لدينا في قصة إيليا النبي نموذجاً حيّاً للأصنام التي يضعها الإنسان إلى جانب الله الحق، أو بدونه (الإلحاد)، أو فيه (الصور الخاطئة عن الله)، ويتعبّد لها (1ملوك17/1-7، 12/28-16/34). ففي عصر إيليا عبد الشعب الله، ولكنهم أشركوا أصنام البعل في عبادتهم،
وذلك بناءً على طلب الملكة إيزابل زوجة آحاب الملك، إكراماً لشعبها الوثني. فاضطر إيليا إلى الدفاع عن عبادة الله الواحد بقوله: "إن كان البعل هو الإله فاتبعوه وان كان الله هو الإله فاعبدوه.. اليوم اختاروا مَن تعبدون". إن عبادة آلهة مع الله موجودة في كل عصر، وقد حذّر يسوع منها: "إياكم أن تعبدوا ربين الله والمال" (مت6/24).
بدايةً، نستطيع أن نجد في تجارب البريّة نماذج واضحة لهذه الصنمية وأمثلةً بيّنة لتحديات الإيمان، اختبرها يسوع بعمق (لو4/1-13):
1- تجربة الخبز أو التعبد للحاجات (الأصنام مع الله):
يقول إبليس: "إن كنت ابن الله فحوّل الحجارة إلى خبز".. أي كن على علاقة بالله ولكن لمَ لا تتعبّد أيضاً لحاجاتك!..
2- تجربة السيادة أو التخلي الكامل عن الله والتعبد لغيره (الأصنام بدون الله):
يقول إبليس ما معناه: "اسجد لي لكي يسجد لك كل شيء".. أي دعك من الله.. اتركه واعبد ما يفيدك: اعبد ذاتك.. مصلحتك..
3- تجربة التزييف أو الصور الخاطئة عن الله والإيمان به من خلالها (الأصنام في الله)
يقول إبليس: "مكتوب أنه يوصي ملائكته بك".. إن كلمة مكتوب أي مكتوب في الكتاب المقدس. أي أن أبليس يجرّب يسوع من خلال الكتاب المقدس.. يُبرز صورة خاطئة عن الله. صورة يستطيع للإنسان استعماله من أجل مصلحته.
لقد انتصر يسوع على تجارب إبليس، وحطّم إيليّا أصنام عصره.. ماذا لو جاء إيليا اليوم أو يسوع نفسه تجسّد مجدّداً في عالمنا المعاصر؟ كم من الآلهة يحذرنا من عبوديتها.. إليكم بعض الأمثلة:
1- تأليه الكماليات :
هل يمكننا اعتبار الموضة، والتلفزيون والفيديو والديش، والتلفون، والسيارة، ووسائل الرفاهية،... قد أصبحت آلهة؟ كم من الكماليات أصبحت في وقتنا ضروريات، وباتت تُعبد كآلهة؟ هل يعني هذا أن مبادىء الإنجيل ما عادت تنسجم والواقع المعاصر؟ (تأمّل: مت6/25-34، لو10/41-42(
إن الإيمان هو دعوة اختيار، فطوبى لمن اختار النصيب الصالح الذي لا ينزع منه (لو10/42). لابدَّ من تمييزٍ واضح لحاجات العصر وتقييمها بشكل صحيح لئلا نفقد الثمين. فالإيمان المسيحي لا يتناقض مع تلبية حاجات الإنسان. ولكن المشكلة هي أن تستعبد هذه المظاهر الإنسان وتسرق علاقته بالله. إن الإنجيل يدعونا إلى الاهتمام بالآن، ولكن بشكل جيد ومقدّس وليس على حساب خسارة الأبدية (الغني الجاهل: لو12/16..).
2- تأليه الأنانيّة:
لقد تميّز إنسان العالم المعاصر بالنزعة الفردية Subjectivity، فتشرعَنَتْ أنانيته في الكذب والحقد والشهوة والتسلُّط والسرقة، والتعنُّت والاستغلال والفوقيّة، والكثير من الصفات المؤذية.
يقول القديس يوحنا الذهبي الفم: إنَّ الإنسان لا يُحقِّق صورة الله ومثاله إلاَّ من حيث أنَّه يعيش المشاركة. فاللقاء بالرب لا يتمُّ إلاَّ من خلال الآخر. وهذا ما قصده بـ "سـرِّ الأخ".
إنَّ الآخر ليس مرتعاً لاستهلاكاتنا، بل نحن مدعوون معه إلى أن نعيش قصد الله في خلقنا. فهو ليس "جحيماً "، حين لا يُلبِّي كلَّ حاجاتنـا، كما يـراه جـان بول سارتر. بل نحقِّق معه صورة الله ومثاله، حتى في فقره. إنَّ المسيح حيٌّ في شخـص الآخرين خصوصاً في إخوتـه الفقـراء والمحتاجيـن والمتألمين (مت 25/31..). "إن العطاء أكثر غبطة من الأخذ".
