو الوسيلة الروحية المشتركة، والوحيدة، التي تتّحد جميع المؤمنين بالربّ الواحد. فالكلّ يُقبلون إليه كخطاة، ويقبلون خلاصه المجانيّ.

 معمودية واحدة: إذا كان الإيمان هو الوسيلة الداخلية الروحية المشتركة التي تربط المؤمنين جمعاً بالمسيح الأوحد، فإن المعمودية هي العلامة الظاهرة الوحيدة لهذه الرابطة. فالإيمان فعلٌ داخليّ، والمعمودية ختم خارجيّ. الإيمان صلة خفية، والمعمودية رمزٌ علنيّ. بالمعمودية الواحدة، يعترف كلّ مؤمن بخطاياه، ويُعلن قبوله المسيح فادياً ومخلّصاً.

 قد تتنوّع الكيفيات التي بها تُمارس المعمودية: فالبعض يعتمد بالتغطيس، والبعض بالرشّ. لكنّ المعمودية ذاتها واحدة، والاسم الذي يعتمد عليه الجميع هو اسم الإله الواحد ـ "الآب والابن والروح القدس" (متى28: 19).

 عدد6 ـ الركن الثالث: "إلهٌ وآبٌ واحد": هذا هو النبع الأعلى للوحدانية الروحية المقدّسة، وهو مرجعها النهائيّ. فالمعمودية تختم الإيمان، والإيمان يتّحدنا بالمسيح، والمسيح يُرينا أن الآب هو "الإله الحقيقيّ وحده". إنّ هذا الإله الواحد الحقيقيّ، هو آب لجميع المؤمنين، وهو ربّ متسلّط على الكلّ، ومتمّم إرادته بالكلّ، فيستخدم كلّ واحدٍ بحسب استعداده ومؤهّلاته وظروفه، ليجري به قصده الأزليّ، في ذاته وفي الآخرين، ليأتي ملكوته على الأرض. وهو حالّ في كلّ المؤمنين.

 يعتقد كثير من المفسّرين، وعلى رأسهم بعض الآباء الأوّلين، أن الثلاث العبارات الأولى في هذا العدد، تُشير إلى الثالوث الأقدس. فالله عليّ الكلّ في شخص الآب. والله بالكلّ ـ في شخص الابن. والله في الكلّ ـ في شخص الروح القدس. وقد لا يخلو هذا الرأي من تحميل الكلمات معاني فوق طاقتها، سيّما وأن الرسول سبق فأشار صراحةً إلى الروح القدس باعتبار كونه محيي كنيسة المسيح، التي هي جسده على الأرض (عدد4)، وإلى الابن باعتبار كونه رأس الكنيسة ورئيسها (عدد5)، فمن الطبيعي أن نراه في هذا العدد السادس مخصصاً الكلام عن الله الآب، الذي إليه مآب الكلّ، وكلّ مآب. وهو الذي حدّثنا عنه الرسول عند ختام الأصحاح السابق قائلاً: "لذلك أحني ركبتيّ لدى أبي يسوع المسيح الذي منه تسمى كلّ عشيرةٍ في السموات وعلى الأرض".

 هذه هي الوحدانية المسيحية المقدّسة التي جعل منها الرسول موضوعاً لحديثه في هذا الفصل، وهي وحدانية غريبة في مظهرها، لأنها تجمع بين المتناقضات ـ فهي تؤلّف بين اليونانيّ واليهوديّ، الختان والغرلة، البربريّ والسكيثي، العبد والحرّ. لأن المسيح رأس هذه الوحدانية وأصلها، هو الكلّ في الكلّ (كولوسي3: 11).

 على أن هذه الوحدانية، وإن تكن متباينة المظهر، إلاّ أنها موحّدة الجوهر. فهي مؤسسة على هذه الدعائم السبع التي مرّت بنا ـ وحدة الجسد، وحدة الروح، وحدة الرجاء، وحدة الرأس، وحدة الإيمان، وحدة المعمودية، وحدة الأبوّة العلوية المقدّسة.

 هذا ما أبانه الرسول في الأعداد سالفة الذكر. غير أن هذه الحقيقة لها جانب آخر ـ هو الأساس الثاني لهذه الوحدانية. فإذا كان أساسها الأول وحدانية الجوهر، فإن أساسها الثاني هو تنوّع المواهب. هذا ما ينبئنا عنه الرسول في الأعداد الآتية (4: 7-16).

7وَلَكِنْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنَّا أُعْطِيَتِ النِّعْمَةُ حَسَبَ قِيَاسِ هِبَةِ الْمَسِيحِ.

 فإذا كان موضوع الأعداد السابقة (4: 3-6) وحدانية الجسد، فإن موضوع الأعداد التالية (4: 7-16) هو تنوّع وظائف الأعضاء في الجسد الواحد. فهي وحدانية في تنوّع، وتنوّع في وحدانية.

تنوّع في وحدانية، ووحدانية من تنوّع

(4: 7-16)

تنوّع في وحدانية، ووحدانية من تنوّع (4: 7-16). هذا باعث آخر على الاتحاد، مبنيّ على تنوّع الهبات. وكلام الرسول عنه في هذا الفصل، مشابهٌ لكلامه في رو12: 3-8، كو12: 4-30 ومطابق لكلام بطرس الرسول في 1بط4: 10و11.

إن الموضوعات التي تناولها الرسول في هذا العدد هي: أ ـ النعمة الموهوبة، ب ـ الأشخاص الموهوبون، ج ـ قياس الهبة.

أ ـ النعمة الموهوبة: "ولكنّ لكلّ واحد منا أعطيت النعمة". هذه نعمة معطاة من المسيح لكلّ واحدٍ من المؤمنين. فما هي هذه النعمة؟ يقول الدكتور أرمتاج روبنسون: إن "النعمة" المقصودة هنا هي تلك التي تحدّث عنها الرسول في الأصحاح الثالث من هذه الرسالة: "إن كنتم قد سمعتم بتدبير نعمة الله المعطاة لي لأجلكم" (3: 2)، "الإنجيل الذي صرت أنا خادماً له حسب موهبة نعمة الله المعطاة لي حسب فعل قوّته" (3: 7)، "لي أنا أصغر جميع القديسين أعطيت هذه النعمة أن أبشّر بين الأمم بغنى المسيح الذي لا يُستقصى" (3: 8).

8لِذَلِكَ يَقُولُ: «إِذْ صَعِدَ إِلَى الْعَلاَءِ سَبَى سَبْياً وَأَعْطَى النَّاسَ عَطَايَا».

غير أننا بمراجعة ما كتبه بولس عن "النعمة" في الثلاثة الأصحاحات الواردة ضمن هذه الرسالة ـ الثاني، والثالث، والرابع، يتبيّن لنا، أن ما أراده الرسول بـ "النعمة" في كلّ من هذه الأصحاحات، يختلف عما قصده بها في الآخر. فالنعمة المذكورة في الأصحاح الثاني، هي النعمة التي يخلّص بها الإنسان الخاطئ: "بالنعمة أنتم مخلّصون" (2: 5و8). والنعمة التي تحدّث عنها الرسول في الأصحاح الثالث، هي النعمة التي بها أؤتُمن الرسول على غنى المسيح الذي لا يستقصى، والكرازة به للأمم: "لي أعطيت هذه النعمة أن أبشّر الأمم بغنى المسيح الذي لا يُستقصى" (3: 8). والنعمة الواردة في هذا الأصحاح (4: 8) هي نعمة حلول الروح القدس في قلب كلّ مؤمن فيصبح بها كلّ المؤمنين واحداً. فالأولى مخلّصة، والثانية مؤهّلة، والثالثة موحّدة.

هذا مؤيّد لما جاء في الأعداد التالية: "إذ صعد إلى العلاء.... أعطى الناس عطايا... لكي يملأ الكلّ". وهو مطابق لكلام بطرس الرسول في عظته الخمسينية: "فيسوع هذا أقامه الله ونحن جميعاً شهودٌ لذلك. وإذ ارتفع بيمين الله وأخذ موعد الروح القدس من الآب، سكب هذا الذي أنتم الآن تبصرونه في هذه الرسالة ـ وفي رسائله الأخرى: كرومية وكورنثوس ـ هي مواهب الروح القدس.

ب ـ الأشخاص الموهوبون: "لكلّ واحد منا أعطيت". إن نعمة حلول الروح القدس في القلب، هي من حقّ كلّ مؤمن، بل هي بكورية كلّ مؤمن: "إن كان أحدٌ ليس له روح المسيح فذلك ليس له" (رومية8: 9). "لأنّ كلّ الذين ينقادون بروح الله فأولئك هم أولاد الله" (رومية8: 14). إن أصغر المؤمنين له حقّ في هذه النعمة كأكبر مؤمن فيأخذ كلذ مؤمن حقه من هذه الهبة، على قدر طاقته واستعداده.

ج ـ قياس هذه الهبة: "حسب قياس هبة المسيح". إن المسيح، رأس الكنيسة الأوحد، قد رتّب لكلّ عضو في كنيسته عملاً معيّناً، ووضع عليه مسؤولية خاصة. لكنّ كلّ مسؤولية مصحوبة بمزية، وكلّ واجب يحمل معه وعداً بمعونة تتكافأ معه. لذلك وزّع المسيح هبات روحه الأقدس على كلّ عضو في كنيسته الحية الغير المنظورة، كلّ بحسب المطاليب المطلوبة منه، وعلى قياس المسؤوليات الملقاة على عاتقه من قِبل ربّ الكنيسة وغير خافٍ أن الإنسان لا ينال من ملء الروح إلاّ على قدر إيمانه، وطاعته، وتسليمه، وأمانته في استخدام المواهب التي عنده: "كنت أميناً في القليل فأقيمك على الكثير". على هذا المبدأ ينتفي الحسد، لأنّ كلّ إنسان يغترف من بحر المواهب الروحية بقدر إيمانه: "افغر فاك فأملأه". ولما نفذت الأوعية "وقف الزيت". هذه هي هبات المسيح الملك الذي يُعطي بوفرة، ولا يُسأل عن مقدار ما يعطي.

عدد2 ـ شهادة العهد القديم لهذه الحقيقة (4: 8):

8لِذَلِكَ يَقُولُ: «إِذْ صَعِدَ إِلَى الْعَلاَءِ سَبَى سَبْياً وَأَعْطَى النَّاسَ عَطَايَا».

اقتبس الرسول هذا القول من العهد القديم ـ وهو عبارة عن كلّ الكتاب المقدّس المسلّم به في أيام بولس، وإليه يشير الرسول في كلمة: "يقول" ـ أي أن الكتاب المقدس هو القائل (مزمور68: 18). ويجوز أن نفهم أن القائل هو الله أو هو الروح القدس. هذه نبوة متعلّقة بالمسيح، مبينة العلاقة التي بين صعوده وهباته.

يرسم هذا القول أمامنا صورة ملك ظافر، استولى على قلعة منيعة فغزا منها غزواً، وغنم منها غنماً. ثم عاد بموكبه الظافر متبوعاً بما غنم، محفوفاً بمن كسب. وتتمة هذه النبوة ـ كما وردت على لسان داود في قوله: "قبلتَ عطايا بين الناس" ـ تفيد أن الإشارة منصرفة إلى الجزية التي تقدّم للملك الظافر ممن ظفر بهم فعلاً، أو إلى الهدايا التي توضع عند موطئ قدميه، ممن يترضون وجهه (1كو15: 25و2كو10: 3-5).

استطاع الرسول بولس بنور الوحي والإلهام، أن يطبّق هذه النبوّة القديمة على صعود المسيح ونواله موعد الروح القدس، وإيهابه هبة الروح لكلّ مؤمن متّحد به اتحاداً حيوياً. ومع أننا نلاحظ أن بين هذه النبوة القديمة وبين التطبيق الرسوليّ لها، شيئاً من التباين، إلاّ أنه لا يتعدّى التفصيلات العرضية، وأما جوهر الشبه فهو واحد: إن المسيح ملك زافر كسر شوكة الموت وارتفع إلى السماء ظافراً بالرؤساء والسلاطين، وإذ ارتفع بيمين الله وأخذ موعد الروح القدس من الآب، سكب من روحه الأقدس على كلّ عضو من أعضاء كنيسته، نصيباً فعالاً حسب قياس مشيئته الحرّة المطلقة، حال كونها صالحة ومرضية وكاملة.

قد يلاحظ الباحث شيئاً من التباين اللّفظيّ بين الصيغة التي وردت بها هذه الحقيقة في العهد القديم (مزمور68: 18)، والصيغة التي أفرغها فيها بولس في هذه الرسالة ـ فمثلاً جاء في المزمور: "قبلتَ عطايا بين الناس" مقابل قول الرسول: "أعطى الناس عطايا". فحاول المفسّرون أن يوفّقوا بين الصيغتين ولعلّ أفضل ما قيل بهذا الصدد: إن المرنّم ذكر الأمر الواقع ـ وهو قبول العطايا. وأن الرسول ذكر غاية هذا الأخذ ـ وهو إعطاء الناس. لأن العطايا لا تؤخذ إلاّ لتعطى، ولا تكسب إلاّ لتوهب. فالملك الظافر يوزّع الغنائم التي يأخذها. فهو إنما يأخذ ليعطي.

ولا يغرب عن البال، أن كلام الرسول هنا يصف المسيح في عمله الفدائيّ كوسيط، لا في لاهوته. إذ في هذه الصورة يرتسم الفادي أمامنا ملكاً كاهناً، وكاهناً ملكياً. وعلى هذه الصورة المجيدة أراق الرسول نوراً باهراً في العددين التاليين.

عدد9و10:

9وَأَمَّا أَنَّهُ صَعِدَ، فَمَا هُوَ إِلاَّ إِنَّهُ نَزَلَ أَيْضاً أَوَّلاً إِلَى أَقْسَامِ الأَرْضِ السُّفْلَى. 10اَلَّذِي نَزَلَ هُوَ الَّذِي صَعِدَ أَيْضاً فَوْقَ جَمِيعِ السَّمَاوَاتِ، لِكَيْ يَمْلَأَ الْكُلَّ.

 ـ المسيح واهب العطايا، هو الباسط نفوذه على جميع العالمين: كلّ صعود يفترض النزول أولاً. فصعود المسيح يفترض نزوله. وعلى قدر الصعود تكون درجة النزول السابق له. فكما أن المسيح في ارتفاعه، قد ارتقى فوق السموات، فهو أيضاً في اتّضاعه قد نزل إلى أقسام الأرض السفلى، فهو إذاً باسط نفوذه على كلّ العالمين، فلا يخلو من حضوره مكان مهما تكن درجة سموّه، ولا يبرح نفوذه مكاناً، مهما يكن درك تنازله. هذا هو المسيح الملك الجليل الصفات، الذي تنازل في اتّضاعه حتى بلغ "أقسام الأرض السفلى"، وارتقى في صعوده إلى ما "فوق جميع السموات". فالأرض وما دونها، والسموات وما فوقها، وكلّ ما هو كائن بين هاتين المسافتين الشاسعتين، داخل ضنم دائرة نفوذه هذا الملك العظيم. فهو ليس رأس الكنيسة وكفى، بل هو أيضاً مالئ كلّ العالمين، مالك إياها، وملكٌ عليها. هذه خلاصة الإنجيل.

أ ـ مبلغ اتّضاع المسيح: "نزل إلى أقسام الأرض السفلى". تباينت أقوال المفسّرين في معنى هذه العبارة: فبيرسون يعتقد أن العبارة في وضعها اليوناني تعني حرفياً: الأقسام السفلى ـ أي الأرض. بمعنى أن الأرض هي بالذات الأقسام السفلى، بالقياس إلى السماء التي هي الأقسام العليا. ويستند في رأيه هذا إلى ما جاء في إشعياء44: 23 "ترنّمي أيتها السموات... اهتفي يا أسافل الأرض". ولكنّ أصحاب هذا الرأي قليلون، لأنه مبنيّ على تحميل الكلمات معاني فوق احتمالها.

ويعتقد بعض المفسّرون أن "أقسام الأرض السفلى" تعني القبر، بدليل ما جاء في مزمور62: 9 "أما الذين هم للتهلكة يطلبون نفسي فيدخلون في أسافل الأرض" ـ أي في القبر. فالإشارة منصرفة إلى موت المسيح ودفنه في القبر. هذا آخر دركٍ تنازل إليه المسيح في اتّضاعه: "وأطاع حتى الموت"، "لن تترك نفسي في الهاوية".

ذهب كثير من المفسّرين، وعلى رأسهم الآباء الأوّلون، إلى أن هذه العبارة. "نزل إلى أقسام الأرض السفلى" تشير إلى عمل معيّن قام به المسيح في "العالم الأسفل"، منقذاً أرواح قديسي العهد القديم من سجن الأرواح "لمبوس"، الذي كانوا فيه محروسين، في انتظار إتمام الفداء. وفي اعتقادنا أن الرأي الثاني هو أقربها إلى الصواب، ويليه الأول. وأبعدها الأخير.

ب ـ أوج ارتفاعه: "فوق جميع([1]) السموات" : هذه العبارة تعني أرفع مكان وأسمى مكان "فوق كلّ رياسة وسلطان وقوة وسيادة" (1: 21) "وفوق كلّ اسم" (فيلبي2: 9)، فوق كلّ البرايا المنظورة والغير المنظورة "سواء كان عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين" (كولوسي1: 16).

ج ـ غاية اتّضاع المسيح وارتفاعه: "لكي يملأ الكلّ". تحتمل هذه العبارة معنيين: أوّلهما: لكي يملأ المسيح كلّ حيّز بحضوره، وسلطانه، ومجده. وثانيهما: لكي يتمّ قصد الله ومشيئته في كلّ الأشخاص وبهم، وفي جميع الأشياء وبها. هذا رأي الدكتور ارمتاج روبنسون. لكنّ أغلب المفسّرين يميلون إلى الرأي الأول، على اعتبار أن المسيح يملأ الكلّ بحضوره روحياً لا جسدياً.

-----------------

[1] - تحدّث معلّمو اليهود قديماً في تلمودهم عن سمائين، وسبع سموات. وحدّثنا بولس نفسه عن ثلاث سموات (2كو12: 2)، إشارةً إلى محضر الله. والمراد بقوله جميع السموات" أن المسيح استوى على العرش فوق كلّ الكائنات.

تنوّع المواهب ووحدة الغاية

(4: 11-16)

 بعد أن عالج الرسول ذلك الاقتباس المأخوذ من سفر المزامير، الذي يعتبر إنجيلاً مركّزاً، شاهداً بكلمات قوية موجزة، لصلب المسيح وآلامه، وموته، ودفنه، قيامه، وصعوده، وإرساله الروح القدس، عاد إلى كلامه الذي تركه في العدد الثامن، مستأنفاً الحديث عن تنوّع هبات المسيح الملك الظافر.

 ينقسم هذا الفصل إلى أربعة أقسام رئيسية:

أولاً تنوّع هذه المواهب (4: 11):

11وَهُوَ أَعْطَى الْبَعْضَ أَنْ يَكُونُوا رُسُلاً، وَالْبَعْضَ أَنْبِيَاءَ، وَالْبَعْضَ مُبَشِّرِينَ، وَالْبَعْضَ رُعَاةً وَمُعَلِّمِينَ،

 (1) الرسولية (4: 11أ).

 (2) التنبّؤ (4: 11ب).

 (3) التبشير (3: 11ج).

 (4) الرعاية والتعليم (4: 11د).

ثانياً القصد من هذه المواهب (4: 12):

12لأَجْلِ تَكْمِيلِ الْقِدِّيسِينَ، لِعَمَلِ الْخِدْمَةِ، لِبُنْيَانِ جَسَدِ الْمَسِيحِ،

 (1) تكميل القديسين (4: 12أ).

 (2) عمل الخدمة (4: 12ب).

 (3) بنيان جسد المسيح (4: 12ج).

ثالثاً: الغاية القصوى من هذه المواهب (4: 13):

13إِلَى أَنْ نَنْتَهِيَ جَمِيعُنَا إِلَى وَحْدَانِيَّةِ الإِيمَانِ وَمَعْرِفَةِ ابْنِ اللهِ. إِلَى إِنْسَانٍ كَامِلٍ. إِلَى قِيَاسِ قَامَةِ مِلْءِ الْمَسِيحِ.

 (1) الإيمان الكامل: "وحدانية الإيمان" (4: 13).

 (2) المعرفة الشاملة: "معرفة ابن الله" (4: 13أ).

 (3) الينبوع: "إلى إنسان كامل" (4: 13ب).

 (4) القياس الأعلى: "قياس قامة ملء المسيح" (4: 13ج).

رابعاً: كيفية البلوغ إلى هذه الغاية (4: 14-16):

 (1) سلباً:

14كَيْ لاَ نَكُونَ فِي مَا بَعْدُ أَطْفَالاً مُضْطَرِبِينَ وَمَحْمُولِينَ بِكُلِّ رِيحِ تَعْلِيمٍ، بِحِيلَةِ النَّاسِ، بِمَكْرٍ إِلَى مَكِيدَةِ الضَّلاَلِ.

 أ ـ عدم الاضطراب: "لا نكون أطفالاً مضطربين" (4: 14أ).

 ب ـ عدم الانصياع: "محمولين بكلّ ربح تعليم" (4: 14ب).

 ج ـ عدم الانخداع: "بحيلة الناس بمكر إلى مكيدة" (4: 14ج).

 (2): إيجاباً:

15بَلْ صَادِقِينَ فِي الْمَحَبَّةِ، نَنْمُو فِي كُلِّ شَيْءٍ إِلَى ذَاكَ الَّذِي هُوَ الرَّأْسُ: الْمَسِيحُ،

 أ ـ الصدق في المحبة (4: 15أ).

 ب ـ النمو المتكامل (4: 15ب).

 ج ـ التعاون المتبادل (4: 16):

16الَّذِي مِنْهُ كُلُّ الْجَسَدِ مُرَكَّباً مَعاً، وَمُقْتَرِناً بِمُؤَازَرَةِ كُلِّ مَفْصِلٍ، حَسَبَ عَمَلٍ، عَلَى قِيَاسِ كُلِّ جُزْءٍ، يُحَصِّلُ نُمُوَّ الْجَسَدِ لِبُنْيَانِهِ فِي الْمَحَبَّةِ.

 عدد 11 ـ أولاً: تنوّع هذه المواهب الروحية (4: 11).

(1) الرسولية: "رسلاً" (4: 11أ).

(2) التنبّؤ: "أنبياء" (4: 11ب).

(3) التبشير: "مبشّرين" (4: 11ج).

(4) الرعاية والتعليم: "رعاة ومعلّمين" (4: 11د).

 من الجائز أن نعتبر الفصل المبتدئ بالعدد التاسع والمنتهي بالعدد السادس عشر مفسّراً وموضحاً للعدد الثامن. وبالرجوع إلى ذلك العدد، يتبيّن لنا أنه يتضمّن شطرين ـ أوّلهما: عن صعود المسيح: "وأعطى الناس عطايا". فالشطر الأول المتعلّق بصعود المسيح قد شرحه الرسول وأوضحه في العددين: التاسع والعاشر. وها نحن نرى الرسول يشرح الشطر الثاني المتعلّق بهبات المسيح، في هذا الفصل الذي أمامنا (4: 11-16). فالمسيح هو الذي صعد، والمسيح هو الذي أعطى. فالملك الظافر هو الملك الواهب.

 وجدير بالملاحظة، أن هبات المسيح ليست مذكورة هنا مجرّدةً في ذاتها، بل متّصلة بالأشخاص الذين تقلّدوها ولبسوها بعد أن لبستهم هي: "رسلاً أنبياء، مبشّرين، رعاةً ومعلّمين". مع أن الرسول نفسه ذكر مثل هذه الهبات مجرّدةً بذاتها في رسالته إلى رومية: "نبوة، خدمة، تعليم، وعظ" )رو12: 6-8). لأنّ فكر الرسول في رسالة أفسس كان متّجهاً إلى الأعضاء الذين تمثّلت فيهم الهبات، لكنّه في رسالته إلى رومية كان متّجهاً إلى الهبات التي تزيّن الأعضاء. كذلك أيضاً في 1كو12: 28 ذكر الصفات متمثّلةً في الأعضاء، "وضع الله أناساً في الكنيسة: أولاً رسلاً، ثانياً أنبياء، ثالثاً معلّمين".

 (1) الرسولية: "وهو أعطى البعض أن يكونوا رسلاً". الرسل هم تلك الطغمة الخاصة التي أهّلها الله بمؤهّلات خاصة، لتضع بناء الكنيسة على الأساس الأوحد ـ يسوع المسيح. فصاروا هم، على نوعٍ ما، أساساًَ للكنيسة في خدمتهم، ورسائلهم، وتعليمهم. "والرسول" بحصر اللفيظ، هو شخص عاين المسيح بعد القيامة، وشهد لقيامته، وتعيّن لهذه الوظيفة منه رأساً، وأعطى قوة على إتيان معجزات. هذه وظيفة خاصة لم يسمح الله لكلّ إنسان بأن يتقلّدها، بل ميّز بها "البعض". وهي رتبة ذهبت بذهاب العصر الرسوليّ. غير أنّ بعضاً ممن حملوا رسالة الإنجيل إلى بلاد نائية قاحلة، فاقتحموا في سبيلها الأهوال، مستعذبين العذاب، مستطيبين الاضطهاد، أمثال لفنستون، تسالمرس، وهنري مارتن، هؤلاء يحملون "الرسالة" في العصور الحديثة.

 (2) التنبّؤ: "والبعض أنبياء" (4: 11ب). هؤلاء قوم ذوو بصائر نيّرة يعلن لهم الله إرادته بإلهام خاص، ليعلنوها هم للآخرين. والنبوّة ـ في العهدين ـ لا تعني بالضرورة التنبّؤ بالمستقبل بالمستقبل، بل قد تكون مقصورة على التعليم بحكمة وسلطان. وقد جاء في كتاب أثريّ جليل عنوانه: "تعاليم الإثني عشر": أن الأنبياء في العهد الجديد، كانوا متجوّلين يفتقدون بعض الكنائس في تجوالهم ويبلّغون كلّ كنيسة رسالتها في حينها. وكان بعضهم مستقراً في بعض الكنائس يعيشون من تقدماتها. وكانوا يرأسون خدمات الكنيسة الخاصة بالشكر، بسلطان خاص، غير موهوب لسواهم من بعد الرسل. وكانوا في أيام يوستنيان الشهيد يلقّبون بـ"رؤساء الكهنة". وكانت أشخاصهم مرفوعة فوق كلّ اعتبار حتى أن من تصدّى لهم بنقد أو حكم، يُعتبر كمن أخطأ إلى الروح القدس. وجاء في كتاب: "راعي هرماس" أن من أهمّ مؤهّلات هؤلاء الأنبياء أن يكونوا متّصفين بالوداعة التامة، منزّهين عن حبّ المال، يترفّعون عن أن يتنبّأوا إجابة الاستشارة أو رداً على سؤال. وكان النبيّ معتبراً مملوءاً "بملاك روح النبوّة". والظاهر أن هذه الرتبة انقرضت بعد انقراض رتبة الرسولية. وهي تليها مباشرةً في المقام.

 (3): التبشير: "والبعض مبشّرين" (4: 11ج). الظاهر أن الرسول ذكر هذه المواهب بحسب ترتبيها في الدرجة والمقام. فالرسول أولاً، ثمّ النبيّ، ثمّ المبشّر، ثمّ الراعي المعلّم. هذا الترتيب يُخالف العرف المصطلح عليه في أيّامنا، الذي به يُحسب المبشّر أدنى من الراعي مرتبة، وأحطّ منه مقاماً، لدرجة أن هذه الوظيفة أضحت موقوفة على من لم تقدّم له دعوة، رعوية، أو على من كان راعياً فأخفق. لكن ليس هذا عُرف الكتاب. فالمبشّر أولاً ثم الراعي. المبشّر يقطع الحجر والمعلّم يصقله. المبشّر يضع الأساس، والراعي يُقيم البناء. المبشّر هو المنادي بالأخبار الطيّبة المفرحة. فهو في عمله حامل رسالة ـ كدتُ أقول رسولاً. هو فاتح الطريق أمام الراعي. هو سفير المسيح في البلاد النائية.

التهور في الشر

"ليعملوا كل نجاسة في الطمع". وردت كلمة "يعملوا" في العهد الجديد ضمن كتابات لوقا الطبيب وبولس الرسول وحدهما-في لوقا 58:12 بمعنى: "صناعة" أو "حرفة" فهي إذاً تنطوي على معنى الكدّ، والاحتراف، والمهارة، والتفنّن. وهل من حالة أسوأ من هذه التي يهوى إليها الإنسان، إذ يبذل جهده في الشر، ويتفنن فيه فيصبح مهنته الخاصة وصناعته التي منها يعيش؛ ولها يحيا ويتحرك؟

إن قوله "في الطمع" يصف درجة توغلهم في النجاسة، أي أنهم يرتكبون كل نجاسة بفرض الطمع؛ فلا يتركون فيها باباً إلا ويطرقونه حتى لا يفوتهم لون من ألوانها، ولا صورة من صورها. فعوامل النجاسة قد طغت فيهم على كل شيء آخر، والجسد قد طمع على العقل والنفس، فسلبهما حقوقهما، وسخرها كلها لذاته ولذّاته. لأن الكلمة المترجمة: "الطمع" تعني حرفياً "تخطي حدود النصيب المعيّن". فالإنسان الطماع هو الذي يتخطى حدود النصيب المرتب له من الله، ويتعدى على حقوق الغير، لأنه لا يرى أمامه غير مصلحته الذاتية، فلا يراعي سوى لذّاته الخاصة. وهو لا يبالي بحقوق الآخرين إلا بقدر ما يستطيع أن يغتصبه منها، ويستلبه لنفسه.

إن من يقرأ ما سطره المؤرخون عن حالة الرومان واليونان وقت كتابة هذه الرسالة، يتبين له أن أولئك القوم سخروا أكلهم وشرابهم، ونومهم ويقظتهم، ومجال لهوهم وأمكنة عبادتهم؛ وجدهم وهزلهم، لتغذى فيهم عوامل الإثم والفجور: فلم تكن حكومتهم تبيح ارتكاب النجاسة فحسب، بل كانت تشجع على ارتكابها، وتبتكر للشعب منها أصنافاً وألواناً. فالنجاسة كانت وحي شعرائهم، وإلهام ممثليهم وهدف مثّاليهم.

على أن هذه ليست حال الأمميين الوثنيين وحدهم، وإنما هي حال كل إنسان غير متجدّد (رومية3: 10-18). فهي حالنا كلنا- لولا نعمة الله!

لم ترد كلمة "طمع" في العهد الجديد مقصورة على المال، لكنها استعملت في مواضع كثيرة- سيما في رسائل بولس المكتوبة إلى الأمم- مقترنة بكلامه عن النجاسة (1كو 115، 1تس 6:4 وأفسس :5: 3 و5، كولوسي 3: 5 ). ويلوح لنا أن الرسول قرن كلمة "طمع" بكلمة "نجاسة" في هذه القرينة وسواها، لأن النجاسة والطمع مشتقان من مصدر واحد- هو حب الذات فالنجس والطماع يعبدان ذاتهما ولذّاتهما. وقد لوحظ بعد البحث والإستقراء أن النجاسة تقود إلى الطمع، فالإنسان الذي ينفق شبابه على النجاسة، يكرس شيخوخته للطمع!!

"النجاسة".."الطمع". إن مرضاً واحداً من هذين الاثنين كاف لأن يقتل أكبر الجبابرة. فكيف بهما إذا اجتمعا في إنسان واحد؟! فالطامع لا يكتفي بضرب من ضروب النجاسة، بل يريد أن يتمرغ في كل حمأة، والنجاسة تضع على المرء تكاليف باهظة فينفق فيها وينفق، ولفرط إفلاسه يطمع في حقوق الآخرين.

عدد20: الكلمة الثانية في الجانب السلبي: "أنتم" (4: 17-19):

20وَأَمَّا أَنْتُمْ فَلَمْ تَتَعَلَّمُوا الْمَسِيحَ هَكَذَا

"وأما أنتم"-وصف الرسول حياة الأمميين الوثنيين في الأعداد الماضية، وفي نفسه غضاضة مرّة، كتلك التي يشعر بها المصور الحساس عندما يقضى عليه بأن يرسم صورة بشعة، أو كذلك الشعور الذي يخامر قلب حفار القبور، عندما يتحتم عليه أن يفتح قبراً أغلق حديثاً فتنبعث منه روائح كريهة. فما كاد الرسول يتم تصوير الوثنيين في حياتهم الفكرية، والروحية والأدبية، حتى تنفس الصعداء وانتقل بسرعة إلى رسم هذه الصورة الجليلة الجميلة التي تمثل المسيحيين في حياتهم الجديدة، فقال بنغمة الشاكر المشجع: "وأما أنتم".

إن موقف الرسول هنا، يماثل موقف كاتب الرسالة إلى العبرانيين- ولعله بولس نفسه- عندما وصف المرتدين بكلمات مريرة، متكلما من"اللّعنة التي نهايتها للحريق"- ولعله خاف لئلا يتطرق إلى ذهن المكتوب إليهم شك من جهة موقفهم هم، لذلك انتقل بهم حالا إلى الجانب المنير، مشجعاً إياهم ومواسياً "ولكننا قد تيقنا من جهتكم أيها الأحباء أموراً أفضل" (عب7: 9و8)

 في هذين العددين (4: 21و20)وصف الرسول موقف المؤمنين إزاء حياتهم العتيقة، مبتكراً استعارة جديدة، ترينا تلاميذ يتلقون الدرس في مدرسة عالية. فالمكتوب إليهم هم التلاميذ: "وأما أنتم". والمسيح هو الدرس والأستاذ، والمدرسة : "لم تتعلموا المسيح هكذا إن كنتم قد سمعتموه".

-ا-الرذيلة-التلاميذ: "وأنا أنتم". وردت كلمة "أنتم" بصيغة التوكيد مقابل كلمة "هم" (عدد 18 )

المسيح هو الدرس والأستاذ والمدرسة

 -ب- الدرس والأستاذ والمدرسة- هذه كلها مجتمعة ومركزة في شخص المسيح. فالمسيح هو الدرس: "وأما أنتم فلم تتعلموا المسيح هكذا". في البشائر الأربع، عرفنا المسيح معلماً، لكن بولس عرفنا إياه هنا أنه هو الدرس الذي يبتدئ الإنسان بتعلمه منذ وقت التجديد، ويظل متفقهاً فيه حتى يدخل الأبدية، وهناك أيضا يستمر متلقّناً هذا الدرس البسيط جداً لدرجة يفهمه فيها الأطفال، والعويص جداً لدرجة يعجز فيها العلماء عن سبر غوره. إن أهم درس هو معرفة "معنى المسيح". فالمسيح إذاً هو خلاصة التعاليم اللاهوتية، وهو جوهر كل المبادئ المسيحية، لأن المسيح هو المسيحية. فهو لم ينشر دينا، لكنه عرفنا عن شخصه، فإن تعلمنا العقائد والعلوم اللاهوتية ولم نتعلمه هو، فلا نكون قد تعلمنا شيئاً.

 أراد الرسول بكلمة "هكذا" تلك الصورة التي رسمها في الأعداد السابقة (17-19). ويستنتج بعض المفسرين، من هذه الكلمة،أن الرسول يشير ضمناً إلى جماعة ممن دعي عليهم اسم المسيح، لكنهم ظلوا على حياتهم الأولى الفاسدة، نظير أولئك الذين أشار إليهم بولس في رسالة معاصرة لهذه: "لأن كثيرين ممن كنت أذكرهم لكم مراراً والآن أذكرهم أيضا باكياً وهم أعداء صليب المسيح"(فيليبي3: 18).

 عدد 21:

- 21إِنْ كُنْتُمْ قَدْ سَمِعْتُمُوهُ وَعُلِّمْتُمْ فِيهِ كَمَا هُوَ حَقٌّ فِي يَسُوعَ،

-ج- المسيح هو الأستاذ: "إن كنتم قد سمعتموه".

كلمة "إن"، في هذا الوضع، ليست شرطيَّة، بل تحقيقيّة يقينية. فهي لا تشترط أمراً لم يحدث بعد: لكنها تفترض وقوعه فعلاً وحقاً. فقوله: "إن كنتم قد سمعتموه" يعتبر موازياً للقول: ما دمتم قد سمعتموه حقاً ويقيناً. والظاهر أن الرسول التجأ إلى هذا الأسلوب الإنكاري- كما في 3: 2- ليجعل العمليات مؤيدة للنظريات.

 ورد ضمير "الهاء" المتصل بالفعل: "سمعتموه"- في الأصل - سابقاً للفعل لا لاحقاً له، على سبيل التوكيد: إياه"سمعتم". فمع أن المكتوب إليهم لم يحظوا بأن تتملى عيونهم من مرأى سناه، ولا بأن تتشنف آذانهم بسمع طيب حديثه ونجواه، إلا أنهم سمعوه في رسله الذين بعثهم بروحه الأقدس- وفي مقدمتهم بولس (يوحنا10: 27، أعمال1: 1). وفوق ذلك، فإن المسيح هو الحق الذي سمعوه، وهو الرسالة التي بلغت إليهم، وهو موضوع الكرازة التي انتهت إليهم. فهو لم يعلن لنا حقاً، بل هو الحق. ولم يرنا طريقاً، بل هو الطريق: ولم يدلنا إلى سبيل الحياة، بل هو الحياة- د- المسيح هو المدرسة: " وعلمتم فيه".هذه العبارة مكملة لسابقتها، كما أن سابقتها مفسرة لها. والمراد بها: أن المؤمنين إنما عرفوا المسيح وهم في روح المسيح متحدون به إتحاداً حيوياً. فصار فكر المسيح فكرهم، وأضحت لغة المسيح لسانهم، وأمست إرادة المسيح عزيمتهم، وبات حب المسيح غذاء عاطفتهم ووجدانهم: "وأما نحن فلنا فكر المسيح" (1كو2: 16)-ه-منهج التعليم: "كما هو حق في يسوع". هذه هي المرة الوحيدة التي ذكر فيها الرسول اسم المخلص: "يسوع" مجرّداً، في هذه الرسالة. وهو يعني بهذا الاسم المجيد، شخص يسوع التاريخي، الذي صلب، ومات، وقام، وصعد، فجلس عن يمين العظمة في الأعالي، وسوف يأتي ليدين الأحياء والأموات.

 "كما هو حق في يسوع"- غالباً لاحظ الرسول أن قوله: "تعلمتم المسيح" لا يخلو من الغموض والإبهام،سيما لدى عقلية قوم انتقلوا حديثاً من الوثنية الجوفاء، فأراد أن يزيل هذا الإبهام بعبارة تجلو غامضه، فقال: "ما هو حق في يسوع"-أعني أن الذي تعلّموه هو الحقّ

الذي أعلن لهم في يسوع الناصري. فكل كنوز العلم والمعرفة المدخرة في المسيح السرمدي، قد انكشفت لنا في يسوع الناصري الذي رأيناه ولمسناه وسمعناه، وفيه أعلنت لنا إرادة الله،وتجلى لنا معنى الحياة.

