(تكوين 25:30-27 / 1يوحنا 16:4-21)
هذه هي الساعات الأولى من العام الجديد بعد أن ودَّعنا في الساعات السابقة عام مضى ورغم أنَّ هذه الساعات وتلك لم تختلف عن غيرها في شيء، إلا أننا اعتدنا أن نعطيها الكثير من الأهمية من باب التفاؤل بالعام الجديد. وأحياناً يكون الاحتفال بهذه البداية الجديدة مناسبة للمحاسبة،
واستجماع قوة جديدة دافعة للأمام. وقد أردت بنعمة الرب في بداية هذا العام الجديد أن أقدِّم لكم رسالة بسيطة عن التفاؤل.
ما هو التفاؤل ؟
التفاؤل هو توقُّع حدوث الخير والأفضل. ليس هو حالة الوهم وأحلام اليقظة، بل حالة الإيمان والرجاء المبني على المحبة التي قال عنها يوحنا رسول المحبة إنها تطرح الخوف إلى خارج، لأن الخوف له عذاب. وقال بولس في أنشودة المحبة إنها "تحتمل كل شيء وتصدق كل شيء وترجو كل شيء وتصبر على كل شيء" (1كو7:13). ومن قول لابان ليعقوب عندما ولدت له راحيل ابنه يوسف "قد تفاءلتُ فباركني الرب بسببك" (تك27:30)، أي: توقَّعتُ بثقة ويقين أن الله سوف يباركني بسببك، وقد حدث كما توقُّعتُ.
إنَّ التفكير في المستقبل هو إحدى مميِّزات الإنسان عن الحيوان. فالحيوان لا يعيش إلى في الحاضر، لأنه لا يحمل تراث الماضي ولا مستقبل عنده. أما الإنسان فإنَّه لا يحيا إلا مِن أجل مستقبله، فللمستقبل سِحر لا يدانيه شيء آخر، ونحن في العادة نتوقَّع أن يجيء الغد أفضل من اليوم والأمس.
إنَّ كلمة مستقبل تحمل الكثير من معاني الأمل والرجاء. لكن هناك من يجعلون منه ملجأ يهربون إليه من الواقع الحاضر الذي لا يقوون على مواجهته والتعامُل معه. إنَّ أمثال هؤلاء لا يحقِّقون شيئاً في حياتهم، لأنهم قانعون بمجرَّد الانتظار والتوقُّع. إنهم يقضون حياتهم كلها في انتظار مستقبل سعيد، فيظل فِكرهم مُتطلِّعاً إلى الغيب، دون أن يحققون شيئاً من الأمنيات. وهم بذلك يبقون في حالة انتظار مُستمر دون أن يفعلوا شيئاً، إلى أن تفاجئهم كارثة أو يُباغتهم الموت فيقضي على وجودهم، إنَّ انتظارهم للحياة كان بمثابة انتظار للموت.
وبينذكريات الماضي وجاذبية المستقبل يعيش الإنسان في حالة قلق وعدم ثبات، فيُصبح أسلوب حياته واحد من اثنين: فإما أن يكون متشائماً، يركِّز تفكيره في الماضي وأحداثه التي طواها الزمن، ويعيش على الماضي المجيد ويكتفي بذلك. إنه يتذكَّر الماضي التعيس، لكنه لا يستفيد منه شيئاً. وإما أن يكون متفائلاً، يركِّز تفكيره في المستقبل وآماله وطموحاته. يتذكَّر الماضي المجيد ويعمل على الامتداد به إلى الأمام، كما يتذكَّر الماضي التعيس فيتعلَّم ويتَّعِظ منه.
هناكفئة من الناس عابسة، تعيش بلا هدف ولا رجاء في الحياة، وهناك فئة أخرى مُبتسمة تعيش من أجل أهداف واضحة وهدف سامٍ. هؤلاء يسعون من أجل الوصول إلى أهدافهم، ويسعدون بما يبذلون من جهد للاقتراب إليها أو تحقيقها. إنَّ أمر التعاسة أو السعادة في حياة الفرد تتوقَّف إلى حدٍّ كبير على نظرته للحياة أو فلسفته فيها.
ما هي فلسفتك في الحياة ؟
نقصد بفلسفة الحياة مجموعة المبادئ والقواعد والقيم التي تشكِّل شخصية الفرد وتجعل لها سمة معيَّنة عامة. فكل إنسان له طريقة معيَّنة في سلوكه، حتى لو لم يجد مفردات يُطلقها على طريقة حياته. لكن هناك من يتركون أنفسهم لتيارات الحياة المختلفة، فلا يسيطرون هم على حياتهم، بل يتركون عوامل متعدِّدة تتحكَّم في توجيه سلوكهم وأفكارهم.
