نشيد المحبة - الفصل الأول

فهرس المقال

الجزء الأول

أهمية المحبة


1 إِنْ كُنْتُ أَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةِ النَّاسِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَقَدْ صِرْتُ نُحَاساً يَطِنُّ أَوْ صَنْجاً يَرِنُّ. 2وَإِنْ كَانَتْ لِي نُبُوَّةٌ وَأَعْلَمُ جَمِيعَ الأَسْرَارِ وَكُلَّ عِلْمٍ، وَإِنْ كَانَ لِي كُلُّ الإِيمَانِ حَتَّى أَنْقُلَ الْجِبَالَ، وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ فَلَسْتُ شَيْئاً. 3وَإِنْ أَطْعَمْتُ كُلَّ أَمْوَالِي، وَإِنْ سَلَّمْتُ جَسَدِي حَتَّى أَحْتَرِقَ وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَلاَ أَنْتَفِعُ شَيْئاً» (1كزورنثوس 13: 1-3)

الفصل الأول

المحبَّة أهمّ الفضائل

1 إِنْ كُنْتُ أَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةِ النَّاسِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ فَقَدْ صِرْتُ نُحَاساً يَطِنُّ أَوْ صَنْجاً يَرِنُّ. 2وَإِنْ كَانَتْ لِي نُبُوَّةٌ وَأَعْلَمُ جَمِيعَ الأَسْرَارِ وَكُلَّ عِلْمٍ وَإِنْ كَانَ لِي كُلُّ الإِيمَانِ حَتَّى أَنْقُلَ الْجِبَالَ وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ فَلَسْتُ شَيْئاً. 3وَإِنْ أَطْعَمْتُ كُلَّ أَمْوَالِي وَإِنْ سَلَّمْتُ جَسَدِي حَتَّى أَحْتَرِقَ وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ فَلاَ أَنْتَفِعُ شَيْئاً(1كورنثوس 13: 1-3)

تشبه كنيسة اليوم كنيسة كورنثوس إلى حدٍ كبير، فكنيسة اليوم تنقسم لطوائف متعددة ومتنوعة كما كانت كنيسة كورنثوس. وتنبر كنيسة اليوم على مواهب الروح القدس أكثر من تنبيرها على ثمر الروح القدس الذي يبدأ بالمحبة (غلاطية 5: 22، 23). كما أن الكنيسة اليوم تنبر على المواهب التي تشد انتباه المشاهد، مثل التكلُّم بألسنة، أو الشفاء، أكثر من تنبيرها على المواهب الأكثر أهمية، مثل الخدمة والتعليم والوعظ والعطاء والتدبير والرحمة والمحبة (رومية 12: 6-9).

وقد ناقش الرسول بولس مواهب الروح القدس في 1كورنثوس 12، 14 وبَيْن هذين الأصحاحين جاء أصحاح المحبة. ونحتاج في هذه الأيام أن نتأمل هذا الأصحاح المتوسط ليضبط مواهبنا، ويوجه إمكانياتنا، سواء كانت إمكانيات طبيعية أو فوق طبيعية.
يقول الرسول بولس في نهاية أصحاح 12 «جِدُّوا لِلْمَوَاهِبِ الْحُسْنَى. وَأَيْضاً أُرِيكُمْ طَرِيقاً أَفْضَلَ» (آية 31) ويقصد به طريق المحبة. ونحتاج إلى تطبيق تعاليم هذا الأصحاح لنبرهن أننا تلاميذ المسيح.

تعوَّدنا أن نسمع عن المحبة من رسول المحبة يوحنا، ولقبه التلميذ الذي «كَانَ يَسُوعُ يُحِبُّهُ» (يوحنا 13: 23). ويمكن أن نقول نحن أيضاً إنه التلميذ الذي كان يحب يسوع، فمحبة يوحنا للمسيح صدى صادقٌ أمين قوي لمحبة المسيح ليوحنا الذي يقول: «نَحْنُ نُحِبُّهُ لأَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلاً» (1يوحنا 4: 19). ولكن الرسول بولس يدلي دلوه في بئر المحبة العميق ليُخرج لنا هذا الماء الحي الذي نقرأ عنه في 1كورنثوس 13.

