(رومية 15: 1-13)
في وسط عالم الشقاء والعناء، نحتاج إلى كلمة تعيد إلينا الأمل وتُحيي الرجاء، وإلى نافذة من نور يبدِّد الظلام والقتام. فنفوسنا تصغر أمام المشكلات التي تبدو معقدة بلا حل، وأمام الخطايا التي نرتكبها ونظن أنَّه لا فكاك منها، لأنها مُسيطرة علينا لزمان طويل....
لكننا في هذه جميعها، لنا رجاء وعزاء، وسط هذا العناء والشقاء.. هل ضعفت يوماً أمام مشكلة مُستعصية؟ هل انهزمت مراراً وتكراراً أمام خطية معيَّنة؟
نبدأ اليوم بنعمة الرب، سلسلة من التأمُّلات الهادئة عن موضوع الرجاء. والرجاء بمفهومه العام هو الأمل، أي انتظار وتوقُّع الخير، هو رغبة وشوق في شيء يتمناه الإنسان. والرجاء ضرورة سيكولوجية لكلِّ إنسان في مواجهة المستقبل، سواء كان هذا الأمل له ما يبرِّره، أو كان مجرد أوهام وخيال. لذلك يقول بولس "لأنه ينبغي للحرَّاث أنْ يحرث على رجاء وللدارس على الرجاء أن يكون شريكاً في رجائه"(1كو10:9)
والرجاءوالأمل يعطيان مذاقاً مُمتعاً للتعب والاجتهاد، فالأمل في الحصول على نتيجة حسنة للجهد الجسدي أو الذهني المبذول، يجعل العمل مع التعب مقبولاً ولذيذاً ومحبوباً.
أما الرجاء الذي يُعنَى به الكتاب المقدس كثيراً فهو مُختلف عن ذلك تماماً، فأمامه يتضاءل كلّ أمل آخر. لقد كان الفلاسفة والمفكرون الوثنيون في العالم القديم لا يعتبرون الرجاء فضيلة، بل خدعة ووهْم، لذلك وصفهم بولس بأنهم "لا رجاء لهم... لأنهم بلا إله" (أف12:2). ويجب أنْ نفهم الفارق بين الأمل والرجاء، فالأمل تعبير إنساني مرتبط بالأماني الأرضية، أما الرجاء فتعبير كتابي مرتبط بالمواعيد الإلهية الصادقة الأمينة، وبالأشواق الروحية الحقيقية.
الرجاءوالإيمان:
الفضائل المسيحية الثلاث الكبرى هي"الإيمان والرجاء والمحبة" (1كو13:13). والرجاء هو أحد وأهم مقويات الإيمان، لأنه يعطي للإيمان المعنى المستقبلي. كما أنَّ الإيمان يلد الرجاء، لأنَّ من يؤمن يكون له رجاء. فحيثما يوجد إيمان بالإله الحي المُهيمن على حياة البشر وكلّ الخليقة، والذي يمكن الاتكال عليه في إتمام مواعيده، يُصبح الرجاء ممكِناً. لذلك فإنَّ أبطال الإيمان في (عب11) هُم أيضاً أبطال الرجاء ( ع 27،16،13،10 ).
هذا الرجاء ليس محكوماً بالظروف السائدة، ولا بالإمكانات البشرية المُتاحة، ولا يتوقف على ما يمتلكه الإنسان، أو على ما يستطيع القيام به، لكنه يتوقف على مقدار الإيمان. ولنا مِثال على ذلك من إبراهيم بحسب قول بولس عنه "فهو على خلاف الرجاء آمن على الرجاء" (رو18:4). لم يكن في ظروفه وإمكاناته ما يبرِّر رجاءه في أن تلد له سارة ابناً في شيخوختهما لكن لأنه آمن بالله فكان له رجاء في مواعيد الله. فعلى خلاف الرجاء الإنساني آمن إبراهيم على الرجاء الإلهي. إذاً فالرجاء لا ينفصل عن الإيمان.