3 - تأليه الأشخاص والتعصُّب:
يقول الرب يسوع : "مَنْ كان أبوه أو أمُّه أحبَّ إليه مِنِّي، فليس جديراً بي. ومَنْ كان ابنه أو ابنته أحبَّ إليه مِنِّي، فليس جديراً بي" (مت10/37). أن هذا القول لا يعني أن الالتزام بالإيمان المسيحي يدعو إلى عدم محبة الأحباء. إن الإنجيل يدعو إلى محبة الأعداء (مت5/44)، فكم بالحري الأحباء. ولكنَّه يُنبـِّهُ إلى عدم المبالغة في هذه المحبة، التي تصل أحياناً إلى حدِّ تأليه الحبيب والتعصب الأعمى له .
4- تأليه عادات وتقاليد المجتمع :
إنَّ مظاهر تأليه المجتمع تبدو واضحة بشكلٍ بيّنٍ، في اتباعٍ أعمى للعادات والتقاليد، ولقد انتقد يسوع بعض معاصريه لتمسُّكهم بهذه الصنميّة (لو11/37-54). كم من العادات والتقاليد عند المسيحيين اليوم، وخصوصاً في بلادنا، غريبة تماماً عن حقيقة الإيمان، لا بل معاكسة له؟
إنَّ الكتاب المقدس، وفي معظم صفحاته، يدعو إلى تنقية الإيمان من العبوديات المتنوّعة، ليكون "الـرب هو الله" (1ملوك18/3) وله تتـَّجِهُ كلُّ أمانةٍ ومحبّة.
5- تأليه العلم Scientism:
يقول جاك مونود في كتابه الشهير" الصدفة والحتميّة": "إن المعرفة الموضوعية، أي تلك التي توفّرها العلوم التجريبية بمعناها الحديث، هي وحدها مصدر الحقيقة الصادقة". أي أن العقل هو الإله. والعلم وحده كافٍ لتفسير جميع معضلات الوجود والحياة والتاريخ.
يمكننا الردُّ على هذا المذهب الصنمي بمثال بسيط لا يخلو من الفكاهة: لو أهدى محبّ إلى صديقته، الباحثة في علم النبات، وردةً، أتقول: "ما هذا؟.." أتصف مآبرها ومآسمها والساق والأوراق؟!.. أم تقول: "ما معنى هذا؟".. "إنها علامة حب!". فإذا كان العلم يبحث عن الإجابة عن سؤال: "ما هذا"، فيفسر ويحلل ويستنتج؛ الإيمان كالحب، يسعى إلى الإجابة عن سؤال لا يقل أهمية عن الأول، بل قد يفوقه في الأهمية، وهو: "ما معنى هذا"، أو "لماذا كان هذا أو ذاك في الوجود والتاريخ والحياة".. هل الإنسان عقلٌ فقط؟! ماذا لو كان عاطفة ومشاعر أيضاً؟.. ما المانع أن يكون فيه بُعداً مطلقيّاً يُسمّى "روح"؟.. ماذا يمنع أن ينشط هذا الروح بعلاقة حميمة مع المطلق بعينه، فيُفسّر أسباب الوجود والحياة والتاريخ، ويرجو الهدف من الكون والإنسان والعلم؟ صدق مَن قال: "قليلٌ من العلم يُبعدنا عن الله، والكثير منه يقرّبنا إليه".
6- تأليه المادة :
بعـد غيـاب الإيـديـولـوجيات، في الآونة الخيرة، تعمَّقت ماديّة العالـم المعاصـر. فحلَّ الاقتصاد محلَّ العلم في الصنم السابق. وأصبح صنم الاقتصاد يسيّر كـلّ شـيء: business is business. الـمـادة هـي الإلـه. حتى إن أسمى العلاقات الإنسانية قد أخذ بُعداً تجارياً. فسمّي عالمنا بمجتمع الاستهلاك انطلاقاً من هذا الصنم. يقول كوستي بندلي: "إن مجتمع الاستهلاك يفرز العزلة والفراغ ويحكم على الإنسان بالعبثية والتفاهة. فإذا بالمرء فقير وسط خيراته المتراكمة، جائع كيانياً وسط تخمته، يسـتحوذ عليه السأم رغم تنوّع الملاهي وتجدّدها المستمر، ويفتك به القلق رغم كل الضمانات التي يقدمها له المجتمع.. المجتمع مريض، ينعكس مرضه على أفراده بشتى أنواع الاضطرابات".
