تناولت الصحف ووسائل الإعلام المصرية بمختلف أطيافها العلاقة المتوترة بين الكنيسة الأرثوذكسية من جهة، والكنائس الإنجيلية والكاثوليكية من جهة أخرى، تلك العلاقة التي تتناول موضوعات قوانين الأحوال الشخصية، ومنها الزواج والطلاق، والسماح بإعادة زواج المطلقين وغيرها من موضوعات، هذه الاختلافات التي انخرط في نقاشها فقهاء ولاهوتيو الكنيسة من كل جانب.
لكن على المستوى الكنسي، والشعبي، فإن صراعًا أخر يديره بعض الكهنة والأساقفة والمطارنة –بدعم كامل من المؤسسة الكنسية الأرثوذكسية- حول اعتبار أي زواج خارج مؤسسة الكنيسة الأرثوذكسية وطقوسها، إنما هو بمثابة الزنى، وعليه يكون كل مَن تزوج زواجًا إنجيليًا أو غيره طالما لم يكن هذا الزواج على يد كاهن أرثوذكسي ومن خلال الطقوس الأرثوذكسية للزواج، نوعًا من الزنى والعلاقة المحرمة التي تحتاج إلى تصحيح؛ وما هو التصحيح في هذه الحالة إلا بالعودة مرة أخرى لإعادة الزواج بواسطة كاهن أرثوذكسي، حتى تُصبح العلاقة بين الرجل والمرأة علاقة زواج وليست علاقة زنى.
أمام هذه المغالطات وجدت نفسي أعود لدراسة الأمر برمته سواء كتابيًا أو تاريخيًا أو اجتماعيًا، فوجدتني أخرج ببعض التساؤلات التي لم أجد لها إجابات فوضعتها أمامك عزيزي القارئ لعل أجد عندك أو عند رجالات الكنيسة الأرثوذكسية حلًا لها، لكنني قبل أن أستعرض معك تساؤلاتي، عليَّ أن أعرض عليك بعض من تلك الحقائق الكتابية والتاريخية والاجتماعية، لعلها تكون مفيدة لي ولك في موضوع دراستنا.
أولًا: الزواج في الكتاب المقدس والتاريخ الإنساني
الزواج هو علاقة أوجدها الله منذ بدء التاريخ، حين أوجد حواء "المرأة الأولى" لآدم "الرجل الأول" لتكون معينة نظيره، وبعد أن أصبحا زوجًا وزوجة، صارا واحدًا، ليس بعد اثنين، بل واحد، إذًا فالزواج ناموس إلهي، -أسس فيما بعد لنظام إنساني عام- يسبق كل التشريعات المدنية والوضعية، وبالطبع الكنسية.
وفي كل الزيجات المذكورة في الكتاب المقدس لن نجد أية طقوس أو ممارسات دينية تتم أثناء حفلات الزواج، فقط إجراءات مدنية كبركة أهل العروس لابنتهم (تكوين 24: 6)، وبركة رجال القضاء لبوعز (أستير 4: 11، 12)، هذا ما يؤكد على مدنية الزواج في الكتاب المقدس، واعتباره عرفًا اجتماعيًا لا إجراءًا دينيًا، بل والأكثر من ذلك فإننا لم نجد في كتب العهد القديم أية إشارة لما يُسمى "عقد الزواج"، حيث كان يُكتفى بموافقة الأهل من الجانبين (تكوين 24: 50-51)، والحالة الوحيدة التي قرأنا فيها عن "عقد الزواج" ما جاء في سفر طوبيا الأبوكريفي "160 ق.م" (طوبيا 7: 16)، مع أننا نقرأ في سفر ملاخي عما يُسمى بـ "عهد الزواج" بين الرجل وامرأته (ملاخي 2: 14)، هذا العهد يضع الزوج -خاصة- والزوجة معًا أمام مسؤوليتهما المباشرة أمام الله؛ كعودٍ على التأكيد بأن الزواج ناموس إلهي وعرف اجتماعي.
وقد كان الزواج يتم بين أبناء العشيرة (تكوين 24: 4، 28: 1-3)، أو من خارجها (تكوين 28: 8)، أو حتى من أجنبي (تكوين 41: 45)، وبعدما جاءت الشريعة جعلت للزواج من الأجنبي نظامًا خاصًا مقبولًا ومعترفًا به.