كما يُحدثنا الرسول بولس في غلاطية 5: 6 عن الإيمان الذي يخلِّص، وهو الإيمان العامل بالمحبة، فيقول: «لأَنَّهُ فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ لاَ الْخِتَانُ يَنْفَعُ شَيْئاً وَلاَ الْغُرْلَةُ، بَلِ الإِيمَانُ الْعَامِلُ بِالْمَحَبَّةِ»(غلاطية 5: 6).

وتكمُن أهمية المحبة في أنها برهان التلمذة للمسيح، فقد قال: «بِهَذَا يَعْرِفُ الْجَمِيعُ أَنَّكُمْ تلاَمِيذِي: إِنْ كَانَ لَكُمْ حُبٌّ بَعْضاً لِبَعْضٍ» (يوحنا 13: 35).

1- المحبة أهم من الألسنة والفصاحة (آية 1)

قال الرسول بولس: «إِنْ كُنْتُ أَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةِ النَّاسِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ فَقَدْ صِرْتُ نُحَاساً يَطِنُّ أَوْ صَنْجاً يَرِنُّ» (1كورنثوس 13: 1). وربما قصد الرسول بألسنة الملائكة لغة أسمى من كل لغةٍ يتكلمها الناس أو يعرفونها، كاللغة التي سمعها الرسول بولس عندما اختُطف إلى السماء الثالثة وسمع كلمات لا يُنطق بها ولا يسوغ لأحدٍ أن يتكلم بها (2كورنثوس 12: 4).

وقد تعني «ألسنة الملائكة» اللغات الأجنبية التي تكلَّم بها الذين امتلأوا بالروح القدس يوم الخمسين. ولكن الكلام بأعظم لغة تسمو فوق إدراك الناس (بدون محبة) يشبه النحاس الذي يطن، أو الصنوج التي ترن، وهي آلات موسيقية بدائية للغاية، رخيصة الثمن، وإيقاعها الموسيقي من أضعف ما يمكن، فلا يحرك أحداً.

فالفصاحة العظيمة واللغة السامية مهما علَت، إن كانت بغير محبة، هي كأضعف آلة موسيقية رخيصة لا تعطي لحناً مميزاً.

ولا يتحدث الرسول بولس هنا عن الألسنة المفهومة التي أعطاها الله لرسله يوم الخمسين (أعمال 2: 4) ولكنه يتحدث عن اللغة غير المفهومة التي كانوا يتكلمونها في كورنثوس، والتي قال الرسول بولس عنها: «لأَنَّ مَنْ يَتَكَلَّمُ بِلِسَانٍ لاَ يُكَلِّمُ النَّاسَ بَلِ اللهَ لأَنْ لَيْسَ أَحَدٌ يَسْمَعُ. وَلَكِنَّهُ بِالرُّوحِ يَتَكَلَّمُ بِأَسْرَارٍ.. إِنِّي أُرِيدُ أَنَّ جَمِيعَكُمْ تَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ وَلَكِنْ بِالأَوْلَى أَنْ تَتَنَبَّأُوا. لأَنَّ مَنْ يَتَنَبَّأُ أَعْظَمُ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ بِأَلْسِنَةٍ إِلاَّ إِذَا تَرْجَمَ حَتَّى تَنَالَ الْكَنِيسَةُ بُنْيَاناً. فَالآنَ أَيُّهَا الإِخْوَةُ إِنْ جِئْتُ إِلَيْكُمْ مُتَكَلِّماً بِأَلْسِنَةٍ فَمَاذَا أَنْفَعُكُمْ إِنْ لَمْ أُكَلِّمْكُمْ إِمَّا بِإِعْلاَنٍ أَوْ بِعِلْمٍ أَوْ بِنُبُوَّةٍ أَوْ بِتَعْلِيمٍ؟ اَلأَشْيَاءُ الْعَادِمَةُ النُّفُوسِ (الجماد) الَّتِي تُعْطِي صَوْتاً: مِزْمَارٌ أَوْ قِيثَارَةٌ مَعَ ذَلِكَ إِنْ لَمْ تُعْطِ فَرْقاً لِلنَّغَمَاتِ فَكَيْفَ يُعْرَفُ مَا زُمِّرَ أَوْ مَا عُزِفَ بِهِ؟.. وَلَكِنْ فِي كَنِيسَةٍ أُرِيدُ أَنْ أَتَكَلَّمَ خَمْسَ كَلِمَاتٍ بِذِهْنِي لِكَيْ أُعَلِّمَ آخَرِينَ أَيْضاً أَكْثَرَ مِنْ عَشْرَةِ آلاَفِ كَلِمَةٍ بِلِسَانٍ..فَإِنِ اجْتَمَعَتِ الْكَنِيسَةُ كُلُّهَا فِي مَكَانٍ وَاحِدٍ وَكَانَ الْجَمِيعُ يَتَكَلَّمُونَ بِأَلْسِنَةٍ فَدَخَلَ عَامِّيُّونَ أَوْ غَيْرُ مُؤْمِنِينَ أَفَلاَ يَقُولُونَ إِنَّكُمْ تَهْذُونَ؟»(1كورنثوس 14: 2 و5-7، 19، 23).