إذا كانت مظاهر التطور الاقتصادي والرفاهية المفرطة هي كلّ شيء في الحياة، ما معنى ازدياد نسبة الانتحار في البلدان الأكثر تحضّراً من الناحية الاقتصادية؟ ولماذا نجد في عواصم هذه البلدان، في الصباح الباكر، بقايا مستهلكـات المخدرات؟ ولماذا كُتب مرةً على أحـد جدران السوربون بباريس: "نرفض عالماً يموت من السأم.." هل تحوّل الإنسان إلى فحمة تحترق في مسيرة قطار نمو ورقي مجتمـع الاستهلاك؟ لكي يعيش هذا الإله الجديد، بعد أن ترك إنسان الاستهلاك اللهَ الحق الذي لا يهمّه سوى سعادة أبناءه البشر وخيرهم (أُنظر: مت6/ 25-34، لو11/11-13(
7- تأليه الإنسان:
هناك تيارات إلحادية عديدة ألَّهت الإنسان على حساب الله.
يقول نيتشـه: "لقد مات الله لكي يعيش الإنسان المتفوّق (السوبرمان)".
يقول ماركس: "إن الإيمان بالله يقضي بالاعتراف بعدم قيمة الإنسان. إذاً، كان لابدَّ من الاستغناء عن الله لإنقاذ الإنسان... إن ديانة العمال هي ملحدة لأنها تبغي إعادة ألوهية الإنسان.. إن نقد الدين ُيخرج الإنسان من أوهامه، ويحمله على أن يفكر ويعمل ويُنظّم واقعه كرجل تخلّص من الوهم وبلغ الرشد ".
يبدو أن التيارات التي تنكر وجود الله لم تتعرف فعلاً حقيقة الله التي ظهرت في شخص يسوع المسيح، الله المحبة. فلا مجال لمنافسة مَنْ جعل من خليقته صورته ومثاله، وقَبِلَ أن يموت من أجل مَن أحب (لو15/11..، مت5/ 13-16، 6/9، 25/14-15، يو15/15،.. الخ). يقول القديس ايريناوس (القرن الثاني): "مجد الله هو الإنسان الحي". أي أن الله يتمجّد في حياة الإنسان ونموّه. الله لا يقوّض الإنسان، بل على العكس يقبل أن يموت لكي يحيا وتكون حياته "وافرة" (يو10/10).
لقد نشأت أيضاً أصنامٌ في العالم المعاصر بسبب الفهم الخاطئ لحقيقة الإيمان المسيحي، يقول ماركس: "إن مبادئ الدين المسيحي الاجتماعية تفسّر جميع المعاملات الدنيئة التي يقاسيها المستضعفون من قِبَل مستغليهم، إما على أنها عقاب عادل للخطيئة الأصلية، وإما على أنها محنة تفرضها حكمة الرب على المختـاريـن. إن مبادئ الدين المسيحي الاجتماعية تدعو إلى الجبن، واحتقـار الـذات، والإهانـة، والخساسـة! وبكلمـة واحدة، إلى جميع صفـات الرعاع. أما الطبقة الكادحة فلـن ترضـى بـأن تعامـل كالرعـاع، بـل إن صفـات الشجاعة والكرامة والأنفة والشعور بالاستقلال، تهمها أكثر من الخبز وبوجيز الكلام: المبادئ الدينية المسيحية خنوعة، أما البروليتاريا فثوروية".
أين يسوع من هذه المبادئ حين انتقد متسلطي عصـره وصـرخ الويـلات في وجههم؟ (لو11/29-53)، أو حين دخل الهيكل وطرد مَنْ جعلوه مغـارة لصوص (يو2/13-..). هل لأنه نادى بالمسامحة لما قال: "مَنْ ضربك على خدك الأيمن فحوّل له الآخر" (مت5/39)، صارت مبادئه جبناً واستكانة، وهو حين ضُرب عند قيافا (يو13/23) احتجَّ وسأله عن سبب لطمه؟ المسيحية ليست إيمان استكانة أو ضعف أبداً، وإلا ما معنى صلب يسوع؟ أليس لأنه دافع عن الحق في وجه الظالمين، وساند الفقراء أمام مستغليهم، وطوّب منكسري القلوب (مت5/3-12)؟ ألأنه أحب كلَّ الحب ظهر بمظهر الضعيف؟ الوداعة لا تبطل الشجاعة. يقول القديس باسيليوس الكبير (القرن الرابع): علينا ألا نضحي في سبيل المحبة بالشهادة للحق، وبالمثل، علينا ألا نضحي في سبيل الشهادة للحق بالمحبة. لقد عاش يسوع هذه الموازنة، فظهر الحق مصلوباً في سبيل المحبة، لتظهر المحبة حيّةً في قيامة الحق.