أما في العهد الجديد فإننا نرى التأكيد على قدسية العلاقة بين الرجل والمرأة طالما أصبحا زوجًا وزوجة، ولم يتعرض كُتاب الوحي لا من قريب ولا من بعيد للكيفية أو الطقس الذي مارسه الزوجان عند الارتباط ببعضهما البعض، حتى بعد أن جاءت المسيحية –كديانة- وجماعة المؤمنين -وبالرغم من الرغبة في أفضلية عدم الارتباط بين المؤمن وغير المؤمن- إلا أن الرسل لم يعتبروا أن زواج المؤمن من الوثنية أو العكس زنى، بل اعتبروا أن كلٌ من الزوج والزوجة مقدسٌ في الآخر، وأن ثمر هذا الزواج من الأولاد مقدسين أيضًا (1كورنثوس 7: 14).
ولعل التاريخ الكنسي يشهد عن اعتراف الكنيسة بزواج الرجل بالمرأة، حتى وإن كان واحد منهما خارج الإيمان المسيحي، وفي قصة مونيكا والدة القديس أغسطينوس وهي إمرأة مسيحية تزوجت برجل وثني وأنجبت أغسطينوس لم تعتبر الكنيسة أن هذا الزواج غير مقدس، وهناك الكثير من الأمثلة التاريخية المعترف بها لمثل هذه الحالات.
وبالرغم من تعدد أشكال وطرق الارتباط بين الرجل والمرأة طبقًا للعادات والتقاليد المجتمعية السائدة، إلا أننا لم نقرأ أبدًا عن أي مجتمع اعتبر واحدة من تلك العلاقات الزوجية التي أتبعت تقاليده المعترف بها نوعًا من الزنى.
ويخبرنا التاريخ أن الزواج هو نوع من الارتباط المدني بين الرجل والمرأة هذا الارتباط يخضع لتقاليد وأعراف المجتمع، ويجد شرعيته ومصداقيته من اعتراف المجتمع به وبثمرته الإنجابية.
على جانب آخر لا نجد أن الزواج عرف طريقه إلى المؤسسة الكنسية حتى القرن الخامس الميلادي، حيث بدأ البعض أثناء حفلات زفافهما بالمرور أمام دور العبادة، وتطور الأمر بعد ذلك إلى طلب البركة من رجل الدين، ومن ثم الدخول إلى الكنيسة للصلاة فيها لنوال مزيد من البركة، فيما أصبحت هذه العادة بعد ذلك عُرفًا يُعرف بالزواج الكنسي، وليس خافيًا أن الكثير من حالات الزواج –حتى عهد قريب- كانت تتم في المنازل وليس في الكنائس، وعلى كلٍ لم يصبح الزواج سرًا كنسيًا إلا بمجيء القرن العاشر وعصور الظلام حتى يزيد ذلك من سلطة وقبضة رجال الدين على الشعب.
والسؤال المطروح الآن: إن كان لدى أيٍ من قادة الكنيسة الأرثوذكسية نفيًا لهذا التاريخ أو تأكيدًا على دور الكنيسة في الزواج قبل القرن الخامس فعليه أن يدلنا وينير أذهاننا؟
ثانيًا: الزنى
يضع الكتاب المقدس أمامنا بعض التعريفات لما يُسمى بـ "الزنى"، ومن هذه التعريفات:
1- الزنى الفعلي، وهو خيانة أحد الزوجين لشريكه في العلاقة الزوجية، بممارسة العلاقة الجنسية خارج إطار العلاقة الزوجية (لاويين 20: 10).
2- الزنى الروحي، وهو العودة لعبادة الأوثان بعد التعرف على الله (خروج 4: 15، قضاة 8: 27، هوشع 6: 10).
3- الزنى الاعتباري، وهو وضع أحد الزوجين في حكم الزنى، مع عدم ممارسة العلاقة الجنسية مع أحد آخر، كمن نظر إلى إمرأة ليشتهيها (متى 5: 28)، أو المرأة المُطلقة من زوجها (متى 5: 31)، أو مَن تزوج بمطلقة (متى 5: 32، 19: 9).
إذًا الزنى هو خيانة عهد ارتباط، سواء كان هذا العهد على مستوى ارتباط الرجل والمرأة بالزواج، أو على مستوى الإنسان بعبادة الله الحي، وبخلاف هذه التعريفات الثلاثة الكتابية لا يوجد معنى آخر للزنى، أما الزواج فهو زواج سواء مارسته المجتمعات المختلفة كالمصريّين، أم الآشوريّين، أو مارسه أتباع الديانات الأخرى كاليهود، والمسلمين، ... الخ. وهؤلاء جميعًا يعرّفون الزنى بأنه خيانة الزواج.
