يشعر المسيحيّون بعدم الارتياح في الإتّفاق مع قَوْل المُرنّم، «أَجْرَيْتُ حُكْماً وَعَدْلاً» (مزمور 119: 121). فمن منظور العهد الجديد، غالبًا ما نظن أنّ البِرّ أمرٌ مُستحيلٌ. فالله وحده هو البارّ الحقيقيّ. ونستطيع في يسوع وحده أن نقف أمام الله كأُناسٍ مُبَّررين. كيف يُصلّي الإنسان بعد ذلك، «اِسْمَعْ يَا رَبُّ لِلْحَقِّ. أُنْصُتْ إِلَى صُرَاخِي. أَصْغِ إِلَى صَلاَتِي مِنْ شَفَتَيْنِ بِلاَ غِشٍّ» (مز17: 1)؟ إنّنا نشعر بارتياحٍ أكبر بكثير مع كلمات داود «لَنْ يَتَبَرَّرَ قُدَّامَكَ حَيٌّ» (مزمور 143: 2).
أولاً: الكلمات العبريّة ومعانيها.
تُشتَق الكلمات العبريّة المُترجَمة «بارٌّ» و»بِرٌّ» من الجذر(صَادَاق). وتعني كلمة (صدِّيق) «عادلٌ» أو «بارٌّ»، فالـ(صِدِق) هو «الصَواب» أو «البِرّ» والـ(صَدَقَة) هي «البِرّ.»
وتُعبّر الفكرة الجوهريّة عن تطابُق مع مقياس نموذجيّ للسلوك. فيُعَد الناس أبرارًا عندما يتوافَق سلوكهم الشخصيّ والعلاقاتيّ-الاجتماعيّ مع مقياسٍ أخلاقيّ مُتعارَف عليه. ففي العهد القديم، يوجد مقياسٌ واحدٌ يمكن أن يُقاس به البِرّ: إرادة الله المُعلَنَة، خاصّةً كما هي مُوضَّحة في النّاموس.
هكذا، فلا يتعامل العهد القديم—بشكلٍ أساسيّ—مع بِرّ نظريّ مُجرّد. عندما يُقال عن شخص ما إنّه «بارٌّ،» لا يتضمّن هذا أيَّ تلميحٍ لعدم وجود خطيّة فيه. وبدلاً من ذلك، تتضمّن العبارة أفعالاً مُتوافِقة مع التزامات الفرد في علاقته مع الله.
ثانياً: الله البارّ
يتحدّث الكتاب المقدّس عادةً عن الله كَبارٍّ. هو «إِلَهُ بِرٍّ» (مزمور 4: 1؛ 7: 9؛ إشعياء 45: 21). كلّ أفعاله بارّةٌ دائمًا، لأنّ كلّ ما يفعله مُتوافِقٌ مع شخصيّته انظر: إرميا 12: 1، قضاة 5: 11؛ مزمور 71: 24. فباعتباره الحاكم الأخلاقيّ للكون، فإنّ صميم شخصيّته هو المقياس النهائيّ لكل بِرّ.
ويظهر بِرّ الله بوضوحٍ في الأحكام والشرائع التي أعطاها ليحكم بها شعبه. وعبَّرَ موسى عن ذلك عندما طلب من الشعب في القديم أن يدخلوا أرض الموعد: «وَأَيُّ شَعْبٍ هُوَ عَظِيمٌ لهُ فَرَائِضُ وَأَحْكَامٌ عَادِلةٌ مِثْلُ كُلِّ هَذِهِ الشَّرِيعَةِ التِي أَنَا وَاضِعٌ أَمَامَكُمُ اليَوْمَ؟» (تثنية 4: 8؛ قارن مع مزمور 119: 7، 62، 75، 106، 138، 160، 164، 172).
إنّ العهد القديم لديه طريقتان لوصف الله العامل ببِرٍّ. الطريقة الأولى، «وَهُوَ يَقْضِي لِلْمَسْكُونَةِ بِالْعَدْلِ» (مزمور 9: 8؛ 96: 13؛ 98: 9). كحاكمٍ أخلاقيّ، يكره الله الإثم (مزمور 45: 7). من ثمّ، فأعمال قضائه هي تعبيرٌ عن بِرّه الحقيقيّ. والطريقة الثانية، نجد في العهد القديم إدراكًا بأنّ إله بِرِّنا هو أيضًا مُخلِّصٌ (إشعياء 45: 21). يصرخ المُرنّم، «بِعَدْلِكَ نَجِّنِي» (مزمور 31: 1 قارِن مع 119: 40). إنّ أعمال الله المُنقِذة تظهر متوافِقَة كليّةً مع بِرّه، الأمر الذي اهتم به الرّسول بولس كما يظهر في رسالة رومية.
ثالثاً: الإنسان البار.
يتحدّث العهد القديم بحُرّيّةٍ عن أُناسٍ أبرارٍ. فبالرغم من إدراك داود أنّه « لَنْ يَتَبَرَّرَ قُدَّامَكَ حَيٌّ « (مزمور 143: 2)، إلاّ أنّ العهد القديم يُعرِّف الأشخاص على أنّهم أبرارٌ (تك 6: 9؛ أي 1: 1). ويعود سبب ذلك إلى طريقة استخدام العهد القديم لكلمة «البِرّ.» فنادرًا، ما تُستَخدم هذه الكلمة بشكلٍ مُطلَقٍ. فماذا، إذًا، يقول العهد القديم عن بِرِّ الإنسان؟
أوّلاً: يمكن أن يكون البِرُ قابلاً للمقارنة. فقد صَفَحَ داود لشاول، مما جعل شاول يعترف، «أَنْتَ أَبَرُّ مِنِّي...لأَنَّكَ جَازَيْتَنِي خَيْراً وَأَنَا جَازَيْتُكَ شَرّاً» (1صموئيل 24: 17). كانت أفعال داود مُتوافِقةً بشكلٍ أقرب مع الأعمال الإلهيّة أكثر من أفعال شاول. وبالمثل، قال يهوذا عن ثامار، «هِيَ أَبَرُّ مِنِّي» (تكوين 38: 26).