فالألسنة، مهما كانت رفيعة، فهي غير مفهومة، ولا تحرِّك أحداً، ولا تنعش أحداً من سامعيها. أما كلمة الوعظ فهي التي تبني.

كان أهل كورنثوس يتكلمون كلمات غير مفهومة لا يدركها أحد. وكانت مشاعرهم أثناء التكلُّم بها خالية من المحبة، لأنهم كانوا يتفاخرون بها على الآخرين. فلم تكن كلماتهم الأعجمية سبب بركة للمستمعين، بل محاولات لرفعتهم الشخصية، لأن المحبة غابت منها.

عندما يكون الإنسان قليل المحبة يهتم بعطية الله له وينسى المعطي، كما يأخذ الطفل الصغير الهدية من أبيه ويجري بها، دون أن يقدم لوالده شكراً، لأن اهتمام الطفل بالهدية أكبر من اهتمامه بأبيه، بسبب بساطة تفكيره. وحب الطفل «للشيء» أكبر من حبه «للشخص». كذلك نجد أن كثيرين يهتمون بالمواهب أكثر من الواهب الذي أعطى المواهب. ولكن المحبة أهم من المواهب، لأنها تربطنا بصاحب المواهب وتجعلنا نُحسن استخدام الموهبة، مستعدين لخدمة الآخرين. لكن إذا ركزنا على الموهبة وحدها بغير محبة للمُهدي، وبغير تفكير في الهدف الذي من أجله أهدانا الموهبة، تكون موهبتنا، مهما سمَت في نظرنا ونظر الآخرين، نحاساً يطنّ أو صنجاً يرن!

وعندما يكون الإنسان قليل المحبة يفتخر بعطية الله له، وهذا يعرِّض جماعة المؤمنين للانقسام، فتكون الموهبة التي يجب أن تبني، تهدم، وبدل أن توحّد وتقرّب، تقسم.

فالمحبة أهم من المواهب، لأن المحبة بركة بدون مواهب، أما المواهب بدون محبة فلا تنفع شيئاً.

كان في الكنيسة الأولى فصحاء، نادوا بالإنجيل وكرزوا بالمسيح عن حسدٍ وخصام وتحزُّب، لا عن إخلاص، ظانين أنهم يضيفون إلى وُثق الرسول بولس ضيقاً (فيلبي 1: 15، 16). لقد كانوا معلمين ذوي فصاحة مُقنعة، ولكن بدوافع خالية من المحبة. فلم يكونوا إلا نحاساً يطن أو صنجاً يرنّ. أما الرسول بولس فشرح مشاعره من نحو عمل هؤلاء المعلمين بقوله: «غَيْرَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ وَجْهٍ، سَوَاءٌ كَانَ بِعِلَّةٍ أَمْ بِحَقٍّ، يُنَادَى بِالْمَسِيحِ، وَبِهَذَا أَنَا أَفْرَحُ. بَلْ سَأَفْرَحُ أَيْضاً. لأَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ هَذَا يَؤُولُ لِي إِلَى خَلاَصٍ بِطِلْبَتِكُمْ، وَمُؤَازَرَةِ رُوحِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ»(فيلبي 1: 18، 19). وهذه هي المحبة الفصحى الأسمى من كل فصاحة!

2- المحبة أهم من النبوَّة والعِلم (آية 2أ):

«وَإِنْ كَانَتْ لِي نُبُوَّةٌ وَأَعْلَمُ جَمِيعَ الأَسْرَارِ وَكُلَّ عِلْمٍ، وَإِنْ كَانَ لِي كُلُّ الإِيمَانِ حَتَّى أَنْقُلَ الْجِبَالَ وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ فَلَسْتُ شَيْئاً».