 في هذه القرينة،ركزّ الرسول محور كلامه على"الحق" ومشتقاته: في عدد 15 أوصى المؤمنين بأن يكونوا "صادقين في المحبة"، وفي عدد 24 ناشدهم بأن يلبسوا الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله في البر وقداسة "الحق".

وفي عدد 25 طلب إليهم أن يطرحوا الكذب ويتكلموا "بالصدق" كل واحد مع قريبه. فإذا ما رغب أحدهم في ترديد سؤال بيلاطس: "وما هو الحق" فالجواب عليه صريح واضح: هو ما أعلن لنا في مسيح الله، الذي رأيناه ولمسناه في شخص يسوع الناصري.

الإنسان العتيق والإنسان الجديد

 الجانب الإيجابي-خلاصة الحق الذي في يسوع: خلع الإنسان العتيق ولبس الإنسان الجديد(4: 22-24).

 عدد: 22:

22أَنْ تَخْلَعُوا مِنْ جِهَةِ التَّصَرُّفِ السَّابِقِ الإِنْسَانَ الْعَتِيقَ الْفَاسِدَ بِحَسَبِ شَهَوَاتِ الْغُرُورِ، -2- كل عبارات الرسول المركّزة في هذا الفصل، كالبنيان المرصوص، يشدّ بعضها بعضاً. فالسابقة منها ممهدة للاّحقة، واللاحقة موضحة ومفسرة للسابقة. فالعبارة: " ما هو حق في يسوع" مفسرة للعبارة السابقة لها: "إن كنتم قد سمعتموه وعلمتم فيه"، وممهدة للعبارات التالية لها: " أن تخلعوا..."، كما أن هذه العبارات مفسرة للعبارات السالفة، إن ما تعلمه المؤمنون من المسيح، وما سمعوه وعُلّموه فيه، هو "ما هو حق في يسوع". فما هو إذاً حق عملي، لأنه يتناول التصرف.

23وَتَتَجَدَّدُوا بِرُوحِ ذِهْنِكُمْ، 24وَتَلْبَسُوا الإِنْسَانَ الْجَدِيدَ الْمَخْلُوقَ بِحَسَبِ اللهِ فِي الْبِرِّ وَقَدَاسَةِ الْحَقِّ.

 ذكر الرسول في هذه الأعداد، الواردة ضمن 4: 22-24، ثلاث كلمات رئيسية، بنى عليها مطاليب الحياة الجديدة:الكلمة الأولى: "أن تخلعوا" (عدد 22)، والثانية: "تتجددوا" (عدد23) والثالثة: "تلبسوا" (عدد24). وكل كلمة منها مطلع استهلاك للآية القائمة على رأسها."الخلع": فعل يتم دفعة واحدة."والتجديد": عملية تتكرر مراراً."واللبس": فعل يتم دفعة واحدة."بالخلع" نتخلص من العتيق، و"بالتجديد" نتهيأ للجديد. هذه كلها تتم في وقت واحد، لا يسبق أحدها الآخر، لأن الإنسان لا يمكنه أن يخلع العتيق ما لم يتجدد ولا يمكنه من غير أن يكون قد لبس الجديد. فالشجرة لا تخلع أوراقها الصفراء الذابلة إلا إذا تولدت فيها الحياة الجديدة، فألبستها ثوباً قشيباً. فهذه الخطوات الثلاث:الخلع، والتجديد، واللبس، تتم اختبارياً في آن واحداً، وإن كنا نتكلم عنها منطقياً كأنها تحدث في أدوار متعاقبة: الخلع، فالجديد، ثم اللبس.

 قد يستنتج القارئ الساذج من الكلمة الأولى: "تخلعوا"، فكرة غير صائبة، فيخيل إليه أن الحياة المسيحية رداء يلبس في الظاهر، لكن الكلمة الوسطى: "تتجددوا" كافية لإزالة هذا الوهم، لأنها ترينا بجلاء ووضوح، أن المسيحية روح تتناول الجوهر، وتصل إلى العمق، فتجدد القلب، وتنير اللب، وتغير الروح.

 في هذه الثلاثة الأعداد، انتهى الرسول إلى عمق الطلبات التي أرادها من المكتوب إليهم. في بدء هذا الأصحاح تقدم إليهم بطلب عام يكاد يكون مبهماً: "أطلب إليكم أن تسلكوا كما يحق للدعوة التي دعيتم بها" (4: 1)، ثم انتقل من التعميم إلى التخصيص، فناشدهم أن لا يشاطروا الأمم مسلكهم (4: 17). وهنا تقدم إليهم أن يقلعوا عن تصرفاتهم السابقة، بأن يخلعوا الإنسان العتيق، ويتجددوا بروح ذهنهم، ويلبسوا الإنسان الجديد. فكلامه في هذه الأعداد،يتناول الإجابة على ثلاثة أسئلة:

أولاً: ماذا يخلعون؟ "الإنسان العتيق الفاسد، بحسب شهوات الغرور".

ثانياً: بماذا يتجددون؟"بروح ذهنكم".

ثالثاً: ماذا تلبسون؟"الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله...".

 وجدير بالملاحظة، أن الأوصاف التي خلعها الرسول على الإنسان". الذي يجب أن يخلع، تتعارض مع الأوصاف التي خلعها على "الإنسان" الذي يجب أن يلبس!.

ماذا نخلع:الإنسان "العتيق" ماذا نلبس: "الإنسان الجديد"

تاريخه: "العتيق" تاريخه: "الجديد"

طبيعته: "الفاسد" طبيعته: "المخلوق بحسب الله"

أسلوبه: "بحسب شهوات الغرور" أسلوبه: " في البر وقداسة الحق"

 فالرسول يصف كلاً منها:

-ا- وصفاً يتناول تاريخه: فأولهما: "عتيق". والثاني : "جديد".

-ب- وصفاً يتناول طبيعته فأولهما: "فاسد". والثاني: "مخلوق حسب الله".

-ج-وصفاً يتناول أسلوبه:فأولهما: "حسب شهوات الغرور".

 والثاني: "في البر وقداسة الحق".

 ماذا نخلع؟: "الإنسان العتيق". وردت كلمة "تخلعوا" في الأصل اليوناني بصيغة المصدريّة- في الماضي؛ على اعتبار أن هذا هو الحق الذي تعلموه في يسوع منذ التجديد: خلع الإنسان العتيق، وهو فعل مفروض أنه تم في الماضي دفعة واحدة، وقت أن قبلوا المسيح مخلصاً وفادياً.

 فما هو "الإنسان العتيق"؟ وما هو"الإنسان الجديد"؟ استعمل الرسول هاتين العبارتين في رومية6: 6 كولوسى 3: 9. في رومية أرانا هذا الإنسان العتيق" وقد صلب مع المسيح". وفي كولوسي أرانا إياه" وقد خلعه المؤمنون مع أعماله". فالإنسان العتيق هو الحالة العتيقة التي كان عليها المؤمن قبل أن يعرف المسيح، وهي تتناول موقفه الأول باعتبار كونه وليد آدم الأول، وذاته الأولى بسريرتها وسيرتها، وحياته الأولى بجوهرها ومظهرها. وهو يختلف نوعاً عن الطبيعة القديمة التي تظل في المؤمن حتى بعد تجديده.

 والإنسان الجديد هو المؤمن بعد تجديده- بما في ذلك القلب الجديد الذي خلق التجديد، والروح الجديدة التي أنشاها الله في داخله، والموقف الجديد الذي يقفه أمام الله في داخله، والحياة الجديدة التي يحياها بعد الإيمان- بسريتها وسيرتها، والذات التي خلقها الله فيه بروحه.

 وفي اعتقادنا أن "الإنسان العتيق"، " والإنسان الجديد" تعبيران يتمشيان في نسبة أحدهما إلى الآخر، مع التعبيرين اللذين استعملهما بولس: "آدم الأول" و"آدم الثاني". (رومية5:12-19و1كو15: 21-58). ولكننا لا نستطيع أن نقول أن الإنسان العتيق هو آدم الأول، ولا أن "الإنسان الجديد" هو المسيح، لأن الإنسان الجديد مخلوق. لكن المسيح غير مخلوق، وكلاهما يتناول موقف الإنسان شرعياً وعملياً.

 -ب- أما طبيعة "الإنسان العتيق". فقد وصفها الرسول بكلمة جامعة: "الفاسد". وقد وردت بصيغة الاستمرار المتجدد. أي أنه يتدرج من فساد إلى فساد، حتى يستهلك نفسه بالانحلال، فينتهي إلى العدم. وطبيعة الإنسان الجديد طاهرة في قوله: "المخلوق بحسب الله"-أي على صورة الله الأدبية والروحية.

 -ج- إن أسلوب"الإنسان العتيق" هو: "حسب شهوات الغرور". فالغرور يستهوى بالمواعيد الخلابة الخادعة- والشهوات لهل خداع كالسراب لكنها تودي بالمرء إلى الموت الروحي.

 أما أسلوب الإنسان"الجديد" فهو"في البر وقداسة الحق". ف"الحق" ضد "الغرور". و"القداسة" ضد الشهوات. "البر" يعين صلة الإنسان بالناس، و"القداسة" تعين صلته بالله.

 كلمة "بحسب" - تعني أن الفساد والانحلال هما نتيجة طبيعية لشهوات الغرور (2بط2: 18). وقول الرسول: "شهوات الغرور" يتضمن إشارة خفية إلى الغرور الذي انخدع به آدم الأول فأضاع الفردوس وحكم عليه بالموت. ومن الطبيعي جداً بأن نعتقد أن قصة آدم كانت ماثلة في ذهن الرسول وقت كتابة هذا الفصل. فمن آدم الأول، رفع فكره وفكرهم إلى آدم الثاني.

 -ب- بماذا نتجدد: "وتتجددوا بروح ذهنكم". وردت كلمة "تتحدوا" بالصيغة الحالية المستمرة لتفيد التقدم والنمو. فهي مماثلة للصيغة التي وردت بها كلمة: "الفاسد"، فإذا كان الفساد يتزايد حتى يصل إلى الانحلال والعدم، فإن التجديد يتكرر، وينمو، ويتقدم. هذه هي عملية "التقديس" التي يتقدم فيها المؤمن فينال نعمة فوق نعمة (يوحنا1: 16). وفي هذا يقول بولس: "لذلك لا نفشل بل وإن كان إنساننا الخارج يفنى فالداخل يتجدد يوماً فيوماً" (2كو4: 16).

 أما موطن التجديد فهو "روح الذهن"- الذي هو الحياة الروحية في الإنسان هو خلاصة الملكات العقلية والاتجاهات النفسية التي هي جوهر الإنسان الباطن. هذا هو موطن عمل الروح القدس ومقره في الإنسان عند التجديد وبعد التجديد. هذا يوافق قول الرسول في رسالة سابقة."فأطلب إليكم أيها الأخوة برأفة الله أن تقدموا أجسادكم... عبادتكم العقلية (رومية12: 2و1). إن حرف الباء في قوله "بروح"، يعنى "فيما يختص" بروح ذهنكم. أو "من جهة" روح ذهنكم. أو "في" روح ذهنكم.

 يجوز أن نلخص حجة الرسول في الثلاثة الأعداد التي مرت بنا، في عبارة أخرى، ها قد قطعتم كل صلة تربطكم بآدم الأول. ودخلتم في عهد جديد مع آدم الثاني. فقد أسمى كل منكم شخصاً جديداً، بعد أن طوى تلك الشخصية القديمة، وصارت في خبر كان.

 ثانياً: تصرفات عتيقة، وتصرفات جديدة (4: 25-32).

25لِذَلِكَ اطْرَحُوا عَنْكُمُ الْكَذِبَ وَتَكَلَّمُوا بِالصِّدْقِ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ قَرِيبِهِ، لأَنَّنَا بَعْضَنَا أَعْضَاءُ الْبَعْضِ.

تابع الرسول في الأعداد التالية، كلامه الذي انتهى إليه في الثلاثة الأعداد السالفة، فتقدّم من المبادئ العامة إلى الحقائق الخاصة، وانتقل من أصل الشجرة إلى الثمر، ومن الأساس إلى البناء، ومن الحياة إلى التصرف، فذكر التصرفات العتيقة التي يريدهم أن يقلعوا عنها ويخلعوها، والتصرفات الجديدة التي يريدهم أن يمارسوها. لأن الكلمة المترجمة: "طرحوا" في غرة عدد 25، هي من اشتقاق الكلمة التي ترجمت "تخلعوا" في مطلع عدد 22.

 اتباع الفضيلة ونبذ الرذيلة

 ولدى التأمل، يتبين لنا أن الرسول، ذكر في الثمانية الأعداد الآتية(4: 25-32)

خمس رذائل، محرضاً المؤمنين على نبذها، وخمس فضائل حاضاً إياهم على الاستمساك بها،

قارناً كل تحريض وحض، بباعث جوهرة.

ويلوح لنل أنه سردها في شكل خمس ثلاثيات –كل ثلاثية تتضمن :

-ا- الرذيلة التي حملهم على نبذها

–ب- الفضيلة التي يرغب إليهم أن يتمسكوا بها.

-ج-الباعث على النبذ والاستمساك.

 (عدد25) الثلاثة الأولى: الكذب، والصدق، والباعث (4: 25)

25لِذَلِكَ اطْرَحُوا عَنْكُمُ الْكَذِبَ وَتَكَلَّمُوا بِالصِّدْقِ كُلُّ وَاحِدٍ مَعَ قَرِيبِهِ، لأَنَّنَا بَعْضَنَا أَعْضَاءُ الْبَعْضِ.

-ا- الرذيلة "اطرحوا الكذب" –ب- الفضيلة"تكلموا بالصدق" –ج- "الباعث:لأننا بعضنا أعضاء البعض".

الرذيلة : "لذلك اطرحوا عنكم الكذب". هذا مماثل لقول الرسول في رسالة معاصرة لهذه: "لا تكذبوا بعضكم على بعض إذ خلعتم الإنسان العتيق مع أعماله ولبستم الجديد الذي يتجدد للمعرفة حسب صورة خالقه" (كولوسى3: 10.9). ولعل الرسول استهل كلامه في هاتين الرسالتين بالتنديد برذيلة الكذب، لأنها كانت فاشية في الأوساط اليونانية، وفي بعض البيئات الشرقية، والمراد : "طرح الكذب"، نبذه نبذ النواة،وإلقاؤه جانباً بكل غضاضة، مثلما يلقى الإنسان ثوبه العتيق "البالي"(كولوسى3: 8، عبرانيين12: 1ويعقوب1:21 و1بطرس2: 1).

 يقول تقليد قديم : إن بين الكلمات التي فاه بها فادينا المجيد، مدة أيامه في الجسد، قوله: "من كان قريباً مني، فهو قريب من النار والنور". فهو النور، وهو الحق.

وكل من عرفه لا يمكن أن يعيش في الكذب، ولا أن يعيش الكذب فيه. فكما أن الخفاش لا يطيق الوجود في النور، كذلك الكذب لا يطيق أن يحيا في الحياة الجديدة.

-ب- الفضيلة: "يكلموا بالصدق كل واحد مع قريبه". الصدق مشتق من الحق، والحق نور لا ظلمة فيه البتة. وكما أن النور هو أول شئ خلق في أول يوم للخليقة الأولى، كذلك يجب أن يكون الصدق غره حياة الخليقة الجديدة. ومن المهم أن نذكر، أن الإنسان مسئول عن التأثير الذي يلقيه كلامه في ذهن السمع، فلا يليق به أن يذكر كلمات تحمل على معانٍ

مختلفة، ويلتمس لنفسه العذر بأنه أراد غير ما فهمه السامع. وسر الكذب ما كان مموهاً بصيغة الصدق أو ممزوجاً بعنصر من الصدق.

 "القريب" المشار إليه هنا، هو الأخ المسيحي الذي تربطنا به روابط الشركة والخدمة (رو12: 5، 1كو12: 12-27).

-ج- الباعث: " لأننا بعضنا أعضاء بعض" – أو"لأننا أعضاء بعضنا البعض". إن كل عضو في الجسم مرتبط رأساً بالرأس وعن طريق الرأس مرتبط بسائر الأعضاء. وإذا كان كل عضو في الجسم الطبيعي يقوم بوظيفته نحو العضو الآخر، بكل ولاء وإخلاص، من غير مخادعة ولا مواربة، فكم بالحري يجب على كل عضو في جسد المسيح الحي، أن يظهر كل ولاء نحو العضو الآخر! فالكذب- والحالة هذه- يعتبر جريمة على الرأس، لأنه يكلفه كثيراً، وفوق ذلك فهو بمثابة إدخال عضو غريب على الجسد. فإن هجم مرض على أحد الأعضاء تنبهت له سائر الأعضاء وتكاتفت معاً على طرده. فالكذب يحسب خيانة كبرى، وفي نهاية الأمر، يعود بالوبال على العضو الذي أخفى الحقيقة، لأنه مرتبط بالعضو الآخر ارتباطاً حيوياً مكيناً لا تنفصم عراه.

 غالباً استقصى الرسول بولس هذا الباعث من نبوة قديمة: " ليكلم كل إنسان قريبه بالحق. اقضوا بالحق. وقضاء السلام في أبوابكم (زكريا8: 16) وأضاف إلى هذا، النبوة القديمة عنصراً جديداً: " لأننا بعضنا أعضاء البعض" لأن هذا العنصر الأخير لم يعلن إلا في المسيح.

 يقول علماء النفس المعاصرين: الكذب جريمة على الثقة المتبادلة بين المجموع. ولكن ما ينادي به علماء النفس الآن قد سبقهم إليه رسول الأمم، منذ ألفي عام، لأنه استنار "بنور المشرق من العلاء".

 الثلاثية الثانية: الغضب الخاطئ. والغضب البرئ (4: 26و27)

26اِغْضَبُوا وَلاَ تُخْطِئُوا. لاَ تَغْرُبِ الشَّمْسُ عَلَى غَيْظِكُمْ27وَلاَ تُعْطُوا إِبْلِيسَ مَكَاناً.

 -ا-الرذيلة: الغضب الخاطئ: "اغضبوا..." –ب-الفضيلة. الغضب البرئ: "اغضبوا ولا تخطئوا" –ج- الباعث: التحوط ضد إبليس: "لا تعطوا إبليس".

 عدد26-ا- الرذيلة: الغضب الخاطئ: "اغضبوا".

26اِغْضَبُوا وَلاَ تُخْطِئُوا. لاَ تَغْرُبِ الشَّمْسُ عَلَى غَيْظِكُمْ

 من المسلم به، أن الغضب انفعال طبيعي. وليس هو شراً في ذاته ولا هو بالخير. فهو كالكأس التي قد يسكب فيها الماء الزلال، وقد يصب فيها سم الأصلاب. وينبغي أن نعترف بأن الغضب الطبيعي من شر العادات، لأن المرء يغضب عادة متى شعر بأن كرامته الشخصية امتهنت. هذا هو الغضب الخاطئ، لأنه يدل على أن الذات هي المسيطرة على الإنسان، وأنها معبوده الأعلى، وفوق ذلك، فإن الكلمات الجارحة التي يتفوه بها المرء وقت الغضب، هي شر قتّال، وهي أقوى دليل على أنه غضب خاطئ.

27وَلاَ تُعْطُوا إِبْلِيسَ مَكَاناً.

-ب- الفضيلة. الغضب البرئ – "... ولا تخطئوا. لا تغرب الشمس على غيظكم". الغضب البرئ هو الانفعال انتصاراً لحق مهضوم، وإنصافاً لضعيف مغلوب على أمره، أو وقوفاً في جانب الله في وجه أنبياء البعل وما أكثرهم في كل عصر ومصر. في مثل هذه الأحوال، لا يكون الغضب أمراً مباحاً فقط، بل أمراً واجباً، لأن السكوت على المظالم جريمة، وملاقاة الجبان بوجه بسّام لهو جرم أثيم، والرضا بإهانة القدير على مسمع منا، لهو أكبر تجديف على الله. انشر مظهر للخطية هو ذلك الذي وصفه بولس في ختام الإصحاح الأول من رومية- وهو لا يقل عن الشروط الملطخة وجه ذلك الإصحاح: "الذين إذ عرفوا حكم الله أن الذين يعملون مثل هذه. يستوجبون الموت. لا يفعلونها فقط بل يسرون بالذين يفعلونها". (رومية1: 32)

هذا هو السر في غضبة المسيح على الحق، وباسم الحق: "ويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون "،" اذهبوا قولوا لذلك الثعلب "، إن من لا يعرف غضب المسيح لأجل الحق، لا يعرف معنى قداسته، لأن القداسة هي المحبة ملتهبة بنار الغيرة على الحق.

 غير أن الرسول يحتاط كثيراً في الأمر، فلا يجعل الغضب أمراً مباحاً على الإطلاق، لأن طبيعتنا الفاسدة غدارة خادعة، تريد أن تغضب لنفسها ولكرامتها، تحت ستار الغضب لأجل الحق، ونريد أن تدافع عن كرامتها بحجة دفاعها عن كرامة الله. لذلك يجوز أن نحمل كلام الرسول على هذا المعنى: "أن الغضب أمر خطير. فلا تجعلوه شعار حياتكم. ولا تتخذوه سلاحكم في وقت مناسب وغير مناسب. ولكن إن غضبتم فليكن غضبكم شريفاً بريئاً وليكن غضبكم خالياً من روح الغيظ والحقد، وأن انسبقتم في هذا النوع الأخير، فاسمحوا واستسمحوا قبل أن تغرب الشمس عليكم".

 إن التمادي في ما نسميه بـ "الغضب البريء" ليس محمود العواقب. فقد ينزلق الإنسان من "الغضب المقدس" إلى "الغضب النجس" وهو لا يدري. لأن الذات خبيثة، تتسلل من كل نافذة مفتوحة أو شبه مفتوحة، لتبسط نفوذها وسلطانها.

 إن قول الرسول: "اغضبوا ولا تخطئوا" مقتبس من مزمور4: 4، وفق الترجمة السبعينية. وفي الترجمة العربية: "ارتعدوا ولا تخطئوا"- والغضب والارتجاف من مصدر واحد: هو اهتزاز الأعصاب، من شدة الانفعال.

 وقوله: "لا تغرب الشمس على غيظكم" يعيد إلى فكرنا قول موسى بأن "لا تغرب الشمس على رهن الفقير في بيت الغني، ولا تغرب الشمس على الجثة المعلقة على الصليب" ( تثنية24: 15.13،21: 23). على أنه لا يجب أن يؤخذ كلام الرسول حرفياً، والإجاز لسكان جرينلند أن يحتفظوا بالغيظ في قلوبهم مدةً تقرب من نصف عام- لأن هذا هو طول النهار عندهم! إن قصد الرسول هو أن نسارع إلى السماح والاستسماح

ويقول بلوطارخوس- أحد أعلام التاريخ القديم- إن فيثاغورس الفيلسوف علم أتباعه بأنهم إذا وقعوا في خطية الغضب فليصافحوا بعضهم بعضاً قبل غروب الشمس.

عدد27:

27وَلاَ تُعْطُوا إِبْلِيسَ مَكَاناً.

-ج-الباعث- التحوط ضد مكايد إبليس: "لا تعطوا إبليس مكاناً".

إن إبليس خداع مكير، قضى في مهنته آلاف السنين فأتقن أساليبها وحذق أفانينها. فهو يريد أمعاذير وأعذبها. فمراراً يتدخل بحجة حسم النزاع، وإقامة الصلح.لأنه أحياناً يتخذ شكل ملاك نور، وما غايته إلا توسيع الثغرة، فيجعل من الحبة قبة، ويقيم من النافذة باباً.

لأنه حكيم في فن تأويل الكلام،ليوغر به الصدور، وهو يرحب بالأشواك الصغيرة أمام قلوب المحبين،فيسقيها بعصارة سمومه، ويغذّيها من حمأة قلبه، ليسدّ بها أبواب القلوب إلى الأبد.

 لا غرو إذا استعمل إبليس كل وسيلة في إمكانه، ليضرب بين المؤمنين بسهم من الجفاء، لأنه يجد لذة خاصة في أن يشكو كل مؤمن لدى أخيه المؤمن، فهو العدوّ "المشتكي" اسماً ومسمّى، كما يدل عليه اسمه-في اليونانية-"ديلبولوس". ويقول الدكتور مونود: "حيثما يجد الشيطان قلباً مغلقاً، يوجد لنفسه باباً مفتوحاً". ويقول أحد الآباء الأولين: "لا تسارع إلى الغضب لأنه كثيراً ما يولدّ القتل". ومثل الفرد في هذا، مثل الجماعات والهيئات.

 عدد 28 الثلاثية الثالثة: السرقة، والكد الصالح (4: 28):

28لاَ يَسْرِقِ السَّارِقُ فِي مَا بَعْدُ، بَلْ بِالْحَرِيِّ يَتْعَبُ عَامِلاً الصَّالِحَ بِيَدَيْهِ، لِيَكُونَ لَهُ أَنْ يُعْطِيَ مَنْ لَهُ احْتِيَاجٌ.

 -ا- الرذيلة- السرقة: "لا يسرق السارق فيما بعد"

-ب- الفضيلة- الكد الصالح: "بل يتعب...."

—ج- الباعث- الإحسان: "ليكون...أن يعطى".

 -ا- الرذيلة- السرقة: "لا يسرق السارق فيما بعد". إن من يعرف الحالة الأدبية التي كان عليها الأمميون سيما في كورنثوس وأفسس لا يتعجب إذا وجد الرسول يستعمل الصيغة الحالية: "السارق". فليس من المستبعد أن تكون أهداب هذه الخطية الذميمة قد علقت ببعض منهم.

ويميل بعضهم إلى ترجمة هذه العبارة بصيغة الماضي: "من كان سارقاً"- أي قبل الإيمان على أنه يجب علينا أن نتنبه كثيراً إلى الصور المنوعة التي تتخذها هذه الخطية –فثلم الصيت، وعدم إعطاء الأجير أجراً متناسباً مع عمله وحاجياته، وعدم تكريس العشور لله، وكف اليد عن مساعدة المسكين، وإهمال المؤمن واجباته نحو المحتاجين من أهله وذويه، وفضول الإنسان العائش على لحم غيره-كل هذه مظاهر مختلفة لجوهر واحد: هو السرقة.

-ب- الفضيلة: الكد الشريف: "بل يتعب عملاً... بيديه" لم يذكر الرسول هنا شيئاً عن رد المسروق مثلما أشار في رسالة معاصرة لهذه(فليمون 18). ولعل كلامه هنا منصرفاً إلى الواجب على المؤمن من جهة المستقبل على اعتبار أن رد المسلوب أمر سلم به. إذ ليس الكد الشريف مجرد فضيلة تقابل رذيلة السرقة، لكنه علاج لذلك المرض. فإذا كان رأس الكسلان معملاً للشيطان، فإن الكد الشريف يسد الثغرة التي يدخل منها الشيطان إلى قلب الإنسان. هذا هو مبدأ "التسامي" الذي ينادي به علماء النفس في وقتنا الحاضر، وقد نادى به بولس الرسول قبلهم بألفي عام- وهو يقوم بتوجيه قوى الإنسان التي كانت منصرفة إلى الشر، والتسامي بها لتتصرف إلى الخير. فاليدان اللتان كان يسرق بهما السارق قبل الإيمان، يجب أن يكرسهما للعمل الصالح المنتج.

 -ج- الباعث- الإحسان: "ليكون له أن يعطى..."

ليس هذا مجرد إصلاح، لكنه انقلاب عظيم- من الظلام الحالك إلى النور الباهر. من الإنسان العتيق الفاسد، إلى الإنسان الجديد المخلوق بحسب الله. قبل الإيمان، كان الإنسان يفكر في الطرق التي ينهب بها ويسلب، وبعد الإيمان يجب أن يفكر في الطرق التي يعطى بها ويهب. قبلاً كان يقف من الناس موقف المحتاج إلى ما لهم، وبعد الإيمان يجب أن يقف موقف المعين والمساعد. كانت حياته قبل الإيمان حياة البحر الميت الذي يأخذ على الدوام ولكنها أضحت بعد الإيمان حياة بحر بطرية الذي يجود بما فيه بالتمام!

 الثلاثية الرابعة:

29لاَ تَخْرُجْ كَلِمَةٌ رَدِيَّةٌ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ، بَلْ كُلُّ مَا كَانَ صَالِحاً لِلْبُنْيَانِ، حَسَبَ الْحَاجَةِ، كَيْ يُعْطِيَ نِعْمَةً لِلسَّامِعِينَ. 30وَلاَ تُحْزِنُوا رُوحَ اللهِ الْقُدُّوسَ الَّذِي بِهِ خُتِمْتُمْ لِيَوْمِ الْفِدَاءِ.

- الكلام الهادم، والكلام الباني (4: 29و30)

 -1- الرذيلة. الكلام الهادم: "لا تخرج كلمة ردية"-ب- الفضيلة- الكلام الباني: "بل.البنيان" (ج) الباعث: "كي يعطى".."لا تحزنوا".

 عدد29-1- الرذيلة- الكلام الهادم: "لا تخرج كلمة ردية من أفواهكم". الكلمة "الردية" هي الكلمة "الفاسدة" المجردة عن النعمة، والخالية من "الملح" (كولوسي4: 6).

 وبما أن الملح يكسب الطعام مذاقاً صالحاً، ويحفظه من الفساد والتعفن، فالكلمة "الخالية من الملح" هي الكلمة العاطلة الخالية من كل طعم ومذاق، وهي أيضاً الكلمة الباطلة المفعمة فساداً فتخرج من الفم كما تخرج الرائحة الكريهة من قبر مفتوح (رومية3:13). وقد وردت كلمة "ردية" في البشائر، وصفاً للشجرة الردية، وللسمك الردئ (متى7:17،12: 33،13: 48). فهي ليست مقصورة على الأشياء التي لا خير فيها، لكنها تتناول الأشياء المفعمة شراً وفساداً. وهي ليست سلبية كما لو كانت غير بانية وكفى، لكنها هادمة. وإن من لا خير فيه، لا يمكن أن يكون خلواً من الشر.

 -ب- الفضيلة: الكلام الباني: "بل كل ما كان صالحاً للبنيان"

 إن استعارة البناء التي استعملها الرسول في2: 21و4: 16 ما زالت في ذهنه عند كتابة هذه العبارة: "صالحاً للبنيان". وقد أوصى وصية مماثلة لهذه في رسالة سابقة"فلنعكف إذاً على ما هو للسلام وما هو للبنيان بعضنا لبعض" (رومية14: 19).

 وصف الرسول الكلام الصالح في هذا العدد وصفاً رباعياً-1- في طبيعته: "صالحاً"- وهو الكلام المصلح بملح –ب- في عمله: "للبنيان" أي لازدياد الأعضاء في النعمة والصلاح. ولقد شهد الأسقف برنت عن رئيس أساقفة ليتون أنه لم يوجد يوماً في حضرته إلا وسمع من فمه كلاماً جعله أحسن حالاً مما كان قبل أن يراه –ج- في مناسبته: "حسب الحاجة" إن كثرة الكلام لا تخلو من المعصية. وليس في الوجود أبدع من كلمة مقولة في وقتها وحسب الحاجة إليها. فليعلمنا الرب متى نتكلم ومتى نصمت "حسب الحاجة"-د- في خدمته: "كي يعطى نعمة للسامعين". فالكلام الصالح يكون خادماً للنعمة. لأن روح الله يستخدمه أداة لإيصال النعمة إلى قلوب السامعين. الكلمة المترجمة "نعمة" يجوز أن تترجم أيضاً إلى: "لذة، وهناء، وسرور". هذا هو الكلام الذي وصفه بولس في كولوسي4: 6"ليكن كلامكم...بنعمة".

 عدد30 –ج- الباعث: تقديس شعور الروح القدس:

في العدد السابق، أشار الرسول إلى باعث أقل من هذا خطراً، هو "إعطاء نعمة للسامعين". ولكن الباعث المذكور في هذا العدد، غاية في الأهمية والخطورة: "لا تحزنوا روح الله". فالروح القدس الحالّ في جماعة المؤمنين، وفي قلوبهم، يستمع لكل كلمة تخرج من أفواههم، فيحزن لكل كلمة رديئة يتلفظون بها.

 في اليوم الخمسين، ظهر الروح القدس للمؤمنين "بألسنة منقسمة كأنها من نار فاستقرت على كل واحد منهم" (أعمال2: 3). فلا غرو إذا كان الروح القدس رقيباً على الألسنة، فكل كلمة رديئة تحزنه. لأنها دليل على أن الألسنة التي تنطق بها مضرمة من نار سفلى (يعقوب3: 6).

 في الخطاب العظيم الذي ألقاه اسطفانوس، قال: "لا تقاوموا الروح" (أعمال7: 51). وفي رسالة سابقة لهذه، قال بولس: "لا تطفئوا الروح" (1تس5: 19). وهنا يقول: "لا تحزنوا الروح". وفي الإصحاح الخامس من هذه الرسالة يقول: "امتلئوا بالروح" (5: 18). فالثلاثة العبارات الأولى تحذرنا من عمل سلبي تأتيه ضد الروح. والعبارة الرابعة (5: 18)توصينا بواجب إيجابي نقوم به إزاءه. إن "مقاومة" الروح تدل على أن الروح يرمز إليه بـ "قوة". وإطفاء الروح يدل على أنه يرمز إليه بـ "نار"، وإحزان الروح يدل على أن الروح القدس شخص - أو أقنوم- له عواطف وإحساسات والامتلاء بالروح يدل على أن الروح يرمز إليه بالماء وفي الماء.

 إن هذا الباعث الذي نحن بصدده: "لا تحزنوا الروح" لهو أشرف البواعث لدى المؤمنين الذين يقدرون شعور الأقدس الذي هم له مدينون: "بختمه إياهم ليوم الفداء". والختم يرمز إليه هنا بالضمان، والحفظ (أطلب شرح هذه الكلمة في1: 3 من هذه الرسالة. إن "يوم الفداء" المقصود هنا هو يوم تمجيد المؤمنين، حين يكمل فداء الجسد والروح معاً عند ظهور ربنا يسوع المسيح- هذا هو الرجاء الذي وضعه بولس نصب أعين أهل رومية "متوقعين التبني فداء أجسادنا" (رومية8: 23).

 الثلاثية الخامسة: الانفعالات الردية والشعور الطيب (4: 31و32):

31لِيُرْفَعْ مِنْ بَيْنِكُمْ كُلُّ مَرَارَةٍ وَسَخَطٍ وَغَضَبٍ وَصِيَاحٍ وَتَجْدِيفٍ مَعَ كُلِّ خُبْثٍ. 32وَكُونُوا لُطَفَاءَ بَعْضُكُمْ نَحْوَ بَعْضٍ، شَفُوقِينَ مُتَسَامِحِينَ كَمَا سَامَحَكُمُ اللهُ أَيْضاً فِي الْمَسِيحِ.

 -ا- الرذيلة- الانفعالات الردية: "ليرفع من بينكم"

 -ب-الفضيلة- الشعور الطيب: "وكونوا لطفاء..."

 -ج-الباعث- الصفح الإلهي: "كما سامحكم الله"

 عدد31-ا-الرذيلة: الانفعالات الردية: "ليرفع من بينكم كل مرارة وسخط وغضب وصياح وتجديف مع كل خبث".

 هذه الأخوات الستّ: "المرارة، والسخط، والغضب، والصياح، والتجديف، والخبث" قد تتفاوت في شدتها وشناعتها- حسب الظاهر- لكنها كلها مظاهر منوعة لجوهر واحد- هو الإنسان العتيق الغير المتجدد.

 المرارة: "هي شراسة الأخلاق التي تجعل الإنسان سريع الغضب، بطئ الرضى".

 السخط والغضب: يتميز السخط عن الغضب في أن أولهما: مرض حاد، والثاني: مرض مزمن. وقيل السخط لا يصدر إلا عن الكبراء والعظماء نحو من هم دونهم، والغضب مطلق. ولعل المراد بالسخط ما يشعر به الإنسان عند التجربة المباغتة. والمراد بالغضب ما هو أعمق من السخط في القلب، ويحمل على الانتقام من المغضوب عليه، ولا يشفى إلا به.

 الصياح: هو إظهار الغضب بالصوت فيهيج بذلك غضب الغير.

 التجديف: هو ما ينتج عن الغضب مقصوداً به إيلام الغير. وأصله في اليونانية يفيد اللعنة والنميمة ولعنة الإنسان لمثله لا تخلو من التجديف على خالقه.

 الخبث: هو أصل في القلب وكل ما ذكر آنفاً، هو من فروعه. ورفع الفروع حتى لا تظهر أبداً، يستلزم قلع الأصل وغرس عكسه- وهو المحبة التي قيل فيها إنها: تتأتى وترفق. لا تحسد ولا تقبح ولا تطلب ما لنفسها ولا تحتد ولا نظن السوء ولا تفرح بالإثم بل تفرح بالحق" (1كو13: 6.5).

 عدد32-ب- الفضيلة- الشعور الطيب: "وكونوا لطفاء بعضكم نحو بعض شفوقين متسامحين" وردت كلمة "اللطف" في لوقا6: 35 ورومية2: 4،11: 2 بمعنى "الطيبة والصلاح". وهي في أساس استعمالها تعنى "النفع" – ثم "المساعدة والصلاح". وهي في لأساس استعمالها تعنى"النفع"- ثم "المساعدة والمعونة"- ثم اللطف في الشعور والكلام، وهي نفس الكلمة التي وصف بها نير المسيح، أنه"خفيف" (متى11: 30).

 الشفقة: عاطفة قلبية، وردت في 1 بطرس3: 8 ولم ترد في العهد الجديد سوى في هاتين.المرتين. وهي تنطوي على معنى من معاني العطف.

 التسامح:جميل أن نذكر أن هذه عبارات وردت في الأصل: "متسامحين نحو أنفسكم". فهي تعتبر جسد المسيح كتلة واحدة- وما يمس العضو الواحد يمس الآخر- وهي تنطوي على معنى التبادل، فان من يغتفر اليوم قد يكون غداً مسيئاً، فيحتاج إلى من يصفح عنه كما صفح هو بالأمس.

-ج- الباعث: "كما سامحكم الله أيضاً في المسيح"- يرجع بنا هذا القول إلى ما علمنا المسيح إياه في الصلاة الربانية: " اغفر لنا ذنوبنا كما نغفر نحن أيضاً للمذنبين إلينا"،"في المسيح"- هذا هو مجلى ظهور صفح الله عنا- ان الله كان في المسيح مصالحاً العالم لنفسه (2كو5: 19)

"في المسيح" هذا هو ضمان صفح الله عنا –إذ قدم الله نفسه ذبيحة عنا، هذا هو حجة صفح الله رآنا متبررين في المسيح فصالحنا فيه وصفح عنا.

الإصحَاحُ الْخَامِسُ

المسامحة في المسيح

 في هذا الاصحاح، استأنف الرسول كلامه الذي اختتم به الأصحاح السابق: "كما سامحكم الله أيضاً في المسيح". فاتخذ من كلامه هذا، باعثاً إيجابياً، يحمل المكتوب إليهم على السلوك في جدّة الحياة، باعتبار كونهم"أولاد أحبّاء الله" الذي "سامحهم أيضاً في المسيح".