ثانيًا: يتضمَّن البِرّ في العهد القديم توافقًا مع إرادة الله المُعلَنة. حين تأمّل موسى في إعطاء الله إياه الناموس، أخبَرَ الشعب، «إِنَّهُ يَكُونُ لنَا بِرٌّ إِذَا حَفِظْنَا جَمِيعَ هَذِهِ الوَصَايَا لِنَعْمَلهَا أَمَامَ الرَّبِّ إِلهِنَا كَمَا أَوْصَانَا» (تثنية 6: 25). فينبغي علينا ألاّ ننسى أبدًا أنّ الطّاعة في كلّ من العهد القديم والعهد الجديد تنطلق من علاقةٍ سليمةٍ ومُحِبّةٍ مع الله.
ثالثًا: يرتبط البِرّ بعلاقة شخصيّة مع الله. فالأبرار هم الذين يعبدون الله (انظر ملاخي 3: 18)، هم الفَرِحون في الرّب (مز 33: 1؛ مز 64: 10؛ 68: 3)، وسوف يُسبِّحون اسمه (مز 140: 13).
رابعًا: يجلب البِر بركاتٍ مُضاعَفة. فالإنسان الذي يعبد الله ويختار أن يعيش وِفقًا لمقاييسه سينال بركة (مزمور 5: 12)، ويجد تعضيدًا (مزمور 37: 17)، وينمو (مزمور 92: 12)، ويبقى ذِكرُه للأبد (مزمور 112: 6). قد يواجه الأبرار مشكلاتٍ، لكن الله سيُنجّيهم منها (مز 34: 19)، ولن يُهملهم أو يتركهم (مزمور 37: 25؛ 55: 22).
ويُضيف سفر الأمثال أنّ بيتهم سيكون مُبارَكًا (33: 3)، وأنّهم لن يجوعوا (10: 13)، وسوف تُسدَّد احتياجاتهم (10: 24)، وأنّ رجاءهم مُفرِحٌ (10: 28)، لأنّ الله ملجأهم (10: 29)، ولذا لن يُقطَعوا أبدًا (10: 30)، بل سيتقدّمون بثباتٍ وبقوةٍ (11: 28)، وسينجون من المخاطر (11: 8)، وحتّى في الموت سيكون لهم حياة (14: 32).
خامسًا: البِرّ هو أساس الثقة في الصلاة. فالشخص الذي يعيش بمقاييس الله يكون لديه أساسٌ أفضلٌ لكي يتضرُّع إلى الله. يقول داود «أُنْصُتْ إِلَى صُرَاخِي» (مزمور 17: 1)، لأنّ طلبته أتت «مِنْ شَفَتَيْنِ بِلاَ غِشٍّ» (ع 1)، يمكن لداود أن يتوقّع البراءة (قارن 2صموئيل 22: 21، 25، مزمور 7: 8؛ 18: 20، 24؛ 119: 121).
سادسًا: البِرّ ليس هو الأساس النهائيّ الذي يُبنى عليه رضى الله. ففي الوقت الذي يُؤكّد فيه العهد القديم على أهميّة البِرّ الشخصيّ الذي يأتي من الطّاعة المُلتزِمَة لناموس الرّب، إلاّ أنّ أعمال البِرّ ليست هي السبب في اختيار الله لشعبه. أوضح موسى هذا الأمر في تثنية 9: 4-6. «لا تَقُل فِي قَلبِكَ حِينَ يَنْفِيهِمِ الرَّبُّ إِلهُكَ مِنْ أَمَامِكَ: «لأَجْلِ بِرِّي»... ليْسَ لأَجْلِ بِرِّكَ وَعَدَالةِ قَلبِكَ تَدْخُلُ لِتَمْتَلِكَ أَرْضَهُمْ...يَطْرُدُهُمُ الرَّبُّ إِلهُكَ مِنْ أَمَامِكَ وَلِيَفِيَ بِالكَلامِ الذِي أَقْسَمَ الرَّبُّ عَليْهِ لآِبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ. فَاعْلمْ أَنَّهُ ليْسَ لأَجْلِ بِرِّكَ يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ هَذِهِ الأَرْضَ الجَيِّدَةَ لِتَمْتَلِكَهَا لأَنَّكَ شَعْبٌ صُلبُ الرَّقَبَةِ.»
في الواقع، إنّ إيمان المؤمنين الذي يتجاوَب مع الرّب، هو وحده الذي يجعل الله يعاملهم على أنّهم أبرار. كما يقول الكتاب المقدّس عن إبراهيم، «فَآمَنَ بِالرَّبِّ فَحَسِبَهُ لَهُ بِرّاً» (تكوين 15: 6).
أخيرًا، البِرّ له تأثيرٌ أيضًا على المجتمع. فإن ثمر البِر هو السلام. وتأثيره الاجتماعيّ هو الأمن (إشعياء 32: 7). وعندما يُقيم الله مملكته في النهاية على الأرض، سيكون البِرّ والعدل هما قاعدة كرسيّه (مزمور 89: 14).