عرَّف الرسول بولس النبوَّة بقوله: «وَأَمَّا مَنْ يَتَنَبَّأُ فَيُكَلِّمُ النَّاسَ بِبُنْيَانٍ وَوَعْظٍ وَتَسْلِيَةٍ» (1كورنثوس 14: 3) فالنبوة ليست فقط إنباءً بالمستقبل، لكنها تعليم ووعظ للناس. وفي أصحاح المحبة يؤكد الرسول بولس أن النبوة بدون محبة لا شيء، فالواعظ يجب أن يحب الموعوظين، والذي ينبئ بالبركة القادمة يجب أن يحب الذين ينبئهم، كما أن الذي ينبئ بالعقاب القادم يجب أن يعلن ذلك بكل شفقة على الذين سيحل بهم العقاب، كما قال إرميا: «يَا لَيْتَ رَأْسِي مَاءٌ وَعَيْنَيَّ يَنْبُوعُ دُمُوعٍ فَأَبْكِيَ نَهَاراً وَلَيْلاً قَتْلَى بِنْتِ شَعْبِي» (إرميا 9: 1).

والعلم هو معرفة الأسرار الروحية العميقة التي نعظ بها. والنبوَّة والعلم مرتبطان، لأن الإنسان الذي يعرف الأسرار هو الذي يعلِّمها في الوعظ. ومن أعظم الأسرار التي تبيِّن محبة الله لنا «سر التقوى» لأنه «عَظِيمٌ هُوَ سِرُّ التَّقْوَى: اللهُ ظَهَرَ فِي الْجَسَدِ» (1تيموثاوس 3: 16). هكذا أحب الله العالم حتى جاء لأرضنا متجسداً في المسيح ليجسد لنا محبته، ويحمل عنا عقوبة الخطية، مقدِّماً نفسه ذبيحة كفارية عن خطايا العالم كله. فكيف يحب الله البشر الخطاة كل هذا الحب؟! هذا هو سر السماء وبرهانه تجسُّد المسيح.

وهناك سرٌّ عظيم آخر، هو أن الله اختارنا نحن الأمم لنكون شركاء في الميراث مع كل الذين قبلوا المسيح من الشعب اليهودي المختار. وهذا هو: «السِّرِّ الَّذِي كَانَ مَكْتُوماً فِي الأَزْمِنَةِ الأَزَلِيَّةِ، وَلَكِنْ ظَهَرَ الآنَ وَأُعْلِمَ بِهِ جَمِيعُ الأُمَمِ بِالْكُتُبِ النَّبَوِيَّةِ حَسَبَ أَمْرِ الإِلَهِ الأَزَلِيِّ،لإِطَاعَةِ الإِيمَانِ»(رومية 16: 25، 26). لقد صار الأمم شركاء الميراث، لأنه هكذا أحب الله العالم كله.

ويقول لنا المرنم: «سِرُّ الرَّبِّ لِخَائِفِيهِ» (مزمور 25: 14) فالله يعلن لمتَّقيه أسرار ملكوته، لأنه يحبهم وهم يحبونه. ولو أن إنساناً عرف كل الأسرار السماوية، وعلَّم بها، دون أن يكون قلبه عامراً بالمحبة، فهو ليس شيئاً. لقد عرف رجال الدين اليهود أسرار النبوات عن مجيء المسيح، وولادته في بيت لحم من عذراء. ولما سُئلوا عن مكان الميلاد أجابوا إجابة صحيحة، واقتبسوا النبوة الخاصة بذلك وحددوا مكانها في التوراة (متى 2: 5، 6). ولكن لم يتحرك منهم أحد ليذهب لبيت لحم ليرى المخلِّص المولود في مدينة داود، ومشتهى كل الأمم. أما الذين أحبوا الله فقد جاءوا من أبعد البلاد ليسجدوا له، ويقدموا له هداياهم.