 إن هذه المحبة القدسية المضحية التي وجهها إلينا الآب السماوي، في شخص المسيح المصلوب لأجل خطايانا، والمقام لأجل تبريرنا، هي مبعث التسامح بين المؤمنين، وهي أقدس حافز لهم على قداسة الحياة:وحياة القداسة. وهي النار التي تلهب قلوبهم في الخدمة، إذا هم أعيوا في مسالكها الوعرة، وهي النور الذي يلهم بصائرهم فيهديهم في جهاد الحياة المحفوف بالمكاره. هي" همزة الوصل" بين المؤمنين إذا انقطعت بينهم صلات المودة، وهي" همزة القطع " بينهم وبين"إنسانهم" العتيق الفاسد!

 في نهاية الأصحاح السابق، ناشد الرسول المكتوب إليهم، أن يخلعوا الإنسان العتيق، ويقلعوا عن أعماله. فكان كلامه منصباً بنوع خاص،على الخطايا التي تثير عوامل الشحناء والبغضاء بين المؤمنين، فنفسد عليهم تضامنهم، وتعبث بوحدانيتهم المقدسة التي هي مركز الدائرة في هذه الرسالة.

 لكنه في هذا الإصحاح، حضّهم على نبذ الخطايا التي تدنّس دعوتهم المقدسة، وتمتهن الاسم الشريف المقدس الذي دعي عليهم باعتبار كونهم أبناء الله القدوس. فمن أقدس واجباتهم، أن يكونوا قديسين "كما أن أباهم الذي في السموات هو قدوس"، فذكرنا الرسول بتلك الكلمة الخالدة التي فاه بها مخلصنا المجيد: "فكونوا أنتم كاملين، كما أن أباكم الذي في السموات هو كامل" (متى5: 48).

 فكأنه في ختام الإصحاح السابق، حضهم على نبذ الخطايا التي تؤثر في صلتهم ببعضهم البعض كمؤمنين. وفي مطلع هذا الإصحاح حرضهم على ترك الخطايا التي تمس سمعتهم ومقامهم، لدى العالم الخارجيّ، مردّداً جوهر كلمة قالها في مناسبة أخرى "اسلكوا بحكمة من جهة الذين هم من خارج".

المسيحي في حياته الاجتماعية

(5: 1-21)

 -ا- اسلكوا في المحبة، فينتزع الفساد (5: 1-5)

 -ب- اسلكوا في النور،فيطرد الظلام (5: 6-14)

 -ج-اسلكوا بحكمة، فتبعد الجهالة (5: 15-21)

 عدد1 (1) خير باعث على السلوك في المحبة (5: 1):

1فَكُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِاَللهِ كَأَوْلاَدٍ أَحِبَّاءَ،

 في الفصل السابق، بدأ الرسول كلامه، بذكر الرذائل التي حضّ المؤمنين على نبذها، وأردفها بالفضائل التي أرادهم أن يتمسكوا بها، ثم توّج كلامه بذكر الباعث على الترك والتمسك. لكنه في هذا الإصحاح استهل كلامه بذكر الباعث الرئيسي الذي يرفعهم عن الدنايا، ويدفعهم إلى الفضائل العليا، وهو التمثل بالله في محبته المتسامحة المضحية التي ظهرت في المسيح المصلوب: "فكونوا متمثلين بالله كأولاد أحباء. واسلكوا في المحبة كما أحبنا المسيح أيضاً وأسلم نفسه لأجلنا قرباناً وذبيحة لله رائحة طيبة". إن خير باعث على المحبة، هو المحبة نفسها. لأن كل شئ يلد نظيره.

 "كونوا متمثلين بالله كأولاد أحبّاء"- تعتبر هذه الكلمات حلقة اتصال بين ختام الإصحاح السابق، ومطلع هذا الإصحاح. لأن الإقتداء بالله في محبته المتسامحة المضحية، هو الطابع الخاص الذي يجب أن تتميّز به حياة أولاد الله، فيحيا كل منهم، في دائرته الضيقة، حياة تحاكي- على نوع ما- حياة الله المتجلية في دائرة النعمة، فيبرهنون بذلك على أنهم أبناء الله الكليّ المحبة، بل الذي هو محبة،لأن من أقدس واجباتهم أن يقتدوا بأبيهم السماوي.

وبما أن لكلّ صوت صدى من جنسه، فمن الطبيعي أن يظهر المسيحيون نحو الآخرين، نفس الشعور الذي أظهره الله نحوهم-المحبة، فيكونوا محبين لغيرهم. بقدر ما صاروا هم محبوبين من الله، فيصبحوا كأنهم محاصرون بالمحبة من كل صوب: من خلف ومن قدام ومن فوق ومن أسفل- فتكون المحبة جواً مقدساً فيه يحيون، ويتحركون، ويوجدون، لأن حبهم للآخرين هو وليد حب الله لهم.

 "كأولاد أحباء"- هذا باعث سام شريف، بل هو أسمى البواعث وأشرفها: "كأولاد أحباء"- لا كعبيد يملكهم الرّعب كلما لمحوا سيدهم، ولا كجبناء يبغون الفرار من عذابات الجحيم، ولا كنفعيّين يسعون وراء ثواب النعيم، بل "كأولاد أحباء" ملأت المحبة قلوبهم، فأضحت لأقدامهم قوة دافعة إلى الأمام، ولأشخاصهم أجنحة رافعة إلى العلى، في سبيل التضحية، والرحمة والمحبة، فيسلكون بروح البنين، ودالة البنين، وحرية البنين.

 عدد2 (1) أعلى قياس للسلوك في المحبة (5: 2):

2وَاسْلُكُوا فِي الْمَحَبَّةِ كَمَا أَحَبَّنَا الْمَسِيحُ أَيْضاً وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِنَا، قُرْبَاناً وَذَبِيحَةً لِلَّهِ رَائِحَةً طَيِّبَةً.

 إن محبة الله لنا، قد تجلت بأسمى مظاهرها في محبة المسيح لنا، إذ "أسلم نفسه لأجلنا قرباناً وذبيحة لله رائحة طيبة". فقدّم لنا بذلك خير باعث، وأعلى قياس لسلوكنا في المحبة.

 وكما أن كلام الرسول في العدد الأول مستمد من كلام المسيح في الموعظة على الجبل (متى5: 48)، كذلك كلامه في هذا العدد الثاني يعتبر ترديداً لصدى كلام المسيح في خطابه الوداعي لتلاميذه: "وصية جديدة أنا أعطيكم أن تحبوا بعضكم بعضاً كما أحببتكم أنا تحبون أنتم أيضاً بعضكم بعضاً".. "هذه هي وصيتي أن تحبوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم"..."ليس لأحد حب أعظم من هذا أن يضع أحد نفسه لأجل أحبائه"..."أنتم أحبائي إن فعلتم ما أوصيتكم به" (يوحنا13: 34، 15: 12-14).

 استهل الرسول هذا العدد، موجهاً الخطاب إلى المكتوب إليهم: "واسلكوا...". لكنه ما كاد يصل إلى الكلام عن محبة المسيح حتى بدّل ضمير المخاطب بضمير المتكلم: "كما أحبنا المسيح"، لأنه لم يطق أن يذكر شيئاً عن محبة المسيح ويظل هو بعيداً عن دائرتها القدسية المجيدة. هذه الدائرة التي تعاظمت فيها مطامع بولس الرسول لدرجة أنه احتكرها مرة لنفسه إذ قال: "الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي" (غلاطية2: 20). وفي هذا فليتنافس المتنافسون، لأنه "حسنة هي الغيرة في الحسنى". في العدد حدّثنا الرسول عن عمل المسيح الكفاري في جانبيه:

 أولهما في كونه ثمناً لحبه للإنسان: "كما أحبنا المسيح أيضاً وأسلم نفسه لأجلنا...".

في هذا الجانب يتجلى لنا العنصر المستقل الاختياري في هذه المحبة: "...كما أحبنا المسيح أيضاً وأسلم نفسه"، هذا دليل على أن محبة المسيح لنا لم تكن مجرد تعبير عن محبة الله لنا، لكنها محبة شخص له عاطفة مستقلة نحونا. إلا أن محبة الله لنا، هي بعينها محبة المسيح لنا، وما محبة الله ومحبة المسيح سوى وصفين جامعين للمحبة الإلهية الواحدة:الأول يصفها في جوهرها، والثاني يصفها في مظهرها. (1بط4: 2و3،5: 5).

 هذه محبة-ا- تطوعية اختيارية: "أسلم نفسه". إن كلمة "أسلم" تفيد التسليم التام التطوّعي، الاختياري، ليس فقط بغير إكراه ولا مقاومة، بل بروح حرّ منتدب، كأنه مقدم على عمل يريده هو، بل يتوق إليه، لا كأنه أريد عليه، فهو أحبنا لأنه أراد. نعم لا جدال في أنه قدّم نفسه للصلب إتماماً لبرنامج الفداء العجيب الذي دبره الآب منذ الأزل، إلا أن هذا البرنامج لم يفرض على المسيح فرضاً، لكنه مستمد من روحه الأزلي الذي به قد قدّم نفسه ذبيحة عنّا، لأنه أحب، وأحب لأنه أراد.

 -ب- هذه أيضاً محبة فدائية، مضحية: "لأجلنا" أو بدلاً منا، أو عوضاً عنا. ومتى ذكرنا ما للمسيح من سمو، وقداسة، وإكبار، وما نحن فيه من انحطاط، ونجاسة، وصغار، تبينت لنا التضحية الكبرى التي تكبدها السيد في سبيل افتدائنا من آثامنا. ناهيك عن كونه قد أحبنا ونحن أعداء، غير مستحقين لشئ من هذا الحب العجيب (رومية5: 8.5، غلاطية2: 20، يوحنا15: 13، غلاطية3: 13).

 الجانب الثاني: عمل المسيح الكفاري في صلته بالآب: "قرباناً وذبيحة لله رائحة طيبة". هذا دليل على أن عمل المسيح الكفاري وافق رغبة قوية في قلب الله، ووفّى مطلباً جليلاً أوحت به عدالته، وصادف رضى ممتازاً في نفسه تعالى.

 " قرباناً، ذبيحة، رائحة طيبة"- تذكرنا هذه الكلمات بأخرى مماثلة لها، سطرها الرسول في رسالة معاصرة لهذه: "قبلت من أبفرودتس الأشياء التي من عندكم نسيم رائحة طيبة مقبولة ذبيحة مرضية عند الله"( فيلبي 4: 18). وبما أن بولس يهودي الأصل والثقافة،

فمن الطبيعي أن يكون قد استقى هذه التعبيرات من سفر اللاويين (الأحبار). وبرجوعنا إلى هذا السفر، يتضح لنا إن العبارة" رائحة طيبة" –"رائحة ارتياح" استعملت وصفاً لثلاثة أنواع من التقدمات -ا- القربان (لاويين2: 2) وهي تعني أصلاً الذبيحة الغير دموية، ولكنها قد تشمل الذبيحة الدموية لأنها مكملة لها، وقد أريد " بالقربان" التكفير الذي به يرد الشعب إلى رضى الله والتقرب منه –ب- المحرقة-"لاويين1: 9"- وهي تعني حرفياً الذبيحة الصاعدة بتمامها إلى السماء، فلا يأكل منها الكاهن شيئاً. وهي رمز إلى تكريس النفس بتمامها لله - ج- ذبيحة السلام- (لاويين3: 5.1)، وهي رمز إلى الشركة المقدسة مع الله المعبّر عنها من جانب الإنسان، بالحمد والشكر.

 ومتى ذكرنا أن هذه الثلاثة الأنواع من الذبائح لم تكن سوى رمز للمسيح ذبيحتنا الأعظم، تبيّن لنا أن المسيح قدم نفسه لله عنا، قرباناً ليكفر عن آثامنا وليجلب علينا رضى الله. ومحرقة، دليلاً على تكريسه التام للغرض الأسمى الذي تجسد لأجله: "لأجلهم أقدس أنا ذاتي ليكونوا هم أيضاً مقدسين في الحق" (يوحنا17: 19)، وذبيحة سلامة، لأنه وهو الإله الكامل، والإنسان الكامل، قد صنع سلاماً بين الله والناس بشخصه الممتاز.

 هذه هي محبة المسيح الفدائية، الكفارية، التطوعية، وبها قدم لنا أعلى قياس للمحبة التي ينبغي أن نحب بها بعضنا البعض. لأنه أحبنا حتى الموت، بل قدم لنا أشرف باعث لهذه المحبة، إذ قدّم نفسه ذبيحة اختيارية: "والمعطى المسرور يحبه الرب". ومتى كان حبنا لبعضنا البعض سامياً، خالصاً، فإن حبنا هذا يحسب ذبيحة تعبدية لله فليتقبلها منا نسيم رائحة طيبة.

 إن طاعة المسيح التي أظهرها بتقديم نفسه كفارة عنا، قد تقبّلها منه الآب "نسيم رائحة طيبة". فليس الله محباً للذبائح، ولا لسفك الدماء، ولا لرائحة المحرقات- كما توهم باطلاً أحد الكتاب العصريين-تعالى الله عن ذلك علوّاً عظيماً! لكنه يحب الطاعة، ويريد الرحمة لا الذبيحة.

 (3) فلول الظلام تولي الأدبار أمام جيوش المحبة (5: 4.3):

وَأَمَّا الزِّنَا وَكُلُّ نَجَاسَةٍ أَوْ طَمَعٍ فَلاَ يُسَمَّ بَيْنَكُمْ كَمَا يَلِيقُ بِقِدِّيسِينَ، 4وَلاَ الْقَبَاحَةُ، وَلاَ كَلاَمُ السَّفَاهَةِ وَالْهَزْلُ الَّتِي لاَ تَلِيقُ، بَلْ بِالْحَرِيِّ الشُّكْرُ.

 كرس الرسول العددين الأولين من هذا الإصحاح للمحبة الإلهية، التي يكنّها قلب الآب نحونا منذ الأزل،فأظهرنا لنا في ملء الزمان بتقديم المسيح نفسه ذبيحة عنا. هذه هي أشعة أنوار محبة المسيح الني انبعثت نحونا من فوق الصليب. وهي التي تولد في قلوبنا حباً من جنسها نحو بعضنا البعض.

 غير خاف أن النور سطع في مكان ما، طرد الحشرات الكامنة فيه. ولدى التأمل، يتضح أن الرسول، بعد أن أماط اللثام عن شدة أنوار المحبة الإلهية (عدد1)، وبعد أن أظهر لنا قوة أضواء المحبة الأخوية المسيحية، لم يبق أمامه سوى أن يكشف الغطاء عن فلول الظلام التي تطاردها جيوش أنوار المحبة، حتى تطردها. هذا موضوع كلام الرسول في العددين التاليين (عدد4.3). وبين جيوش المحبة وفلول الظلام، تقف كلمة: "وأما" عند قائم بين مياه عذبة ومياه آمنة، وكحد فاصل بين أنوار الحياة الجديدة وظلمات الحياة العتيقة في سجل الخليقة الجديدة. مثلما كان اليوم الأول في سجل الخليقة الأولى، فاصلاً بين ظلمات الأرض الخربة المغمورة، وأنوار الأرض الجديدة المعمورة!!.

 صفّ الرسول جيوش الظلام في فيلقين- كل منهما فيلق ثلاثي

 عدد3 الفيلق الأول: "الزنا،النجاسة،الطمع- هذه مرة أخرى، فيها يقرن الرسول خطية النجاسة بخطية الطمع (راجع4: 19).

والظاهر أن الكلمة اليونانية المترجمة "الطمع" تنطوي على معنى أعم من الطمع وأوسع. فهي تعيّن اتجاه حياة الإنسان الذي يعيش لذاته، لأن من عاش لذاته اليوم، عاش للذّاته غداً. فإن حياته تصح بلا ضابط سوى ميوله الخاصة التي لا تعرف حداً للشبع. فيتخطى المرء حقوقه متعدياً على حقوق الآخرين، وفي النهاية يبلغ حد الطمع الأشعبي. وغير خاف أن هاتين الخطيتين- النجاسة والطمع-مشتقان من مصدر واحد: هو عدم الاكتفاء، وهو وليد حب الذات. وما من شك في أن هذا الحافز الذي يدفع إنساناً ما إلى النجاسة، هو بعينه الذي يدفع إنساناً آخر إلى الطمع (1تس4: 3-6).

 ولقد أحاط الكاتب هذا المثلث الفاسد: "الزنا،النجاسة،الطمع" بإطار أسود قاتم، محذراً المكتوب إليهم من الخطايا المكوّنة لأضلاعه، فلا يذكر ولا سيما فيما بينهم كقديسين، لأنها والقداسة على طرفي نقيض- والقداسة والقديسون من مصدر واحد وقد لوحظ مراراً أن التمادي في ذكر هذه الخطايا بأسمائها، ولو على سبيل التنديد بها، كثيراً ما يوقظ كوامنها الدفينة في الطبيعة البشرية، ويفتح أمام الأصاغر أبواباً جديدة في سبل ارتكابها، لذلك قال عنها الرسول في موضع آخر "ذكرها أيضاً قبيح" (5: 12)ز فالتلميح في هذا الباب قد يكون أفعل من التصريح. والإيجاز خير إعجاز، والصمت أبلغ من الكلام.

 فليكن المؤمن نقيّ الحياة، عفّ اللسان، مصلياً على الدوام أن يجعل الرب حارساً على باب شفتيه. لأن عدم التحفظ في التكلم عن هذه الخطايا يعتبر تحريضاً للتجربة على أن تجرّبنا. وتحرشاً بهذه الخطايا لتقوم وتتحرش لنا.

 فمن أوجب الواجبات على القديسين بالدعوة السماوية، أن يكونوا قديسين في حياتهم العملية على الأرض، بذلك يصبحون قديسين نظرياً، وعملياً.

 عدد4 الفيلق الثاني- "القباحة،كلام السفلة،الهزل". غير خاف أن الرسول وضع الخطايا الكلامية في المستوى واحد مع خطايا الحياة العملية. لأن الكلام يسوق إلى الفعال، فكم من خطايا تحاول الدخول إلى مدينة نفس الإنسان، وإذ يتعذر عليها الدخول من أبواب الفعال، تلج باب الأقوال فتجده مفتوحاً على مصراعيه. وكم من كلمات قبيحة جرّت إلى أفعال ذكرها أيضاً قبيح.

 الكلمة الأصلية المترجمة: "القباحة" لم ترد في العهد الجديد سوى هذه المرة. وهي في اللغة اليونانية القديمة (كلاسيك) من ذات المصدر الذي تشتق منه شرّ الأفعال وأقبحها.

 وكذلك العبارة المترجمة: "كلام السفاهة" لم ترد في العهد الجديد سوى هذه المرة، وهي تعني التكلم عن الخطية بلسان "الجاهل" وروح الغبي المستخف بخطاياه وخطايا الآخرين.

 أما الكلمة المترجمة: "الهزل" فهي تعني المزاح الثقيل والسخرية والسمجة التي يحاول بها المرء أن يدخل السرور على نفسه ونفوس سامعيه بالنيل من مقام الآخرين والحطّ من أقدارهم. والظاهر أن هذه العادة كانت شائعة بين سكان أفسس في ولائهم وسهراتهم، وهي أيضاً فاشية بين أقوام كثيرين في عصرنا الحاضر، ومنهم حذرنا كاتب المزمور الأول في غرة المزامير "طوبى للرجل الذي لم يسلك في مشورة الأشرار، وفي طريق الخطاة لم يقف وفي مجلس المستهزئين لم يجلس". ومن المحقق أن من يستمد سروره من إيلام الآخرين لهو مطبوع بطابع حب الذات الذي هو"نبع كل نجاسة وطمع"، ولئن تنوعت الثمار، فالبزة واحدة. ويقول المؤرخون إن أهل آسيا كانوا متفننين في ضروب السخرية لأن الفيلسوف أرسطاطاليس كان يحسب المجون ضرباً من الفنون الجميلة! وغالى أحياناً فحسبه فضيلة! وقد استنتج أوليمبيودورس أن بولس الرسول شجب الهزل لدرجة لم يترك فيها مجالاً لكلام التفكهة الذي قد يكون أحياناً بريئاً، لأنه كان حريصاً على أن يبعدنا عن الشر، وشبه الشر. فكم من مجلس يبدأ بكلام "الهزل البرئ"، فيختتم بالكلام المبتذل[1].

 ويعتقد بعض المفسرين أن كلمة: "لا تليق" تصف خطية الهزل وحدها لا كل الخطايا سالفة الذكر.

 القوة الطاردة لكلام الظلام: " بل بالحري الشكر". إن الحياة المسيحية الحقة لا تكتفي بالأعمال السلبية، لأنها لا ترضى بالأعمال الإيجابية بديلا. فهي لا تقف عند حد الإقلاع عن كلمات القباحة، والسفاهة، والهزل، التي لا تليق، بل تتسامى بلغة الكلام فترتقي بها من الابتذال إلى الشكر. فتجعل من كلامنا عبادة مقدسة مرضية لله. فلا شئ يطرد الظلام، سوى النور، ولا قوة تذيب الثلج مثل قوة أنوار الشمس المشرقة. فبدل أن يكون كلامنا متجهاً اتجاهاً أفقياً عن الناس وإلى الناس، بنعمة التحقير والتشهير، يجب أن يتجه اتجاهاً عمودياً إلى الله بنعمة الحمد والتمجيد.

 الكلمة اليونانية المترجمة "الشكر" (يوركارستيا) مجانسة في اللفظ والاشتقاق للكلمة "كارس" التي ترجمتها "نعمة" هذا هو كلام الشكر المشبع بنعمة، الذي يليق بأناس عرفوا الله، بل عرفوا منه وصاروا له أبناء.

 ولا يفوتنا أن نذكر أن قوله: "لا تليق" يحمل ضمناً زجراً شديداً لا يقدّره إلا عارفوه: "اسلكوا بلياقة". فاللياقة لمن يقدرونها ويتذوقونها، لهي من أشرف البواعث وأقواها. فهي في عرف المؤمنين، لا تقل عن كلمة "حرام"، في لغة الغير المؤمنين. وهي تفيد التكافؤ، والتوافق، والتوازن- بمعنى أن حياة المؤمنين العملية على الأرض يجب أن تكون متكافئة ومطابقة لدعوتهم السماوية في الأعالي.

 عدد5 الحرمان العظيم الواقع على أهل الظلام (5: 5):

5فَإِنَّكُمْ تَعْلَمُونَ هَذَا أَنَّ كُلَّ زَانٍ أَوْ نَجِسٍ أَوْ طَمَّاعٍ، الَّذِي هُوَ عَابِدٌ لِلأَوْثَانِ لَيْسَ لَهُ مِيرَاثٌ فِي مَلَكُوتِ الْمَسِيحِ وَاللهِ.

 هذا كلام يقيني واضح، لا شئ فيه من الغموض والإبهام. ولا يأتيه اللبس من إحدى نواحيه، فلا مجال فيه للجدال أو المساومة: "فإنكم تعلمون هذا". ويجوز أن تترجم أيضاً إلى: "فإنكم تعلمون وتفهمون" فإن كنتم في شك من جهة حقائق أخرى، فلا مجال للشك في هذه الحقيقة لأنها واضحة كالنهار.

 في العدد الحادي عشر من الإصحاح الأول، عرّف الرسول المكتوب إليهم "أنهم في المسيح نالوا نصيباً" وفي العددين الثالث عشر والرابع عشر من ذات الإصحاح، قرر أنهم "ختموا بروح الموعد القدوس الذي هو عربون ميراثهم"، فمن الطبيعي أن يعرّفهم هنا أن من يقع في الخطايا سالفة الذكر (5: 4.3) يحكم على نفسه بالحرمان من هذا الميراث المجيد. لا لأنه كان له فأضاعه، بل لكونه غير أهل له من البداءة: "لأنه أية خلطة للبر والإثم وأية شركة للنور مع الظلمة وأي اتفاق للمسيح مع بليعال، وأي نصيب للمؤمن مع غير المؤمن. وأية موافقة لهيكل الله مع الأوثان" ( 2كو 6: 14-16)...... "عابد الأوثان ليس له ميراث في ملكوت المسيح".

 (1)الخطايا: هذه هي الحقيقة. المرة اللاذعة – والحق بطبيعته مرّ – "إن كل زانٍ أو نجس أو طماع الذي هو عابد للأوثان ليس له نصيب في ملكوت المسيح والله". في هذه الكلمات، وضع الرسول خطية الطمع في مقامها اللائق بها، إذ أحاطها بخطيتين شنيعتين :النجاسة عن يمينها، وعبادة الأوثان عن يسارها: "نجس.. طماع... عابد أوثان". فالطمع وليد النجاسة وشريكها، وهو والد عبادة الأوثان. وأم الجميع هي محبة الذات.

قال لتيفوث في هذا الصدد: الرجل الطماع يضع نصب عينيه معبوداً آخر شريكاً لله"-أو بعبارة أدق-" معبوداً آخر بديل الله".

 إن من يقع في منطقة هذا المثلث الفاسد. "النجاسة، الطمع، عبادة الأوثان" يحكم على نفسه بأنه لم ينتقل بعد من ملكوت الظلمة. فهو إذاً متغرب عن إسرائيل الروحي،لأنه باقٍ في ظلام أميته الوثنية: وهو بحكم الطمع "أجنبي عن رعوبة إسرائيل غريب عن عهود الموعد"، لأنه بطبيعته من "أبناء الغضب" وأتى لابن الغضب أن يكون له" ميراث في ملكوت المسيح والله؟".

 (2) الحرمان: عبرّ الرسول عن النصيب الذي يحرم منه كل نجس أو طماع بكلمة: "ميراث:، وهي تعبير مجازي يكنى به عن نيل الحياة الأبدية في الحال، والتمتع بكمال مجدها، ومجد كمالها، في الاستقبال (مرقس 11: 17 ومتى25: 34، يعقوب 2: 5، كو15: 20).

 الكلمة اليونانية: " كليرونوموس" المترجمة"ميراث" تعني النصيب الذي يتمتع به الإنسان في الحال بحكم الامتلاك، أو النصيب الذي يكون من قه أن يتمتع به في الاستقبال.

فالمعنى الأول يعين" ميراث" المؤمن في ملكوت النعمة، والمعنى الثاني يعين"ميراثه" في ملكوت المجد.

 أم ماهية هذا "الميراث" فقد أشار إليها الرسول بقوله: "ملكوت المسيح والله". هذا تعبير فذ لم يرد في الكتاب سوى هذه المرة. وهو يفيد أن الملكوت واحد لا اثنان. ولكنه نسب إلى المسيح باعتبار كونه الفادي الوسيط الذي تسلم هذا الملك من الآب لينفذ فيه برنامج الفداء، ومتى أتمََّ عملية الفداء يسلم الملك لله الآب (1كو 15: 27 و28).

ونسب هذا الملكوت إلى الله باعتبار كونه الملك النهائي على هذا الملكوت. ويغلب على اعتقادنا- والحالة هذه- أن الرسول أراد "بملكوت المسيح"،" ملكوت النعمة"، "بملكوت الله"،"ملكوت المجد". فالعبارة الأولى تعني " الكنيسة المجاهدة على الأرض والثانية تعني " الكنيسة الممجدة " في السماء. فيكون معنى العبارة : " ليس له نصيب في ملكوت المسيح والله". أن ليس له نصيب في الحياة الأبدية- لا في الحال ولا في الاستقبال لا بالتمتع ولا بحق الامتلاك. مع العلم أن المسيح ملك على ملكوت المجد أيضاً. والله ملك على ملكوت النعمة أيضاً (رؤيا11: 15، كو1: 13) إن في قوله" ملكوت المسيح والله" برهاناً ضمنياً على أن المسيح إله تام. وإلا فهل كان الرسول يجسر أن يضع اسم المسيح جنباً إلى جنب مع اسم الله في السيادة على هذا الملكوت؟ وإن لم يكن المسيح إلهاً، فما بولس إلا مشركاً!؟ وحشاك من هذا يا رسول الأمم – حاشاك!! ولم لا تعتبر الواو في كلمة "والله" واوً وصفية لا عطفية، فتفسر هذه العبارة على هذه الصورة: " ملكوت المسيح الذي هو الله؟" – هذا رأي الدكتور هودج، وهو في عرفنا أقرب الآراء إلى الصواب.

 موقف أبناء النور تجاه الظلام وأعوانه (5: 6-14)

أولاً:موقف أبناء النور تجاه أهل الظلام (5: 6(ا) )

(1) الموقف: لا تغتروا بكلامهم الباطل (5: 6(ا) )

-1- الباعث: "لأنه بسبب هذه الأمور" (5: 6(ب) )

(2) الموقف: لا تشاطروهم حالهم ولا مالهم(5: 7)

-ب- الباعث: "لأنكم كنتم قبلاً.. والآن" (5: 8(ب) )

ثانياً: موقف أبناء النور إزاء دعوتهم (5: 8(ب)-10)

(أ‌) الموقف: "اسلكوا كأولاد نور" (5: 8(ب) )

-ب- ثمر النور: "لأن ثمر الروح هو في كل صلاح..." (5: 9)

-ج- الباعث على السلوك في النور: "مختبرين..." (5: 10)

ثالثاً: موقف أبناء النور تجاه أعمال الظلمة (5: 11-13)

 -ا- الموقف: (1) سلباً: "لا تشتركوا" (5: 11(ا) )

 (2) إيجاباً: "بل وبخوا" (5: 11(ب) )

 -ب- الباعث: (1) لأن الأمور الحادثة سراً...قبيح (5: 12)

 -ج- تأثير النور على الظلام "لأن الكل إذا توبخ يظهر..." (5: 13)

 كلمة ختامية: معدن النور الذي يجابه الظلام- نور المسيح (5: 14)

----------------

قال القديس برنارد: "الهزل بين أهل العالم، يحسب مزاحاً. لكنه بين المؤمنين يحسب تجديفاً".

وقيل عن جونسون الأديب الكبير إنه كان يوماً مع أحد رفاقه فسمع على مقربة منه جماعة من خدام الذين يمزحون ويهزلون آملين أنهم بمزاحهم يكسبون إعجاب ذلك الأديب الكبير، لكن الرجل التفت إلى زميله وقال: "إن مزاح هؤلاء الخدام من أكثر العثرات لي في الحياة".

موقف أهل النور تجاه الظلام وأعوانه

(5: 6-14)

ركّز الرسول في هذه الأعداد، الأوامر والنواهي التي ذكرها في الأعداد السابقة

(5: 1-5)، مفرغاً إياها في قالب مجازي عن النور والظلام، أو بعبارة أخرى: عن موقف أبناء النور تجاه الظلام وأعوانه. وعلى هذا الاعتبار نقسم هذا الفصل إلى ثلاثة أقسام رئيسية:

 أولاً: موقف أبناء النور تجاه أهل الظلام (5: 6-8 (ا) )

 ثانياً: موقف أبناء النور إزاء دعوتهم هم (5: 8 (ب)-10)

 ثالثاً: موقف أبناء النور تجاه أعمال الظلمة (5: 11-14)

 أولاً: موقف أبناء النور تجاه أهل الظلام (5: 6-8 (ا) )

 أوضح الرسول موقف أبناء النور تجاه أهل الظلام في عبارتين سلبيّتين، معقباً على كل منهما بباعث خاص. فهو إذاً موقف مزدوج.

 عدد6 (1):

6لاَ يَغُرَّكُمْ أَحَدٌ بِكَلاَمٍ بَاطِلٍ، لأَنَّهُ بِسَبَبِ هَذِهِ الأُمُورِ يَأْتِي غَضَبُ اللهِ عَلَى أَبْنَاءِ الْمَعْصِيَةِ. الجانب الأول من هذا الموقف: عدم الاغترار بالكلام الباطل الذي يذيعه أهل الظلام: "لا يغركم أحد بكلام باطل". كانت أفسس في ذلك العصر مرتعاً للآراء الفلسفية ووكراً للشيع الدينية المتباينة- بينها شيعة الغنوسيّين التي كانت تذيع تعاليم سفسطة، مفادها أن الحياة العملية مستقلة تمام الاستقلال عن الحياة النفسية فيحق للمرء، والحالة هذه، أن يتصرف كما يحلو له في دائرة الجسد، من غير أن يؤثر هذا التصرف الأدبي في موقفه الروحي- فيشاطر أهل الظلام تصرفاتهم، ويشاطر أبناء النور عقيدتهم، فيصبح من أبناء الله في النهاية، ويمسي مع أبناء بليعال في الظلام. هذا هو "الكلام الباطل" الذي كانت تذيعه تلك الفئة العجيبة محاولة أن تستميل به بسطاء العقول، ضعاف الإيمان. هذا هو الكلام الملق، المعسول، الخادع الغدار، الذي يفيض لطفاً، وحقاً، وصلاحاً- في ظاهره، ويضمر القسوة والبطل والمفاسد في باطنه هذا هو الكذب الملبس بالصدق، والباطل المقنّع بالحق، والسمّ المختفي في الدسم. وإن وجدت في الباطل دركات، فإن أحطها ذلك الدرك الذي يهوى إليه الإنسان فيخفي خنجره بين باقة الرياحين، ويدس سهامه الملتهبة بين كؤوس الورود. وشر الأعداء من استعار وجه الصديق!!

 "بكلام باطل"- استعمل الرسول هذه العبارة عينها في كولوسي2: 18 وصفاً للحجج الكفرية التي تقود إلى الإلحاد، وهي مبرقعة ببرقع التواضع.

 ولعل الرسول أشار في رسالة سابقة إلى هذا "الكلام الباطل" الذي أفرغ في ذلك القالب المأثور: "الجوف للأطعمة والأطعمة للجوف" (1 كورنثوس6: 12).

-ا- الباعث على هذا الموقف- وقوع غضب الله على أبناء المعصية "بسبب هذه... يأتي غضب الله". تتجلى هذه الكلمات عن ثلاث حقائق:

 (1) علة العقاب: "بسبب هذه الأمور"- أعني بسبب تلك الخطايا الصادرة عن الجسد، المذكورة في العدد الخامس. فهي ليست معفاة من العقاب كما ظنت شيعة الغنوسيين باطلاً. لكنها تجلب غضب الله على أبناء المعصية. ويظن بعضهم أن "هذه الأمور"، هي الكلام الباطل، لكن الأول هو الأصوب.

(2) أهل العقاب: "أبناء المعصية". هذه هي المرة الثانية التي تصادفنا فيها هذه العبارة في هذه الرسالة- فتصدمنا. فقد سبقنا والتقينا بها في العدد الثاني من الإصحاح الثاني، فاطلب تفسيرها هناك.

(3) ماهية العقاب: "يأتي غضب اللهط في تلك المناسبة السابقة (2: 3.2) أشار الرسول إلى عقب أبناء المعصية بكلمة مركزة: "وكنا بالطبيعة أبناء الغضب". فاطلب تفسيرها في موضعها.

ويكفي أن نذكر هنا أن هذا الغضب ليس ناتجاً عن حقد شخصي موجه إلى الأشرار من قبل الله جل وعلا- تعالى الله عن ذلك علواً عظيماً! لكنه غضب عقابي منشأه عدم رضاه تعالى عن تصرفاتهم، على رغم كونه يحب أشخاصهم، لكنهم جعلوا أنفسهم مستحقين لهذا العقاب برفضهم كفارة المسيح، فصاروا أهلاً للغضب- بل من أبنائه.

 إنه عقاب منصبّ عليهم في العالم الحاضر (رومية1: 27). وهو لهم بالمرصاد في العالم العتيد (رؤيا21: 8). ونسبة الغضب الحاضر إلى الغضب العتيد، كنسبة الزهرة إلى الثمرة أو كنسبة العربون إلى الثمن الكامل. أو كنسبة النعمة إلى المجد- مع الفارق!!

 عدد7 :

7فَلاَ تَكُونُوا شُرَكَاءَهُمْ.

(2) الجانب الثاني من الموقف: "فلا تكونوا شركاءهم"- أي لا تكونوا شركاءهم في تصرفاتهم لئلا تصبحوا شركاءهم في عقابهم. إن في هذا تذكيراً لطيفاً للمؤمنين من أهل أفسس، بعيشتهم السالفة التي كانوا عليها قبل إيمانهم بالمسيح، وحضاً قوياً لهم على الاتجاه إلى الأمام في مسلكهم، وتحذيراً فعالاً ضد الارتداد إلى الوراء.

 وغير خاف أن المشاركة تتخذ مظاهر كثيرة وإن توحّدت في جوهرها فقد تتخذ المشاركة شكل التضامن التام سراً وجهراً. وقد تتخفى فتكتفي بالتحريض من وراء الستار وقد تقنع بمجرد المصادقة القلبية وابتسامات الرضى، ترسل عن بعد. هذا في الواقع أشر أنواع المشاركة. وهو ما ختم به الرسول قائمة الشرور التي اسودّت بها "غرة" رسالته إلى رومية: "الذين إذ عرفوا حكم الله أن الذين يعملون مثل هذه يستوجبون الموت، لا يفعلونها فقط بل أيضاً يسرّون بالذين يفعلون (رومية1: 32).

 عدد8 :

8لأَنَّكُمْ كُنْتُمْ قَبْلاً ظُلْمَةً وَأَمَّا الآنَ فَنُورٌ فِي الرَّبِّ. اسْلُكُوا كَأَوْلاَدِ نُورٍ

ثانياً: موقف أبناء النور إزاء دعوتهم- في الماضي، والحاضر، والمستقبل (5: 8)

 مرة أخرى أوقف بولس أهل كنيسة أفسس بين ماض محمّل بالآثام ومثقّل بالأوزار، وحاضر يشعّ منه نور الأنوار، ومستقبل مفعم برجاء الظفر والانتصار: "لأنكم كنتم قبلاً..." هذا موقفهم الماضي. "وأما الآن فنور في الرب"- هذا موقفهم الحاضر. "اسلكوا كأولاد نور"- هذا مسلكهم في المستقبل.

 موقف في الماضي والحاضر: "كنتم قبلاً ظلمة...أما الآن فنور". هذا خير باعث يفصّل المكتوب إليهم عن ماضيهم الذي كان ظلاماً في ظلام، وعن حاضرهم الذي هو نور في نور. فهو شبيه بسيف ذي حدين- حده الأول يقطع الطريق من خلفهم كيلا يرجعوا إلى الوراء، ويقطع أمامهم الأشواك والمعاثر التي تعترض طريقهم في المستقبل.

 "كنتم ظلمة...وأما الآن فنور"- هذه تعبيرات قوية مركزة، فلم يقل الرسول: "كنتم سالكين في الظلمة"،بل: "كنتم ظلمة" أي أنهم كانوا "الظلمة مجسّمة". ولم يقل: "وأما الآن فأنتم في النور"، ولا"أنتم تابعون للنور"، بل: "وأما الآن فنور".