أما عن كتابات آباء الكنيسة، لاسيما في القرون الخمسة الأولى لا نجد نصًا واحدًا يصف الزيجات التي تتم خارج إطار الكنيسة على أنها زنى، وهذا المبدأ ينطبق على القرون الخمس التالية .
إن الادعاء بأن الزواج خارج المؤسسة الكنسية الأرثوذكسية، أو الذي يتم بعيدًا عن إجراءات طقوس الكنيسة الأرثوذكسية، أو بدون واسطة كاهن، هو زنى، إنما هذا الادعاء يُدخِل الكنيسة الأرثوذكسية في عدة إشكاليات، سيأتي الحديث عنها ضمن تساؤلاتي ..
ثالثًا: تساؤلات حائرة
أمام هذا العرض والكثير من الدراسات الكتابية ودراسة الوضع المجتمعي المحتقن أجد بعض الأسئلة الحائرة التي تبحث عن إجابات، ومنها بعض الإشكاليات التي تُدخِل الكنيسة الأرثوذكسية بإدعاءتها هذه في الكثير من المشكلات، نذكر منها:
1- ما هو موقف الكنيسة من الذين تزوجوا قبل وجود المؤسسة الكنسية الأرثوذكسية؟ وما تعريفها لهذه الزيجات؟
2- ما هو موقف أصحاب الديانات الأخرى، وما قول الكنيسة في زواج أصحاب هذه الديانات، بالرغم من وجود الكنيسة الأرثوذكسية في محيط وبلاد تدين بدين غير المسيحية، هل يُعتبر هذا الزواج زنى؟ أم أن الكنيسة لا تستطيع الدخول في مثل هذه المواجهة؟ أم ماذا؟
3- ما هو رأي الكنيسة من اعتراف آباء الكنيسة عبر تاريخها، بالزواج خارج المؤسسة الكنسية؟ هل تقبل تقليد الآباء أم أنها تنتقي منه ما يخدم مصالحها الذاتية فقط؟
4- إن كان الرسل والتلاميذ، ومن بعدهم آباء الكنيسة قبلوا الزواج المختلط بين المؤمنين ومَن هم خارج الإيمان، ولم يتهموا أحد أطراف هذا الزواج بأنه زاني، فهل تمتلك الكنيسة الأرثوذكسية اليوم ما غاب عن رسل المسيح وتلاميذه وآباء الكنيسة؟ ما هو؟
5- ما هو موقف الكنيسة الأرثوذكسية من وجود بعض من كهنتها أو أساقفها، أو حتى أعضائها الذين جاءوا كثمرة زواج إنجيلي، أو قل جاءوا كثمرة زواج تم خارج مؤسستهم الكنسية؟ هل تعتبرهم أولاد زنى؟ أم ماذا؟
6- هل حققت الكنيسة الأرثوذكسية اليوم إرساليتها التي كلفها بها المسيح، من ربح النفوس، ونشر الإيمان المسيحي، وخدمة الإنسان بمختلف احتياجاته وبكل طوائفه وفئاته، حتى لم يُعد لديها إلا موضوع الزواج -ذلك الموضوع الاجتماعي أكثر منه كنسي- لتصنع منه إشكالية العصر وموضوعًا لخلافاتها مع الكنائس الإنجيلية، والدولة والمجتمع الذي يمارس زواجًا خارج مؤسسة الكنيسة الأرثوذكسية؟
وأخيرًا لا أجد أمامي إلا أن أضع أمام المسؤولين في الكنيسة الأرثوذكسية، من أصحاب هذه الادعاءات، تساؤلًا كبيرًا، ترى إذا اعتبرتم أن كل زواج إنجيلي هو نوع من الزنى، ولا يُصلح معه إلا إعادة الزواج بالطقوس الأرثوذكسية وعلى يد كاهن، فهل يمكن إعادة زواج الإنجيليين في حفل جماعي ضخم في ستاد مثل ستاد القاهرة الدولي؟ وإذا نجحت هذه المساعي وتم تدبر هذا الأمر، فماذا عن الأولاد الذين جاءوا ثمرة الزواج الإنجيلي قبل تصحيحه بطقوسكم، هل يعتبروا أولاد زنى، أم إنهم أصبحوا مقدسين بعدما أُعيد زواج والديهم ثانية؟ وماذا عن وفاة أحد الوالدين على ذمة زواجه الغير الأرثوذكسي؟ هل يمكن أن يحل أحد الأقارب أو أحد الأشخاص لإعادة زواج الطرف الذي مازال حيًا لينعم بزواج مقدس؟ أعتقد أن الأمر يحتاج الكثير من التروي قبلما نسارع بتصريحات عنترية تضر أكثر مما تفيد.