نقرأ في العهد القديم عن نبي اسمه بلعام، قال: «وَحْيُ بَلْعَامَ بْنِ بَعُورَ. وَحْيُ الرَّجُلِ المَفْتُوحِ الْعَيْنَيْنِ. وَحْيُ الَّذِي يَسْمَعُ أَقْوَالَ اللهِ وَيَعْرِفُ مَعْرِفَةَ الْعَلِيِّ» (العدد 24: 15، 16). كان بلعام موحِّداً، ومن وطن إبراهيم الخليل، وذاع صيته فقصده الناس من كل مكان ليُنبئهم بأمور تتعلق بهم، وليباركهم ويبارك مقتنياتهم. ولكن قلبه خلا من محبة شعب الله، وامتلأ بمحبة المال، فاستأجره الملك بالاق ليلعن بني إسرائيل. ولما عجز عن لعنهم، لأن الله منعه، أفتى بتضليلهم بعبادة الأوثان وبارتكاب النجاسة. وانتهى أمره بأن مات مقتولاً (العدد 31: 16). ووصف الرسول بطرس الضالين بأنهم «ضَلُّوا تَابِعِينَ طَرِيقَ بَلْعَامَ الَّذِي أَحَبَّ أُجْرَةَ الإثْمِ» (2بط 2: 15) فصار النبي بلعام لا شيء، لأن قلبه خلا من المحبة.

ونقرا في العهد الجديد أيضاً نبوَّة من نبي خلا قلبه من المحبة، يصفه الإنجيل بالقول: «فَقَالَ لَهُمْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ وَهُوَ قَيَافَا كَانَ رَئِيساً لِلْكَهَنَةِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ: «أَنْتُمْ لَسْتُمْ تَعْرِفُونَ شَيْئاً، ولاَ تُفَكِّرُونَ أَنَّهُ خَيْرٌ لَنَا أَنْ يَمُوتَ إِنْسَانٌ وَاحِدٌ عَنِ الشَّعْبِ وَلاَ تَهْلِكَ الأُمَّةُ كُلُّهَا». وَلَمْ يَقُلْ هَذَا مِنْ نَفْسِهِ بَلْ إِذْ كَانَ رَئِيساً لِلْكَهَنَةِ فِي تِلْكَ السَّنَةِ تَنَبَّأَ أَنَّ يَسُوعَ مُزْمِعٌ أَنْ يَمُوتَ عَنِ الأُمَّةِ، وَلَيْسَ عَنِ الأُمَّةِ فَقَطْ بَلْ لِيَجْمَعَ أَبْنَاءَ اللَّهِ الْمُتَفَرِّقِينَ إِلَى وَاحِدٍ» (يوحنا 11: 49-52). تنبأ قيافا بموت المسيح عن العالم كله، وهذه نبوة صحيحة ولكنها خالية من المحبة، فتآمر قيافا مع سائر قادة اليهود ليصلبوا المسيح.

يمكن أن يكون هناك واعظ عظيم، يخلو قلبه من المحبة. مثل هذا لا يمكن أن يوصِّل رسالة محبة الله لشخصٍ يحتاج إليها. كما أن الناس لا يمكن أن يتأثروا بالفصاحة العظيمة التي يعلن بها نبوَّته وعلمه إن كان بلا محبة. فبدون محبة لا نقدر أن نقترب من الله، ولا نقدر أن نقرِّب الناس لله.

والمحبة أعظم من النبوة والعلم، لأنه سيجيء وقت لا نكون فيه محتاجين لوعظٍ ولا لعلم، ولكن لن يجيء وقت لا نحتاج فيه للمحبة. وقد وصف الإنجيل الوقت الذي لا نحتاج فيه لوعظٍ، في قول كاتب العبرانيين: «لأَنَّ هَذَا هُوَ الْعَهْدُ الَّذِي أَعْهَدُهُ مَعَ بَيْتِ إِسْرَائِيلَ بَعْدَ تِلْكَ الأَيَّامِ يَقُولُ الرَّبُّ: أَجْعَلُ نَوَامِيسِي فِي أَذْهَانِهِمْ، وَأَكْتُبُهَا عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَأَنَا أَكُونُ لَهُمْ إِلَهاً وَهُمْ يَكُونُونَ لِي شَعْباً. 11وَلاَ يُعَلِّمُونَ كُلُّ وَاحِدٍ قَرِيبَهُ وَكُلُّ وَاحِدٍ أَخَاهُ قَائِلاً: اعْرِفِ الرَّبَّ، لأَنَّ الْجَمِيعَ سَيَعْرِفُونَنِي مِنْ صَغِيرِهِمْ إِلَى كَبِيرِهِمْ» (عبرانيين 8: 10، 11).

3- المحبة أهم من الإيمان والمعجزات (آية 2ب):

«إِنْ كَانَ لِي كُلُّ الإِيمَانِ حَتَّى أَنْقُلَ الْجِبَالَ وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ فَلَسْتُ شَيْئاً».