 وغير خاف أن الرسول وصفهم في ماضيهم وصفاً مطلقاً: فقال"كنتم ظلمة"- أي أنهم كانوا في أنفسهم ظلاماً في ظلام. لكنه حين أراد أن يصفهم في حاضرهم خلع عليهم وصفاً نسبياً، قائلاً: "وأما الآن فنور في الرب". أي أنهم ليسوا نوراً في أنفسهم، لكنهم"نور في الرب". فالظلام منّا وفينا، ولكن النور من الرب. أن نور المؤمنين ليس نور الشمس بل نور القمر، هو نور اكتسابي لا ذاتي. فإذا كان المسيح قد قال للتلاميذ: "أنتم نور العالم". فالإنسان يستنير أولاً ثم ينير. مثله مثل قطعة من حديد يجتذبها المغناطيس، فيكسبها قوة مغناطيسية تجذب إليها سائر المعدن.

 موقفهم في مستقبلهم: "اسلكوا كأولاد نور" أن مستقبلهم مشتقّ من حاضرهم، كما تشتق الزهرة من البزة، والثمرة من الزهرة. فالحياة الروحية أساس السلوك العملي. والسلوك العملي مترجم عن الحياة الروحية.

 إن قول الرسول: "اسلكوا كأولاد نور"، يذكرنا بكلام المسيح: "النور معكم زماناً قليلاً بعد. فسيروا في النور ما دام لكم النور لئلا يدرككم الظلام...ما دام لكم النور آمنوا بالنور لتصيروا أبناء النور" (يو12: 25و26) وبمقابلة هذين القولين معاً، يتضح لنا، أنهما يصفان وجهين متكاملين لحقيقة واحدة. فكلام المسيح يرينا أن الطاعة العملية هي السبيل إلى الشركة مع اله،وكلام الرسول يعرفنا أن السلوك العملي هو برهان صحة شركتنا مع الله.

 إن"أولاد النور" هم الذين يسلكون في النور مبتهجين فرحين، لأنهم في الجوّ الذي يناسب طبيعتهم، وفي البيئة التي تنمي ملكاتهم، وفي الوطن الروحي الذي يغذّي حياتهم. فيدخلون ويخرجون بكل حرية وسلام. فلا النور يؤذي عيونهم الرمداء، ولا هو يزعج ضمائرهم العوجاء.

 "النور" هنا، تعبير مجازيّ يكنى به عن الشركة مع الله الذي هو النور- نور الحياة ونور الخلود فأبناء النور هم أبناء الله الذين صاروا بالميلاد الثاني"شركاء الطبيعة الإلهية" (2بطرس1: 4، 1تسالونيكي5: 4).

 وقد لاحظ الأسقف وستكوت أن الكلمة المترجمة"أولاد" نور، نادرة الورود في العهد الجديد، وقد وردت فيه بصيغة الجمع فقط (لو7: 35و 1بطرس1: 14وغلاطية4: 28ورومية9: 8).

 عدد9:

9لأَنَّ ثَمَرَ الرُّوحِ هُوَ فِي كُلِّ صَلاَحٍ وَبِرٍّ وَحَقٍّ.

 –ب- ثمر النور: "لأن ثمر النور هو في كل صلاح، وبر، وحق". الكلمة المترجمة: "الروح" وردت في أغلب النسخ: "النور". وهذه تتمشى مع سياق الكلام في هذا الفصل. لأن الرسول تكلم في العدد السابق عن طبيعة المؤمن المتجدد. فقال إنها: "نور"، فمن الطبيعي أن يبين لهم ثمر هذا النور بسلوكهم العملي في جدة الحياة. وقد شبه الرسول هذا النور بشجرة حية مثمرة،ولعله اقتبس هذه الاستعارة من المزامير: "نور قد زرع للصديق" (مزمور97: 11). والفكرة التي ينطوي عليها قول الرسول في هذا العدد، هي أن النور الداخلي لا يلبث أن تشع أنواره فتظهر في الحياة العملية وإلا فهو نور صناعيّ رائف. لأن بزرة النور متى زرعت في القلب، لا بد أنها تثمر ثماراً تنبثق منها انبثاقاً طبيعياً. وهي ليست ثماراً على وتيرة واحدة، لكنها تتجلى في كل نواحي حياة الإنسان الشخصية، والاجتماعية، والروحية: "في كل صلاح وبر وحق".

 "فالصلاح" يشير إلى صفات الإنسان الشخصية (رومية5: 7 (ا))

 "والبر" يعيّن صلة الإنسان في معاملاته مع الآخرين (رومية5: 7 (ب))

 "والحق" يشير إلى مبدأ حياة الإنسان في صلته بالله (يوحنا14: 6)

 هذا هو مثلث الحياة الكاملة، الذي يتجلى فيه ثمر نور الطبيعة الجديدة.

 الكلمة المترجمة: "صلاح" وردت أيضاً في رومية15: 14وغلاطية5: 22،2تسالونيكي1: 11، وهي في معناها الأصلي مضادة لكل رزيلة، كأنها الفضيلة مجسّمة. ف"الصالح" بهذا المعنى هو"الفاضل" حقاً وفعلاً، لا لقباً وقولاً.ويعتقد يوحنا الذهبي الفم أنها مضادة للغضب. لكنها أوسع من ذلك وأعم.

 ولا يبرح ذهننا أن الرسول، في كلامه عن ثمر الحياة الجديدة، استعمل كلمة المفرد: "ثمر" لا الجمع: "ثمار"، لأن الحياة الروحية وحدة كاملة لا تتجزأ، فمن الواجب أن يظهر ثمرها في كل مناحي الحياة، من غير إفراط ولا تفريط في إحدى نواحيها (غلاطية5: 22و23).

 والكلمة المترجمة: "بر" وردت أيضاً في 4: 24وتيطس2: 12- وهي تعني المحافظة على حقوق الآخرين، كعنصر لازم لحفظ الشريعة الإلهية.

 والكلمة المترجمة: "حق" تعني الجوهر الحقيقي المضاد لكل مظهر خادع والمنافي لكل صفة زائفة، وادعاء باطل.

 يميل الدكتور ديفدسمث إلى تفسير هذا العدد على هذه الصورة: "لأن ثمر النور ينمو في تربة الصلاح والبروالحق". والفرق بين قوله وبين ما ذهبنا إليه، ليس ببعيد.

اختبار مرضاة الله

 عدد10:

10مُخْتَبِرِينَ مَا هُوَ مَرْضِيٌّ عِنْدَ الرَّبِّ.

-ج- الباعث على السلوك في النور- اختبار مرضاة الله: "ومختبرين ما هو مرضي عند الرب".

 إن كلام الرسول في هذا العدد متمم لقوله في العدد الثامن، على اعتبار أن العدد التاسع جملة تفسيرية. على هذا الاعتبار، يتمشى سياق الكلام على هذا النمط: " اسلكوا في النور...مختبرين ما هو مرضي عند الرب". فبعد أن يسمع المرء كلام الرسول القائل: "اسلكوا كأولاد نور" يقف متسائلاً: "ولكن ما هو المحك الذي به نميز بين النور والظلام؟ فيأتيه الجواب من ثنايا هذا العدد العاشر: "مختبرين ما هو عند الرب". فمرضاة الله هي "حجر المحك" الذي به نميز النور من الظلام. وليس بغريب أن تكون هذه الإرادة القدسية "حجر محك" وهي التي نقشت أولاً باصبع الله على لوحين من "حجر"!!. ثم أعلنت لنا بصورة ملموسة في المسيح المتجسد الذي قيل فيه : "هاأنذا أؤسس في صهيون حجراً- حجر امتحان" (إشعياء 28: 16).

وقد وردت الكلمة عينها : "مختبرين" في رومية(1:28) فترجمت "استحسنوا"،وفي رومية ( 12: 2 ) وفي عبارة موازية لهذه "لتخبروا ما هي إرادة الله الصالحة المرضية الكاملة".

 وربّ سائل: ولكن كيف نميز بين ما هو مرضي عند الرب وما هو غير مرضيّ؟

الجواب في العدد الثامن : "اسلكوا في النور... فتختبروا ما هو مرضي عند الرب" فكأن السلوك في النور، واختبار مرضاة الله، يتبادلان التأثير والتأثر، والفاعلية والمفعولة. فإرادة الله تميز النور من الظلام، والسلوك في النور يميز بين ما هو مرضي لدى الرب، وما هو غير مرضي.

 فعلينا أن نحرص، في سلوكنا، على اختيار السبيل الذي يجلب علينا رضي الله. هذا هو الرضي الذي يميزه ويتذوقه الضمير المستنير المتجدد. فهو ابتسامة الله يرسلها إلى المؤمن فتخترق حجب الظلام وتنزل على نفسه الواهنة، كقطر الندى الذي ينعش الزهور الذابلة، أو كأشعة الشمس المرسلة على أكمام الأزهار المتفتحة، فتحييّها وتنعشها وتحييها: "نعماً أيها العبد الصالح والأمين".

 إن كل خطوة في الحياة الروحية العملية تطلب عناية خاصة وتدقيقاً فائقاً، إذ لا يمكننا أن نخلي أنفسنا من مسؤولية الدينونة على كل فعل نأتيه. فمن الواجب أن نستخدم ما وهبنا الله من ذوق روحي لنختبر ما هو مرضي عند الرب، موقنين أن حكم"الرب" يسوع هو حكم الله نفسه.

 وقد وردت كلمة "مرضي" في العهد الجديد وصفاً للأشخاص العاقلين في 2كو5: 9ورومية14: 18وتيطس2: 9"ونعتاً للأشياء" غير العاقلة في فيلبي4: 18ورومية12: 2.1وكولوسي3: 20وعبرانيين13: 21.

أبناء النور وأعمال الظلمة

(5: 11-13)

 -ا- الموقف: "ولا تشتركوا في أعمال الظلمة...بل وبخوها" (5: 11):

11وَلاَ تَشْتَرِكُوا فِي أَعْمَالِ الظُّلْمَةِ غَيْرِ الْمُثْمِرَةِ بَلْ بِالْحَرِيِّ وَبِّخُوهَا

هذا موقف ذو جانبين: أحدهما-سلبي: "لاتشتركوا..."

 والثاني-إيجابي: "بل...وبخوها"

الجانب السلبي: "لا تشتركوا...". تنطوي هذه العبارة على حقيقتين:

الحقيقة الأولى: ماهية موقفنا: "لا تشتركوا...ط. وردت هذه الكلمة في فيلبي4: 14ورؤيا18: 4وأفسس5: 3- وهي تعني الصلة الشخصية الخفية أكثر منها الصلة الخارجية الظاهرة لدى العيون. فكثيرون يشتركون في الجوهر لكنهم يتهربون من المظهر. كثيرون يشتركون في المؤامرة ويختفون وقت المظاهرة. لكنها شركة على كل حال، والمتآمر شرّ من المنفّذ.

 هين علينا أن لا نشترك في أعمال الظلمة غير المثمرة، متى ذكرنا أننا صرنا شركاء المسيح الذي قد اشترك وإيانا" في اللحم والدم" (عب2: 14)

 الحقيقة الثانية: ماهية الأشياء التي نقف منها هذا الموقف: "أعمال الظلمة غير المثمرة" في رسالة معاصرة لهذه، تكلم الرسول عن"أعمال الجسد وثمر الروح" (غلاطية5: 19-24). وفي هذه الرسالة تكلم عن"ثمر النور وأعمال الظلمة" (أفسس5: 9-11). والمستفاد من هذين الفصلين مجتمعين معاً أن الروح والنور لهما ثمر، لكن الجسد والظلمة لهما أعمال، لأن الروح حي وكذلك النور، ولا بد للحي من ثمر. لكن الجسد ميت، أو هو حي في عالم الموت- وكذلك الظلمة- والميت عديم الثمر. نعم أن للجسد والظلمة أعمالاً، لكنها أعمال غير مثمرة. وأن لهما آمالاً لكنها خلابة كالسراب. فهي كشجرة مورقة لكنها بغير ثمر. وكسحب خريفية، بغير مطر. فمع أن لأعمال الظلمة عواقب خطيرة، بل أخطر العواقب، إلا أنها أعمال غير مثمرة، لأنها تعد الشرير بالخيرات الكثيرة، وفي النهاية لا يحصد سوى الريح! فعخان نال الرداء الشنعاري، لكنه نال معه قبراً، فلم يتمتع بالرداء. لأن ظلمة القبر صيرته له كفناً، لا رداء. فأعمال الظلمة إذاً غير مثمرة في عرف الإصلاح والبناء، لأنها شريرة هادمة. لا حساب لها في سجل أعمال الصلاح الخالدة، لأنها ضارة لا نفع فيها.

 الجانب الإيجابي: "بل بالحري وبخوها". ليس واجب المسيحي مقصوراً على نيل النور والتمتع به، بل عليه أن ينشر النور، لكونه هو نوراً لأن النور من طبعه أن ينتشر، فلا يكفيه أن لا يشترك في الشر، بل عليه أن يوبخه، بأن يكشف القناع عنه، فيبرزه في حقيقته، مجرداً إياه عن ثوب الرياء، ورداء الادعاء. لا بروح التشفي والانتقام، بل بروح الإصلاح، لأن التستر على الجريمة، هو اشتراك في الجريمة عينها. (متى18: 15ويوحنا3: 20و16: 1.8وكورنثوس14: 24).

 عدد12:

12لأَنَّ الأُمُورَ الْحَادِثَةَ مِنْهُمْ سِرّاً ذِكْرُهَا أَيْضاً قَبِيحٌ.

-ب- الباعث على هذا الموقف: "لأن الأمور الحادثة منهم سراً ذكرها أيضاً قبيح". هذا تحوًط ضد الاسترسال في وصف خطايا الآخرين، والتمادي في تعقبها، والتعقب عليها. لأن الإفراط في هذا الباب يوقعنا في خطية التلذذ بذكر هذه الخطايا، التي يعتبر ذكرها أيضاً قبيحاً، فلا داع لذكرها ولو بأسمائها.

 ومتى ذكرنا أن الأربعة الأعداد (8-11) جمل تفسيرية، وأن كلام الرسول في عدد12 مكمل لكلامه في عدد7، تحقق لدينا"إن الأمور الحادثة منهم سراً" هي نفس تلك "الأمور التي بسببها يأتي غضب الله على أبناء المعصية".

 عدد13:

13وَلَكِنَّ الْكُلَّ إِذَا تَوَبَّخَ يُظْهَرُ بِالنُّورِ. لأَنَّ كُلَّ مَا أُظْهِرَ فَهُوَ نُورٌ.

-ج- تأثير النور على الظلام: "الكل إذا توبخ يظهر بالنور. لأن كل ما أظهر فهو نور". إن للنور تأثيراً مثلثاً على الظلام:

(1) النور طارد للظلام. فمتى انكشف الظلام من مخابئه أمام أشعة النور، طار أمامه وتلاشى. وكذلك فمتى أظهرت تلك الأمور الحادثة منهم سراً، وأخرجت من "أوجرتها"، ولّت الأدبار أمام قوة الصلاح، كما يولي الظلام مدبراً أمام النور.

(2) النور مشجع للنور الضئيل الذي يتخلله الظلام: فهو يحقّ الحق ويرهق الباطل. وغير خاف أن رذائل كثيرة كانت فضائل فمسخت بالإفراط أو التفريط. فالكبرياء هي عزة نفس زادت عن حدها. والشئ متى زاد عن حده انقلب إلى ضده. والبخل هو اقتصاد مسخ شحاً. والنذير كرم أفرط فيه. والمحبة النجسة محبة مشروعة تعدت حدودها، وتجاوزت حقوقها. فمتى سلط النور على الأعمال المشتبه في أمرها، فحصها ومحصها وحللها إلى عناصرها، وأظهر منها ما هو صالح للبقاء في حضرة النور، وطرد منها كل ما هو شرير فالشر يطير، والخير يظهر"وكل ما أظهر فهو نور" (يوحنا3: 20).

(3) النور يحوّل الظلام إلى نور. هذا ما تفعله الشمس بأشعتها النورانية الشافية. ولطالما تحدث راسكن وغيره من رجال الفن عن هذه الأشعة المجيدة وعن فعلها الممتاز في تحويل فضلات الأرض، ونفاية المستنقعات إلى معجزات في عالم الفن والجمال والإبداع. وما أكبر دين البحر الميت لهذه الأشعة السحرية، التي حولت فقره المدقع إلى غنى جزيل، وخلقت من مخلفاته الآسنة، عقاقير للشفاء هذا معنى كلمة"أظهر"-أي"تجلى"و"استنار". فكل من يستنير لا يلبث أن ينير. وكل من يستضئ لا بد أن يضئ.

النور قوة مظهرة لأنه قوة مطهرة، فلا يجسر على البقاء أمامه، إلا ما كان مثله نوراً.

 عدد14 :

14لِذَلِكَ يَقُولُ: «اسْتَيْقِظْ أَيُّهَا النَّائِمُ وَقُمْ مِنَ الأَمْوَاتِ فَيُضِيءَ لَكَ الْمَسِيحُ».

معدن النور الذي يجابه الظلام- نور المسيح: "لذلك يقول...". تكلم الرسول في الأعداد السابقة عن تأثير النور على الظلام، فكان من الطبيعي أن يدلنا على معدن هذا النور، إن معدنه هو المسيح، بدليل القول: "استيقظ أيها النائم وقم من الأموات فيضئ لك المسيح".[1]

 ولكن من هو هذا "القائل"؟ يعتقد بعض المفسرين- سيما المعاصرين- أن هذا الاقتباس شطر من ترنيمة كانت معروفة بين المسيحيين الأولين، يرنمونها وقت العماد، وهي مجانسة لقول الرسول نفسه في 1تيمو 3: 16. ولعلها نظم لقول المسيح الوارد في يوحنا 5: 25. ويقول أصحاب هذا الرأي إن ما ذكره الرسول عن "الترانيم الروحية" في الأعداد التالية يؤيد ما ذهبوا إليه" أن هذا الاقتباس شطر من ترنيمة ويعتقد توما الأكويني أن الرسول اقتبس ذلك النداء البليغ من أشعياء60: 1"قومي استنيري لأنه قد جاء نورك". ويقول ايرونيموس إن بولس فاه بهذا النداء بوحي من الروح مباشرة. ف"القائل" هنا هو الروح القدس الناطق بالأنبياء.

 ويظن الدكتور كاي أن لآلئ هذا الاقتباس ليست مأخوذة من مصدر واحد في الكتاب، بل من مصادر كثيرة: أشعياء60: 1وأشعياء51: 17 وأشعياء51: 2.1.

 كان الغير المؤمنين في أفسس، سالكين في عالم الموت الروحي- وكله ظلام في ظلام. لكن الفادي أشرق عليهم بروحه الأقدس ليهبهم حياة ونوراً، فما عليهم إلا أن يستيقظوا من نوم الموت ليتمتعوا بالحياة ويستقبلوا النور، عندئذ يستنيرون وينيرون.

 أما الرب المتنبئ عنه أشعياء في قوله: "مجد الرب"، فهو المسيح الذي نسب إليه الرسول هذه القوة الحية المحيية. هذا هو المسيح الذي رآه أشعياء في رؤياه التاريخية ( إشعياء6: 1، ويوحنا 22: 41).

 ويقول ايدرشيم إن الرسول يشير هنا إلى نداء للتوبة كان اليهود يذيعونه بالأبواق في عيد المظال. ولكن هذا لا يخالف الرأي القائل أن النداء مشتقّ أصلاً من نبوات إشعياء.

------------------

2-ويقول تشندروف إنه قرأ عبارة في كنايات يوحنا الدمشقي مؤداها: "لقد تسلمنا من السلف الصالح هذا النداء الذي يذيعه بوق رئيس الملائكة لأولئك الذين رقدوا منذ بدء الخليقة إلى الآن". ويحدثنا مصدر آخر عن ليرونيموس أنه سمع مرة واعظاً يتكلم عن هذه الآية في الكنيسة، وإذا أراد أن يبهت سامعيه بحال طريف، قال إن هذا الاقتباس وجه أولاً كخطب إلى آدم الذي دفن في الجلحنة- حسبما تخيل هو!- ولذلك سمى ذلك المكان"جمجمة" نسبة إلى جمجمة الإنسان الأول الذي دفن فيه. ولما دقت الساعة ورفع المسيح على الصليب، فوق تلك البقعة عينها، عندئذ أطلق هذا النداء: "استيقظ يا آدم- يا أيها النائم- وقم من الأموات فيضئ لك المسيح"- وفي قراءة أخرى: "فيلمسك المسيح"- بدمه المنسكب فوق الجلجثة!!.

السلوك بحكمة لا بجهالة

(5:15- 21)

 في تلك البيئة الأسوية الوثنية، التي عاش فيها أهل أفسس، كلن من الصعب جداً على المسيحيين أن يعيشوا عيشة نقية صالحة. لكن لم يكن هذا من المستحيل فالصعب شيئ والمستحيل شيئ آخر. بل الصعب يصير ممكناً متى تسلح الإنسان بنيّة التدقيق والحذر. عدد15 :

15فَانْظُرُوا كَيْفَ تَسْلُكُونَ بِالتَّدْقِيقِ، لاَ كَجُهَلاَءَ بَلْ كَحُكَمَاءَ،

(1) حكمة التدقيق لا جهالة التفريط: " فانظروا كيف تسلكون..." في هذه الرسالة، فالمسيحي المستنير هو الرجل المفتوح العينين : "انظروا..." وهو الرجل المفتوح القلب: "لا كجهلاء بل كحكماء". فالحكيم يسلك بحذر كي يتقي الخطر، ولكن الجاهل يغمض عينيه عن كل النتائج فلا ينتبه إلا بعد وقوعه في مخالب الشر والحكيم الحقيقي لا يتخذ الحذر من الخطايا الكبرى وحدها، بل يوجه همه نحو اتقاء شر الخطايا الصغرى. فالثعالب التي تفسد الكروم، هي الثعالب الصغرى. فضلاً عن ذلك، فان الخطايا الكبرى ظاهرة، فيسهل على المرء أن يتقيها، لكن الخطايا الصغرى تتخفى بكل سهولة، وتستتر وراء أعمال صالحة- هنا موطن الضرر.

 إن قوله: "تسلكون بالتدقيق" يصور لنا إنساناً سائراً في بقعة منبثة فيها الأسلاك الشائكة، أو ربَان سفينة عليه أن يقود سفينته بين الصخور والألغام، فيتحتم على كل منهما أن يتسلح بنية الحذر، ليس فقط عند مناطق الخطر بل عند المناطق التي يظن فيها أنه في مأمن من كل خطر. فقد يقع الحكيم في خطية الغضب، وقد يسقط القديس في خطية النجاسة، وقد يجد الوديع نفسه "متلبساً" بخطية الكبرياء. فعلى كل من هو قائم بيننا، أن ينظر إلى نفسه لئلا يسقط هو أيضاً. ولعل قوله: " لا كجهلاء بل كحكماء" مأخوذ عن مثل العذارى الحكيمات اللواتي انتهزن الفرصة في حينها، بخلاف العذارى الجاهلات اللواتي ضاعت عليهن الفرصة، فضاعت معها الحياة. ورب فرصة هي فرصة الحياة بأسرها!

 عدد 16 :

16مُفْتَدِينَ الْوَقْتَ لأَنَّ الأَيَّامَ شِرِّيرَةٌ

(2) حكمة افتداء الوقت لا جهالة إضاعة الفرص (5: 16)

نبهنا الرسول في هذا العدد إلى أمرين:

 أولهما: واجبنا كحكماء- اغتنام الفرص: " مفتدين الوقت"- هذا تعبير مستعار من لغة التجارة، ويجوز أن يترجم إلى: " تكتسبون وقتاً". وهي تنطوي على معنى اقتناص الفرص

من يد عدو الخير. وفي هذا إشارة ضمنية إلى التضحية والحذر في سبيل كسب الوقت. لأن من أراد كسب شيء ما، فلا بد له من أن يخسر في غيره. ولن يتاح للإنسان أن يكسب الوقت إلا متى سلك بحذر وتدقيق، حتى يستطيع أن يفتدي الأيام الشريرة من قبضة الظلام ليجعلها خادمة للخير والنور، وأن يستخدمها خير استخدام.

 ثانيهما: الباعث: عسر الأيام: "لأن الأيام شريرة": إن كلمة شريرة يجوز أن تترجم إلى: "عسيرة". هذا مما يجعل فرص الكسب نادرة جداً، لأن سوق الفضيلة في كساد، وسوق الرذيلة في رواج، والعلم كله قد وضع في الشرير، والخطية ملازمة لهذه الأيام. وعدو الخير يريد اقتناص كل فرصة لمصلحته، فلا يرى باباً للخير مفتوحاً إلا ويسعى في إغلاقه. وإذا كان هذا مبلغ نشاط عدو الخير، فكم بالأولى يكون نشاط رجال الخير.

 غير أن قول الرسول: " الأيام شريرة" وإن انطبق بنوع خاص على عصر خاص-عصر كتابة الرسالة- فانه ينطبق بمعنى أعم على كل عصر ومصر.

 من بين نصائح الناز نيازى المأثورة: " إنه لمن أخطر الأمور أن نهمل أمراً ثم نحاول بعد ذلك أن نساوم الأيام كي تسترده".

 عدد17:

17مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ لاَ تَكُونُوا أَغْبِيَاءَ بَلْ فَاهِمِينَ مَا هِيَ مَشِيئَةُ الرَّبِّ.

 (3) حكمة الفهم لا غباوة عدم التمييز: " من أجل ذلك لا تكونوا أغبياء بل فاهمين ما هي مشيئة الرب".

 إن الحكماء المستنيرين بنور الله، يميزون علامات الأزمنة،ويذوقون كل ما هو مرضي لدى الرب، فيسهل عليهم أن يفهموا ما هي مشيئة الرب، أما الأغبياء، فان الأيام تتسرب من بين أيديهم كما يتسرب الماء من بين أيدي التماثيل الرخامية، وهي لا تحس ولا تشعر.

 وغير خافٍ أن كلام الرسول عن"الأيام الشريرة" ينصبُّ بنوع خاص على "الأزمنة الصعبة" التي تتجمع فيها كل قوات الشر، وتتركز في "كتيبة" واحدة لمهاجمة تدبير الله الحكيم الخير( 1 يوحنا2: 18 ومرقس13) فالحكماؤهم الذين يميزون إرادة الرب في الأيام العسيرة. فلتكن إذاً أعصابنا متنبهة. وعيوننا مفتوحة، ورؤوسنا مرفوعة، ووجوهنا ممتدة إلى قدام- كما لو كنا واقفين على أطارف الأقدام، لنميز كل علامة يلوح في الجو الروحي عن إرادة الرب في كل صغيرة وكبيرة، سيما عندما تتشعب المسالك وتتعقد المشكلات، وتسد نوافذ الرجاء. عندئذ يحلو لنا الانتظار بسكون طالبين أن يعلن الرب مشيئته.

 عدد 18:

18وَلاَ تَسْكَرُوا بِالْخَمْرِ الَّذِي فِيهِ الْخَلاَعَةُ، بَلِ امْتَلِئُوا بِالرُّوحِ،

 (4) حكمة الامتلاء بالروح لا جهالة سكر الخلاعة إن عسر الأيام قد يقود الجهلاء إلى أن"يغرقوا" همومهم في كؤوس الخمر، فينسوا متاعبهم ولو إلى حين. لكن هذه ليست وسيلة الحكماء في التغلب على متاعب الأيام الشريرة.

 غالباً هذه هي إحدى العادات التي لاحظها بولس على أهل تلك المقاطعة مدة إقامته بين ظهرانيهم- عادة السكر الذميمة، التي كنوا يتوسلون بها إلى رفع أنفسهم فوق مستوى ظروفهم الصعبة. وفي الوقت نفسه كانت الديانات القديمة تعلق أهمية كبرى على الحركات الانفعالية"والدروشة" المعبرة عن " انجذاب" النفس. ولقد كانوا يستعينون على هذه الانفعالات"بروح الخمر" الذي فيه الخلاعة. هذه طريقة شيطانية لإغراق الهموم، وللبلوغ إلى العالم" الروحاني". لكن الرسول أرانا"طريقاً أفضل في الامتلاء بالروح القدس. هذا هو الروح الذي إذا امتلأ به المؤمنون يوم الخمسين، رآهم العالم الخارجي كأنهم"سكارى". وشتان بين طريقهم وطريقه!!

 إن روح الخمر نجسة ومنجّسة، لكن الروح القدس، قدوس ومقدّس.إن روح الخمر مخربة هادمة، كما يدلنا المعنى الحرفي لكلمة "خلاعة" فهي تعني الخرب الذي لا يعمر. لكن الروح القدس محيي، ومجدد، وبان روح الخمر ترفع السكير لحظة، لتخفضه بعد حين إلى أسفل السافلين لكن الروح القدس يرفع المؤمن إلى أعلى عليين، إلى أبد الآبدين خلاعة روح الخمر غاية، لكن الامتلاء بالروح وسيلة لتمجيد الله. "لا تسكروا بالخمر... بل...امتلئوا بالروح". هذان: نهي وأمر، تفصل بينهما كلمة"بل". فهما متماثلان في القوة والسلطان. فإذا كان السكر بالخمر خطيّة، فإن عدم الامتلاء بالروح، خطيّة أيضاً. الأولى خطيّة غير المؤمن، والثانية خطيّة المؤمن، فكل مؤمن لا يمتلئ بالروح، يعتبر ببكوريته.

إن حرف الباء المتصل بكلمة"بالروح" يجوز أن يترجم إلى: "في الروح" فالروح هو الجو الذي فيه نحيا، وفيه نمتلئ، وفيه نخدم، فكما يوضع الإناء في الماء ليمتلئ، كذلك نكون نحن في الروح لنمتلئ. على أنه الامتلاء إلا بعد تفريغ، ولا امتلاء إلا بقدر التفريغ. فعلى قدر ما نفرغ من أنفسنا، وشرورنا، وبرّنا الذاتي، والأشياء المحبوبة لدينا، بهذا القدر عينه نمتلئ بالروح ولن يتاح لنا أن نمتلئ بالروح تماماً إلا بالطاعة الكاملة والإيمان الوطيد

جو الحياة الممتلئة بالروح

 (5: 19-21)

"مكلمين"..."شاكرين"..."خاضعين".

 في كلمات ثلاث عبر الرسول عن الجو الذي يجب أن يسود حياة الامتلاء بالروح

-ا- الفرح المتبادل: "مكلمين..." –ب- الشكر المسيحي: "شاكرين..." –ج- الخضوع المتبادل: "خاضعين".

 عدد19:

19مُكَلِّمِينَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً بِمَزَامِيرَ وَتَسَابِيحَ وَأَغَانِيَّ رُوحِيَّةٍ، مُتَرَنِّمِينَ وَمُرَتِّلِينَ فِي قُلُوبِكُمْ لِلرَّبِّ.

-ا- الفرح المتبادل: "مكلمين بعضكم بعضاً بمزامير....". إن الشعور الحي الراقي يرحب بكل فرصة شريفة ليعبّر بها عن وجوده وحقيقته. وإلا قضى عليه في مهده. ومن المهم أن نذكر أن روح الانقباض والعبوس ليس روح المسيح، بل روح العالم. لكن روح المسيح هو روح الانشراح، لأنه روح الظفر- والظافر فرح. ألم يقل بولس في رسالة معاصرة لهذه: "إن ثمر الروح..فرح؟" (غلاطية5: 22).

 شعر لوثير مرة بأن الشيطان يهاجمه بشدة، ففتح نافذة غرفته، وحدّق ببصره نحو السماء المتألقة بالنجوم من فوق، ثم التفت إلى الأحراش الكثيفة المظلمة من حوله، وأخيراً اتجه بقلبه وببصره إلى الله قائلاً: "يا إلهي! إني أرى السموات ثابتة وهي ليست ثابتة على أعمدة، لأنها قائمة بقوتك الضابطة الكل". ثم أغلق نافذة غرفته وترنم قائلا: "إن الشيطان متجهّم الوجه لأنه يكره الموسيقى التي يحبها الله. لأن الموسيقى نور، والشيطان ظلام"

 -ا- قيمة الفرح المتبادل: "مكلمين بعضكم بعضاً" إن أيام الابتهاج المقدس هي أيام الظفر. فأسوار أريحا سقطت بعد هتاف الظفر. والعلامة المميزة لخيام الصديقين هي "صوت الترنم والهتاف". والنهضات السياسية القوية قامت على الأناشيد الوطنية الحماسية. والانتعاشات الفعالة، كانت تغذيها الترنيمات المنعشة الشجية. وميلاد المسيح كان مصحوباً بترنيم جند السماء. وأمنيته لكنيسته هي: "ليكون فرحي كاملاً فيهم".و"فرح الرب هو قوتنا". (أعمال2: 41و 46، 5: 41، 8:8، 9:30، 4: 41).

 إن قوله : "مكلمين بعضكم بعضاً، ليس مقصوراً بالضرورة على اجتماعات المؤمنين للعبادة العامة، لكنه يتناول أيضاً اجتماعات المحبة والصفاء، التي كان يعقدها المؤمنون للسمر والإيناس، لتمكين روابط المودة والإخاء بين بعضهم البعض، وهي التي حلت محل أعيادهم الوثنية التي كانوا يبدونها قبلاً، فطلب إليه الرسول أنهم متى اجتمعوا لهذه الأغراض الشريفة، فليبدأ أحدهم بمزمور ويجاوبه الآخر بتسبيحة، فيرد عليهما الثالث بترنيمة روحية، فترتفع أصواتهم العبرة عن عواطفهم المتبادلة، في ذلك الجو الموسيقي البديع، وتتصاعد في الفضاء، فتتجاوب معها أصوات تسبيحات أرواح الأبرار المكملين في السماء، وتبلغ محضر الله القدوس الساكن وسط تسبيحات القديسين!!.

 -ب- أداة الفرح المتبادل: "بمزامير، وتسابيح، وأغاني روحية"

مزامير: هذه كلمة عبرية الأصل، من مصدر"زمر" وهي تعني الترتيل المصحوب بآلة موسيقية، كالمزمار وسائر الآلات الموسيقية – أمثال مزامير داود، وآساف، وسائر الترنيمات الموحى بها.

تسابيح: هذه تعني الترنيمة المرفوعة إلى الله حمداً وتسبيحاً وتمجيداً وهي قطعة مقتطفة من مزمور، أو منظومة من سائر أجزاء الموحى. والتسبيحة بنوع خاص موجهة إلى الله رأساً.

 أغاني روحية: هذه أناشيد معبرة عن قوة الإحساس الروحي الذي يملك على الإنسان مشاعره، عند امتلائه بالروح القدس، فيتدفق منه الكلام كما يتدفق الماء من النبع الفياض. وهي ليست بالضرورة وحياً.

"مترنمين ومرتلين في قلوبكم للرب"- هذه العبارة تصف طريقة التعبير عن الأغاني الروحية. فالمزامير والتسابيح ترنّم عادة بصوت مسموع، أما الأغاني الروحية التي هي تعبير عن الإحساس الشخصي، فمن المستحسن أن يترنم بها الإنسان في قلبه بصوت غير مسموع إلا لنفسه، وبعاطفة عميقة قلبية يقدرها الله وحده، لأن مآلها إلى الله وحده.

 ويجوز أن نعتبر هذه العبارة: "مترنمين ومرتلين في قلوبكم للرب"، وصفاً لتعير الإنسان عن شعوره الروحي الخاص، متى كان في عزل عن العالم الخارجي، أو فيما إذا كان موجوداً مع قوم لا يلذ لهم أن يشاطروه هذا الإحساس، فليترنّم في قلبه. ويكفيه مشجعاً أن الرب يرى ويسمع. لأن مآل ترنيمه- سواء أكان سراً أم جهرا ً- ليس للناس بل للرب. فالترنيم ليس مجرد لذة روحيّة شخصيّة،لكنه عبادة. وكما تكون الصلاة تارة جهريّة، وطوراً سريّة كذلك الترنيم: قد يكون تارة جهريّاً "مكلمين بعضكم بعضاً". وطوراً سريّاً: "مترنمين في قلوبكم للرب".

الشكر المسيحي

20شَاكِرِينَ كُلَّ حِينٍ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ فِي اسْمِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ، لِلَّهِ وَالآبِ.

"شاكرين كل حين" (عدد 20)

 (1)قيمة الشكر: إذا كان الترنيم خير معبِّر عن الفرح الذي يغمر القلب المتجدد، فإن الشكر من أظهر الأدلة على أن الإنسان مؤمن حقاً. لأن "الكافر" هو الإنسان الذي يلقي ستاراً من الجحود على نعم الله عليه، والمؤمن هو المرء الواثق بإلهه. الذي ينسب إليه تعالى كل النعم والخيرات

 الشكر موجود في دائرة الطبيعة. فالسحاب يأخذ مياهه من البحر عن طريق التبخر، ليروي بها القفر. لكنه يعبّر عن امتنانه للبحر، بكلمات شكر يرسلها إلى البحر في شكل قطرات المطر!

 والشكر من مزايا النفوس الشريفة الراقية. فالأمم المتبدية لا تعرف معنى الشكر، لأن كلمة "شكر" غير موجودة في معجم آدابها، حتى جاءت المسيحية وأدخلت هذه الكلمة على لغة تلك الأمم، بفضل ذبيحة المسيح الكفارية التي أصبح البشر مدينين لها بحياتهم. هذا هو المعنى الأساسي الذي ترمز إليه فريضة العشاء الرباني المعروفة ب"الإفخارستيا" –أي خدمة "الشكر". والشكر طابع خاص امتازت به حياة المسيح وخدمته. فأمام قبر لعازر وقف المسيح شاكراً، ولعازر لم يزل بعد ميتاً في قبره. وقبيل رفعه على الصليب "أخذ الكأس وشكر". فإذا كان فادينا قد شكر على الموت، أفلا نشكر نحن على الحياة؟. وإذا كان قد شكر هو على كأس الآلام، أفلا نشكر نحن على كأس الخلاص؟!

 (2)أوان الشكر: "كل حين". إن أوان الشكر هو أنه لا يعرف أواناً خاصاً، لأنه في كل أوان –"في وقت مناسب وغير مناسب". في السراء والضراء. نشكره في ظلمة الليل ولو كنا في السجن مع بولس وسيلا. ونحمده في نور النهار، ونحن نخدم في باحة العالم الفسيح الأرجاء.

 (3)موضوع الشكر: "على كل شيء". من واجبنا أن نشكر الله على أشواك الحياة، كما نشكره على ورودها. أن نحمده على دموع اليأس، كما على ابتسام الرجاء، أن نمجده على أوراق الخريف الصفراء، كما على أوراق الربيع الخضراء. أن نعظمه على البرية القاحلة، كما على الروض النضير. أن نحمد اسمه على الصلبان التي يرفعنا عليها، كما على التيجان التي ترفعها رؤوسنا. لأن كل هذه الأشياء لنا، لا علينا: "فإن كل شيء لكم. أبولس أم أبلّوس أم صفا أم العالم أم الحياة أم الموت أم الأشياء الحاضرة أم المستقبلة؟ كل شيء لكم" (1كو 3: 22). وفوق الكل، لنشكره على عطية المسيح، التي لا يعبر عنها!