فبناء على ما فعله الله في الماضي ، خاصة في إرسال ابنه ليقدِّم نفسه كفارة عن الإنسان، أي بناء على كل ما فعله الله وما سيفعله، يستطيع المؤمن أن يتطلَّع بكل ثقة ويقين إلى بركات المستقبل، رغم أنه لا يراها في الحاضر، لكنه يثق أنَّ المستقبل سيأتي بالأفضل. لذلك يقول بولس: "الذي نجانا من موت مثل هذا، وهو ينجي، الذي لنا رجاء فيه أنه سيُنجِّي أيضاً فيما بعد" (2كو10:1). إذاً فالرجاء امتداد للإيمان، امتداد للماضي والحاضر عبر المستقبل غير المنظور. والرجاء يؤصِّل ويعمِّق الإيمان في أنَّ الله هو هو أمساً واليوم وإلى الأبد. كما أنَّ الرجـاء هو القوة الإلهية والطاقة الروحية التي تغذي الإيمان وتدفعه للعمل وبذل والجهد لكي يستمر عبر الزمان ويتجاوز الزمان والمكان، بل ويتجاوز حتى الموت نفسه. لأنَّ الرجاء مصدر عزيمة وشجاعة في تحمُّل أعباء الحياة والخدمة والطاعة، وهو سِرّ الفرح وسط الضيقات، والسلام وقت الأزمات. لذلك تقول الترنيمة: [ في تعبٍ وألمٍ في كدرٍ وفي سقام.. تنتظر اليوم الذي فيه ترى نور السلام.. وسوف تحظى بالذي ترجو بأن تنظره.. وتُبصر المُلك الذي تشتاق أن تبصره].
الرجاء والمسيح :
إنَّمصدر تغذية الرجاء الذي فينا، والذي يستطيع أن يواجه التعارُض الشديد بين مواعيد المستقبل المُفرحة، وبين حقيقة الواقع المؤلمة، هذا المصدر ليس مجرد عقائد وحقائق فكرية عما سوف يحدث مُستقبلاً، لكنه شخص المسيح نفسه.، إنه هو مصدر تغذية هذا الرجاء "المسيح فيكم رجاء المجد... وربنا يسوع المسيح رجائنا" (كو27:1 /1تيمو1:1). فحلول المسيح في القلب بالإيمان هو علَّة رجاء المؤمن في حياته الروحية في المسيح على الأرض، وفي حياة المجد مع المسيح في السماء.
والله الذي نؤمن به هو إله الرجاء "ليملأكم إله الرجاء كل سرور وسلام في الإيمان، لتزدادوا في الرجاء بقوة الروح القدس" (رو13:15). فقوة الروح القدس هي التي يُنشئ بها الله الرجاء وسائر الفضائل في قلوب المؤمنين. ولأن المسيح قام من الأموات ، فلم يعُد رجاء المؤمنين قاصراً على هذه الحياة فقط "إنْ كان لنا في هذه الحياة فقط رجاء في المسيح، فإننا أشقى جميع الناس" (1كو19:15). ذلك لأن الرجاء يتخطى حدود الزمان ويتجاوز الموت لأنَّ المسـيح قام من الأموات. فلو لم يكن للمسيحية إلا قيمتها الأرضية فقط، لعاش المسيحيون في شقاء. ولو لم يكن المسيح قد قام من الأموات، فالمسيحيون لن تُغفر خطاياهم، وليس لهم رجاء في الحياة الأبدية. لكن لأن المسيح قام حقاً، فقد صار لكل من يؤمن به رجاءً في الغفران والحياة الأبدية. "مبارك الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي حسب رحمته الكثيرة ولدنا ثانية لرجاءٍ حيّ بقيامة يسوع المسيح من الأموات" (1بط3:1). فالمسيح هو موضوع وأساس الرجاء المسيحي، لذلك فهو رجاء أفضل مما كان في العهد القديم "إذاً الناموس لم يكمِّل شيئاً. ولكن يصير إدخالُ رجاءٍ أفضل به نقترب إلى الله" (عب19:7).