في مصر في القرن العاشر الميلادي، أثناء حكم الفاطميين، ذهب وزير يهودي للخليفة وقال: «مكتوب في إنجيل المسيحيين أنه إن كان عند أحد إيمان كحبة خردل يحرك الجبل». فاستدعى الخليفة العزيز بالله الفاطمي البطريرك المصري وسأله عن صحة وجود هذه الآية. وعندما أجابه بوجودها في متى 21: 22 طلب منه تحريك جبل المقطم. ونتيجة لاستجابة الصلاة المؤمنة تحرك الجبل!

هناك إيمان عقلي يعرف ما جاء في الكتاب المقدس، ويجاوب على الأسئلة الدينية الصعبة، ويعرف أن يحل المشاكل الفقهية. لكنه إيمان العقل الفاهم، وليس إيمان القلب المطمئن. إنه كإيمان الشياطين الذين يؤمنون ويقشعرون، ولكنهم لا يتغيرون (يعقوب 2: 19).

والمحبة أعظم من الإيمان الذي يعمل المعجزات، فالإيمان يجري معجزة كبيرة (كتحريك جبل المقطم) مرة كل حقبة من الزمن. لكن المحبة تُمارس كل يوم، فهي لذلك أعظم من الإيمان.

ولا يُقلِّل الرسول بولس من أهمية الإيمان ولا من قيمة المعجزة، لكنه ينبهنا أن المحبة لازمة ومطلوبة كل يوم. الإيمان الذي ينقل الجبال يثير الدهشة، لكن المحبة تكسر القلب القاسي. قد يندهش إنسان ولا يؤمن، كما اندهش شيوخ اليهود من قيامة لعازر بعد موته بأربعة أيام، ولم يقدروا أن ينكروا أن المسيح أجرى المعجزة. ولكن هذا جعلهم يفكرون في قتل لعازر، حتى يختفي الدليل على قدرة المسيح وسلطانه! فالمعجزة لا تحرك القلب الذي لا يحب الله!

نقرأ في خروج 7: 11، 12 كيف ألقى موسى عصاه فصارت حيَّة، ولكن السحرة المصريين ألقوا عصيَّهم فصارت حيَّات! هذه معجزة. وفي ذات الأصحاح (آيتي20، 22) نقرأ كيف حوَّل موسى الماء إلى دم، فحوَّل السحرة الماء إلى دم كذلك. والفرق بين معجزة موسى ومعجزة السحرة أن معجزة موسى فيها محبة، لأنها تعلن اهتمام الرب بشعبه. أما سحرة فرعون فأجروا المعجزة ليحطموا معجزة موسى، وليطفئوا برهان الله، لأن قلوبهم الخالية من المحبة أرادت أن تحتفظ بالأسرى عبيداً. أما معجزة الله فهي معجزة محبة تطلِق الأسير حراً. وما أعظم الفرق بينهما! ولمثل سحرة فرعون يقول المسيح: «لَيْسَ كُلُّ مَنْ يَقُولُ لِي: يَا رَبُّ يَا رَبُّ يَدْخُلُ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ، بَلِ الَّذِي يَفْعَلُ إِرَادَةَ أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ. كَثِيرُونَ سَيَقُولُونَ لِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ: يَا رَبُّ يَا رَبُّ، أَلَيْسَ بِاسْمِكَ تَنَبَّأْنَا، وَبِاسْمِكَ أَخْرَجْنَا شَيَاطِينَ، وَبِاسْمِكَ صَنَعْنَا قُوَّاتٍ كَثِيرَةً؟ فَحِينَئِذٍ أُصَرِّحُ لَهُمْ: إِنِّي لَمْ أَعْرِفْكُمْ قَطُّ! اذْهَبُوا عَنِّي يَا فَاعِلِي الإِثْمِ!» (متى 7: 21-23).

4- المحبة أعظم من الحماسة والغيرة: (آية 3)

«إِنْ أَطْعَمْتُ كُلَّ أَمْوَالِي، وَإِنْ سَلَّمْتُ جَسَدِي حَتَّى أَحْتَرِقَ، وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّةٌ، فَلاَ أَنْتَفِعُ شَيْئاً» (آية 3).