 من واجبنا، لا بل من أفضل امتياز لنا، أن نشكر الله على كل شيء لأن ما يختاره لنا الله، خير مما نختاره نحن لأنفسنا. بل إن نقمة يختارها الله لنا –سبحانه لا يختار لنا النقمات- خير من نعمة نختارها نحن لأنفسنا. "وكم نعمة في نقمة طُويت فلم تفطن لها الأنام"

 نشكره "على كل شيء"، لأن أقل خير نناله منه، هو فوق استحقاقنا الطبيعي. لأننا لا نستحق منه إلا الموت، فأقل نصيب لنا في الحياة هو خير كسب. وهل من حق لمجرم مقضي عليه بالإعدام، أم يلوم ملكاً جاد عليه بالعفو، بحجة أن الملك لم يهبه مزرعةً واسعة ينعم فيها هو أولاده، بعد أن نجا من حكم الإعدام؟!

فلنشكره ما دام في عروقنا دم يجري، وفي قلوبنا نبض يدق، وفي أفواهنا لسان يستطيع أن يقول: "أشكرك أيها الآب"!

 (4)وسيط الشكر: "في اسم ربنا يسوع المسيح". "الإسم" هو الذات. فالشكر في اسم المسيح، هو الشكر الذي نرفعه إلى الآب ونحن متحدون بالمسيح، وثابتون فيه، وهو الثابت فينا، "في اسم ربنا يسوع المسيح"، بشر الرسل، و"في اسمه"، صنعوا المعجزات، و"في اسمه" يجب أن نقدم الشكر للآب. وكل شيء نعمله "في اسم المسيح" إنما نعمله بسلطانه، وقوة شفاعته، وحق كفارته، لأننا "في المسيح" وحده نستطيع أن نتقدم إلى الآب في روح واحد عن يقين وثقة. فالمسيح هو ضامن عهدنا، وهو رأس "الجسد" الذي صرنا فيه أعضاء.

 (5)المال النهائي للشكر: "لله والآب" –أي لله الذي أعلن لنا في المسيح، أنه أبونا السماوي. ولولا المسيح لغابت عنا هذه الحقيقة المجيدة، وحُرمنا هذا الحق الجليل. فهو وحده الذي علمنا بحياته، وموته، وقيامته، وصعوده، أن نقول "يا أبانا"!! بهذا وحده ينتفي الخوف، وتزول عنا رهبة العبيد، ونتوشح بدالة البنين الحقيقيين.

الخضوع المتبادل

21خَاضِعِينَ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ فِي خَوْفِ اللهِ.

"خاضعين..." (عدد 21)

 يميل كثير من المفسرين إلى اعتبار هذا العدد مطلع استهلال للفصل الآتي. ولكننا نعتقد أنه حلقة اتصال بين الفصل السابق، والفصل اللاحق. ما أشبهه بشهر يناير –ذي الوجهين- الذي يودع العام القديم، ويستقبل العام الجديد! فالخضوع ليس مجرد واجب مفروض على المرأة نحو الرجل، لكنه شارة جميلة يتحلى بها جميع المؤمنين فيما بينهم.

 حدثنا الرسول في هذا العدد عن حقيقتين:

 (1)نوع الخضوع –"خاضعين بعضكم لبعض" فهو إذاً خضوع متبادل، هو خضوع الندّ للندّ، لا خضوع العبد للسيد. هو خضوع العضو للعضو في الجسد الواحد، لأن روحاً واحداً يتحدهما معاً، وناموساً واحداً يربطهما –هو ناموس المحبة- والمحبة الحقة لا تتنافى مع النظام.

 قد يظن من يقرأ الأعداد السابقة التي تكلم فيها الرسول عن "المزامير والتسابيح والأغاني الروحية" أن حياة النهضة والانتعاش مناقضة للنظام والترتيب. لكن هذا خطأ كبير. لأن الحماس الروحي الحقيقي ليس خصماً للنظام، لكنه صديق له، فللكل أن يفرحوا. ولكن ضمن حدود اللياقة والترتيب. فالحرية الروحية مقترنة في كتابات بولس الرسول بالنظام الروحي وفي هذا الباب يجوز القول: "ما جمعه الله لا يفرقه إنسان" لأن إله الحرية هو إله النظام. ورسول الحرية هو رسول النظام. هذا ظاهر من كون الرسول قد استعمل كلمة: "اخضعوا" 23 مرة في رسائله. والنظام المطلوب هنا، هو نظام الخضوع المتبادل، إذ لا نظام بغير سلطان، ولا سلطان بغير خضوعٍ تام.

 هذا نظام مستمد من طبيعة الواقع. لأننا أعضاء في جسد حي واحد. فمهما عظم شأن أحد الأعضاء في الجسد، وكانت سائر الأعضاء خاضعة له، فإن عليه هو أيضاً واجباً نحو سائر الأعضاء فالعظيم خاضع للحقير إلى حدٍّ ما. والكبير مدين للصغير على نوعٍ ما. فليخضع بعضنا لبعض. لأن هذا هو ناموس المحبة.

 في الكنيسة الواحدة، تخضع الرعية للراعي، فتؤدي خضوعها في شكل ولاء. ويخضع الراعي للرعية، فيؤدي خضوعه في شكل وفاء.

 (2)روح الخضوع: خضوع في خوف الله: "في خوف الله".

إن الروح الذي يجب أن يسود هذا الخضوع، ليس خوف العقاب، ولا هو ابتغاء الثواب، بل هو خوف الله أبينا (عدد 20). فالعضو يخضع للعضو الآخر، لأنه يخشى أن تمرّده يجرح قلب الله المحب، "الذي سامحنا في المسيح" (4: 32). فكأن خضوع المؤمن لأخيه المؤمن –وأرواح الأنبياء خاضعة للأنبياء- هو عنصر لازم لتعبدنا لله. فإن كنا لا نحب أخانا الذي نراه فكيف نحب الله الذي لا نراه، وإذا كنا لا نخضع لأخينا في الرب، فكيف نظهر ولاءنا للرب نفسه!!؟

إن خوف الرب يسوع المسيح الذي سوف نقف أمامه لنعطي حساباً يوم الدين، هو خير باعث على الخضوع لمن يستحق الخضوع –أو لا يستحق- لأننا إنما نقدم بهذا الواجب إكرامنا للمسيح.

المسيحي في البيت

(5: 22 –6: 9)

ما أشبه حياة المؤمن بهيكل سليمان! في كل منهما دار خارجية، وقدس، وقدس أقداس. ففي الفصل الذي مرّ بنا (5: 1- 21)، تكلم الرسول عن موقف المؤمن إزاء العالم الخارجيّ، فأرانا إياه في الدار الخارجية من حياته –واقفاً تجاه الظلام الخارجي، موقف النور من الظلام، موبخاً ومنيراً. وفي الفصل الآتي (5: 22- 6: 9)، سنرى المؤمن في قدس حياته –في البيت. وفيما بعد (6: 10- 20)، سيرينا إياه في قدس أقداس حياته –في جهاده الروحي. وأكبر مجاهدة هي مجاهدة النفس!

وها قد أرانا الرسول ثلاث دوائر متماسة ضمن دائرة البيت: في الدائرة الأولى نرى الرجل في جانب، والمرأة في جانب آخر (5: 22- 23). وفي الدائرة الثانية نشهد الرجل والمرأة في جانب، والأولاد في جانب آخر (6: 1- 4). وفي الدائرة الثالثة نلحظ الرجل والمرأة والأولاد في جانب، والعبيد في جانب آخر (6: 5- 9).

وليس بخافٍ أن الرسول استمد من خاتمة الفصل السابق مطلع استهلال للفصل الذي نحن بصدده. فلقد اتخذ من ذلك المبدأ الجليل –الخضوع المتبادل- نبراساً وضعه أمام المؤمنين في حياتهم العامة والخاصة فهو الخيط القرمزي –والقرمز رمز التضحية- الذي يربط المؤمن بأخيه المؤمن، والزوجة بالزوج. والأولاد بالوالدين، والعبيد برب البيت (5: 21و 22، 6: 1و 5) وجدير بالاعتبار، أن الرسول لم يتكلم في هذه الفصول الممتعة عن الحقوق بل عن الواجبات. وفي كل فصل منها، ابتدأ بالواجبات المطلوبة من الجانب الأضعف –النساء (5: 22)، الأولاد (6: 1)، العبيد (6: 5).

النساء والرجال

(5: 23- 33)

إن صلة الأزواج بالزوجات، رمز لصلة المسيح بالكنيسة. وهاتان الصلتان –إحداهما في الدائرة الاجتماعية الظاهرة، والثانية في الدائرة الروحية السرية- كانتا ماثلتين لدى ذهن الرسول وهو يكتب هذا الفصل، ومنهما نسج بُردته، متخذاً من إحداهما السّدى ومن الأخرى اللحمة!!

أولاً: واجب المرأة -الخضوع (5: 22- 24)

-أ-ماهية هذا الواجب (5: 22 (أ))

-ب-الباعث على هذا الواجب (5: 22 (ب))

-ج-أساس هذا الواجب (5: 23)

-د-دائرة هذا الواجب (5: 24)

 ثانياً: واجب الرجل –المحبة (5: 25 - 27 )

 -أ-قياس هذه المحبة (5: 25- 27)

 -ب-أساس هذه المحبة (5: 28- 30)

 -ج-شدة هذه المحبة (5: 30و 31)

 كلمة مجملة: عن الصلة المتبادلة الكائنة بين المسيح والكنيسة (5: 32)

 كلمة مجملة: عن الصلة المتبادلة الكائنة بين الرجل والمرأة (5: 33)

عدد 22

22أَيُّهَا النِّسَاءُ اخْضَعْنَ لِرِجَالِكُنَّ كَمَا لِلرَّبِّ،

 واجب المرأة والباعث عليه: "أيها النساء اخضعن لرجالكن كما للرب". البيت هو ميزان الحرارة، الذي به تُقاس درجة تدين الإنسان. فكم من رجل يكون حملاً وديعاً في الخارج، ووحشاً مفترساً في البيت. فديانة هذا باطلة وقد يكون البيت أقدس هيكل على الأرض بعد هيكل العبادة، وقد يكون أنجس بقاع الأرض، وأنجس من السجون!!

 يقول يوحنا بنيان إنه رأى على مقربة من باب السماء باباً صغيراً يؤدي إلى الهاوية –ولعله باب البيت الذي يكون وكراً لأهل الرياء والادعاء.

 غير أنه من المسلم به لدى رجال الدين والاجتماع، أن محور البيت الحقيقي هو المرأة. فهي بلطفها وخضوعها، تستطيع أن تخلق منه خير نعيم، وهي بشدتها وعنادها تستطيع أن تخلق منه شر جحيم!!

 واجب المرأة نحو الرجل –ماهية هذا الواجب والباعث عليه:

 -أ-ماهية هذا الواجب: "اخضعن". من الخضوع المتبادل المذكور في العدد السابق، انتقل الرسول إلى الكلام عن خضوع المرأة للرجل. وهو ليس خضوع العبد للسيد –ولو أن المرأة الفاضلة تقتدي بسارة فتدعو بعلها سيدها- لكنه خضوع الألفة، والمودّة، والمحبة. ما أشبهه بخضوع العود الرطب للنسيم، فيتمايل معه في اتجاه واحد، بخلاف العود اليابس، الذي يقف في وجه الرياح فيتحطم.

 -ب-الباعث عليه: "كما للرب". ليس المراد بهذه العبارة أن تقدم المرأة للرجل نفس الخضوع المطلوب منها للرب، بل أن تخضع للرجل معتبرة أن هذا واجب يمليه عليها خضوعها للرب، سيما في الحالات التي يكون فيها الرجل غير أهل لهذا الخضوع، فتعتبر خضوعها لبعلها عنصراً مكملاً لولائها وطاعتها للرب. وإذا كان أعداء الإنجيل يضطهدون أبناء العليّ ويقتلونهم ظانين أنهم يقدّمون خدمةً لله (يوحنا 16: 1)، فكم بالحري يجب على السيدة المؤمنة أن تخضع لزوجها، وهي موقنة أنها بخضوعها هذا تقدم خدمة للرب!!

 على أن هذه العبارة: "كما للرب" وإن كانت تفرض على المرأة أن تطيع رجلها، إلا أنها تقيم حدود هذه الطاعة وتنظمها –أن تكون ضمن حدود وصايا الرب ومخافته. فليست المرأة المؤمنة مكلفة بأن تطيع بعلها في أمر يخالف إرادة الرب مخالفة صريحة. إذ يحق لها في هذه الحال أن تتسلح بهذه النية المقدسة "ينبغي أن يطاع الله أكثر من الناس" (أعمال 5: 29).

عدد 23 :

23لأَنَّ الرَّجُلَ هُوَ رَأْسُ الْمَرْأَةِ كَمَا أَنَّ الْمَسِيحَ أَيْضاً رَأْسُ الْكَنِيسَةِ، وَهُوَ مُخَلِّصُ الْجَسَدِ.

 أساس هذا الخضوع: "لأن الرجل هو رأس المرأة كما أن المسيح هو رأس الكنيسة وهو مخلص الجسد". في رسالة سابقة، أوضح الرسول هذا الباعث بكلمات مماثلة لهذه: "ولكن أريد أن تعلموا أن رأس كل رجل هو المسيح، وأما رأس المرأة فهو الرجل" (1كو 11: 3). في تلك الرسالة عرَّفنا الرسول أن السلطان الذي للرجل على المرأة، يترتب عليه خضوع من جانب الرجل للمسيح. ولكنه أرانا في هذه الرسالة أن المسيح هو رأس الكنيسة، لا باعتبار كونه متسلطاً عليها وكفى، بل باعتبار كونه نبع حياتها، وضابط كيانها، حارساً لكل أعضائها. فمن الطبيعي أن يكون الجسد خاضعاً للرأس الذي منه تنحدر كل القوى وَتنبَثُّ في الجسد وتنتشر فيه. فهو إذاً خضوع طبيعي منطقي، لا قهري تعسفي.

 كذلك خضوع المرأة للرجل، ليس "تقليداً" شرقياً تسربن عدواه في ذهن رسول شرقيّ، لكنه خضوع يوحي به الحق ويتطلبه المنطق، وينادي به الوحي المقدس الذي هبط على الرسول فأراق نوراً جديداً على هذه الرابطة الجليلة. بل هو خضوع يفرضه جمال أنوثة المرأة، وهو تاج الكمال الذي خلعته عليها العناية. وليس في الوجود أبغض على النفس من المرأة المتسلطة سوى رجل مطواع، الذي ينقاد لوحي المرأة انقياداً أعمى.

 هذه حقيقة يقررها الكتاب رغم ما يقال في بعض الأوساط العربية عن ميول ومحاولات ترمي إلى إبدال كلمة: "تخضع" بكلمة: "تواسي" أو: "تعتني" "فإلى الشريعة وإلى الشهادة وإن لم يقولوا مثل هذا القول فليس لهم فجر". هذا هو الخضوع الذي كانت تدين به فكتوريا الملكة لبعلها البرنس ألبرت فكانت تعتبره رأساً لها في البيت، على رغم كونها هي رأسه في المجتمع.

إن مفاد قوله: "وهو مخلص الجسد"، هو أن المسيح للكنيسة، كالرأس للجسد. ومن المسلم به، أن الرأس بما فيه من عقل مفكر، وعينين مبصرتين، وأذنين واعيتين، يحمي الجسد، ويقيه شر الصدمات، ويدبر ما يلزم لصيانته فيخلصه مما يصادفه من هجمات. فالطاعة المطلوبة من أعضاء الجسد نحو الرأس، إنما هي طاعة مستحقة على الجسد تلقاء عناية الرأس به واهتمامه بصالحه. فإذا كان الرأس يضحّي بالكثير في سبيل حفظ الجسد وتخليصه من المخاطر، فليس بكثير على الجسد أن يخضع للرأس. وإذا وجب على الرجل أن يحمي المرأة، حقَّ على المرأة أن تطيع الرجل.

 غير أن "الخلاص" الذي يقوم به الرأس الطبيعي نحو الجسد الطبيعي، لا يوازي فتيلاً أمام الخلاص العظيم الذي أكمله المسيح للكنيسة –لأجلها عاش، ومات، وقام، ولأجلها يحيا الآن مخلصا وشفيعاً (أفسس 5: 25- 27)

عدد 24 :

24وَلَكِنْ كَمَا تَخْضَعُ الْكَنِيسَةُ لِلْمَسِيحِ، كَذَلِكَ النِّسَاءُ لِرِجَالِهِنَّ فِي كُلِّ شَيْءٍ.

 منطقة خضوع المرأة للرجل: "في كل شيء".

 الحياة الزوجية وحدة لا تتجزأ. فليس للمرأة أن تخضع للرجل في ما يروقها، وتعصاه في ما لا يروق. بل عليها أن تخضع له في جميع الأشياء –صغيرها وكبيرها. ولا يفوتنا أن نذكر: أن الكلمة الأصلية المترجمة "تخضع" تحمل ضمناً، معنىً من معاني التطّوع الاختياري، الذي توحي به المحبة، وتوصي به الألفة. لأن المرأة مرتبطة بالرجل برباط المحبة، الذي يجمع نظيرين متساويين في قرانٍ ميمون –والقران من مصدر قَرَن- ومنه القرين أي الند المساوي والمعادل. فإذاً حق على المرأة أن تعترف أنها بسبب ضعفها الطبيعي تعجز عن القيام ببعض الأعمال التي يقوم بها الرجل بفضل ما أوتي من قوة، فمن الواجب على الرجل أن يعترف من جانبه، بأنه عاجز عن القيام ببعض الأعمال التي تقوى عليها المرأة بفضل ما أوتيت هي من صبر ورقة وحنوّ. فإذا كانت العناية قد أهلت الرجل لأن يقطع الأحجار، التي يُبنى منها الهيكل المسيحي، بقوة ساعديه، فقد وضعت على المرأة أن تصقل هذه الأحجار وتجمّلها.

 حدود منطقة خضوع المرأة: إن هذا ال"كل شيء" الذي تخضع فيه المرأة للرجل، محدودٌ بحكم صلة الرجل بالمرأة، فهو ليس ربها الأعلى، ولا هو سيدها الحاكم بأمره. فهي لم تُخلق من رجله لئلا يدوسها ولا من رأسه لئلا تسوده، بل من جنبه لتكون وإياه على قدم المساواة.

 ويقيناً أن جل النزاع الذي يفسد السعادة البيتية، ينشأ عن اهتمام كل من الجنسين بما له من حقوق، لا بما عليه من واجبات. وفي هذا يحلو القول: "اعكس تصب"! فلو اهتم كل فريق بما عليه من واجبات، وبما للآخر من حقوق، لأصبحت الأرض نعيماً مقيماً!!

عدد 25 :

25أَيُّهَا الرِّجَالُ، أَحِبُّوا نِسَاءَكُمْ كَمَا أَحَبَّ الْمَسِيحُ أَيْضاً الْكَنِيسَةَ وَأَسْلَمَ نَفْسَهُ لأَجْلِهَا،

 واجب الرجل نحو المرأة: "كذلك يجب على الرجال أن يحبوا نساءهم". إن الرابطة الكائنة بين الرجل والمرأة، قائمة على صلة متبادلة، فهي تفترض حقوقاً متبادلة، وواجبات متبادلة. فالخضوع من جانب المرأة، يجب أن تقابله المحبة من جانب الرجل. وفي هذا يقول يوحنا الذهبي الفم: "أرأيت أيها الرجل قياس الطاعة، فاسمع إذاً قياس المحبة؟!"

 قياس هذا الواجب: "كما أحب المسيح الكنيسة أيضاً وأسلم نفسه لأجلها". أرأيتَ أن الرسول جعل المسيح نصب عينيه في كل موضوع يطرقه؟ فالمسيح في نظره هو النبع الفياض الذي منه تتدفق كل النوايا الشريفة، وهو الغرض الأسمى الذي يتوّج كل الغايات النبيلة، وهو القوة الحية المحيية التي تدفع كل العوامل السامية. وإذا كان الرسول قد وجد في المسيح الدائرة المركزية لكل نواحي الحياة، فإن النقطة المركزية في المسيح، هي محبته الكفارية الفدائية المضحية. هذه هي المحبة الجيدة الفائقة، التي ملكت على الرسول كل مشاعره، وسلبت لبه، فبينما نراه قاصداً بحرها الطامي ليستقي منه، قطرات تروي غليله في موضوع محبة الرجل لزوجته، إذا به قد نسي نفسه وسبح في بحرها الطامي، فطرح الموضوع الذي أمامه جانباً، وأفاض في وصف هذه المحبة في: (أ)قياسها (عدد 25). (ب)غايتها (عدد 26و 27)

-أ-قياس حب المسيح للكنيسة: "كما أحبَّ المسيح أيضاً الكنيسة...". يتضح من كلمة "كما" أن محبة المسيح للكنيسة هي:

(1)علة حب الزوج لزوجته: لأن الرابطة القائمة بين الزوج والزوجة مشتقة من الرابطة القائمة بين المسيح والكنيسة، ومستمدة كيانها منها.

(2)دستور حب الزوج لزوجته: ليس هو حباً جسدياً مؤسساً على صلة كائنة بين جسد وجسد، لكنه حب روحي مؤسس على رابطة قدسية قائمة بين روح وروح، "والروح بالروح تتلاقى"، فالزواج الحقيقي هو تلك الجامعة الراقية التي ترتقي فيها نفس إلى نفس لتعانقها، ويسمو فيها قلب إلى قلب ليؤآخيه، فيكون الفؤاد للفؤاد مرآة أكثر صفاءً من الدرّ، وأغلى قيمة من الجوهر، وأبهى لمعاناً من ضياء البدر.

(3)قياس حب الزوج لزوجته: "أسلم نفسه لأجلها" –محبة حتى الموت. هذا قياس حب المسيح للكنيسة، وهو أيضاً قياس حب الزوج لزوجته. هذا قياس المحبة في عمقها، وعلوها، وقوتها –لا في طولها. فلا يكفي أن يحب الرجل امرأته حباً يمتد به إلى الموت، بل يجب عليه أن يحب امرأته حباً عالياً، عميقاً، قوياً، لدرجة فيها يسهل عليه أن يموت لأجلها. وهو أيضاً قياس للمحبة في طبيعتها –فهي محبة تنظر إلى ما هو لآخرين لا إلى ما هو لنفسها. فلا يفكر الزوج في ما ينتفع به من زوجته، بل في ما يقدر أن يقوم هو به من النفع والخير لها. ولا في الطاعة التي ينتظرها منها، بل في المحبة الواجبة عليه نحوها. هذا هو المثل الأعلى للمحبة التي "لا تطلب ما لنفسها" بل تجود بما عندها حتى تجود بنفسها "والجود بالنفس أسمى غاية الجود"

ولا يغرب عن أذهاننا، أن هذا الواجب يتناول صغائر الأمور في الحياة الزوجية كما يُلم أيضاً بكبائرها لأن الحياة كلها وحدة لا تتجزأ. فكم من رجل تراه مستعداً لأن يموت لأجل زوجته في ساعة الشدة، لكنه لا يرعى جانبها في صغائر الأمور، فينشأ بينهما خلاف تستحكم حلقاته. وجل الخلاف ينشأ عن تافه الأسباب!! فليس بكافٍ أن يكون الرجل مستعداً لأن يموت لأجل زوجته، بل عليه أن يكون على الدوام متهيئاً لأن يحيا لأجلها، وربما كان ثاني الأمرين أمرَّ من أولهما، لأن موته لأجلها يتطلب تضحية نفسه مرة واحدة، لكن حياته لأجلها، تستلزم تضحية مستمرة تتجدد كل يوم، وكل اليوم!!

ومهما يقل الرسول، إن حب المسيح للكنيسة هو قياس حب الزوج لزوجته، فلا يمكن بحال أن يسمو حب الزوج لزوجته إلى ذلك المستوى الراقي النقي الذي بلغه حب المسيح للكنيسة. فالزوج والزوجة شخصان متكافئان لأن الزواج الحق لا يقوم إلا بين نظيرين، ولكن أين التكافؤ بين المسيح والكنيسة، بل بين النور والظلام!![1]

ناهيك عن كون محبة الزوج لزوجته لا تحمل معها تضحية حقة، لأنها مهما سمت لا تخلو من عنصر حب الذات. لكن المسيح أحب الكنيسة وهو لا ينتظر منها صدى لمحبته. فكل الغرُم عليه، وكل الغنم لها.

عدد 26 :

26لِكَيْ يُقَدِّسَهَا، مُطَهِّراً إِيَّاهَا بِغَسْلِ الْمَاءِ بِالْكَلِمَةِ،

غاية حب المسيح للكنيسة: "لكي يقدسها..."

سبق الرسول فتكلم في موضوع آخر من هذه الرسالة عن محبة المسيح لنا، فقال: "كما أحبنا المسيح أيضاً وأسلم نفسه لأجلنا" (5: 2). هناك تكلم عن محبة المسيح لنا في جانبها الكفاري المقبول في نظر الله: "قرباناً وذبيحة لله رائحة طيبة" لكنه أرانا إياها هنا في جانبها الفدائي المتعلق بقصده الأسمى في كنيسته. وقد بان لنا هذا القصد في كلمتين رئيسيتين: إحداهما –مطلع العدد السادس والعشرين: "لكي يقدسها"، والثانية –مطلع العدد السابع والعشرين: "لكي يحضرها"

الكلمة الأولى: "لكي يقدسها" لا جدال في أن المسيح أحب الكنيسة وهي خاطئة، لكنه لن يرضى لها أن تبقى في الخطية بعد أن أحبها، لأنه أحبها من الخطية. فمن المحتم أن ينتزعها من أوحال الخطية انتزاعاً.

"لكي يقدسها" –تنطوي هذه العبارة على معنيين –أحدهما خارجي –يرُاد به التكريس والتخصص لخدمته وذاته. وثانيهما داخلي يُقصد به التطهير والتنقية. المعنى الأول يوافق قول المسيح: "ولأجلهم أقدس أنا ذاتي" (يوحنا 17: 19). والمعنى الثاني يوافق قول الرسول: "لا تضلوا. لا زناة. ولا عبدة أوثان.... يرثون ملكوت الله. وهكذا كان أناس منكم لكن اغتسلتم بل تقدستّم بل تبررتم باسم الرب يسوع" (1كو 6: 19- 11).

تسلط الشمس أشعتها الذهبية النورانية على فضلات المستنقعات،فتخلق من أقذارها جواهر، وتحوَّل ترابها تبراً. هذا بعض ما تعمله محبة المسيح في الكنيسة التي أحبها واختارها من بين أقذار العالم، من المحتقر والمزدري والغير الموجود، فهي تخلق من النجسين "قديسين" (1: 1)، وتجعل من المحتقرين "معتبرين" (غلاطية 2: 2)، وتقيم من الغير الموجودين "ملوكاً" (رؤيا 1: 6).

أداة تقديسها: "مطهراً إياها بغسل الماء بالكلمة". هذه العبارة ترجع بأفكارها إلى ما جاء في حزقيال 16: 8و 9 "دخلت معك في عهد يقول السيد الرب فصرت لي. فحممتك بالماء. ومسحتك بالزيت"، وفي حزقيال 36: 25 "وأرش عليكم ماءً طاهراً فتطهرون من كل نجاستكم ومن أصنامكم أطهركم". وهو يذكرنا أيضاً بكلام كاتب الرسالة إلى العبرانيين: "لنتقدم بقلب صادق في يقين الإيمان مرشوشة قلوبنا من ضمير شرير ومغتسلة أجسادنا بماء نقي" (عب 10: 22).

ولكن ماذا يقصد الرسول بقوله: "بغسل الماء بالكلمة؟ هل يشير إلى تطهير الكنيسة "بالكلمة المقدسة" الموحى بها في الكتاب؟ أم يرمي إلى طقس معين؟ يكاد جمهور المفسرين يجمعون على أن الإشارة هنا منصرفة إلى المعمودية. ف"غسل الماء" يشير إلى عملية العماد. و"الكلمة" هي الصيغة التي يفوه بها المعتمد وقت العماد، دليلاً على اعترافه العلني بتركه خطاياه وقبوله المسيح فادياً ومخلصاً وملكاً. أو هي "الكلمة" التي ينطق بها مُجري فريضة العماد -كقوله مثلاً: "أعمدك باسم الآب والابن والروح القدس". لعلها تشير إلى العبارتين معاً- أي ما يعبر به المعتمد عن إيمانه، وما يفوه به مجري العماد عند إتمام الفريضة.

ولعل أفضل ما قيل بهذا الصدد، ما جاء في تفسير هودج: "إن "الكلمة" هنا هي ذات الكلمة المقدسة الموحى بها، التي قال فيها بطرس الرسول: "مولودين ثانية لا من زرع يفنى بل مما لا يفنى بكلمة الله الحية الباقية" (1بط 1: 23) إنَّ في هذا إشارة ضمنية إلى أن المعمودية في حد ذاتها لن تكفي لإيجاد اختبار روحي، ما لم تكن مصحوبة بالكلمة المقدسة. لأن السر في "الكلمة" لا في المعمودية: "الذي مثاله يخلصنا نحن الآن أي المعمودية. لا إزالة وسخ الجسد بل سؤال ضمير صالح عن الله بقيامة يسوع المسيح" (1بط 3: 21). "شاء فولدنا بكلمة الحق لكي نكون باكورة من خلائقه" (يعقوب 1: 18). وإن "غسل الماء" تعبير رمزي يشير إلى الميلاد الجديد". ويجمل بنا أن نقرر هنا:

(1)أن المعمودية في حدّ ذاتها لا تنطوي على تأثير خفي سحري.

(2)إن الروح القدس لا يرافقها بالضرورة، وفي كل مرة، بتأثيرات روحية خاصة.

(3)أنها ليست الوسيلة الوحيدة لتمتع الإنسان بالفداء. وإنما: (أ)هي رسم إلهي. (ب)هي أحد شروط قبول الخلاص، لأنها تتيح للمعتمد البالغ، فرصة يعلن فيها اعترافه الجهري بخطاياه، وقبوله المسيح مخلصاً وفادياً. (ج)فرصة يظهر فيها الوالدان استعدادهم لقبول التزامات علنية بشأن تربية صغارهم المعمّدين، في مخافة الرب وإنذاره، حتى يشبوا على الصلاح والتقوى.

ويعتقد بعضهم أن "غسل الماء" يشير إلى عملية خارجية. و"الكلمة" تشير إلى فعل داخلي. ويعتقد آخرون أن المسيح يقدس الكنيسة "بالكلمة" إذ طهرها بغسل الماء –أي أن الكلمة وسيلة التقديس.

عدد 27 :

27لِكَيْ يُحْضِرَهَا لِنَفْسِهِ كَنِيسَةً مَجِيدَةً، لاَ دَنَسَ فِيهَا وَلاَ غَضْنَ أَوْ شَيْءٌ مِنْ مِثْلِ ذَلِكَ، بَلْ تَكُونُ مُقَدَّسَةً وَبِلاَ عَيْبٍ.

تقديس الكنيسة وتمجيدها: "لكي يحضرها... "

لعل الكلام في العدد السابق منصرف إلى التبرير: إلى الجانب الخارجي الذي يقوم بفرز الكنيسة من العالم. وهذا العدد متعلق بالتقديس والتمجيد.

يتضمن هذا العدد وصفاً مزدوجاً للكنيسة:

أولاً: وصفاً مجملاً للكنيسة كما يعدّها المسيح لنفسه: "لكي يحضرها"

ثانياً: وصفاً تفصيلياً للوصف السابق المجمل- وهو ذو جانبين:

-أ-أحدهما سلبي: "لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك"

-ب-الثاني إيجابي: "بل تكون مقدسة وبلا عيب"

أولاً: الوصف العام المجمل: "لكي يحضرها لنفسه". تذكرنا هذه الكلمة بقول الرسول في رسالة سابقة: "فإني أغار عليكم غيرة الله لأني خطبتكم لرجل واحد لأقدم عذراء عفيفة للمسيح" (2كو 11: 2). والفرق بين كلام الرسول في تلك الرسالة، وكلامه هنا، هو أنه في تلك، تكلم عن نفسه باعتبار كونه أحد العوامل الثانوية في إعداد الكنيسة للمسيح. لكنه في هذه الرسالة أرانا أن المسيح هو الذي يقوم بإعداد الكنيسة بنفسه ولنفسه، أمام محضر السماء والأرضيين (أفسس 3: 10). فهو الرأس والرئيس في محفل العماد، وفي مجمع القديسين، وفي كل خدمة تعمل على إعداد الكنيسة لعريسها العظيم. والظاهر أن الرسول، كان واضعاً في ذهنه إحدى الحفلات اليهودية الشرقية التي تزف فيها العروس إلى عريسها.

ومع أن الكنيسة المجاهدة على الأرض، هي في نظر المسيح "مقدسة وبلا عيب" –لأن عين المحب تتغاضى عن عيوب الحبيب- كما قيل: "كلك جميلة يا حبيبتي ليس فيك عيب" (نشيد 4: 7)، إلا أنها لن تبلغ هذه الدرجة الكاملة من القداسة، إلا متى ارتفعت إلى المجد (رؤيا 21: 2، 19: 7- 9).

الجانب السلبي: "لا دنس فيها ولا غضن". "الدنس" هو الفساد ومشتقاته. و"الغضن" هو تجعدات الشيب والهرم. وقوله: "أو أي شيء من مثل ذلك" يفيد خلو الكنيسة من كل عيب يشوّه جمالها. فخلوها من "الدنس" يشير إلى كمال طهرها. وخلوها من "الغضن" يفيد دوام شبابها وصباها. وخلوها من "أي شيء مثل ذلك" يدل على كمال جمالها. هذا مطابق لوصف الملاك الذي كان عند قبر الفادي يوم قيامته: "شاباً عن اليمين لابساً حلة بيضاء" (مرقس 16: 5). بل هذه الصورة التي ظهر بها المسيح على جبل التجلي، فكانت مثار إعجاب التلاميذ، وتعجبهم، وخوفهم لا بل هي الصورة التي سنكون عليها حينما نراه في مجيئه (1يو 1: 2).

"مقدسة وبلا عيب" –هذان الوصفان مطابقان للوصفين السلبيين الذين مرّا بنا. فالكلمة: "مقدسة" هي تعبير إيجابي معادل للعبارة: "بلا دنس". وقوله: "بلا عيب" موازٍ للعبارة: "لا غضن فيها أو أي شيء من مثل ذلك".

"بلا دنس... وبلا عيب" –هذان الوصفان أطلقا على المسيح نفسه "كما من حمل بلا عيب ولا دنس" (1بط 1: 19).

عدد 28 :

28كَذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الرِّجَالِ أَنْ يُحِبُّوا نِسَاءَهُمْ كَأَجْسَادِهِمْ. مَنْ يُحِبُّ امْرَأَتَهُ يُحِبُّ نَفْسَهُ.

محبة الرجل للمرأة أمر طبيعي لأنهما واحد- هي محبة الرأس للجسد. يظهر لدى إلقاء لمحة عاجلة على هذه الآيات، أن الرسول رجع القهقرى في حججه، فتوّجها بحجة ضعيفة مبنية على حب الذات، سيما عند قوله: "من يحب امرأته يحب نفسه" (عدد 28).

ولكن لدى إمعان النظر، يتضح لنا جلياً، أن الرسول يتقدم بنا خطوة جديدة في حججه، مبيّناً أن الرجل والمرأة ليسا شخصين منفصلين، لكنهما إنسان واحد. لأنه وإن يكن الرجل رأس المرأة –كما أن المسيح رأس الكنيسة، إلا أن الرأس ليس منفصلاً عن الجسد، ولا هو بمستقل عنه، لكنه يكوّن مع سائر أعضاء الجسد، جسماً واحداً، فالحب المطلوب من الرجل لامرأته، ليس حباً متكلفاً، لكنه حب طبيعي. هو حب الرأس في الجسم الواحد لسائر أعضاء الجسد، أو بالحري هو حب الإنسان لنفسه.

على أنه لا يستفاد من هذا، أنه حب نفساني نفعي، لكنه حب طبيعي تطوعي، ينبعث من الإنسان بغير تكلف، مثلما ينبعث النور من قرص الشمس، من غير مجهود ولا عناء، أو كما ينبعث أريج الزهرة منها فيعطر الأرجاء.

عدد 29 :

29فَإِنَّهُ لَمْ يُبْغِضْ أَحَدٌ جَسَدَهُ قَطُّ بَلْ يَقُوتُهُ وَيُرَبِّيهِ، كَمَا الرَّبُّ أَيْضاً لِلْكَنِيسَةِ.

معقولية هذا الواجب: "فإنه لم يبغض أحد جسده قط"

إن واجب الحب المطلوب من الرجل نحو امرأته ليس من الواجبات العسيرة، لكنه سهل هين. لأن العقل السليم يوصي به وطبيعة الحال توحي به، فما من رجل في كمال عقله يمزق جسده أو يسيء إليه، بل يقوته ويربيه "كما الرب أيضاً للكنيسة". إن هذه الوحدانية الكائنة بين الرجل والمرأة، مشتقة من الوحدانية الكائنة بين المسيح والكنيسة. وهذا الواجب الذي يقوم به الرجل نحو امرأته، إنما يتمتع به هو، باعتبار كونه أحد أعضاء كنيسة المسيح. فلا فضل إذاً للرجل في حبه لزوجته، لأنه ليس محسناً عليها بهذا الحب، ولا هو بمتفضل به عليها، كلا. فإنه في حبه لها إنما يحب نفسه، وهو بذلك ليس إلا موفياً لدين عليه نحو المسيح، لأنه سبق فتمتع بهذا الحب العجيب: "كما الرب أيضاً للكنيسة" فكما أن المسيح هو رأسه الأعلى، الذي أغدق عليه هذا الحب، كذلك عليه هو باعتبار كونه رأس المرأة، أن يوفي هذا الدين الذي عليه نحو المسيح.

فإذاً كل من يقصر في محبته لزوجته يُحسب مسيئاً إلى نفسه، ويحكم على ذاته بالخروج عن طور الإنسانية، لأنه يسيء إلى جسده إلا من أصيب بمسّ في عقله، أو من أقدم على تضحية فذَّة (لوقا 14: 26).

وفوق ذلك، فإن من يقصر في محبته لزوجته، يُحسب مقصراً في حق المسيح عليه، فهو الذي أحبه وافتداه. إذاً لا فضل لرجل في محبته لزوجته، إلا كفضل السحاب الذي يجود على الأرض بالمطر والمطر ليس منه، بل من البحر أو "كالبحر يمطره السحاب وما له* مَنّ عليه لأنه من مائه".

إن قوله: "أن يحبوا نساءهم كأجسادهم" معناه أن "يحبوا نساءهم باعتبار كونهن أجسادهم"، لا أن يحبوهن كما يحبون أجسادهم.

عدد 30 :

30لأَنَّنَا أَعْضَاءُ جِسْمِهِ، مِنْ لَحْمِهِ وَمِنْ عِظَامِهِ.

متانة الوحدانية بين المسيح والكنيسة: "لأننا أعضاء"

تقديراً لمتانة الوحدانية الكائنة بين المسيح والكنيسة، اقتبس الرسول عبارة وردت أصلاً في سفر التكوين عن متانة الوحدانية الكائنة بين الرجل والمرأة: فقال آدم هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي" (تك 2: 23).

