في البدء كان الفن! والفنان الأعظم كان الله، وكلما أبدع في الخلق رأى ذلك أنه حسن! ولما انتهى « استراح الله» وتقول إحدى القراءات أن الله استراح لعمله الإبداعي كفعل الاستمتاع.
في البدء كان الشعر يوم أنشد «أدم» أول قصيدة شعرية في حواء فقال: هذه الآن عظم من عظامي ولحم من لحمي هذه تدعى امرأة لأنها من امرءٍ أخذت.
في البدء كانت الموسيقى «يوبال» ابن « لامك» الذي كان أباً لكل ضارب بالعود والمزمار، والكتاب المقدس مليء بالفنانين والشعراء والموسيقيين.
الفن: هو القدرة على تعبير الإنسان عن نفسه ومحيطه بشكل بصري أو سمعي أو حركي وهو وسيلة للتعبير عن الأحاسيس والمشاعر الإنسانية، يقول سلامة موسى في كتابه تاريخ الفنون: إن غاية الفنون هي الجمال، هي رفض رؤية الطبيعة ساذجة، الفنون هي الجسر بين الحقيقة والخيال
بنظرة تاريخية سريعة نجد الفنون كانت منتشرة في الوثنية خاصة الرسم والنحت والموسيقى، وذلك لتعدد الآلهة والأصنام فساعد ذلك على التفنن والإبداع في تجسيد الآلهة مرسومة أو منحوتة، ولما ظهرت اليهودية كانت الوصية في التوراة لاَ تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالاً مَنْحُوتًا، وَلاَ صُورَةً، فهدموا المعابد وكسروا التماثيل والصور، كذلك كان موقف المسيحية وكلاهما لم يقضوا على الفنون ولكن تأثروا بها واستثمروها فنجد أن المسيحيين اهتموا بالرسوم والنحت والعمارة في الكنائس، واحتلت صور وتماثيل العذراء والمسيح والقديسين مكانة كبيرة، فقد كان في عصر النهضة فنانين عالميين أمثال (ليوناردو دافنشي – مايكل أنجلو –رفائيل) ساهموا برسومات ولوحات خالدة مثل « العشاء الأخير»
وعن موقف المصلحين من الفنون في عشية الإصلاح نجد أن السلطة البابوية توغلت في ذلك الوقت وكان أحد أسباب فكرة صكوك الغفران هي الحاجة للمال للبناء والتشييد والتزيين والعمارة، ولما ظهرت حركة الإصلاح على يد مارتن لوثر كانت الدعوة بتطهير الكنائس من التماثيل والصور التي تقدس القديسين، فكان أحد مبادئ الإصلاح «المسيح وحده»
فنرى أن الفن تأثر بظهور الإصلاح من جانبين الأول سلبي وهو مقاومة الصور والتماثيل فتم تحجيم الفن والرسم والعمارة داخل الكنيسة والدعوة إلى البساطة، ولكن الجانب الإيجابي هو خروج الفن والفنانين من النطاق الضيق الكنسي إلى نطاق أوسع وأعم، فيذكر لنا أيضا سلامة موسى عن رجلين في ألمانيا ذاع صيتهم في الرسم هما (دورير – هولبين) فيقول إن « دورير» المعاصر لمارتن لوثر عندما دعاه الإمبراطور مكسيليمان لكي يرسمه هو وحاشيته، وضح أن سبب الدعوة أن «دورير» كان بروتستنتياً يؤمن بمبادئ لوثر لن يرفض رسم ما هو خارج الكنيسة، أما عن هولبين المعاصر للوثر أيضا بعد الإصلاح شرع أن يرسم قصصاً غير دينية مثل أمثولة «رقص الموت».
وعن الموسيقى والغناء اكتسبت التراتيل والنصوص الليتورجية بعداً جديدًا مع الإصلاح البروتستانتي في ألمانيا وشمال أوروبا، فقام مارتن لوثر بكتابة الترانيم وشجع على استخدامها في الاحتفالات الدينية والاجتماعية، وقد حُفظت هذه الترانيم وانتشرت في المجتمعات العامة، ومكثت حيّة في الذاكرة الأوروبية.
وقد كتب لنا د.ابراهام كويبر الهولندي الذي كان صحافياً وتقلد منصب رئيس الوزراء في عام 1901 كتاب بعنوان « محاضرات عن الكالفينية» وخصص فيه فصل كامل بعنوان «الكالفينية والفن» يذكر فيه فكر كالفن وتابعيه عن الفن ومدى تأثير تعاليمهم على الفن فيقول الفن هو واحد من أغنى الهدايا من الله للبشرية، وأن الكالفنية ساعدت على كسر الوصاية الكنسية على الفن فجعلته منطلقاً خارج النطاق الكنسي.
والحق يقال إن الإصلاح الذي قام به المصلحون بدأ دينياً لكنه توغل في كل جوانب الحياة الاقتصادية منها والسياسية والاجتماعية والفنية، لكنه أخذ وقتاً كي ينضج ويثمر، وها نحن اليوم بعد 500 عام نحصد الثمار، فنرى أن الكنيسة الإنجيلية قادت الإصلاح في التعليم والترنيم والموسيقى وشتى أنواع الفنون التي تصيغ فكر الفرد الذي هو نواة المجتمع، الإصلاح لم ولن يتوقف فسيظل مستمرًا.