وفلسفة الحياة تتمثَّل في شعار واحد يضمّ إلى حدٍّ كبير كل المبادئ التي يقرِّها الفرد. فهناك من تكون فلسفته في الحياة دينية مبنية على آية كتابية، مثلاً: "كل ما تريدون أن يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضاً بهم". وقد تكون أخلاقية مبنية على مثل شعبي شائع، مثل: اصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب. أو قد تكون خبرات شخصية مرَّ بها وكوَّنت لديه انطباعات معيَّنة صارت هي فلسفته في الحياة. وقد يغيِّر الإنسان فلسفة حياته إلى أخرى، بتغيُّر الظروف التي يواجهها. كما أن فلسفات حياتنا تتأثَّر كثيراً بحالتنا الثقافية والاقتصادية، وبحالة المجتمع من حولنا، وبمستوانا الروحي. فلكلِّ شعب توجُّهات معيَّنة تؤثِّر على فلسفات حياة أفراده، كذلك لكل عائلة ولكل طائفة مجموعة من المبادئ العامة التي تؤثِّر كثيراً في نوعية حياة أفرادها. إنَّ السرّ الحقيقي في سعادتنا، ليس في الظروف التي تحيط بنا، بل في الفلسفة التي نعيش بها.
إنَّفلسفة الشخص المتفائل هي الطموح والتطلُّع إلى ما هو أفضل وأحسن، مع التحرُّك الإيجابي الفعَّال المستمر لأجل تحقيق الأمنيات. إذاً فالتفاؤل طاقة مقدَّسة أودعها الله في الإنسان لكي تستمر حياته في تقدُّم وتطوُّر، لكن عطايا الله ليست للكسالى والنائمين، بل للمجتهدين الطموحين المتفائلين. فلولا جماعة المتفائلين الطموحين المُكافحين، ما وصل العالم إلى ما هو عليه اليوم من تقدُّم في المجالات العلمية والفكرية والطبية والفنية.
معوقات التفاؤل :
(1) الإيمان بالقضاء والقدر:
إنها عقيدة راسخة في العقلية الشرقية، إننا نؤمن بأن كل ما يحدث لنا ومن حولنا من صنع القدر، وهذا يقتل الطموح.
(2) المفهوم الخاطئ للإيمان:
الثقة في الرب لا تعني أنك تؤمن بأن الله سيعمل لك كل شيء، دون أن تعمل أنت شيئاً ودون أن تتحمَّل أية مسؤولية. لقد خلقنا الله على صورته، وأول وصاياه للإنسان "أثمروا" أي انموا وتطوَّروا لكي تكمِّلوا مسيرة الخلق. لقد وضع الله فينا إمكانيات التطوُّر والتقدُّم، وينتظر منَّا دائماً استخدامها.
(3) إساءة استثمار الفرص:
المتشائملا يجيد استخدام الوقت واستثمار الفرص المواتية، لأن حياته تشبه السير المستمر في جنازة. لذلك يبكي ويندب حظه، ويشكو من الزمن والظروف والاضطهاد. ومن يضيِّع الفرص والوقت يضيِّع المستقبل، أما من يعرف قيمة الوقت فإنه يعرف قيمة الحياة، ويستحق أن يحيا سعيداً. إنَّ من يملك وقته يملك كل شيء.
مقويات التفاؤل :
(1) الثقة بالنفس:
ثقتك بنفسك تبشِّر بتقدُّمك. وهي تعني أنك مقتنع أنَّ لديك إمكانيات النجاح. أما الشعور بالعجز فهو عكس التفاؤل، وحتماً يؤدي إلى التخاذل والجمود. فاليد المرتعشة لن تصيب الهدف. إنَّ ثقتك بنفسك تجعلك تأتي دائماً بالجديد، وتكون مستعداً لقبول كل نقد بدون إحساس بالتجريح.
(2) المغامرة والابتكار:
إننا نميل كثيراً إلى المألوف والمعروف لدينا، وليس فينا حب المغامرة والتجديد والابتكار. إنَّ المتفائل مغامر، والإيمان في جوهره مغامرة، لأنه الثقة بما يُرجى والإيقان بأمور لم تُرى بعد. المتفائل يجرِّب مرَّة واثنين ويُعيد المحاولة بدون يأس. فليس المهم أن تنجح بل أن تكدح، ومن يخاف الفشل لن يحقِّق إلا الفشل.
(3) الواقعية:
التفاؤليجب أن يُبنى على فهمك الدقيق للأمور على حقيقتها، ومعرفتك الجيدة لقُدراتك الحقيقية، حتى تضع أهدافاً تتناسب مع قُدراتك. لا تضع على عينيك نظارة مقعَّرة، التي ترى بها الأشياء أكبر من حجمها، وترى الأشياء البعيدة جداً كأنها قريبة جداً فتخاف. ولا تضع على عينيك نظارة محدَّبة، التي ترى بها الأشياء أصغر من حجمها الطبيعي، وتراها بعيدة جداً فتتكاسل وتنهار. النظرة المتفائلة هي نظرة واقعية، كمن ينظر في مرآة السيارة التي تبيِّن حجم السيارات والمسافات على حقيقتها، فلا تصطدم ولا تتصادم.
كُنمتفائلاً تعِش سعيداً، فالتفاؤل هو الإيمان والرجاء المؤسَّسَيْن على المحبة، والمحبة تطرح الخوف إلى خارج، فلا خوف في المحبة. ابدأ عامك بالتفاؤل، تعش سعيداً.