ويقول يوحنا الذهبي الفم، في تفسيرها: "كما أن حواء أُخذت جسدياً من آدم الأول، كذلك الكنيسة: أُخذت روحياً من آدم الثاني –المسيح"

ويقول كالف: كما أن حواء صُورَت من جوهر جسم آدم، كذلك صُورّت الكنيسة من جوهر جسم المسيح الذي "تشارك وإيانا في اللحم والدم"

ويقول هودج: "كما أن حواء استمدت كيانها من جسم آدم، كذلك نستمد نحن كياننا من جسد المسيح، وكما أن حواء صارت شريكة في حياة آدم، كذلك أصبحنا نحن شركاء في حياة المسيح".

وفي اعتقادنا أن الرأي الأخير يُلمّ بالمعنى إلماماً شاملاً، وهو أقربها إلى الصواب. سيما وأن كلمة "مِن" تفيد "الاشتقاق" التام!

عدد 31 :

31مِنْ أَجْلِ هَذَا يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ، وَيَكُونُ الِاثْنَانِ جَسَداً وَاحِداً.

متانة الصلة التي بين الرجل وامرأته: "من أجل هذا"

بعد أن اقتبس الرسول تكوين 2: 23، مستدلاً على متانة الصلة القوية المكينة الكائنة بين المسيح والكنيسة: "عظم من عظمه ولحم من لحمه" أردفها بالآية التي تليها (تكوين 2: 24) مبيناً الواجب الذي تفرضه هذه الصلة على الرجل: من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسداً واحداً". فهي إذاً صلة روحية أقوى من صلة الرَّحِم. على أنه لا يستفاد من قوله: "يترك أباه وأمه" أن يتغاضى الرجل عن واجبه المقدس نحو والديه، لأن الذي لا يعتني بخاصته، ولا سيما أهل بيته هو شر من غير المؤمن".

هذه نفس العبارة التي اتخذها المسيح سلاحاً له، في محاربة بدعة الطلاق التي كانت فاشية بين اليهود منذ أيام موسى، إذا كان الرجل يطلق امرأته إذا وضعت في الطعام ملحاً أكثر مما يجب! أو إذا لم تحسن وضع الغطاء على رأسها، أو إذا لبست ثوباً لا يروقه لونه. فأوصى الله موسى بأن يعطي الرجل امرأته كتاب طلاق، عله يعدل عن فكرة الطلاق قبل أن ينتهي من استيفاء الإجراءات التي يستلزمها كتاب الطلاق. لذلك جابههم الفادي المجيد بهذه الحقيقة الخالدة: "من بدء الخليقة ذكراً وأنثى خلقهما الله. من أجل هذا يترك الرجل أباه وأمه ويلتصق بامرأته ويكون الاثنان جسداً واحداً. إذاً ليسا بعد اثنين بل جسد واحد. والذي جمعه الله لا يفرقه إنسان" (مرقس 10: 6- 9).

عدد 32 :

32هَذَا السِّرُّ عَظِيمٌ، وَلَكِنَّنِي أَنَا أَقُولُ مِنْ نَحْوِ الْمَسِيحِ وَالْكَنِيسَةِ.

ذلك السر العظيم: "هذا السرّ عظيم ولكني أنا أقول"

هذه آية عسرة الفهم، فلا غرابة إذا تباينت فيها آراء المفسرين. ولكي نتبين بعض ما فيها من معانٍ، يجمل بنا أن نسأل هذين السؤالين:

أولاً: ما المراد بكلمة "سر" كما استُعملت هنا؟

إن كلمة "سر" كما وردت في هذه الرسالة (1: 9، 3: 3و 4و 9، 6: 19)، قد تعني أمراً من ثلاثة –أو تعني ثلاثتها معاً:

(1)قد تعني أمراً مخفياً عن العامة، فلا تفهمه سوى الخاصة.

(2)قد تشير إلى حق روحي يظل مستوراً عن البشر حتى يأتي وقت إعلانه بالروح (3: 9).

(3)قد ترمي إلى حقيقة عويصة. عسرة الفهم، تحتمل تأويلات كثيرة، وتنطوي على معانٍ أكثر مما يرى منها ظاهرياً.

ثانياً: ما هو هذا "السر" العظيم؟ إنه لواضح من قول الرسول: "ولكنني أنا أقول من نحو المسيح والكنيسة" إن هذا "السر" العظيم هو تلك الرابطة الروحية، السرية، الخفية، الكائنة بين المسيح والكنيسة، لدرجة تحسب فيها الكنيسة "عروساً للمسيح" ويحسب أعضاؤها "لحماً من لحمه وعظماً من عظمه".

ويعتقد بعض المفسرين أن "هذا السر العظيم" هو ذلك الرمز الكائن بين الرابطة الزوجية الجسدية، وبين الصلة الروحية الخفية التي بين المسيح والكنيسة.

ويميل البعض الآخر، إلى اعتبار هذا "السر" أمراً عسر الفهم، يحتمل تأويلات أكثر كثيراً مما يرى من ظاهره، وأن الرسول قال رأيه فيه بصرف النظر عن القصد الأصلي الذي كان أمام آدم عند نطقه بهذه العبارة. هذا الرأي يؤيده قول الرسول: "ولكنني أنا أقول".

وغير خاف، أن بعض الطوائف اتخذت من هذه الآية أساساً لاعتبار الزواج سراً من الأسرار الكنسية المقدسة. ويكفي أن نقول بهذا الصدد أن ترجمة الآباء اليسوعيين –وهي حجة الكنيسة الكاثوليكية- ترجمت هذه الآية هكذا: "أقول هذا بالنسبة إلى المسيح والكنيسة". وأن كلمة "سر" لم تطلق على الفرائض المقدسة إلا بعد القرن الخامس للميلاد. وأن ابن العسال وضع "الزواج" في باب المعاملات الاجتماعية. ولعل العناية سمحت بتضارب الآراء حول هذا "السر". والسر في ذلك، أن العناية أرادته أن يظل "سراً" حتى يأتي اليوم الذي فيه يعلن الله "السرائر"!

عدد 33 :

33وَأَمَّا أَنْتُمُ الأَفْرَادُ، فَلْيُحِبَّ كُلُّ وَاحِدٍ امْرَأَتَهُ هَكَذَا كَنَفْسِهِ، وَأَمَّا الْمَرْأَةُ فَلْتَهَبْ رَجُلَهَا.

كلمة مجملة- مسك الختام: "وأما أنتم الأفراد...

"وأما"- هذه كلمة استدراك، تصرف ذهن السامع عن البحث في "السر" النظري، إلى العمل بالجوهر. والظاهر أن الرسول شعر بأن كلمته الأخيرة "هذا السر العظيم" ستكون مثاراً للجدل والبحث بين قارئيه على مر الأجيال، لذلك قصد أن يصرف أذهانهم عن البحث في "السر" موجهاً إياها إلى الجانب العملي –كأن يقول لهم: ومهما يكن من أمر هذا السر، يكفيكم أن تعرفوا منه هذا الواجب العملي المزدوج المطلوب من الرجال والنساء.

على الرجل أن يحب امرأته، وعلى المرأة أن تهاب رجلها

فالمحبة هي المهابة خادمة، والمهابة هي المحبة محتشمة.

المحبة هي رمز أمانة الرجل، والمهابة هي رمز طاعة المرأة.

ومن الأهمية بمكان، أن نذكر أن الكلمة: "المترجمة"

"تهب"، تعني حرفياً "تخف" وهي نفس الكلمة المعبرة عن مخافة الله وتقواه

-----------------------

[1] الصلة الكائنة بين المسيح والكنيسة كعريس وعروس، ترجع إلى فكرة نشأت في العهد القديم عن صلة "يهوه" بشعبه إسرائيل. فلما أراد هوشع أن يصور الأمة الإسرائيلية في انحرافها عن عبادة الله، تمثلها في امرأة خانت بعلها. ثم انتقلت هذه الفكرة إلى العهد الجديد فتغلغلت فيه، وبها اختتم سفر الرؤيا.

الإصحَاحُ السَّادِسُ

الأبناء والآباء

 (6: 1- 4)

 أولاً: واجبات الأولاد (6: 1- 3)

(1)الواجب الأول: الطاعة (6: 1)

-أ-ماهية هذا الواجب "أطيعوا" (6: 1(أ))

-ب-الروح الذي يؤدى به هذا الواجب "في الرب" (6: 1(ب))

-ج-الباعث على هذا الواجب "هذا حق" (6: 1(ج))

 (2)الواجب الثاني:الإكرام (6: 2و 3)

-أ-ماهية هذا الواجب "اكرم" (6: 1(أ))

-ب-أهمية هذا الواجب: "أول وصية بوعد" (6: 2(ب))

-ج-المكافأة على هذا الواجب: "لكي يكون لكم خير" (6: 3)

ثانياً: واجب الوالدين (6: 4)

-أ-سلباً: "لا تغيظوهم" (6: 4(أ))

-ب-الباعث عليه (6: 4(ب))

-ج-إيجاباً: "بل ربوهم بتأديب الرب" (6: 4(ج))

 من الكلام عن الشجرة، انتقل الرسول إلى الكلام عن الثمرة. فبعد أن خص القسم الأخير من الأصحاح السابق، بالواجبات المتبادلة بين الزوجات والأزواج، انتقل إلى الكلام عن الواجبات المتبادلة بين الأولاد والوالدين.

ومثلما استهل الكلام في الفصل الماضي، بالواجبات المطلوبة من الجانب الأضعف- واجب المرأة نحو الرجل، وضع على رأس هذا الفصل –واجب الأولاد نحو الوالدين- وهو واجب مزدوج:

عدد 1 :

1أَيُّهَا الأَوْلاَدُ، أَطِيعُوا وَالِدِيكُمْ فِي الرَّبِّ لأَنَّ هَذَا حَقٌّ.

العنصر الأول في هذا الواجب: "أطيعوا والديكم"

-أ-ماهية هذا الواجب: الطاعة. الطاعة البنوية من أهم أركان الحياة. فعندما تنعدم الطاعة من قلوب الأولاد نحو والديهم، ينهدم أهم ركن من أركان الحياة –في قلب الفرد، وفي الكنيسة، وفي المجتمع.

يتضح هذا جلياً، متى ذكرنا أن بولس وضع خطية "عدم إطاعة الوالدين في صف أشنع الخطايا التي لطخت جبين الأمم الوثنية" (رو 1: 30) وفي رسالته الثانية إلى تيموثاوس، أنبأنا بالأمراض الوبيلة التي تتفشى في الأزمنة الأخيرة، ذاكراً في مقدمة أعراضها "عدم إطاعة الوالدين" (2تي 3: 2). وإذا كان عصيان الوالدين من أسوأ أعراض مرض الكفر بالله، فإن إطاعتهم، من أظهر علائم التقوى والتعبد.

هذا هو الدرس العملي الذي ألقاه المسيح على الشباب في جميع الأجيال: "نزل معهما إلى الناصرة وكان خاضعاً لهما" (لو 2: 51).

يراد ب"الوالدين"، الآباء والأمهات على حد سواء (أمثال 1: 8، 6: 20) وجدير بالملاحظة، أن الكلمة المترجمة: "أطيعوا" هي ذات الكلمة التي مرت بنا في 5: 22 عن "خضوع" الزوجات لأزواجهن، وهي عين الكلمة التي سنلتقي بها في العدد الخامس من هذا الأصحاح عن "طاعة" العبيد لسادتهم!

-ب-الروح الذي يؤدى به هذا الواجب: "في الرب". هذا هو الروح الطيب الذي به يؤدّي الأولاد واجب الطاعة لوالديهم،فيحسبون أن طاعتهم لوالديهم عنصر لازم من عناصر مسيحيتهم الحقة، وجزء لا يتجزأ من تعبدهم للرب. وهو واجب يقومون به في اتحادهم بالمسيح، الذي منه يستمدون خير باعث، وأفعل قوة، وأجمل مكافأة.

ولا ننس أن هذه العبارة. "في الرب" تحدد المنطقة التي يبسط الآباء فيها نفوذهم على أولادهم- "في الرب". أي أن الأولاد مكلفون بإطاعة والديهم في الأوامر التي تتفق ومشيئة الرب. لكنهم في حل من إطاعة الأوامر التي تخالف هذه الإرادة الصالحة المرضية الكاملة، مخالفة صريحة.

-ج-الباعث على هذا الواجب: "لأن هذا حق". ليست الطاعة واجباً يقوم به الأبناء نحو والديهم على سبيل الاستحسان، كأنه أمر كمالي، بل عليهم أن يقوموا بهذا الواجب لأنه حق طبيعي بل، حق إلهي، رسمه الله في شريعته الأدبية المتفقة والطبيعة الإلهية التي صرنا شركاء الله فيها بالتجديد. هذا "فرض عين"، لا "فرض كفاية"!!

عدد 2 :

2أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، الَّتِي هِيَ أَوَّلُ وَصِيَّةٍ بِوَعْدٍ،

العنصر الثاني في هذا الواجب: الإكرام

-أ-مظهر هذا الواجب- الإكرام: "أكرم أباك وأمك"

الكلمة اليونانية المترجمة: "أكرم" هي ذات الكلمة التي وردت في الترجمة السبعينية للتوراة العبرية عن خروج 20: 12 وتثنية 5: 16 وقد وردت أيضاً في الإنجيل في متى 19: 19، مرقس 7: 10، 10: 19، لوقا 18: 20. و"الإكرام" المقصود هنا، ليس مقصوراً على المظاهر الخارجية التي يفرضها الخوف، لكنه يتضمن الشعور القلبي الذي يمليه الواجب، وتقدسه المحبة. وخير إيضاح لهذا، ما قاله المسيح في متى 15: 4- 8.

-ب-أهمية هذا الواجب: "أول وصية بوعد". إن الوصايا العشر هي عنوان سفر الشريعة، لأنها خلاصة الشريعة الأدبية. فهي بالتالي غُرَّة سجلّ الشريعة. ووصية إكرام الوالدين هي أول وصية مقرونة بوعد في سجل الشريعة الأدبية. ومع أن البعض اعترض على هذا: بأن الوصية الثانية في الشريعة الأدبية. مقرونة هي الأخرى بوعد: "أصنع إحساناً إلى ألوف من محبي وحافظي وصاياي"، إلا أن هذا ليس وعداً بالذات، لكنه تقدير لحقيقة أمانة الله لحافظي وصاياه. وإنما الوعد الصريح هو هذا الذي جاء مقترناً بهذه الوصية الخامسة: "لكي تطول أيامك". ويعتقد فريق من المفسرين أن هذه أول وصية بوعد، في اللوحة الثانية من الشريعة.

عدد 3 :

3لِكَيْ يَكُونَ لَكُمْ خَيْرٌ، وَتَكُونُوا طِوَالَ الأَعْمَارِ عَلَى الأَرْضِ.

-ج-المكافأة على هذا الواجب: "لكي يكون خير"

يتضمن هذا الوعد مكافأة مزدوجة: جانبها الأول: الهناء: "لكي يكون لكم خير". وجانبها الثاني: طول البقاء: "وتكونوا طوال الأعمار". الجانب الأول يتناول النوع، والثاني يشمل الكم.

هذا مبدأ عام، يقرره الكتاب المقدس، ويؤيده التاريخ. وهو ينطبق على الأفراد والأمم. ولقد تحقق فعلاً وحقاً لبني ركاب: "قال إرميا لبيت الركابيين هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل. من أجل أنكم سمعتم لوصية يوناداب أبيكم وحفظتم كل وصاياه، وعملتم حسب كل ما أوصاكم به، هكذا قال رب الجنود إله إسرائيل: "لا ينقطع ليوناداب بن ركاب إنسان يقف أمامي كل الأيام" (إرميا 35: 18و 19).

ويحدثنا العلامة جيكي عن السنيور بيورتي أنه التقى بجماعة من بني ركاب عام 1862 على مقربة من البحر الميت. هذا أقوى دليل على أن هذا الوعد، قد تمّ لبني ركاب بحذافيره، طوال هاتيك الأيام والسنين. ويقول المؤرخون إن السر في بقاء روما، مدة طويلة على عرش المجد والعظمة، يُعزى إلى الطاعة التي كان أبناؤها يدينون بها لوالديهم. ويعتقد العلماء المعاصرون أن ثبات الصين أمام الهجمات الكثيرة، التي صوبت إليها على مر الزمان، يرجع إلى الطاعة البنوية التي دُمغت بها حياة الصينيين.

ولا جدال في أن إطاعة الوالدين كانت مقرونة بإطالة العمر، لأن الشريعة الموسوية قضت على العاصي بالإعدام. وعلى هذا الاعتبار، كان عصيان الوالدين سبباً في "قصف" أعمار البنين. فمن الطبيعيّ إذاً، أن تكون إطاعة الوالدين سبباً في إطالة العمر، لأنها تحفظ الفتى من خطر الوقوع تحت طائلة حكم الإعدام.

ولكن أهو مطابق للواقع أن كل شاب يعمّر طويلاً متى كان مطيعاً لوالديه؟ فما السر إذاً في أن كثيرين من الشباب المطيعين لوالديهم يموتون في منتصف أعمارهم؟" وجواباً على السؤال الأول نقول: إن الوعد بإطالة عمر الشاب المطيع لوالديه، إنما يقرر قاعدةٍ عامة، ولا بد لكل قاعدة من شواذ. فكما أن القانون العام يقرر أن العقل السليم في الجسم السليم، إلا أننا كثيراً ما نرى عقولاً سليمة في أجسام سقيمة، وعقولاً سقيمة في أجسام سليمة.

أما جوابنا على السؤال الثاني، فهو: أنه ليس حقاً ما يقال عن الشبان الأتقياء أنهم يموتون في منتصف أعمارهم، لأنهم إنما يموتون بعد أن يتموا رسالتهم على الأرض، فلا يبرحون الأرض إلا بعد اكتمال أعمارهم. لأن الأعمار لا تقاس بطولها، بل بعمقها وسموها. الأعمار لا تقاس لكنها توزن! فكم من شيخ يعمر حتى يبلغ الثمانين، فيترك وراءه ثمانين من الخرائب المتهدمة، وكم من شاب لا يعدو العشرين فيترك وراءه عشرين قصراً آهلات بجلائل الأعمال وعظائم الخصال!! كم من شيخ يعمر حتى يدركه الهرم، فلا تكون حياته سوى ثمرة مرة المذاق لأنها غير ناضجة، وكم من فتى تنضج ثمرة حياته قبل بلوغه العشرين. فليس المهم في: "كم نعيش" بل: "كيف نحيا" فالعبرة ليست بطول العيشة، بل بسمو الحياة!!

فإلى الذين يلومون العناية –أو على الأقل يعتبون عليها- لأنها لم تطل أعمار أبنائهم الأتقياء، مثلما أطالت عمر حزقيا كما تقرأ عنه في إشعياء! إليهم نسوق الحديث قائلين: إن عمر حزقيا أُطيل إتماماً لعهد كان الرب قد قطعه على نفسه –بأن لا ينقرض من نسل داود من يجلس على كرسيه. ولو مات حزقيا في هذا الوقت، لبطل هذا الوعد، لأن حزقيا كان وقتئذٍ بغير ولد.

وفوق ذلك فلنسمع ما يقول الكتاب: "فجاء إشعياء النبي إلى الملك حزقيا وقال له: هوذا تأتي أيام يُحمَل فيها كل ما في بيتك وما خزنه آباؤك إلى هذا اليوم إلى بابل. لا يُتركَ شيء يقول الرب. ومن بنيك الذين يخرجون منك يؤخذون فيكونون خصياناً في قصر ملك بابل" (إشعياء 39: 3- 7).

يا ليت حزقيا قد مات بمرضه المعهود! ويا ليت تلك الخمس عشرة سنة لم تُضف إلى عمره، لأنها كانت عليه، وعلى أولاده، ويلاً ووبالاً.

فالعمر القصير الذي يريده لنا الله، خير م العمر الطويل الذي نتمناه نحن لأنفسنا، ولو أتيح لنا أن نختار ما يصيبنا، لاخترنا الواقع.

وهل يستطيع إنسان أن ينكر أن التقوى تصون للإنسان قواه العقلية والجسدية، وتقيه شر الإسراف فيها، فيكون لديه "رصيد" من القوى في وقت الأمراض والأزمات، فيغالبها حتى يغلبها؟!

وهنا أمر لا يليق أن نفعله، وهو أن بولس الرسول عندما اقتبس هذا الوعد، ترك منه –تعمداً- هذه العبارة "التي يعطيك الرب إلهك" (خروج 20: 12) وهي التي وردت في الوعد أصلاً، وصفاً "للأرض". ألسنا نرى في هذا برهاناً ضمنياً على أن وعد العهد القديم كان مقصوراً على أرض الميعاد، ولكن وعد العهد الجديد يتناول كنعان السماوية؟ فإذاً الذين رحلوا عنا في شبابهم، وهم أتقياء، لم تنقطع أعمارهم بموتهم، لكنهم بهذا الموت قد دخلوا أرض البقاء، وتمتعوا بحياة الخلود: "لأنهم يبغون وطناً أفضل أي سماوياً. لذلك لا يستحي بهم الله أن يدعى إلههم لأنه أعد لهم مدينة"

عدد 4 :

4وَأَنْتُمْ أَيُّهَا الآبَاءُ، لاَ تُغِيظُوا أَوْلاَدَكُمْ، بَلْ رَبُّوهُمْ بِتَأْدِيبِ الرَّبِّ وَإِنْذَارِهِ.

واجب الآباء نحو الأبناء: "لا تغيظوهم... بل ربوهم"

كم من والد يشكو ابنه "الشاطر" لمعارفه وذويه، فيجلس هؤلاء على كرسي موسى، ويضعون كل اللوم على الولد، غير حاسبين أن في حالات كثيرة –بل في معظم الحالات- يقع النصيب الأكبر من اللوم على الوالدين: إما لأنهم في البداية ألين من العود الرطب، أو لأنهم كانوا أقسى من العود اليابس. "وكلا هذين إن زاد قتل".

أشار الرسول إلى الوالدين بكلمة: "الآباء" وهو يريد الآباء والأمهات على حد سواء –وهو تعبير جائز على سبيل التغليب، باعتبار أن الأب رأس العائلة. بهذا جرى العرف في لغة الإغريق القديمة (كلاسيك)، وفي لغة العهد الجديد: "بالإيمان موسى بعد ما وُلد أخفاه أبواه ثلاثة أشهر" (عب 11: 23)، قاصداً بكلمة "أبواه". والد موسى ووالدته. بذا أيضاً قضت قواعد اللغة العربية، فأجازت استعمال كلمة "الوالدين" أو "الأبوين" عن الأب والأم. إن في هذا برهاناً ضمنياً على التضامن الوثيق الواجب توفره بين الأب والأم في تربية أولادهما. ومتى انعدم هذا التضامن –أو تضاءل- انعدم معه أهم ركن من أركان التربية البيتية. فالشدة من جانب أحدهما، قد يفسدها اللين من جانب الآخر. وتهاون أحدهما، قد يضيع خيراً كبيراً كان من الممكن اجتناؤه، ويجلب شراً كبيراً كان من الواجب اجتنابه.

ومع أن الخطاب موجه إلى "الآباء" من باب التغليب، إلا أن أحداً ما، لا ينكر أن مقام المرأة في هذا الباب، لا يستهان به، ولعله أهم من مقام الرجل. لأن المرأة تلازم أولادها بحكم بقائها معهم في المنزل، وبحكم قربها الدائم منهم، فيتهيأ لها من الفرص مالا يتاح للرجل، فيصبح من السهل على من أرضعت أولادها لبان التغذية صغاراً، أن تغذيهم بطعام التربية كباراً.

لسنا نريد بهذا أن نلتمس المعاذير للآباء الذين يبيعون أنفسهم لأعمالهم الكثيرة، فيبيحون لها إهمال أمر أولادهم، بحجة أنهم يعودون في المساء في وقت يكون فيه الصغار قد ناموا، ويستيقظون في الصباح بعد أن يكون الفتيان قد قاموا، وعلى وجوههم في الدنيا العريضة قد هاموا!!

ذكر الرسول واجب "الآباء" نحو أولادهم في جانبين:

الجانب الأول- سلبي: "لا تغيظوا أولادكم..."

الجانب الثاني- إيجابي: "بل ربوهم بتأديب الرب وإنذاره"

الجانب السلبي: "لا تغيظوا...". وردت هذه الكلمة عينها في كولوسي 3: 21 مضافاً إليها هذا التحذير الخطير: "لئلا يفشلوا". وقد مررنا بها في هذه الرسالة (4: 26). وهي استعملت أصلاً –في الترجمة السبعينية- عن إغاظة إسرائيل لله يوم التجربة في القفر (مزمور 95: 7وعبرانيين 3: 9)

قد يكون الوالد سبباً في إغاظة ولده، بإهماله حقوقه البنوية، أم بعدم تفكيره في ما يؤول لصالحه، أو بقصوره وتقصيره، في فهم نفسيته، أو بمحاباته وتحيزه لولد دون آخر، أو بقسوته عليه من غير ما سبب جوهري، أو بإساءة الظن فيه، أو بتجاهله إياه- تعمداً أو عن غير قصد. ومن المحزن، إن هذا "الغيظ" عندما يستولي على قلب الولد، يتخذ منه عدوّ الخير سلاحاً حاداً يمزق به نفسية الولد، ويقطع عليه سبل النجاح في الحياة، ويشطره عن بيت أبيه، بل عن قلب أبيه، فيصبح الولد حسّاً ومعنى: "ولداً شاطراً" ولكن بمعنى عكس الذي يفهمه العوام من هذه الكلمة!!

ويقيننا أن أفضل صلة تجمع بين الوالد وولده، هي صلة الصداقة المتبادلة، المؤسسة على التفاهم التام، فيقدّم الولد لوالده حباً مشبعاً بالخضوع والإكرام، ويقدّم الوالد لولده حباً مشرباً بالروية والاهتمام.

الجانب الإيجابي: "بل ربوهم بتأديب الرب وإنذاره"

حقيقة لا مراء فيها، إن الخطر الذي يتهدد التربية في الوقت الحاضر، لا يأتي من ناحية المبالغة في التشديد على الأبناء. بل من جانب التهاون في ضبطهم وكبح جماحهم. لأننا أصبحنا في عصر، سيما بعد الحرب الكبرى، وقد انخلع عن كواهل الأبناء، نير طاعة الآباء، وسلخ الصغار مقاليد الحكم من يد الكبار، فأضحى الشيوخ محكومين بالشباب! وإذا قيل عنهم في الماضي إنهم "رجال الغد" صار لزاماً أن يقال عنهم في عصرنا الحاضر إنهم: "رجال اليوم"

ولكن من الواجب أن نعترف بأن هذه حالة شاذة، ضارة، وأن لا سبيل إلى إصلاحها إلا بالعود إلى الشريعة وإلى الشهادة. فمن المهم أن يرجع الآباء والأبناء إلى حكم الكتاب في هذا الباب: "أن يربوا أولادهم بتأديب الرب وإنذاره".

فإذا وُجد سبب واحد للخوف من أن يبالغ الآباء في إرغام أولادهم على التمسك بالدين، فهنالك ألف سبب وسبب للخوف من أن يهملوا تربيتهم الدينية على الإطلاق. وهنا يجمل بالآباء أن يتذرّعوا بالشجاعة، فلا يكونوا حكماء أكثر مما يجب، فيدركوا أن التربية الدينية التي نفعتهم صغاراً، على رغم ما قد عانوا من مرارتهم، هي بعينها التي تنفع أولادهم اليوم برغم ما قد يشعرون به من غضاضة!

الكلمة المترجمة "ربوهم" تحمل معنى التعهد الدائم، بالتعب والكد والعناية كما يتولى البستاني نبتة صغيرة، ويتعهدها بالتنقية، والتغذية بالطعام، والماء، والنور، والهواء. وهي نفس الكلمة التي وردت في العدد التاسع والعشرين من الأصحاح السابق: "فإنه لم يبغض أحد جسده قط بل يقوته ويربيه".

"وإذا كان العشب الذي يوجد اليوم ويطرح غداً في التنور"، يحتاج إلى تربية وعناية، فما أحوج الإنسان الذي هو وليد الأزل، ووارث الأبد، إلى تربية بكل عناية ودقة –كدت أقول بكل شدة- لأن الكلمة اليونانية المترجمة: "تأديب" استعملت أصلاً وصفاً لقصاص الجلد الروماني! "فأنا أؤدبه وأطلقه" (لوقا 23: 16و 22). هذا هو التأديب الرادع، الزاجر، الذي أُغفل أمره في هذه الأيام، فحصد الآباء والأبناء ميعة في الأخلاق، ورخاوة في الآداب، وإذا كان الأولاد في الماضي، قد تربوا في الدين كواجب- وإن يكن بغيظاً، فمن الواجب أن يتربى الأولاد في عصرنا الحاضر، على الدين كميزة من المزايا الجميلة، وكواجب من الواجبات الجليلة.

"الإنذار" هو التحذير، والتقويم بطريق المنع (1كو 10: 11، تيطس 3: 10، أعمال 20: 31، رومية 15: 14، 1كو 4: 14، كولوسي 1: 28، 3: 16، 1تس 5: 12و 14، 2تس 3: 15).

الروح الذي يؤدَّى به هذا الواجب:" "بتأديب الرب" –أي يجب أن يتربى الأولاد وينذروا بروح المسيح، وعلى مبادئ المسيح، وفي نور إرشاد المسيح، لكي يشبوا رجالاً، على اعتبار أن المسيح هو المتعهد الأعلى للبيت المسيحي. فهو المستمع المتخفي لكل حديث، وهو الجالس المستتر حول كل مائدة، وهو الرأس الأعلى للبيت. وهو الروح الذي يسود كل شيء في البيت.

(3) العبيد والسادة

(6: 5- 9)

أولاً: واجب العبيد نحو السادة (6: 5- 8)

-أ-الواجب نفسه: "أطيعوا" (6: 5(أ))

-ب-الروح الذي يؤدّى به هذا الواجب (6: 5(ب))

-ج-الباعث على هذا الواجب (6: 6)

 (1)سلباً: "لا إرضاء الناس" (6: 6(أ))

 (2)إيجاباً: "بل إرضاء الله" (6: 6(ب))

-د-النية التي يؤدى بها هذا الواجب "نية صالحة" (6: 7)

 (1)إيجاباً: "كما للرب" (6: 7(أ))

 (2)سلباً: "ليس للناس" (6: 7(ب))

-هـ-المكافأة على هذا الواجب: "عالمين" (6: 8)

ثانياً: واجب السادة نحو العبيد (6: 9)

-أ-الواجب نفسه (6: 9(أ وب))

 (1)إيجاباً: "افعلوا هذه الأمور" (6: 9(أ))

 (2)سلباً: "تاركين التهديد" (6: 9(ب))

-ب-الباعث: "عالمين أن سيدكم" (6: 9(ج))

من الكلام عن الأولاد، انتقل الرسول إلى الكلام عن العبيد: إن في هذا نبوة ضمنية بإمكانية تحرير العبيد بقوة حق الإنجيل، لأن الرسول ذكرهم كأعضاء في البيت المسيحي، وفرض على سادتهم واجبات من نحوهم، دليلاً على أن الرسول لم يحسبهم كتلة مهملة –كأنهم من سقط المتاع- مثلما كانوا يُحسبون في نظر الرومان، بل نظر إليهم كعنصر مكمل للبيت المسيحي الحقيقي.

قديماً نظر فلاسفة اليونان إلى العبودية كأنها ضرورة لازمة، لا غنى للتمدين عنها. فكانوا ينادون بأن لا مانع من أن يستعبد نفر قليل، كي يعيش سائر البشر أحراراً. كأن عبودية الأقلية، ثمن لحرية الأكثرية! ومن أقوال أرسطاطيس المأثورة: "العبد آلة متحركة، والآلة عبد جامد!!" وفي أزهى عصور الرومان واليونان، كان العبيد محرومين كل الحقوق الدينية والسياسية؛ حتى حقهم في الحياة نفسها، وكانت شرائع أثينا تقول بأنه يكفي لقبول شهادة الحر في المحكمة، أي يحلف اليمين. أما شهادة العبد فلا تقبل إلا على شرط واحد –أن يجلد ويعذّب! وقضت قوانين الرومان بأنه إذا أُعدم سيد في بيته، فلا مفر من أن يُعدم كل العبيد الذين في بيته، ولو بلغ عددهم مئتين- من غير تحقيق!!". ولقد كانت قيمة العبد زهيدة لدرجة أنه إذا مرض عبد، كان يترك تحت رحمة الأقدار بغير علاج، لأن ثمن العبد أقل من ثمن الدواء! فلا عجب إذا غصت شوارع روما وأثينا بالعبيد لدرجة أن عدد عبيدها فاق عدد سادتها، ولا غرو إذا حكمها في النهاية العبيد، فجلسوا على عروشها!!

في قلب ظلام هذا الليل المدلهم، أشرق نور الإنجيل، فقال بولس عن أنسيموس العبد "لا كعبد فيما بعد. بل أفضل من عبد أخاً محبوباً" (رسالته إلى فليمون 16).

ورب سائل ولكن لِم لم يناد الرسول أولئك العبيد بأن يتحرروا حالاً من سادتهم، فيرفعوا عن أعناقهم نير العبودية دفعة واحدة؟ لِم لم يقل للسادة: ما أنتم وعبيدكم إلا أخوة في المسيح الواحد الذي لا يميز بين عبدٍ وحر؟ إذا كان هويتير قد حسب العبودية "نظاماً جهنمياً"، وإذا كان جون وسلي، قد قال في وصفها أنها "خلاصة الدنايا"، فهل كان رسول الأمم أرأف عليها منهما أو من أحدهما؟

حقيقة الواقع، أن الرسول وضع مبدأ حرية العبيد، وغرس بزرة الحرية. ولكن لا بد للبزرة من وقت تنبت فيه وتنمو وتزدهر! هذه خطة الله: إنه يزرع النور، ولا بد للزرع من وقت هادئ لتكمل فيه عملية الازدهار والإثمار. واللوم في هذا ليس على الوحي، بل على البشرية ذات الضمير الجامد البليد، الذي استنفذ قروناً كثيرة، وهو غارق في سبات هذه العادة الذميمة، فلم ينتبه لقطع دابرها إلا منذ قرونٍ قليلة، بعدما صاح ولتر فورس صيحته المأثورة في إنجلترا، بعدما خر أبراهام لنكولن صريعاً مدرجاً بدمائه في أمريكا!!

ولقد أجاد الدكتور جورج سميث إذ قال: "لست أرى دليلاً على تنزّه الكتاب المقدس عن العنصر البشري، أكثر من ترفعه عن إثارة عوامل الثورات السياسية"! تكلم الرسول في هذا الفصل عن:

أولاً: واجبات العبيد نحو السادة (6: 5- 8)

ثانياً:واجبات السادة نحو العبيد (6: 9)

عدد 5 :

5أَيُّهَا الْعَبِيدُ، أَطِيعُوا سَادَتَكُمْ حَسَبَ الْجَسَدِ بِخَوْفٍ وَرِعْدَةٍ، فِي بَسَاطَةِ قُلُوبِكُمْ كَمَا لِلْمَسِيحِ -

-أ-ماهية الواجب المطلوب من العبيد: "أطيعوا"

إن أول بزرة للنور في هذه العبارة هي قوله: "سادتكم حسب الجسد" وهي كلمة تبعث في "عروق" العبد دماً جديداً، وتفهمه أن "ذاته" الحقيقية التي هي "نفسه العليا" –ليست لسيده، لكنها ملك له خاصة. هذه هي اللؤلؤة الحقيقية التي يملكها هو بالذات وأما الصدَفة التي هي الجسد، فليحسبها خادمة لسيده الأرضي، لأنه "اشتراها". ومن الملاحظ أن الرسول، لم يصف "السيد" بتلك الكلمة القوية الشديدة: "دسبوت" أي "الحاكم المطلق المستبد". بل استعمل كلمة فيها شيء كثير من الحنو والرأفة والنعمة "كيريوس" وهي نفس الكلمة التي وصف بها "السيد" يسوع المسيح. كأنه أراد أن يُفهم العبد أنه هو وسيده، عبدان لهذا "السيّد" الأعظم يسوع المسيح، كما قال في رسالة معاصرة لهذه: "لأنكم تخدمون الرب المسيح" (كولوسي 3: 24).

ولا يغرب عن بالنا، أن بولس كان يتلذذ بأن يقول عن نفسه إنه "عبد" ليسوع المسيح. وهل يفوتنا أن نذكر أن رب المجد نفسه اتضع لدرجة أخذ فيها صورة "عبد" (فيلبي 2: 7)؟ ألا يكفيكم كل هذا عزاء، يا أيها العبيد، على تسميتكم بال"عبيد"؟!

أما الواجب المطلوب من العبيد، فقد عبر عنه الرسول بكلمة "أطيعوا" وليس في هذا غضاضة على العبيد، لأن هذه هي نفس الكلمة التي تعين واجب المرأة نحو الرجل، وواجب الأولاد نحو الوالدين (5: 22و6: 1).

وبما أن عهد العبودية قد مضى، فمن الواجب أن يراعى هذا الواجب من جانب الخدَم في وقتنا الحاضر.

-ب-الروح الذي يؤدى به هذا الواجب: "بخوف ورعدة كما في بساطة قلوبكم كما للمسيح". هذه هو خوف الاحترام الذي تولده المحبة خشية أن تخالف إرادة المحب بحال من الأحوال. وقد وردت العبارة الأولى: "خوف ورعدة" في فيلبي 2: 12، وصفاً للروح الذي به يتمم المؤمنون خلاصهم. و"للروح" الأخوية المسيحية التي بها استقبل الكورنثيون تيطس ورحبوا به (2كو 7: 15).

أما "بساطة القلب"، فهي الرغبة الصادقة في عمل الصلاح حباً بالصلاح، ابتغاء مرضاة المسيح، على عكس القيام به طمعاً في كسب رضى إنسان، أو استجداء لمديح أو ثناء، أو استنداء لأكف الإحسان. "فالقلب البسيط" هو القلب الموَّحد الذي ينصرف عن كل الأشخاص، لأنه متوجه إلى شخص واحد –هو المسيح. فلا يبالي إذا كشرت الدنيا عن أنيابها، ما دام قد حاز ابتسامة المسيح. ولا يلهو بابتسامة الدنيا الخادعة، إذا كان المسيح قد حول وجهه عنه (رو 14: 7- 9).

عدد 6 :

6لاَ بِخِدْمَةِ الْعَيْنِ كَمَنْ يُرْضِي النَّاسَ، بَلْ كَعَبِيدِ الْمَسِيحِ، عَامِلِينَ مَشِيئَةَ اللهِ مِنَ الْقَلْبِ،

-ج-الباعث على هذا الواجب: "لا بخدمة العين... بل كعبيد المسيح".

هذا باعث ذو جانبين: أحدهما سلبي: "لا بخدمة العين... "

 : والثاني إيجابي: "بل كعبيد المسيح"

الجانب السلبي: "لا بخدمة العين كمن يرضي الناس".