ومن أصنام العالم المعاصر: الوجودية الملحدة، التي تؤلِّه الإنسان على حساب الله، فتظنُّ أن الله يسلب حرية الإنسان، وأن الإيمان يلغي فرادته ويحطّم شخصيته. ولكن، وكما رأينا، إن الإيمان المسيحي، في عمقه، يسعى لإظهار الإنسان في أبهى صورةٍ، هي صورة الله نفسه.
يقول البطريرك مكسيموس الرابع: "إن إلهاً يرفضه الملحدون، نرفضه نحن أيضاً في الكثير من مظاهره الكاذبة"، إنه ليس إلهنا الذي ظهر في شخص يسوع المسيح، الله المحبة، الله الحق، الحر والمحرِّر. إنَّ الغاية الأساسية من الإيمان المسيحي هي تأليه الإنسان Divinisationولكن، في الله، وليس بدونه، كما أرادت تيارات الإلحاد.
هناك أصنام نصنعها في الله هي الصور الخاطئة التي نرسمها عنه، وما أكثرها !؟ يقول أحد المفكرين: خلقتنا يا الله على صورتك، ونحن أيضاً بدورنا، نخلقُكَ على صورتنا. لنذكر بعضها:
8- صنم الله "ملبّي الطلبات":
كثيرون يؤمنون بالله، فقط من أجل تلبية طلباتهم. فهو الطبيب الشافي عند مرضهم، ومعطي الرزق والخير في حاجتهم، ومنير الذهن في امتحانات أولادهم. توقد الشموع لتحقيق غاياتهم، وتوفى النذور رهناً لمقاصدهم.. فمنذ الطفولة تُقرن الصلاة بالطلب. أي أننا لا نفكر في الله إلا عند الحاجة. وفي غياب العوَز ُيـنسى الله!
لاشكَّ أن يسوع قد قال: "اطلبوا تجدوا، اقرعوا يُفتح لكم.." ولكنَّه في الوقت ذاته أراد أن ينقي طلباتنا: " اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرَّه.." (لو12/30-31). إنَّ المسيحية هي دعوةٌ إلى مجانيّة الإيمان.
9- صنم الله المراقب والقاضي أو لا موقف له:
يخاف الناس من الله فيعبدونه، لأنه يجازي ويعاقب، فيصوِّرونه كأنَّه قاضٍ يراقب أعمال البشر، فإذا ما خطئوا أنزل بهم أشدَّ العقاب، وبذلك ينسَـون محبته وغفرانه.
مَن قال: يجب أن تغفر سبعين مرة سبع مرات (مت18/21)، ألا يغفر لك فيما لو عدتَ إلى محبته يا قليل الإيمان؟
إنَّ محبة الله لا تعني أنَّ عنده "كلّ شيء مثل كلِّ شيء". ربما لأننا نتحدّث كثيراً عن محبته يظنُّ البعض وكأن لا موقف لديه تجاه شرورنا. فيظهَرون كمستغلِّين لحبّه وغفرانه. إنَّ محبة الله لا تلغي عدالته. وعدالته لا تمنع رأفته.
يستحضرني أمام الصنمين السابقين قول تصوفي تظهر فيه المجانية في الإيمان: أحبك يا الله لا طمعاً بنعيمك، ولا خوفاً من جحيمك، ولكني أحبك لأنك تُـحَب.
10- صنم الله الذي يرسم حياة الإنسان بإلغاء حريّته (القدرية العمياء):
يؤمن الكثير بالمثل الشعبي: "المكتوب عَ الجبين لازم تشوفو العين". أي أن كل شيء "مخطط"، وما على الإنسان سوى تنفيذ هذا "المرسوم"، فيخضع مستسلماً للقدر.
إنَّ العناية الإلهية لا تلغي حرية الإنسان. فأنا بحريتي أطلب مشيئة الله لأعمل بموجبها. ولا تتنزّلُ عليَّ مشيئته مخططاً لكي أنفذه. هناك تفاعل بين مشيئة الله وحرية الإنسان. ثمّة مشيئتان متآزرتان Synergy: يدٌ من الله ويدٌ من الإنسان. فالله لا يستطيع فعل أيّ شيء رغماً عني. وأنا بإيماني أفعل كلَّ شيءٍ طالباً تحقيق مشيئته.
أمام هذه الأصنام كافةً نحن أمام موقفين: إما أن نسعى لتحطيمها بشجاعة في كل مظاهرها، كإيليّا النبي، أو أقلّه، نسعى ألا تسطو علينا في حياتنا الشخصية. وإما أن ننطلق من خلالها لنتعرَّف ونُعرِّف بالله الحق، كما فعل بولس الرسول يوم مرَّ بمعبد أثينا الوثني وتجوَّل بين أصنامه. فحين شاهد هيكلاً كُتب عليه: "للإله المجهول"، بشَّر من خلاله بالله الحـق سيـد ورب الكـل (أُنظر: رسل 17/ 16-25 ).