الرجاءوالمحبة:
الذي يؤمن يكون له رجاء في الله، والذي له هذا الرجاء يحبّ الله ليصل إلى قمة العلاقة معه في المحبة. والذي يؤمن بالله وله رجاء في الله، يحب الأخوة أيضاً. لأن رجاء المؤمنين يخلو من الأنانية، فالذي يرجوه المؤمن لنفسه من بركات روحية وزمنية يرجوه لأخوته أيضاً. فلا يوجد رجاء منفصل عن الإيمان، ولا يمكن ممارسة المحبة بغير رجاء، لأنَّ المحبة "ترجو كل شيء وتصبر على كل شيء" (1كو7:13).
وعن ارتباط الفضائل الثلاث معاً يقول بولس في (1تس3:1) "متذكرين بلا انقطاع عمل إيمانكم وتعب محبتكم وصبر رجائكم ربَّنا يسوع المسيح" وأيضاً (عب10:6-12/ 1بط22،21:1). أما الفصل الكتابي (رو1:15-13) الذي نحن بصدده، فيعالج فيه بولس وجوب احتمال الأقوياء للضعفاء من أجل البنيان، لأن المحبة الصادقة ترجو وتحتمل كلّ شيء وكلّ شخص بكل ضعفاته، طالما أنه يؤمن بالمسيح، وطالما أنَّ الخلاف في أمور ثانوية وشكلية.. ويختتم الرسول هذه الفقرة بصلاة إلى إله الرجاء ليملأ قلوبهم بالسرور والسلام معاً.
مرساةالرجاء:
"لنمسك بالرجاء الموضوع أمامنا. الذي هو لنا كمرساة للنفس مؤتمنة وثابتة" (عب19،18:6). إنَّ الرجاء له قيمة شخصية بالنسبة لنا، فهو بمثابة السلسلة غير المنظورة المربوطة بشاطئ الحياة الأبدية، التي نُمسك بها الآن ونحن في قارب الحياة المنظور وسط بحر العالم المضطرب. لكننا كلَّما جذبنا هذه السلسلة بالإيمان، كلَّما تحرَّك القارب نحو الشاطئ الآخر غير المنظور. فلنمسك بهذه المرساة بدون خوف، فهي مؤتمنة وثابتة ولا يُخشى أن تتزحزح فنقع في خطر، لأنها لا تخيِّب الأمل، ولا تقتلعها الرياح والأمواج مهما اشتدَّت.
فلناإذاً رجاء مهما كان العناء. عندما كانت الأرض خربة وخاوية ومغمورة بالمياه وعلى وجه الغمر ظلمة (تك1:1)، كان هناك رجاء حينما قال الله "ليكن نور فكان نور". فمهما كانت الحياة خربة وخاوية ومظلمة، فهناك رجاء. ومهما بدا أنَّ الله قد تأخَّر، ومهما بدا كل شيء مظلماً، فهناك رجاء.
وهناك رجاء لواحد مِثل زكا العشَّار الذي كان يمثل قمة الظلم في عهده، ففتح بيته وقلبه وجيبه للمسيح.. وهناك رجاء لواحدة مثل مريم المجدلية التي كانت فيها سبعة شياطين، فصارت إحدى المريمات القديسات.. وهناك رجاء دائماً للقصبة المرضوضة والفتيلة المدخنة. فالذي ينتظر الرب في رجاء، إنما يمنحه الرجاء قوة، لذلك يقول "وأما منتظرو الرب فيجدِّدون قوة. يرفعون أجنحة كالنسور. يركضون ولا يتعبون. يمشون ولا يُعيون" (إش31:40).
إنَّ معرفتنا بما عمله الرب في الماضي، تؤثِّر كثيراً في ثقتنا من جهة ما سيعمله في المستقبل. وكلَّما تعمَّقنا في معرفة ما عمله في الماضي، كلَّما ازداد رجاؤنا من جهة ما سيعمله. فلنتمسَّك بهذا الرجاء الحي.