"خدمة العين" –هاتان الكلمتان هما في اللغة الأصلية كلمة واحدة مركبة، لم ترد إلا هنا، وفي رسالة كولوسي. والظاهر أن بولس صاغها خصيصاً، لتؤدي الغرض الذي كان يرمي إليه: وهو أن "العبد" مجرَّب بأن لا يكون أميناً في عمله، إلا متى تحقق أن عيني سيده ترقبانه. ومتى زالت رقابة السيد عنه، انتفت معها أمانة العبد! هذه أمانة زائفة، لأن مبعثها إرضاء الناس –لا مجال فيها لراحة الضمير ولا لرضى الله، ويكفي أن يقال فيها: أنها "أمانة العبيد"!!

والعبارة المترجمة "يرضي الناس" هي أيضاً كلمة واحدة مركبة –في اللغة الأصلية- يقابلها قول الرسول نفسه في غلاطية 1: 10 "أفأستعطف الآن الناس أم الله. أم أطلب أن أرضي الناس. فلو كنتُ بعد أرضي الناس لم أكن عبداً للمسيح". والفكرة المنطوية عليها هذه العبارة، هي أن الناس "ترضيهم" الخدمة المموَّهة، التي يقوم بها العبد غراراً. ولكن الذي يحاول أن يَخدع غيره، إنما يخدع نفسه.

الجانب الإيجابي: "بل كعبيد المسيح عاملين مشيئة الله من القلب"

(1)جوهر هذا الباعث: "كعبيد المسيح". ما أقوى ساعديك يا رسول الأمم، لأنك بهذه العبارة المحكمة قد سموت بالعبيد من مستوى حقير دنيء، إلى أرفع مستوى. فمن "عبيد الناس" إلى "عبيد المسيح"!! وهل في الدنيا سيد مالك نفسه، مثل ذاك الذي يستعبد نفسه طوعاً واختياراً للمسيح؟!

هذا ما قاله جورج ماثيسون: "صيرني يا ربي عبداً لك، فأتحرر!!"

(2)سمو هذا الباعث: "عاملين مشيئة الله" –هذه العبارة تخلع حلة من المجد والجلال على أحقر خدمة يقوم بها أصغر عبد، فتجعلها في مقام أجّل خدمة يقوم بها أكبر سيد لأنها أدخلتها في منطقة "مشيئة الله"! فلا الملائكة بأجنحتهم النارية الملتهبة، ولا الملوك بتيجانهم المتألقة على رؤوسهم، بأعلى مقاماً من العبيد، لأن الكل متمم مشيئة الله! ألم يكن هذا شعار المسيح نفسه: "ما جئت لأعمل مشيئتي بل مشيئة الذي أرسلني"؟!

فليس العبد وهو يكنس البيت، أو يغسل الأواني، إلا متمماً مشيئة الله. بهذا يجعل نفسه حراً وهو لا يدري، لأن استُعبد للمسيح فقد تحرر من الناس.

(3)أما موطن هذا الباعث، فقد أفرغه الرسول في العبارة التي اختتم بها هذا العدد: "من القلب" –وفي اللغة اليونانية- من "النفس"، ولعلها أقرب الكلمات إلى قولنا: "بِنفس" –أي بهمة ونشاط، لأنه ملعون "من يعمل عمل الرب برخاء".

العبد الذليل يخدم "وعين جسده" حائرة من فرط تطلعها إلى عين مولاه الأرضي، ومتى أُغمضت عنه عين سيده، ارتخت يداه. لكن العبد "المتسيد"، يخدم بقلب غيور، لأن "عين نفسه" مطمئنة إلى رضى مولاه في علاه. هذا هو الفرق بين العبد الأجير، ورب البيت. فالعبد يخدم وعينه متطلعة إلى الشمس يترقب غروبها، وإلى يد سيده تنقده الأجر. لكن رب البيت يعمل من كل قلبه، ونفسه، وفكره، وقدرته.

هذا هو الفرق بين تدّين العبيد الذين يخدمون الله ويعبدونه، خوفاً من عذاب الجحيم، أو ابتغاء التمتع بالنعيم. لكن أبناء الله يخدمون الله، ويعبدونه لأنهم يحبونه من كل نفوسهم وقلوبهم.

عدد 7 :

7خَادِمِينَ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ كَمَا لِلرَّبِّ، لَيْسَ لِلنَّاسِ

-د-النية التي يؤدَّى بها هذا الواجب: "خادمين بنية صالحة كما للرب ليس للناس". هذا العدد خير مفسر للعبارة التي اختُتم بها العدد السابق: "من القلب" فالقلب هو موطن النية. ومتى كان القلب طيباً، أضحت النية صالحة. ولن تكون النية صالحة، إلا متى كان القلب "بسيطاً" نيّراً (عدد 5).

ينظر الناس إلى الوجوه، ويتطلع المراقبون إلى الأيادي العاملة. لكن الله ينظر إلى القلوب، ويتطلب النية الصالحة. في هذا يصدق القول: "وإنما الأعمال بالنيات وأن لكل امرئ ما نوى".

"كما للرب ليس للناس". كان مفروضاً على العبد أن يقوم بأعماله إتماماً لمشيئة سيده، لكن الرسول أعطى العبيد فرصة يحررون بها أنفسهم من الناس، متى اعتبروا أنفسهم عبيداً للرب.

ويقول الدكتور جلوفر: إن من بين العادات الشرقية القديمة، التي كان للعبيد أن يلجأوا إليها للتحرر من ساداتهم، أن يذهبوا إلى هيكل هرقل ويكرسوا أنفسهم لخدمته –بذلك يصبحون أحراراً من كل سيد آخر. وكذلك كل من يستعبد نفسه طوعاً واختياراً للمسيح، يتحرر من كل عبودية قهرية من البشر.

عدد 8 :

8عَالِمِينَ أَنْ مَهْمَا عَمِلَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْخَيْرِ فَذَلِكَ يَنَالُهُ مِنَ الرَّبِّ، عَبْداً كَانَ أَمْ حُرّاً.

-هـ-أساس المكافأة على هذا الواجب: "عالمين أن مهما عمل كل واحد من الخير فذلك يناله من الرب عبداً كان أم حراً". فالمسيح إذاً ينظر إلى كل عمل في قيمته الذاتية الحقيقية، بصرف النظر عن الحالة الخارجية التي يكون عليها من يقوم بهذا العمل، سواء أكان عبداً أم حراً. لأن المسيح لا يبالي بالروح الذي به تؤدّى الأعمال. فكم من عبد يؤدي أعماله بروح حر تطوعي، ورب سيد يقوم بعمله بروح العبد المسخر. فالأول حر في جسم عبد، والثاني عبد في رسم حر. فالإنسان ينظر إلى المظهر، لكن المسيح ينظر إلى الجوهر. الناس ينظرون إلى اليد العاملة، والمسيح ينظر إلى القلب المحرك. فرب أياد سوداء في لونها، كانت "أيادي بيضاء" في ثمارها. ورب أيادٍ بيضاء في مظهرها، هي أسود من الفحم. الأولى تنال "النعمة" المقدرة للعبد الصالح والأمين، والثانية تلقى الصدّ والأعراض "ما أعرفكن" (متى 25: 12و 23وغلاطية 6: 9، رومية 2: 6- 10، 2كو5: 10، عب 10: 35، رؤيا 22: 12، متى 5: 12، 6: 1و 4)

عدد 9 :

9وَأَنْتُمْ أَيُّهَا السَّادَةُ، افْعَلُوا لَهُمْ هَذِهِ الأُمُورَ، تَارِكِينَ التَّهْدِيدَ، عَالِمِينَ أَنَّ سَيِّدَكُمْ أَنْتُمْ أَيْضاً فِي السَّمَاوَاتِ، وَلَيْسَ عِنْدَهُ مُحَابَاةٌ.

ثانياً: واجب السادة نحو العبيد: "وأنتم أيها السادة افعلوا لهم هذه الأمور تاركين التهديد عالمين أن سيدكم أنتم... "

كلمة واحدة وجهها الرسول إلى كل من العبيد والسادة –هي كلمة: "عالمين". فللعبيد قال: "عالمين أن مهما عمل كل واحد فذلك يناله من الرب" (عدد 8). وللسادة قال: "عالمين أن سيدكم أنتم أيضاً في السموات" (عدد 9) فكأنه وجه نظر العبيد والسادة على السواء، إلى ربهم الأوحد –يسوع المسيح. ومتى التقى العبد بسيده في "محضر" المسيح، زالت عنه مرارة العبودية. ومتى نظر السيد إلى عبده في نور المسيح، ذهبت عنه غطرسة السيادة!!

"وأنتم أيها السادة افعلوا لهم هذه الأمور" –استهل الرسول كلامه للسادة بهذه العبارة التي تحمل جوهر ذلك القانون الذهبي الذي كان نادى به المسيح: "فكل ما تريدون أن يفعل الناس بكم، افعلوا هكذا أنتم أيضاً بهم". فالواجبات إن لم تكن متبادلة، انعدم معها أهم ركن من أركانها.

-أ-ماهية الواجب المطلوب من السادة: اكتفى الرسول في هذا الباب بتحذير السادة من أمر كان مألوفاً عندهم –استعمال القسوة: "تاركين التهديد". هذه العبارة تنطوي على تعنيف لطيف، لأنها تحمل ضمناً اتهاماً لهم، بأنهم كانوا فيما مضى يلجأون إلى التهديد، فأوصاهم بتركه ولعل السادة المسيحيين، كانوا متأثرين بالبيئة الفكرية المحيطة بهم. في استعمال التهديد، لأن الرأي الذي كان سائداً بين ظهرانيهم: أن العبد لا يقوّم إلا بقضيب من حديد. كأنه كتلة جامدة، لا تصلح فيها عوامل اللطف واللين والمحبة.

-ب-أما الباعث الذي جعله الرسول نصب عيونه، فهو نفس الباعث الذي جعله نصب عيون العبيد –النظر إلى المسيح سيد العبيد والسادة على السواء: "عالمين أن سيدكم أنتم أيضاً في السموات". إن فوق العالي أعلى، ويد الأعلى فوق الجميع، وما ربك بظلام لا للسادة ولا للعبيد. فهو لا ينظر إلى السادة بعين غير التي ينظر بها إلى العبيد، بل ينظر إلى الجميع نظرة واحدة. لأنه "صنع من دم واحد كل أمة من الناس يسكنون عن كل وجه الأرض" (أع 17: 26).

هذا هو الإله الذي "لا يحابى بالوجوه"، "حيث ليس يوناني ويهودي، ختان وغرلة. بربري سكيني، عبد وحر. بل المسيح الكل في الكل".

وفي اعتقادنا أن هذه العبارة الأخيرة هي النواة الحية لشجرة الحرية، وهي أول معول عمل على هدم تجارة الرقيق. وإنما العيب على الأيادي البشرية التي تلكأت في استخدام هذا المعول.

المسيحي في الجهاد الروحي

(6: 10- 20)

وقف الرسول بنا طويلاً، في تلك البقعة الصغيرة، المقدسة، الجميلة –ولعلها أقدس بقاع الأرض وأجملها- التي يقال لها "البيت". فأطرب نفوسنا بأعذب الأناشيد، التي تعِّطر جوّ البيت المسيحي، حين يسوده التفاهم، وتظلله، المحبة ويتخلله الصفاء.

وقد كنا نود أن يطول بنا المقام في تلك البيئة المقدسة، الجميلة، لنتملى برؤية أنوار المحبة الطاهرة، حين تهبط أشعتها من السماء على نفس المرأة فتنبعث منها إلى زوجها –وقد حالت إلى طاعة وولاء، وتنزل على قلب الرجل فتشع منه نحو زوجته- وقد استحالت إلى محبة ووفاء، فتجمع نيرانها الملتهبة المقدسة على قلبيهما معاً، فتكون عليهما برداً وسلاماً!!

وكم كان يحلو لنا الوقوف لنستمع لتغريد تلك "العصافير" الملائكية، التي يقال لها الأطفال، وهي تخفض أجنحة الذل والطاعة في محضر الوالدين إجلالاً واحتراماً، ونرى البِشر يطفح على وجوه الوالدين وهم يحيطون بعطفهم وحنانهم "أكبادهم" الصغيرة وهي تتمشى أمامهم في شكل فتيان وفتيات.

وما أبدع ذلك المنظر الذي يجمع الأولاد والوالدين في تلك البيئة الأرضية المسماة "بالبيت"، وهم يتبادلون عواطف التقدير والمحبة، مع نفرٍ هم بيض القلوب ولو كانوا سود الوجوه، لأن شمس الطبيعة لوّحت وجوههم فصيرّت لونها أسود من فحمة الليل، لكن "شمس البر" أشرق في قلوبهم، فصيرَّها أبهى لمعاناً من ضياء القمر.

نعم كنا نود أن يطول بنا المقام ويطيب في هذه البيئة الهادئة، الهادية إلى سواء السبيل. لكن الرسول انتقل بنا فجأة من هذا الجو المعطّرة أنفاسه بموسيقى السماء، إلى جوّ لا يعرف موسيقى سوى صليل السيوف، ولا تُرى فيه أضواء سوى بريق الخوذ النحاسية، ولعلعة أسنَّة السيوف المرهفة، ولا نصغي لأصوات سوى تلك التي تحدثها "سهام الشرير الملتهبة" عندما تصطدم بالتروس والدروع.

بذا أفهمنا الرسول، أن الحياة المسيحية لا تُقضى كلها في جو مفعمَ بالأمن والسلام، لكن جُلّها يُصرَف في جو كله جهاد، وحرب، وصدام!!.

وما من شك في أن الرسول استقى تعبيراته الحربية التي في هذا الفصل، بوحي من العهد القديم –سيما إشعياء 59: 14، 11: 4، يشوع 5: 13، وسفر الحكمة 15: 17، وكلها أسلحة مجيدة تقلدها رب الجنود. إلا أنه من الطبيعي جداً أن يكون قد استمد بعض هذه التعبيرات من ظرفه الذي كان فيه وقت كتابة هذه الرسالة. فمن المسلم به أنه كان سجيناً في روما يتناوب حراسته أربعة جنود طوال اليوم، فتوثقَ يمناه في يسرى الجندي بسلسلة من حديد. فمن المعقول أن بولس وهو يكتب هذه الرسالة، كان يتطلع إلى أسلحة الجندي الروماني، مستلهماً بها فكرة النيرِّ عن أسلحة الجندي المسيحي، مقارناً "المادّيات" "بالروحيات!!".

فلنتقدم إلى درس هذا الفصل "الحربي" بروح "السلام" والاطمئنان:

أولاً: الفريقان المتحاربان: (6: 10و 11)

-أ-جنود الرب: "يا أخوتي" (6: 10)

-ب-رب المكايد: "إبليس" (6: 11)

ثانياً: طبيعة الحرب وطبيعة الخصم: (6: 12(أ وب))

-أ-سلباً: "ليست مع دم ولحم" (6: 12(أ))

-ب-إيجاباً: "مع السلاطين... " (6: 12(ج))

ثالثاً:ميدان الحرب: "في السماويات" (6: 12(د))

رابعاً: أسلحة الحرب: (6: 13- 20)

-أ-أسلحة العدَّة الكاملة العادية: (6: 13- 15)

 (1)للحقوَين: "منطقة الحق" (6: 14(أ))

 (2)للصدر: "درع البر" (6: 14(ب))

 (3)للقدمين: "حذاء استعداد إنجيل السلام" (6: 15)

-ب-أسلحة دفاعية: (6: 16و 17)

 (1)للقلب: "ترس الإيمان" (6: 16)

 (2)للرأس: "خوذة الخلاص" (6: 17(أ))

-ج-سلاح هجومي: (6: 17(ب))

 "سيف الروح" (6: 17(ب))

خامساً: سهر الجندي المحارب بالصلاة: (6: 18- 20)

 (1)الصلاة لأجل نفسه (6: 18)

 (2)الصلاة لأجل جميع القديسين (6: 19)

 (3)الصلاة لأجل الرسول الموثق (6: 20)

أولاً الفريقان المتحاربان (6: 10و 11)

عدد 10:

10أَخِيراً يَا إِخْوَتِي تَقَوُّوا فِي الرَّبِّ وَفِي شِدَّةِ قُوَّتِهِ.

 -أ-جنود الرب وسرّ قوتهم: "تقوَّوا في الرب"

 "أخيراً" –يُخيل إلينا أن الرسول، بعد أن أفاض في الإفضاء بالمعلنات الجليلة التي مرت بنا، شرع يطوي رداءه، ويستجمع قواه، ليقول كلمته الأخيرة –وإن شئت قل ليضرب الضربة الأخيرة- قبل أن يختتم هذه الرسالة الخالدة.

وليس بغريب أن يختتم الرسول هذه الرسالة المجيدة التي حدثنا فيها كثيراً عن النعمة، بهذه النغمة الشديدة القوية –نغمة الحرب! أليست الحياة كلها حرباً وجهاداً؟ هذا ما تنادي به الطبيعة، فالقوي فيها يغالب الضعيف ويغلبه، وفي النهاية يبتلعه. وهذا ما نشعر به في العالم الإنساني. فالبشر على الدوام في صراع عنيف، وما تاريخ البشرية إلا تاريخ مواقع حاسمة في سجل الحروب. وما فترات السلام الكائنة بين حربٍ وحرب سوى فُرص استعداد لحرب أشد وأقوى. بل هذا ما تحدثنا به ضمائرنا في عالمنا الداخلي المسمَّى ب"النفس". فالنفس الحية في صراعٍ مستديم ضد ميولها الداخلية أحياناً، وضد التجارب الخارجية حيناً. عبثاً تحاول النفس أن تهرب من التجربة إلى أقصى الجبال، أو أن تهبط إلى أسافل الوديان، فالشر كامن فيها، والتجربة توصوص لها من نوافذ "الإنسان الباطن". فالتجربة التي وجدها القديس أنطونيوس في البراري الواسعة، هي نفس التجربة التي كانت تواجهه في الإسكندرية، وإن تراءت بأشكال مختلفة، أو تلونت كما تتلون الحرباء!!

الكلمة المترجمة "أخيراً" يجوز أن تترَجم حرفياً إلى: "فيما بعد" أو "فيما يأتي" أو "بقي لي أن أقول". كأنَّ ما مر بهم من الكلام يعوزه هذا الحق. فمع أن الخلاص بالنعمة، إلا أن هذا لا يعفي المؤمن من الجهاد الروحيّ،

ولأن ملكوت الله يُغصب، وإن كان البار "بالجهد" يخلص. فالخاطئ والفاجر أين يظهران؟!

"يا أخوتي" –ما أحلى هذه الكلمة المنبعثة من قلب الرسول السجين، إلى أهل أفسس بمن فيهم من العبيد، وإلى سائر سكان مقاطعة آسيا الصغرى. لقد حجبته عنهم جدران سجن روما، لكن تلك الجدران لم تحجز قلبه عن أن يفيض بهذه الكلمة الحلوة العذبة "يا أخوتي"! "يا أخوتي في الإيمان، ويا أخوتي في الجهاد!! فكما أننا في نعم الإنجيل أخوة، كذلك نحن أيضاً في آلامه أخوة ولو أنكم تتمتعون بحرية العالم الفسيح، وأنا أقاسي عنكم ولأجلكم آلام السجون" (3: 1).

ما أوسع هذه الكلمة وما أرحب صدرها "يا أخوتي". إنها تضم إلى صدرها أقواماً لم يعرفهم بولس ولم تخطر أشخاصهم على باله –فهي تشمل كل النفوس المجرَّبة، والمضطهدة، والمعذبة لأجل الإنجيل في كل عصر ومصر. إنها تضم جيوش الشهداء الذين ماتوا لأجل الحق والمرسلين الشجعان الذين عاشوا لأجل الحق.

نعم كان سكان أفسس مجربين بالغنى والترف اللذين غمرا أفسس الفتية الغنية، ومحاربين بسلطان الآلهة ديانا التي تربعت حيناً من الدهر على قلب أفسس، ومغالبين بالقوات والعادات التي سادت تلك البقاع، إلا أن لكل عصر تجاربه، ولكل جيل آلهته، ولكل دهر مصارعته. فالشرور تتنوع، لكنَّ الشرير واحد!!

سر القوة: "تقووا في الرب وفي شدة قوته"

هذا هو سر القوة: "الرب"، هذا هو برجنا الحصين الذي نركض إليه ونتمتع: "في الرب". هو البدء وهو الختام، فلنتقو بقوته فينا لا بقوتنا لأن قوتنا ضعف! فليست هذه قوة نخترعها، وإنما هي قوة نكتشفها. ولا هي قوة نوجدها، بل نجدها –لا بل هي تجدنا. فما علينا إلا أن نقبلها ونتقوى بها. ولا هي قوة نسعى إليها كأنها بعيدة المنال، لكنها في متناول كل منا. فما علينا إلا أن نرحب بها في قلوبنا، ونفوسنا: "ولكنكم ستنالون قوة متى حل الروح القدس عليكم". هي عطية من الله لأنها قوة الله نفسه. ولا سبيل إلى نيل قوة الرب، إلا بأن نلبس الرب يسوع نفسه. لأن قوة الرب ملازمة للرب القوي. وكم من كثيرين يخطئون إذ يقعون في خطيئة سيمون الذي تاق إلى قوة الرب من غير أن يطلب رب القوة. وكم من كثيرين يوقدون على مذابح حياتهم وخدمتهم ناراً من حماسهم الشخصي، فتستحيل إلى رماد لأنها "نار غريبة" عن روح الرب!! فلا يمكننا أن نتقوى في شدة قوة الرب إلا إذا تقوينا في الرب نفسه. هذا هو رأس جيشنا. فلسنا في حاجة إلى أن نستميله ليحارب في صفوفنا، كأن الحرب حربنا نحن، لكننا نحارب تحت لوائه لأن الحرب للرب، فلنتقدم بقلوب واثقة ونفوس مطمئنة، لأننا نحارب في صف رئيس عظيم قد "خرج غالباً ولكي يغلب" فالنصر حليفنا ما دمنا معه لأننا لا نغتصب الظفر، بل نُوهبه. فلنجعل قوة الرب قوتنا.

حسناً قال إيرونيموس: "إن من يقرأ هذا الفصل الجليل وَيقابله بما يماثله في الكتاب المقدس، لا مفر له من أن يخرج بهذه الحقيقة الواضحة، وهي: أن الرب يسوع هو المحارب، وأنه هو نفسه السلاح الكامل".

الكلمة المترجمة "تقوّوا" مجانسة للمصدر المشتقة منه كلمة "عزاء". فلنكن في قوتنا مطمئنين! واثقين، متعزين: "إن لم تؤمنوا فلا تأمنوا".. "بالهدوء والطمأنينة تكون قوتكم" (إشعياء 30: 15). وقد استعملت في الأصل بالصيغة الحالية التي تفيد الاستمرار المتجدد. فهي إذاً تشير إلى حالة مستديمة نكون عليها، لا إلى درجة وقتية نسعى إلى إدراكها.

وقوله: "في الرب" ورد 35 مرة في هذه الرسالة. هذا هو منبع القوة، ومصدرها، والمحرك لها. "في الرب" أصبحنا معافين من كل دينونة (رومية 8: 1). "في الرب" نثبت فنحيا (يو 15: 4-7). "في الرب" نتقوى فننتصر نصراً مبيناً (يو 15: 5).

أما العبارة: "شدة قوة الرب"، فقد وردت في 1: 19 من هذه الرسالة، وهي تفيد أن قوة المسيح نبعٌ تصدر عنه شدة متناهية. فالشدة تنبعث من القوة، على اعتبار أنها نتيجة القوة. فنحن نتقوى في شدة قوة الرب،إذ نتشدد بالرب القوي. لأن شدة القوة التي أقامت الرب يسوع من الأموات، هي ملك لنا في حربنا الروحية.

هذه هي "الشدة" اللازمة لنا لنتمكن بها من حمل السلاح، ولولاها لأصبح السلاح الكامل ثقلاً علينا، فيقصم ظهورنا ونحن ضعاف، ويعرقل سيرنا.

عدد 11 :

11الْبَسُوا سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تَثْبُتُوا ضِدَّ مَكَايِدِ إِبْلِيسَ.

نداء إلى الفريق الأول: "البسوا... لكي تقدروا"

(1)كلمة مجملة عن السلاح: "البسوا سلاح الله الكامل".

هذا سلاح كامل. فالكلمة المترجمة "السلاح الكامل" هي في اليونانية كلمة واحدة، ولم ترد في العهد الجديد سوى مرة أخرى (لوقا 11: 22) وقد استعملت هناك عن سلاح إبليس، لكنها استعملت هنا عن سلاح المؤمن. هذا يدل على أن هذا السلاح كتلة واحدة لا تتجزأ. فمع أن له عناصر مختلفة، لكن لا يحق للمؤمن أن يتسلح ببعض عناصره ويترك البعض الآخر، لأن من يتهاون في حمل جزء من هذا السلاح، يأتيه الهجوم من هذه الناحية المعرضة للخطر. "فأخيليس" غطسته أمه في ماء سحرية آملة أن تصون جسمه من سهام الأعداء، لكن لم يكن أمامها بُد من أن تمسكه من كعب رجله، وهي تدليه في الماء. فأصابه السهم في الموضع الذي أمسكته منه أمه –في الكعب!!

(2)مصدر السلاح: "الرب". لعل الإشارة هنا منصرفة إلى القوة الحربية التي تعدها الدولة للمتحاربين فيلبسونها. فما على المتجند إلا أن يتقدم ليلبس هذا السلاح، لا أن يلبس رداء يحيكه هو لنفسه، لأن هذا ليس سلاحاً "ملكياً" يشتريه لنفسه، لكنه سلاح مُعدّ من رئيس الجيش، فما على المحارب إلا أن يتقدم ويتقلده.

ولقد سبق الرسول فأشار في رسالتين إلى "لبس السلاح" كأنه رداء، إذ قال: "البسوا الرب يسوع المسيح ولا تصنعوا تدبيراً للجسد لأجل الشهوات" (رومية 13: 14) "لابسين درع البر" (1تس 5: 8).

فكما أن الخلاص من الرب أولاً وآخراً، كذلك النصرة من الرب –من ألفها إلى يائها. لأن الرب رئيس جندنا، وهو مُعدّ سلاحنا، وهو المحارب عنا، وهو الظافر فينا. فإذا أردنا أن ننتصر في مصارعتنا مع إبليس (عدد 12) وجب أن ننتصر أولاً في مصارعتنا مع الله (هوشع 12: 24، تكوين 32: 24- 29)

(3)غاية حمل السلاح: "لكي تثبتوا ضد مكايد إبليس".

يلوح لنا أن كلمة: "تثبتوا" هي "مفتاح" هذا الفصل. وقد وردت فيه ثلاث مرات –المرة الأولى حالما نلبس عُدتنا الحربية: "البسوا سلاح الله الكامل لكي تقدروا أن تثبتوا" (عدد 11). المرة الثانية عندما نكمل لبس عدتنا الحربية: "بعد أن تتمموا كل شيء أن تثبتوا" (عدد 13)، المرة الثالثة، عندما نتمنطق بالمنطقة: "فاثبتوا ممنطقين أحقاءكم بالحق" (عدد 14). والمستفاد من تكرار كلمة "اثبتوا" على هذه الكيفية. إن الصورة التي أمامنا، ترسم لنا حرباً دفاعية أكثر منها هجومية. والإشارة فيها ليست منصرفة إلى دك حصون الأعداء، بل إلى الثبات في وجه الخصم ونحن محتفظون بحصننا

 "ها المسيح الرب قادم فاحفظوا الحصون"

هذا يذكرنا بذلك الموقف التاريخي الذي وقفه لوثر عندما قال: "ها أنا أقف هنا. فليساعدني الرب!"

-ب-الفريق الثاني- صاحب المكايد –إبليس "مكايد إبليس". هذا هو إبليس الخداع صاحب "المكايد" الكلمة المترجمة "مكايد" تعني حرفياً "طرق" أو "أساليب منظمة"، وهي التي مرت بنا في 4: 14. وكثيراً ما يحتال علينا عدو الخير بهذه "الطرق المنظمة"، فيجربنا أحياناً في نقط ضعفنا عن طريق الخطايا المحيطة بنا بسهولة –كما جرّب داود. ومراراً يجربنا في نقط قوتنا كما جرب موسى الحليم، فأسقطه في خطية الغضب، وبطرس الشجاع فأوقعه في خطية الجبن. تارة يوجه إلينا سهماً مسموماً بمُرّ المواعيد. وأخرى يصوّب نحونا ريشة معسولة بعذب المواعيد. فما علينا تجاه تلوناته وألاعيبه، إلا أن نثبت في المسيح واثقين، فلا يُرعبنا الوعيد، ولا ترغبنا المواعيد، عالمين أن هذه كلها "طرق" وأساليب (اطلب 2كورنثوس 11: 14).

طبيعي أن يبتدع إبليس كل هذه "الطرق" و"المكايد" المتلونة لأنه هو الخداع، المشتكي، العنيد، الذي لا يفشل قط. فمثلما جرب فادينا في البرية متخذاً لكل تجربة شكلاً غير الذي أفرغت فيه التجربة الأخرى، ولم ييأس على رغم فشله "بل تركه إلى حين"، كذلك في تجربة المؤمنين، لا تلين له قناة، ولا يهدأ له بال، حتى ينفث سمومه القتالة في ضحاياه. وكم لك يا إبليس من ضحايا!! وليس بخافٍ أن إبليس ليس مجرد تأثير، لكنه شخص.

وإذا كان إبليس صاحب "مكايد" وطرق، فلا عجب إذا سموه في العربية "الحارث"! (اطلب المزيد، راجع شرح 2: 2، واطلب 4: 27، أعمال 13: 10، 1تيموثاوس 3: 6و 7، 2تي 2: 26، عب 2: 14، زكريا 3: 1و 2)

عدد 12 :

12فَإِنَّ مُصَارَعَتَنَا لَيْسَتْ مَعَ دَمٍ وَلَحْمٍ، بَلْ مَعَ الرُّؤَسَاءِ، مَعَ السَّلاَطِينِ، مَعَ وُلاَةِ الْعَالَمِ، عَلَى ظُلْمَةِ هَذَا الدَّهْرِ، مَعَ أَجْنَادِ الشَّرِّ الرُّوحِيَّةِ فِي السَّمَاوِيَّاتِ.

ثانياً: طبيعة الحرب: "لأن مصارعتنا... "

-أ-طبيعة الحرب: روحية: "لأن مصارعتنا ليست مع دم"

استنتج بعضهم من هذه العبارة ومثيلاتها (كما في 2تي 2: 4و 5)، إن الرسول استعمل استعارة مركبة، فمزج الحرب بالمصارعة، لكن الحرب كانت قديماً "حرب التحام"، كما تدل الكلمة العبرية التي يعبر بها اليهود عن الحرب: "ملحمة". وفي مثل تلك الحروب كان المجال متسعاً للمصارعة. فالرسول إذاً ملازم لنفس الاستعارة الواحدة –الحرب الروحية!!

الكلمة اليونانية المترجمة: "مصارعة" (بالي) لم ترد في كل الآداب اليونانية سوى هذه المرة وحدها.

هذه حرب روحية، لأن خصومنا فيها روحيون. وقد وصفهم بولس وصفين –أولهما: سلبي: "ليست مع دم ولحم".

والثاني: إيجابي: "بل مع الرؤساء... "

 الوصف السلبي: "ليست مع دم ولحم". وردت هذه العبارة –مع تقديم وتأخير في كلمتيها- "لحم ودم" في متى 16: 17، 1كو 15: 50، غلاطية 1: 16 وعب 2: 14 –وهي تعني الإنسان- أو البشر- في حالته الجسدية الراهنة. "فاللحم والدم" لا يرثان ملكوت الله (1كو 15: 50) والإنسان الجسدي-"اللحم والدم"- لم يوحِ إلى بطرس بذلك الاعتراف الجليل. والإنسان الجسدي- "اللحم والدم"- لم يعلّم بولس حق الإنجيل (غلاطية 1: 16) فمراد الرسول إذاً: هو أن المصارعة التي نحن مجاهدون فيها، ليست مع البشر، لأن حربنا ليست مع مجرد أناس عائشين في هذا الجسد الهيولي، الفاني، لكنها حرب روحية ضد "قوات منظمة في عالم الروح". هذه أمرّ وأدهى.

 الوصف الإيجابي: "مع الرؤساء مع السلاطين، مع ولاة العالم على ظلمة"

 هذه تعبيرات مركزة متجمعة تصف: -أ-أركان حرب جيوش الأعادي في ثلاث كلمات: "رؤساء، سلاطين، ولاة".

 والمستفاد منها: (1)أن قوات الشرير منظمة تنظيماً محكماً. (2)أنها ليست مجرد تأثيرات وهواجس لكنها شخصيات معنوية، تعمل تحت قيادة رئيسها الأعلى –إبليس الذي يدبر "مكايدها" ويديرها (عدد 11). (3) أنها منظمة على درجات ورتب، كأن هذه الطغمة التي كانت قبلاً ملائكة نورانية، فسقطت، قد اقتبست تلك الدرجات، من الحالة المجيدة التي كانت عليها قبل سقوطها (رو 8: 38، 1كو 15: 24، كو 1: 16، أفسس 1: 21، 3: 10، 2بط 2: 4 ويهوذا 6). فلقبوا ب"رؤساء وسلاطين"، نظراً لسموّ مقامهم، واختلاف بعضهم عن بعض في زيادة القوة. ودعوا "ولاة العالم" بالقياس إلى سلطتهم على "البشر الساقطين"، الذي يتخذون منهم أعواناً وجنوداً لتنفيذ "مكايدهم".

ألا يتخذ أعوان لخير والنور، درساً في النظام والترتيب، من أعوان الشر والظلام؟؟!!

 -ب-طبيعة سلطان هذه القوات: "على ظلمة هذا الدهر".

 هذه العبارة تصف الثلاث الكلمات التي مرت بنا: "رؤساء، سلاطين، ولاة" أي أن أركان حرب الشيطان تحكم –ولكن في عالم الظلام، لأن طبيعتها ظلام، وجوها ظلام، وأسلحتها ظلام، وأساليبها ظلام، والمحكومين بها، ظلام (5: 8)، فهي إذاً ظلام في ظلام.

 إن كلمة"هذا الدهر" تشير إلى "العالم الحاضر الشرير" الذي أحبه ديماس فترك خدمة مولاه، وإلى "الساعة الراهنة" الذاهبة –"الآن"، المضادة للأبد الخلود: "هذه ساعتكم وسلطان الظلمة" (لو 22: 53) أو بعبارة أخرى هي "شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظم المعيشة".

 طبيعة هذه القوات: "مع أجناد الشر الروحية": إذا كانت الثلاث الكلمات التي مرت بنا في غرة هذا العدد، تصف "أركان حرب" إبليس، فإن هذه العبارة تصف "جنوده" الذين يتلقون أوامره، وينفذون مؤامراته. وإذا كانت العبارة الرابعة الواقعة في قلب هذا العدد: "على ظلمة هذا الدهر" تصف طبيعة سلطان أعوان إبليس، فإن هذه الكلمة الخامسة: "أجناد الشر الروحية" تصف جنود إبليس في طبيعتهم الذاتية. فأجناد الشر هم أجناد أشرار، بل شر الأجناد. وكما أن الحرب روحية في طبيعتها وفي أسلحتها، فإن أجنادهم هم أجناد الشر الروحية. والشرور التي يصيبوننا بها ليست شروراً مادية: كالمرض والفقر، والفشل، وإنما هي التذمر الذي يختفي وراء المرض، والمرارة التي تستتر وراء الفقر، واليأس الذي يولده الفشل.

 ثالثاً: ميدان الحرب: "في السماويات". هذه هي المرة الخامسة التي فيها وردت هذه العبارة في هذه الرسالة (1: 3و 20، 2: 6، 3: 10)، فاطلب تفسيرها في 1: 3. وقد وردت في الإنجيل عبارات مجانسة لها (متى 18: 35، يو 3: 12، 1كو 15: 40و 48و 49، فيلبي 2: 10، 2تي 4: 18، عب 3: 1، 6: 4، 8: 5، 9: 23، 11: 16، 12: 12). ولكي نعرف معنى هذه العبارة: "في السماويات"، علينا أن نذكر أنها هي "الدائرة" المقدسة التي تحيط "بالبركات الروحية التي باركنا الله بها في المسيح يسوع" (1: 3)، أو أنها هي المقام الذي أُجلس المسيح فيه بعد صعوده عن يمين العظمة "في السماويات" (1: 20)، وأنها هي "المرتبة" الروحية الممتازة التي رُفعت إليها الكنيسة مع رأسها وربها وفاديها "في السماويات" (1: 21). فمن المعقول أن هذه العبارة "في السماويات" تعني "الميدان الروحي العلوي" الذي تلتقي فيه قوات الظلام بقوات النور، محاولة –إذا أمكن- أن تنال من المختارين- وهيهات! لأن المسيح رأسنا الأعلى قد ارتفع فوق السماويات، وقد رفعنا معه إلى هذه الدرجة الروحية الممتازة (1: 21). فما دمنا ثابتين في رأسنا الأعلى، ومتمنعين في حصننا الحصين، فإن سهامه الشريرة الملتهبة تنطفئ قبلما تصل إلينا وإن بلغتنا، صارت علينا برداً وسلاماً، مَثلها مَثل "رش" بارودة الصبي، يطلقه على النسر المحلق في الفضاء، فينفضه عنه كما ينفض قطر المطر.

 ولا نغفل ما جاء بهذا الصدد في تفسير العلامة إيرونيموس لهذه العبارة: "إن السماء غير الأرض. فالسماويات هي كل ما هو غير أرضي، وفوق الأرض، وفوق قدرة البشر الطبيعية، في العالم العلوي الغير المنظور"

 رابعاً: أسلحة محاربتنا (6: 13- 20)

عدد 13 :

13مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ احْمِلُوا سِلاَحَ اللهِ الْكَامِلَ لِكَيْ تَقْدِرُوا أَنْ تُقَاوِمُوا فِي الْيَوْمِ الشِّرِّيرِ، وَبَعْدَ أَنْ تُتَمِّمُوا كُلَّ شَيْءٍ أَنْ تَثْبُتُوا.

 -أ-العدة الحربية الكاملة: "سلاح الله الكامل"

 "من أجل ذلك" –أي إزاء هذه القوات "الجهنمية" المنظمة التي لا تني عن قصدها وإن طال بها الأمد؛ ليس لنا إلا أن نحمل السلاح الكامل الذي أعده الله لنا. فما أجلّ أفكار الله من جهتنا وما أجملها‍‍‍‍‍! ‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍‍لأنه إذا كان إبليس يحيك لنا الحيل ويدبر "المكايد" للإيقاع بنا في التهلكة، فإن الله من جانبه قد "دبر" سلاحاً كاملاً، وحبك لنا "بذلة عسكرية" كاملة العدد فما علينا إلا أن نتقدم فنحمل هذا السلاح الكامل. فلا نشغل أفكارنا بكيفية صنعه، بل نتقدم بقلب صادق، وإرادة حازمة، إلى حمل هذا السلاح. فالكلمة المترجمة "احملوا" تعني حرفياً "خذوا عليكم"، أو "خذوا احملوا" أو ّاتخذوا" فهذا "السلاح" على قاب قوسين منا أو أدنى، فليس لنا أن نقول "من يصعد إلى السماء ليحدره لنا أو من يهبط إلى الهاوية ليصعده لنا".