يقدم كثير من الناس العطاء بغير محبة، ولكن رغبةً في الحصول على مدح الآخرين، وللافتخار الشخصي. وقد يعطي الإنسان كتكليف واجب مفروض عليه. ولكن ما أعظم الفرق بين عطية التفاخر أو الإجبار وعطية المحبة. نقرأ في مرقس 12: 41-44 «وَجَلَسَ يَسُوعُ تُجَاهَ الْخِزَانَةِ وَنَظَرَ كَيْفَ يُلْقِي الْجَمْعُ نُحَاساً فِي الْخِزَانَةِ. وَكَانَ أَغْنِيَاءُ كَثِيرُونَ يُلْقُونَ كَثِيراً. 42فَجَاءَتْ أَرْمَلَةٌ فَقِيرَةٌ وَأَلْقَتْ فَلْسَيْنِ قِيمَتُهُمَا رُبْعٌ. 43فَدَعَا تَلاَمِيذَهُ وَقَالَ لَهُمُ: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّ هَذِهِ الأَرْمَلَةَ الْفَقِيرَةَ قَدْ أَلْقَتْ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ الَّذِينَ أَلْقَوْا فِي الْخِزَانَةِ 44لأَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا. وَأَمَّا هَذِهِ فَمِنْ إِعْوَازِهَا أَلْقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا كُلَّ مَعِيشَتِهَا». فالرب يرى روح العطاء وكيفيته، ولا يقدِّر إلا  عطاء المحبة، العطاء الحقيقي.

«إِنْ أَطْعَمْتُ كُلَّ أَمْوَالِي» للفقراء بدون محبة، سينتفع الفقراء، لكن المعطي لا ينال من الله شيئاً!

«إِنْ سَلَّمْتُ جَسَدِي حَتَّى أَحْتَرِقَ» فهناك من يقِّدم جسده حتى يحترق كله، حباً في الله، كما شهد نبوخذ نصر للفتية الثلاثة وقال: «تَبَارَكَ إِلَهُ شَدْرَخَ وَمِيشَخَ وَعَبْدَنَغُو الَّذِي أَرْسَلَ مَلاَكَهُ وَأَنْقَذَ عَبِيدَهُ الَّذِينَ اتَّكَلُوا عَلَيْهِ وَغَيَّرُوا كَلِمَةَ الْمَلِكِ وَأَسْلَمُوا أَجْسَادَهُمْ لِكَيْ لاَ يَعْبُدُوا أَوْ يَسْجُدُوا لإِلَهٍ غَيْرِ إِلَهِهِمْ» (دانيال 3: 28). فنجى الرب أجساد الفتيان الثلاثة من الحريق لأنهم سلموها للأتون حباً له. ولكن هناك من يسلِّم جسده حتى يحترق بُغضاً للناس، كما فعل جنود الحروب الصليبية، فماتوا واحترقوا وهم يقتلون ويسفكون الدماء، رغم أن سلاح المسيح هو سيف الروح الذي هو كلمة الله (أفسس 6: 17)، ورغم أنه قال: «لأَنَّ كُلَّ الَّذِينَ يَأْخُذُونَ السَّيْفَ بِالسَّيْفِ يَهْلِكُونَ» (متى 26: 52) .

يعلمنا الرسول بولس في هذه الآيات الثلاث أن المحبة أعظم الكل. هي أعظم من المواهب، وأعظم من النبوَّة والتعليم، وأعظم من الإيمان والمعجزات، وأعظم من الحماسة والغيرة.

إن مشكلتنا الروحية الأولى هي عدم ترتيب أولوياتنا. أولويتنا الأولى هي المحبة، ثم المواهب، ثم النبوة والعلم، وبعدها الإيمان والمعجزات، ثم الحماسة والغيرة.

ليعلمنا الله أن نحب، ليس فقط الذين يحبوننا ولكن الذين يسيئون إلينا أيضاً، كما أحبنا المسيح وأسلم نفسه لأجلنا.

صلاة

يا أبانا السماوي، علَّمتنا المحبة في كلمتك وفي المسيح لأنك أنت محبة، وقد أحببتنا ونحن أعداء، لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا. وبفضل كفارته غُفرت خطايانا. نلتمس أن تجعل حياتنا حياة المحبة، لنحيا مزمور المحبة بكل القلب والفكر، ولنحب بالطريقة التي تحب أنت بها. في شفاعة المسيح. آمين.


طباعة  

د. القس إبراهيم سعيد

د. القس إبراهيم سعيد

دكتورة فينيس نقولا

الدكتور القس منيس عبدالنور