 -ب-خطتنا بعد حمل السلاح: "أن تقاوموا... أن تثبتوا"

 مراراً يترتب علينا أن "لا نقاوم الشر" كما علمنا المسيح في موعظته على الجبل (متى 5: 39)، ومراراً أخرى يتحتم علينا أن "نقاوم في اليوم الشرير" كما أوصانا الرسول هنا. وكلا الأمرين لازم في وقته. فأمام قسوة عدو الخير، علينا أن نتسلح بنية الوداعة، وعدم المقاومة. ولكن أمام "مكايد" الشرير وحيله، وأساليبه الحربية، لا يسعنا إلا أن نتسلح بنية المقاومة. لأن المقاومة في الحالة الأولى تحسب معاندة. وعدم المقاومة في الحالة الثانية يحسب استسلاماً. وما أجمل الشيء متى وضع في موضعه.

فوضع الندا في موضع السيف بالعلى مضر كوضع السيف في موضع الندا

 الكلمة المترجمة "تقاوموا" وردت أيضاً في يعقوب 5: 6، 1بط 5: 9 على أنه لا يتأتى لنا أن نقاوم، إلا إذا وطدنا موقفنا بالثبات في المسيح.. "أن تثبتوا"؛ فنثبت في مقاومتنا، ونقاوم في ثباتنا.

 -ج-يوم الفصل في حربنا: "في اليوم الشرير" لا يكف الشرير عن مناوأتنا في وقت مناسب وغير مناسب. فكل يوم يُعتبر يومه، على نوع ما. لكن هذا العدو الخداع الذي أتقن أساليب الحرب منذ إسقاطه أبوينا الأولين تعلم كيف يختار "أنسب الأيام" لمهاجمتنا، "وأنسب" يوم عنده هو "شر" يوم عندنا. هذا هو اليوم الشرير الذي يركز فيه الشيطان كل قواه موجهاً إياها نحو أضعف نقطة فينا، لينال منا، ويظفر بنصر حاسم. هذا هو "اليوم الفصل" ومن بعده تتزايد قوى الغالب، وتتناقص قوة المغلوب. كأن قوة المغلوب تتسرب في دم الغالب، حالما يخر أمامه صريعاً‍‍‍!!

 ومع أن في الإنجيل أقوالاً كثيرة تنبئنا بأنه قبيل مجيء المسيح ثانية تنشب حرب شديدة تتلظى نيرانها بين جنود الخير، وأجناد الشر الروحية، إلا أن الإشارة هنا منصرفة إلى مجاهدة المؤمن بوجه عام في كل عصر ومصر.

 -ب-موقفنا في حربنا: "وبعد أن تتمموا كل شيء أن تثبتوا" أي بعد أن تكملوا استعدادكم لحمل السلاح، وتتحملوا ما يصيبكم من هجمات الأعداء، ليس أمامكم إلا أن تحتفظوا بموقفكم، لأن الهدف النهائي الذي يجعله عدو الخير نصب عينيه، هو أن يزحزحكم عن موقفكم. فلا تلينوا أمام هجماته، وترجعوا القهقرى هاربين، ولا تخدعكم حيله الحربية فتتركوا حصنكم المنيع ظناً منكم أنه أمامكم، لأنه إنما يستدرجكم لتتركوا مكانكم، وتدخلوا "أرضه" فيتمكن منكم ويضربكم الضربة القاضية. فاثبتوا بأقدام راسخة في صخر الدهور. ممسكين بالرجاء الموضوع أمامكم "الذي هو لنا كمرساة للنفس مؤتمنة وثابتة تدخل إلى ما وراء الحجاب. حيث دخل يسوع كسابق لنا" (عب 6: 20).

عدد 14 :

14فَاثْبُتُوا مُمَنْطِقِينَ أَحْقَاءَكُمْ بِالْحَقِّ، وَلاَبِسِينَ دِرْعَ الْبِرِّ،

 -أ-"البذلة الحربية"- سلاح مثلث للجسم: "المنطقة، والدرع، والحذاء" (6: 14و 15)

 من ختام العدد الماضي، استمد الرسول مطلع استهلال لهذا العدد: "أن تثبتوا... فاثبتوا". فالثبات يستلزم فعلاً حاسماً تأتيه الإرادة، وهو يتجدد في كل مناسبة. فيترتب على الجندي، بعد أن عرف أن موقفه الدائم هو الثبات في وجه العدو، أن ينهض في ثباته، وأن يتذرع "بالثبات" وهو يلبس "البذلة الحربية" التي تشتمل على مثلث للجسم:

 (1)سلاح الحقوين –منطقة الحق: "ممنطقين أحقاءكم بالحق"

 للعامل العادي منطقة تشد ملابسه حول حقويه، كيلا تعرقل سيره، فيصبح بها خفيف الحركة، متأهباً لكل خطوة يتطلبها عمله، من غير عائق لكن "المنطقة" المذكورة هنا، هي منطقة الجندي الروماني، التي كانت تُصنع قديماً من جلد، عليها صفائح صغيرة من الحديد أو "الفولاذ" وبها يُعلق السيف (2صم 20: 8).وكان شدُّ المنطقة قديماً، أولَ علامة للتأهب للقتال، لأن المنطقة تثبّت سائر الأسلحة في مواضعها، وتصون بعض أعضاء الجسد المعرضة للخطر. ولقد كانت المنطقة الحربية لازمة أشد اللزوم للجندي ولولاها لأضحت أسلحته ثقلاً عليه يعرقل حركاته.

أما منطقة الجندي المسيحي فهي: "الحق". "والحق" هنا لا يعني كلمة الله بالذات –هذه سيأتي دورها في الكلام عن سيف الروح. لكنه يشير إلى صفة يتدرع بها المحارب من جانبه هو. فالحق المقصود، هو خلاصة الإخلاص، والبساطة، والأمانة، والصدق، فيكون الجندي مسيحياً حقاً لا غش فيه. وليس بغريب أن تجمع منطقة "الحق" كل هذه الخصال، لأن منطقة الجندي هي رباط الكمال لكل الأسلحة، وبما أن سيف "الحق" كان يعلّق بالمنطقة، فمن المعقول أن يكون "حق" هذه المنطقة هو الحق المعلن في المسيح، أو هو "المسيح الحق" (4: 21) الذي نلبسه ونتمنطق به –وفيه- كما تدل الكلمة الأصلية. فكما كانت منطقة الجندي محيطة به، كذلك يكون الجندي المسيحي محاطاً بالحق ومحوّطاً به، فلا تصيبه سهام الباطل من أية ناحية، لأنه يصبح متسلحاً بالعزم القوي الذي يستجمع به كل قواه، ويظل مستمسكاً بشدة اليقين في الله وحقه، فيقال له حقاً: "البطل المتمنطق"

 (2)سلاح للصدر –الدرع: "لابسين درع البر".

يتألف الدرع الروماني من جزءين –مقدم ومؤخر، قد وُصلا على الجانب. وكان القصد منه أن يغطي الصدر والظهر، وأحياناً الرقبة والبطن، وكان وزن درع جليات 5000 شاقل من النحاس، أي 32 رطلاً. ويرجح أنه كان مصنوعاً من صفائح نحاس مثل حراشف السمك. وكان يصنع أحياناً من قضبان صفصاف محاكة مثل السلال، ومغطاة بصفيحة من النحاس. وربما صنع أيضاً من صفائح جلد، أو قماش من كتان أو صوف، وكانت القطعة الصدرية مصنوعة غالباً من كتان مبطن. ولكون الدرع هو الجزء الرئيسي والأكمل في سلاح الدفاع، فقد أشير به إلى تمام الدفاع والأمن (إشعياء 59: 17).

 هذا درع الجندي الروماني. أما "درع" الجندي المسيحي فهو: "البر".

 يعتقد الدكتور وستكوت أن "البر" الذي يتدرع به الجندي، هو قبوله الحق الإلهي، وتطبيقه إياه، بالمحبة، في علاقته بالناس. هذا يوافق قول الرسول في رسالة سابقة: "لابسين درع الإيمان والمحبة" (1تس 5: 8) فبالإيمان نقبل الحق الإلهي، وبالمحبة نطبقه على معاملاتنا مع الآخرين. ويمكننا أن نختصر الطريق، فنقول إن "البر" المقصود هنا هو "بر المسيح" لأن السلاح المقدم لنا، هو "سلاح الرب" لا سلاحنا نحن.

 كما أنا لا برّ لي أدنو من الفادي العلي

 ويعتقد الدكتور موليه، أن هذا "البر" هو صفات المؤمن التي يتحلى بها نتيجة ولائه لله، ولإرادته الصالحة المرضية الكاملة. ولعله أراد أن يقول أن المؤمن بإيمانه بالمسيح، يقبل "بر" المسيح، فيلبسه هذا البر، ويصبح فيه صفات عملية جليلة، كأنها من عندياته. لأن "بر" المسيح لا "يحسب" لنا نظرياً وكفى، بل نختبره عملياً في حياتنا. في البداءة يكون لنا، ومن ثم يصبح فينا، فيحمي صدورنا ضد وساوس الشكوك في الله، ويقي أحشاءنا شر تحجر الشعور نحو الآخرين، ويحمي ظهورنا من ذئاب خطايا الماضي التي تتعقبنا ليل نهار لتفتك بنا.

 هذا هو البر الذي نلبسه أولاً، ثم يلبسنا هو، فيبدّل ضعفنا بقوة المسيح، وينتزع نجاستنا فتحل محلها طهارة المسيح،فنفتكر –ولكن بفكر المسيح، ونحب ونبغض- ولكن بقلب المسيح، إذ يصبح بر المسيح فينا، ونحن فيه.

عدد 15 :

15وَحَاذِينَ أَرْجُلَكُمْ بِاسْتِعْدَادِ إِنْجِيلِ السَّلاَمِ.

 سلاح للقدمين –الحذاء: "حاذين أرجلكم باستعداد إنجيل السلام". في هذا العدد أمران يدعوان إلى الغرابة:

 أولهما: كيف يعتبر "الحذاء" سلاحاً؟ وجواباً عليه نقول: ظهرت في إحدى المجلات الواسعة الانتشار كلمة بقلم مدرب عسكري ماهر، عنوانها: "الأحذية المتينة الجيدة تلعب دوراً حاسماً في الحروب". ويقول العارفون أن من أهم أسباب اندحار الجنود الحبشية في ساحة القتال، أنهم كانوا حفاة الأقدام، لأن رواسب الغازات السامة لحست بطون أقدامهم!

 فماذا يعمل الجنود المساكين الذين يسيرون أحياناً في مسالك وعرة، تمزّق بطون أقدامهم بأسنتها المتحجرة، وأحياناً أخرى يغوصون إلى أحقائهم في مستنقعات آسنة مليئة بالحشرات السامة والجراثيم الفتاكة، ومراراً يسيرون على طرق منتشرة فوقها قطع حديدية مدبَّبة، وضعتها يد الأعداء!

 هذه بعض المسالك التي كان على الجنود الرومان أن يسلكوها. فكانوا يسيرون تارة بين صخور ووديان تدمي الأقدام، وطوراً في مستنقعات وأوحال تغوص فيها السيقان. فكان من اللازم أن "يتسلح" بحذاء جيد يحفظ قدميه في كلا الحالين. وإذا كان المصارعون قد اهتموا قديماً بحالة أقدامهم، لتكون خفيفة كأقدام الأيائل، فما أحرى بالجندي المسيحي أن يهتم شديد الاهتمام بحالة قدميه اللتين عليهما يتوقف ثباته في هذه الحرب. سيما وأن كلمة "اثبتوا" هي مفتاح النصرة في هذه الحرب!!

 ولكن ما هو "الحذاء" الذي يتسلح به المؤمن؟ هو "استعداد إنجيل السلام" –هو التأهب الذي يولده الإنجيل في قلب من يسمعه ويقبله، فيصبح مستعداً و"جاهزاً" لتبليغ بشرى الإنجيل إلى العائشين في وادي الظلمات. لأن نور الإنجيل متى بلغ إنسان ما، يُمسي فيه ناراً مضطرمة تدفعه إلى حمل شعلة الإنجيل في يده، إلى الواقعين في أسر الظلام، وإذ يلمحه أولئك الأسرى عن بُعد، يقومون مهللين لقدومه الميمون فيحيونه بتلك الأنشودة القديمة الخالدة: "ما أجمل على الجبال قدمي المبشر المخبر بالسلام المبشر بالخير المخبر بالخلاص القائل لصهيون قد ملك إلهك" (إشعياء 52: 7)، فتجاوب معها أصداء تلك الأنشودة الجليلة: "هوذا على الجبال قدما مبشر منادٍ بالسلام عيّدي يا يهوذا أعيادك أوفي نذورك. فإنه لا يعود يعبر فيك أيضاً المهلك" (ناحوم 1: 15).

 أما الأمر الثاني الذي يدعو إلى الغرابة، فهو أن الرسول يتحدث عن استعداد "إنجيل السلام"، كسلاح في الحرب الروحية –والسلام والحرب متناقضان!! ولكن هذا العجب يزول متى ذكرنا أن قدمي المبشر لا تثبتان في الحرب إلا متى كان متمتعاً بسلام الله الذي يحفظ قلبه وفكره في المسيح، وحاملاً سلام المسيح للواقعين في أسر الشر والفساد. فمع أننا نحارب في حرب روحية، إلا أننا ندخلها بقلب يفيض سلاماً مع الله، ومع أنفسنا، ومع الآخرين. هذا هو سلام الثقة واليقين، الذي به وقف بولس وقفة الشباب على غرار اهتزاز ركبتيه بحكم الشيخوخة، فقال: "أنا عالم بمن آمنت وموقن أنه قادر أن يحفظ وديعتي" فلا يكفي الجندي المسيحي أن يكون حاصلاً على سلام مع الله، بل عليه أن يكون متمتعاً بسلام الله نفسه.

عدد 16 :

16حَامِلِينَ فَوْقَ الْكُلِّ تُرْسَ الإِيمَانِ، الَّذِي بِهِ تَقْدِرُونَ أَنْ تُطْفِئُوا جَمِيعَ سِهَامِ الشِّرِّيرِ الْمُلْتَهِبَةِ.

 -ب-أسلحة الدفاع. (1)سلاح يقي القلب: الترس

 الترس، على الأرجح، من أقدم أدوات الحرب. فإن الإشارات في كتابات الأقدمين عديدة (تكوين 15: 1، مزمور 5: 12 و18: 2). وكانت الأتراس مختلفة الحجم، وتُصنع على الغالب من الخشب الخفيف، وتغطى بطبقات متعددة من الجلود السميكة التي كانت تمسح بالزيت وتصقل جيداً (إشعياء 21: 5) وكانت أكثرها تلون بألوان مختلفة على هيئة دوائر في النصف (ناحوم 2: 3). أما الجلد فكان يُمدَ أحياناً على مشبك من قصب أو فروع الصفصاف. وكثيراً ما كان يصنع بحجلة من الذهب أو النحاس، أو كان يلبَّس بصفائح سميكة من المعادن المذكورة (1ملوك 14: 26 و27). وكان يُحفر على الأتراس المعدنية صور ونقوش مختلفة.

 كان الترس يحمل على الذراع اليسرى، وذلك بإدخال اليد تحت سيرين من الجلد على مؤخره، وقبض الأصابع على سير صغير عند حافته. واستعيض في الأزمنة المتأخرة عن السيور بقبضة من الخشب أو الجلد في وسطه. وأحياناً كان يعلق بسير في العنق عوضاً عن مسكه باليد. أما سطحه الخارجي فكان محدّباً، وذلك لمنع الأسهم من اختراقه، وكانت حوافيه ملبسة بصفائح من الحديد تمكيناً له، ولوقايته من فعل الرطوبة إذا ألقي على الأرض، وكانت الأتراس تُحمل أثناء الحرب فوق الرؤوس، أو تُصف في خط مستقيم لتكون حاجزاً عمومياً.

 هذا هو الترس الذي كان يتسلح به الجندي الروماني. فما هو الترس الذي يتسلح به المسيحي؟ -هو ترسُ الإيمان. وليس بخافٍ أن الإيمان يُبدأ معرفة، فيتطور تصديقاً، فيصبح اتكالاً واعتماداً، وثقة. أي أنه يُبدأ غالباً في دائرة العقل، ويمر بالعاطفة، ثم ينتهي بالإرادة. وهو العين المرفوعة على الدوام إلى ربها منتظرة منه العون: "معونتي من عند الرب. الرب ظل لك عن يدك اليمنى... إليك رفعت عينيَّ يا ساكناً في السموات هوذا كما أن أعين العبيد نحو أيدي سادتهم، كما أن عيني الجارية نحو يد سيدتها، هكذا عيوننا نحو الرب إلهنا" (مزمور 121: 1و 2، 123: 1و 2)، وهو أيضاً اليد المفتوحة التي تتقبل بركات الله، بالثقة واليقين والشكران.

 والإيمان، فضلاً عن كونه يتحد النفس بالله، فيحسب نصرته نصرتها فهو أيضاً يثبت النظر في المستقبل لأنه يرى مالا يُرى ومن لا يُرى. فإذا انهزم في معركة ما، لا يدركه الفشل لأنه واثق في النهاية من النصر المبين، وهو يرى النصر قبل أن يأتي فيخصصه لذاته، ويحسبه ملكاً له قبل أن يتمكن من الاستيلاء عليه فعلاً. فهو يعيش في المستقبل وإن تكن قدماه سائرتين في العالم الحاضر. لأنه هو الثقة بما يُرجى".

ومتى ذكرنا وعد الله لأبرام: "لا تخف يا أبرام. أنا ترس لك" (تكوين 15: 1)، علمنا أن ترسنا هو الله نفسه، الذي به نحتمي بالإيمان.

 أهمية هذا السلاح: "حاملين فوق الكل" –"أي زيادة على ما ذكر من الأسلحة، أو ما يمكن أن يوضع فوق كل الأسلحة لوقاية الجسد. ويجوز أن تترجم إلى "وفي كل حال" أي في كل دور من أدوار الحرب، وفي أي اتجاه تأتي منه السهام، وضد كل هجوم يقوم به الخصوم –كل هذا لأن الترس يُحمل بإحدى اليدين فيسهل تحريكه ذات اليمين وذات اليسار "في قوة الله بسلاح البر لليمين ولليسار".

 قوة فعل هذا السلاح: "الذي به تقدرون أن تطفئوا جميع سهام الشرير الملتهبة". هذا أول الأسلحة الدفاعية، التي يلبسها المؤمن ليحتفظ بموقفه. وقد اعتاد المتحاربون قديماً أن يربطوا بالسهام مواد قابلة الاشتعال –كالقار وما إليه، يرمون بها العدو وهي مشتعلة. وإلى ذلك أشار المرنم بقوله: "يجعل سهامه ملتهبة" و"سهام جبار مسنونة مع جمر الرتم" (مزمور 7: 13، 120: 4).

وقد كان الترس قوياً منيعاً، يكفي لإطفاء سهام الشرير الملتهبة فلا تصيب قلب المسيحي المجاهد. ويُكنى "بالسهام الملتهبة" عن التجارب المحرقة التي كانت مالئة جو أفسس –أمثال خطية الغضب المتأججة نيرانه والميول الجنسية التي كانت تذكيها عبادة أرطاميس، ونيران المطامع المادية التي تلتهب في القلب فتأكل الأخضر والهشيم، أو سَورة الفكر التي تزحزح ثقة الإنسان بالله. ناهيك عن نيران الجسد الآكلة.

 هذه بعض سهام الشرير الملتهبة التي قد تأتينا مختبئة في الغنى أو مغلفة بالفقر. تارة تأتينا مستورة بالورد والرياحين في أيام نجاحنا، وأخرى تجيئنا محفوفة بالأشواك في أيام فشلنا. لكن الخطر ليس في الغنى أو الفقر، ولا في النجاح أو الفشل، بل في الشر الذي يستتر وراء كل منها.

عدد 17 :

 17وَخُذُوا خُوذَةَ الْخَلاَصِ، وَسَيْفَ الرُّوحِ الَّذِي هُوَ كَلِمَةُ اللهِ.

 (2)السلاح الثاني الدفاعي: سلاح يقي الرأس

الخوذة: "وخذوا خوذة الخلاص" الخوذة هي غطاء الرأس. كانت تصنع أحياناً من جلد سميك، وأخرى من نحاس (1صم 17: 38) وتزًّينت قمتها غالباً بعرف أو ريش. وفي الأزمنة المتأخرة، أضيفت إليها قطعة وجيهة لوقاية الوجه وتتبين لنا أهمية الخوذة متى تحققنا أنها تحمي الرأس الذي هو مركز الدماغ. ووازن الجسد، وموطن العينين. فكل سهم يصيب الرأس، يفقد الجسد قوة التوازن، أو يصيب منه مقتلاً.

أما "الخوذة" الروحية فهي "خوذة الخلاص". وقد أشار إليها بولس نفسه في رسالة سابقة بقوله: "وخوذة هي رجاء الخلاص" (1تس 5: 8). فهي خوذة "الخلاص" على اعتبار أن الخلاص فعلٌ تم منذ آمنّا، وهي خوذة "رجاء الخلاص" على اعتبار أن الخلاص عملية لم تتم بعد. المعنى الأول يفيد خلاص التبرير، والثاني يشير إلى خلاص التقديس والتمجيد حين نتمتع بكمال فداء الأجساد. لأننا خلصنا في الماضي (أعمال 16: 31)، وها نحن متممون خلاصنا الحالي (فيلبي 2: 12)، وسنخلص كمالياً عند مجيء المسيح ثانية (عب 9: 28). يتضح لنا ذلك متى ذكرنا أن الكلمة التي ترجمت إلى "خلاص" في هذا العدد ليست هي "سوتيريا" التي استعملت في 1تسالونيكي 5: 8، بل "سوتيريون" الأولى تعني الخلاص كعملية دبرها الله، والثانية تعني الخلاص كنعمة يقبلها الإنسان بالإيمان.

هذا هو الخلاص، الذي يتقبله الإنسان من الله كعطية مجانية مقدمة منه. فالكلمة التي ترجمت: "خذوا" تعني حرفياً "تقبلوا"، أو تسلموا كما من يد رئيس جيشكم الأعلى، الذي أعد لكم هذا السلاح، كناية عن قبول الإنسان ذلك الخلاص العجيب الذي أكمله المسيح على الصليب.

وقد يحلو لنا أن نذكر أن إشعياء رأى فادينا ورئيس جيش خلاصنا "وخوذة الخلاص على رأسه" (إشعياء 59: 17). فما علينا إلا أن نرفع عيوننا إليه بالإيمان فنكون ظافرين. ومادام "الرأس" في حمى أمين، فلا خوف علينا نحن أعضاء الجسد!! وإذا كانت الخوذة تحمي عيوننا أيضاً، فلنرفع عيوننا لأن نجاتنا تقترب" (لوقا 21: 18).

-ج-سلاح الهجوم –سلاح اليد- السيف: "وسيف الروح الذي هو كلمة الله". كان السيف غالباً قصيراً ذا حدين (قضاة 3: 16)، وكان له غمد (إرميا 47: 6)، وعُلقّ بالمنطقة (2صم 20: 8). وهو السلاح الهجومي الوحيد الذي ذكره الرسول هنا، لأن الحرب التي نحن بصددها، هي حرب دفاعية أكثر منها هجومية: "اثبتوا".

أما سيف المؤمن فهو "كلمة الله"، الموحى بها في الكتاب المقدس، وفي الكلمة "ريما" لا "لوجوس". هذا هو السيف الماضي ذو الحدين الذي استخدمه المسيح حين صرع الشيطان بقوة "المكتوب". بل هو السلاح الذي به تغلب بولس في ساعات مجده، وفي أوقات هوانه، إذ كان يرجع دائماً إلى المكتوب (قابل أعمال 14: 14و 15 بمزمور 145). بل هذا هو السلاح الذي حمله لوثيرس طوال مدة الإصلاح، مستمسكاً بقوة المكتوب "البار بالإيمان يحيا". لا بل هذا هو السلاح الذي به صرع يونان عدو الخير، ووقف على قدميه ظافراً منصوراً، حين جاءته "كلمة الرب ثانية"!! "فإلى الشريعة وإلى الشهادة"!!

هذا هو السيف المرهف الفاحص. فقد رأى أحدهم بعض الجنود في الحرب الكبرى يغرزون سيوفهم في أكياس الدريس، لأن أخباراً جاءتهم بأن جواسيس اختبأوا بين الدريس! هذا هو السلاح عينه الذي يستطيع أن يميز أفكار القلب ونياته. هذا هو السلاح الذي يرهف عقولنا، ويحدد عزائمنا، ويشدد إرادتنا. فكم من جندي جريح توكأ على سيفه بعد أن بترت إحدى ساقيه بشظايا القنابل!! "هذه هي تعزيتي في مذلتي أن قولك أحياني".

وقد نُسب هذا السيف إلى "الروح" لأن الروح القدس هو الموحي بالكلمة المقدسة، وهو الناطق بالأنبياء في كلا العهدين – القديم والجديد (عب 3: 7، 9: 8و 10: 15، 1بط 1: 11، 2بط 1: 12).

عدد 18:

18مُصَلِّينَ بِكُلِّ صَلاَةٍ وَطِلْبَةٍ كُلَّ وَقْتٍ فِي الرُّوحِ، وَسَاهِرِينَ لِهَذَا بِعَيْنِهِ بِكُلِّ مُواظَبَةٍ وَطِلْبَةٍ، لأَجْلِ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ،

خامساً: سهر الجندي المسيحي –الصلاة

ها قد رسم أمامنا الرسول، صورة للجندي المسيحي المتسلح بكامل عدته، "فمنطقة الحق" تشدد حقويه، "وردع البر" يقي صدره، وأحشاءه، وظهره، "وحذاء استعداد إنجيل السلام" يوطد قدميه. "وترس الإيمان" بيده اليسرى ليحمي قلبه من "سهام الشرير الملتهبة"، "وخوذة الخلاص" فوق رأسه لتصون رأسه وعينيه، "وسيف الروح" في يده اليمنى يضرب به ذات اليمين وذات اليسار، فماذا بقي عليه بعد حمل هذا السلاح الكامل؟ بقي شيء واحد –إن أضاعه خسر كل شيء- هو السهر، المعبرَّ عنه بالصلاة هذا هو السلاح الذي سقط من يد بطرس فأسقط في يده، فنيا سيفه عن قصده ولم يصب سوى أذن عبد! وفي النهاية انغلب هو أمام جارية. هذا هو السلاح الذي أوصى به بولس أهل أفسس قائلاً:

"مصلين بكل صلاة وطلبة".

أولاً: الصلاة كسلاح: "مصلين بكل صلاة وطلبة" –تُعتبر الصلاة سلاحاً لأنها هي إحدى وسائل الاستنجاد برئيس جيشنا الأعظم ليرسل إلينا المدد

-أ-نوع الصلاة- "بكل صلاة وطلبة"

الكلمة الأولى: "صلاة" تعني الشركة مع الله، وهي تشمل الحمد والشكر والانتظار في حضرته بسكون والثانية: "طلبة" تعني الأدعية التي نتقدم بها إلى الله. والأولى أعم من الثانية وأشرف وأرفع. الأولى تعيّن صلتنا بالله حتى بعد ارتفاعنا إلى المجد. لكن الثانية قاصرة على أدعيتنا إليه ونحن على أرض الحاجة والعوز. وقوله: "كل صلاة" يعني الصلاة بكل أنواعها: من سرية وجهرية، شفوية وباطنية، مكتوبة ومرتجلة، شخصية وتشفعية.

-ب-أوان الصلاة: "كل وقت". لا أوان للصلاة، لأنها في كل أوان، فهي لا تحمل ساعة يد، ولا ساعة جيب، ولا تتطلع إلى ساعة حائط، لأن عينها على الدوام متوجهة إلى "ساعة" الله التي يتمم فيها مقاصده بحكمة. وليس معنى هذا أن يكون الإنسان متخذاً "هيئة المصلي على الدوام" –إن ساجداً، أو واقفاً أو جالساً- بل أن يكون على الدوام في "روح" الصلاة، إذ يكون قد عود نفسه على التوجّه إلى الله اتجاهاً علوياً كل يوم وكل اليوم!

-ج-جو الصلاة: "في الروح" –أي في الروح القدس الذي هو المحرك على الصلاة، والمرشد في الصلاة، والمعين في الصلاة، والناطق فينا "بأنَّات لا ينطق بها" في الصلاة.

-د-المواظبة على الصلاة: "ساهرين لهذا بعينه بكل مواظبة وطلبة" هذه هي المرة الثالثة التي تكررت فيها كلمة "كل" في هذا العدد –والحبل المثلوث لا ينقطع سريعاً وقد أريد بهذه "الكلية" الثالثة شدة المواظبة، ودوام المثابرة والسهر في الصلاة بكل أنواعها. ويُكنى "بالسهر بكل مواظبة" عن توقع انتظار إجابة الصلاة في حينها.

-ه-المصَّلى لأجلهم: (1)لأجل سائر الجنود: "لأجل جميع القديسين". على الجندي أن يوجه قلبه باستمرار إلى الله في الصلاة، ذاكراً إخوته المجاهدين معه في نفس الحرب الواحدة –وإن كانوا في ميادين مختلفة. لأننا وإن كنّا نختلف عن بعضنا البعض في حالاتنا وحاجاتنا، ومعداتنا ومحارباتنا، لا أننا واحد في المسيح، وأنه لمن أكبر المشجعات لنا في جهادنا الروحي، أن نذكر أننا نحارب وحدنا، لكننا نكوِّن جيشاً واحداً مع سائر أخوتنا في العالم: ولو أننا لا نراهم. بهذا كان يتشجع المتحاربون في الحرب الكبرى مع كونهم لا يرون أخوتهم المختفين عنهم في الخنادق! وهو خير امتياز يتمتع به صغيرنا: أن يكون سبب إتيان بركة الظفر والانتصار على كبيرنا ومن يدري! ربما في اليوم الأخير، تُرفع تيجان كبيرة وضعها البشر على رؤوس "عظيمة"، لتلبسها رؤوس كانت مختفية عنا، اعتقاداً منا أنها صغيرة.

عدد 19:

19وَلأَجْلِي، لِكَيْ يُعْطَى لِي كَلاَمٌ عِنْدَ افْتِتَاحِ فَمِي، لِأُعْلِمَ جِهَاراً بِسِرِّ الإِنْجِيلِ،

 (2)لأجل الرسول نفسه ولأجلي". أي امتياز في الدنيا يعدل هذا الذي يشعر بها العبد في المنزل المسيحي عندما يسمع بولس قائلاً له: "صل لأجلي". ما أعظم ديموقراطيتك يا بولس وما أجلَّ وداعتك! نعلم أن الأكثرين في حاجة إلى صلاتك لأجلهم، ولكن ما كنا ندري أنك في حاجة إلى صلاة الجميع –حتى أصغر الأصغرين!! أليس هذا دليلاً على وحدانية المؤمنين في المسيح الواحد، وأن ما يصيب أحدهم من ألم، يشترك فيه الآخر، وأن لا غنى لأكبرهم عن أصغرهم. فما عليك أيها الأخ العزيز إلا أن تثابر في الصلاة فلعلك بصلاتك تسعف عظيماً كبولس وأنت لا تدري!

 كان بولس في حاجة إلى الصلاة لأجله، لكي يبلّغ رسالة الإنجيل بكل حكمة وفطنة وشجاعة إلى أهل تلك المدينة العظيمة –عاصمة الدنيا في وقته- روما. "لكي يُعطى لي كلام عند افتتاح فمي" –للوعظ والإرشاد- "لأعلم جهاراً"- بدون تحفظ ولا وَجَل فلا أخفى شيئاً من الحق، فأقول الحق، وكلّ الحق، ولا شيء إلا الحق، (فيلبي 1: 20 ورومية 1: 15و 16) "بسر الإنجيل" –هذه هي المرة السادسة التي وردت فيها هذه الكلمة: "سر" في هذه الرسالة (1: 9، 3، 3:4و 9، 5: 32) فاطلب تفسيرها في هذه المواضع.

عدد 20 :

20الَّذِي لأَجْلِهِ أَنَا سَفِيرٌ فِي سَلاَسِلَ، لِكَيْ أُجَاهِرَ فِيهِ كَمَا يَجِبُ أَنْ أَتَكَلَّمَ.

 تناقض ظاهري: "سفير في سلاسل" –كلمتان متناقضتان يفصل بينهما حرف صغير: "في". إحداهما ترينا الرسول في جلال ومجد: "سفير"، والثانية ترينا إياه في موقف المجرمين: "سلاسل". الأولى ترينا إياه نائب ملك: "سفير"، والثانية ترينا إياه في مكان العبد: "سلاسل".

 هنيئاً لك يا بولس هذا المجد الممتاز، فلو كنت سفيراً فقط لاحترمناك مرة، أما وأنت سفير في سلاسل، فإننا نحترمك ألف مرة ومرة –لا على السفارة التي تمجد السلاسل، بل على السلاسل التي تزين السفارة! فلا التيجان على رؤوس الملوك بأجمل من هذه السلاسل في رجليك!! غيرك تقيده الدنيا العريضة ولو كان في قصورها، لأنه متعلق بأهداب مادتها ولكنك أنت حر ولو كنت مغلولاً بسلاسل سجونها. فأهنأ بما نلت وبشر جهاراً "بسر" الإنجيل ولو كنت في السلاسل!!

كلمة شخصية

(6: 21و 22)

21وَلَكِنْ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ أَيْضاً أَحْوَالِي، مَاذَا أَفْعَلُ، يُعَرِّفُكُمْ بِكُلِّ شَيْءٍ تِيخِيكُسُ الأَخُ الْحَبِيبُ وَالْخَادِمُ الأَمِينُ فِي الرَّبِّ، 22الَّذِي أَرْسَلْتُهُ إِلَيْكُمْ لِهَذَا بِعَيْنِهِ لِكَيْ تَعْلَمُوا أَحْوَالَنَا، وَلِكَيْ يُعَزِّيَ قُلُوبَكُمْ.

 بكلمات شخصية اختتم بولس هذه الرسالة الخالدة، لأن صلات المحبة والمودة كانت تربطه بالمكتوب إليهم. ولما كان لزاماً عليه أن يحيطهم علماً "بأحواله"، لم ير بداً من أن يكلف الأخ تيخيكوس بهذه المهمة، فيعرّفهم بكل شيء شفاهاً، كأنه حسب هذه الرسالة السماوية أرفع من أن يسيطر فيها شيئاً عن ظروفه الخاصة، وأحوال معيشته في السجن، وما له من مجال للتبشير ولقد خلع على تيخيكوس وصفين جميلين –كل منهما مزدوج: أولهما: "الأخ الحبيب"والثاني: "الخادم الأمين". أولهما يصفه في شخصه، والثاني يصفه في عمله. وقد ورد اسم الأخ الحبيب في أعمال 20: 4، كو 4: 7، 2تي 4: 12، تيطس 3: 12- والمستفاد من هذه الشواهد مجتمعة معاً، أن هذا الأخ من آسيا الصغرى مولداً، ولعله من أفسس نفسها، وهو محب صادق وصدوق لبولس، مما أكسبه حب بولس وثقته. وهو بين الذين وقفوا جانب الرسول حتى نهاية جهاده. ويقول تقليد قديم: إن هذا الأخ الحبيب أصبح أسقفاً على بيثينيَّا. ويقول مصدر آخر: إنه صار أسقفاً على نيابوليس في قبرص. ويقول الأسقف ليتفوت أن اسم "تيخيكوس" وُجد منقوشاً على عملة رومانية قديمة!! وسواء أكان هذا اسمه هو، أم لا –والأرجح لا- فيكفيه فخراً أن اسمه نُقش في رسالة أفسس –وهو الشخص الوحيد الذي حاز هذا الشرف بعد الرسول- هذا أجلّ له، وأشرف، وأبقى.

البركة الختامية

(6: 23و 24)

23سَلاَمٌ عَلَى الإِخْوَةِ، وَمَحَبَّةٌ بِإِيمَانٍ مِنَ اللهِ الآبِ وَالرَّبِّ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. 24اَلنِّعْمَةُ مَعَ جَمِيعِ الَّذِينَ يُحِبُّونَ رَبَّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحَ فِي عَدَمِ فَسَادٍ. آمِينَ. (كُتِبَتْ إِلَى أَهْلِ أَفَسُسَ مِنْ رُومِيَةَ عَلَى يَدِ تِيخِيكُسَ).

تمتاز البركة الرسولية التي اختتم بها الرسول هذه الرسالة عن تحيته التي استهلها بها، بأمرين:

أولهما: أن البركة موجهة إلى "الأخوة" في صيغة الغائب: "على الأخوة" والتحية موجهة إليهم في صيغة المخاطب: "نعمة لكم".

ثانيهما: أن البركة الرسولية أعم في مداها من التحية. فالتحية كانت مقصورة على " النعمة والسلام": "نعمة لكم وسلام" لكن البركة أضافت محبة مقترنة بالإيمان إلى النعمة والسلام: "سلام.. محبة.. إيمان.. النعمة" وكلها منبعثة من قلب الله. "سلام، محبة، إيمان، نعمة" –هذه هي الأضلاع الرباعية التي يتألف منها "هرم" هذه البركة. وهو أثبت من أقدم الأهرامات وأعظمها، لأن الله موجد أحجاره.

"النعمة مع جميع الذين"... هذه مكافأة جامعة.

"يحبون ربنا في عدم فساد"... هذه مكافأة مانعة.

إن حب المسيح لنا يولد فينا نحوه حباً من جنسه: "محبة في عدم فساد". هذا أجمل ختام لأجمل رسالة خطها قلم بولس. فقد لاق حقاً بتاج رسائله أن تتوّج بخير النعم والفضائل –المحبة المنزهة عن الفساد فهي إذاً محبة حية خالدة لأنها مجردة عن الفساد الذي هو علة الفناء، وهي محبة عالية لأنها موجهة إلى ربنا يسوع المسيح. هذه هي الماسة الصافية النيرة التي لا تشوبها شائبة فساد، أو غرض، أو هوى. هذه هي الدرة الخالدة التي لن تفنى، ولن يفنى حاملها، ولو كان عائشاً في قلب أفسس عاصمة الفساد.

لأنه يحب المسيح "من كل قلبه، ومن كل نفسه، ومن كل فكره". هذه دلالة مصالحته مع الله، وثمرة هذه المصالحة، بل تاج هذه المصالحة.

هذه هي المحبة التي تحيا وتتحرك وتوجد في جو مقدس لا يعتريه الفساد.

 لأنها تحيا في الله. فلن تموت محبة يكون الإخلاص رائدها، وحب المسيح موجدها،

وشخص المسيح مجددها، ومجد المسيح متوجها وممجدها.

آمين فآمين.


طباعة  

د. القس إبراهيم سعيد

د. القس إبراهيم سعيد

دكتورة فينيس نقولا

الدكتور القس منيس عبدالنور