وكان مع الوحوش

دراسات الزيارات: 1649

"وكان مع الوحوش" (مرقس 1: 13)

في روايته الشهيرة ”الحبُّ في زمنِ الكوليرا،“وصف جابرييل جارسيا ماركيز بطليْ روايته العجوزيْن فلورينتينو أريثا وفيرمينا داثا، وقد بدأتْ علاقة الحب بينهما وهما في السبعينيات من العمر بعد انقطاعٍ لما يزيد عن نصف قرن من الزمان، بالقول ”عجوزان يترصدهما الموتُ.“ في ظلِّ أزمة ڤيروس كورونا، يبدو أن وصف ماركيز هذا ينطبق على جميعنا، حيث في هذه الأثناء يُحيطُ الموتُ بنا بسهولة. في هذه المقالة أحاولُ أنْ أقدِّمَ قراءةً لنص مرقس المختصر، والمُحيّر، عن تجربة يسوع في البرية، تساعدنا في حفظ التوازن النفسي في ظل ظروفنا الحالية الضاغطة.

مرقس 1: 13 عبارة عن أربعِ كلماتٍ يونانية καὶ ἦν μετὰ τῶν θηρίων، ورغم هذا الاختصار الشديد لكنها أثارت تفكيرَ وأقلامَ الكثيرين للبحث عن معناها. هذه العبارة تأتي ضمن سرد البشير مرقس المختصر لتجربة يسوع في البرية في مرقس 1: 12–13، وهو سردٌ يختلف في كثير من التفاصيل عن سرد متى ولوقا للتجربة (متى 4: 1–11/لوقا 4: 1–13). وحده مرقس ينفرد بهذه العبارة "وكان مع الوحوش"، كثيرٌ من التفسيرات قدمها الدارسون لهذا النص الذي يعكس إبداع مرقس السردي وانفتاح روايته على عدد هائل من القراءات.

"وَكَانَ هُنَاكَ فِي الْبَرِّيَّةِ أَرْبَعِينَ يَوْماً يُجَرَّبُ مِنَ الشَّيْطَانِ. وَكَانَ مَعَ الْوُحُوشِ. وَصَارَتِ الْمَلاَئِكَةُ تَخْدِمُهُ." (مرقس 1: 13)

إنَّ تكرار "البرية" مرتيْن مع عبارة ”كان مع الوحوش“ هو تأكيدٌ على وحشة الصحراء ورعبها. بالتالي، يسوعُ محفوظٌ في البرية في وحدته التامة (Taylor, Mark, 164). وصفُه بالأمان مع وحوش البرية يرتبطُ بخبرة دانيال وحفظ الله له في جب الأسود في دانيال 6 (كول، مرقس، 55). يُطوِّر شيد مايرز في تفسيره المهم لمرقس هذا الربط مع دانيال ويعتمد على دانيال 7 LXX حيث الكلمة اليونانية θηρίον/θηρία ”حيوان/حيوانات أو وحوش“ مرتبطة بالممالك والقوى السياسية المُعادية لمملكة الله وبالتالي فإنَّ مرقس يسبقُ ويضع يسوع مع الشيطان كمجرب والوحوش المُعادية كرموزٍ لتجربة الأعداء السياسيين له مثلما في 8: 11؛ 10: 2؛ 12: 15 (Myers, Binding the Strong Man, 130). يُصَّورُ يسوعُ هنا على أنه بارٌ يبقى آمنًا وسط خطر وأهوال البرية ووحوشها المفترسة، على مثال البار في مزمور 22 وحفظ الله له من الثيران والكلاب التي أحاطت به وخلاص الله له من فم الأسد ومن قرون بقرِ الوحش، أو البار في مزمور 91، وهو في نظر كثيرين خلفيةُ مرقس 1: 13 حيث الوعد للبار ”على الأسد والصِلِّ تطأ، الشبلَ والثعبانَ تدوس،“ والإشارة لمعونة الملائكة ”لأنه يوصي ملائكته بك،“ الأمرَ الذي دعّمه وجودُ الوحوش البرية والملائكة مع يسوع، وكذلك اقتباس متى ولوقا لهذا المزمور في روايتهما للتجربة (Taylor, Mark, 164; Collins, Mark, 151–53; France, Mark, 86; Boring, Mark, 48). طالما يمكث يسوعُ آمنًا في البرية مع وحوشها فهو دليلٌ على بره، وهو يرتبطُ بنصٍ شهيرٍ في (أيوب 5: 23) ”لأنه مع حجارة الحقل عهدُك، ووحوش البرية تُسالمك“ (Taylor, Mark, 164). تتفقُ شرين دود على خط التفسير الكتابي هذا الخاص بحفظ الله للبار من الوحوش المفترسة كدليلٍ على بره وتُضيف تفسيرًا حضاريًا حيثُ في الأدب الهلليني كانت سُكنى شخصٍ مع حيوانٍ وحشيٍ تدل على أنه فاضلٌ أو حكيمٌ يتمتع بالعناية الإلهية. روميلوس مؤسس روما ربّاه واعتنى به ذئبٌ والفيلسوف فيثاغوراس روَّضَ وحشًا بريًا (Dowd, Mark,13).

 في مقالةٍ مهمة خصصها ريتشارد بوكهام لشرحِ معنى عبارة ”وكان مع الوحوش“ في مرقس 1: 13 وعَرْضِ الآراء المختلفة حول هدفها في نص مرقس، أشار بوكهام إلى أنَّ حرف الجر اليوناني μετὰ (”مع“) في مرقس لا يُشيرُ إلى عداوة بل للصداقة والرفقة مثلما في 3: 14؛ 5: 18؛ 14: 67، وبالتالي ”الوحوش البرية“ هنا تُفهم إيجابيًا لا سلبيًا ولا على أنهم حُلفاء الشيطان. يسوع كان في سلامٍ مع الحيوانات البرية التي تُخيفُ الإنسان. في مرقس 1: 12–13 يسوع يواجه 3 كائنات غير بشرية، الشيطان، وهو عدوٌ يقاومه في تجربة قوة سيتضح لاحقًا أنَّ يسوع هو ”الأقوى“ كما تنبأ يوحنا المعمدان عنه في مرقس 1: 7 وسوف يسحقه (3: 27)، والملائكة، وهي أصدقاء تخدمه وتمده بالطعام طوال فترة ال 40 يومًا في البرية مثلما حدث مع إيليا (1 ملوك 19: 5–8). يواجه يسوع ثالثًا الوحوشَ البرية، وهي وسط بين العدو والأصدقاء، هي أعداءٌ حوّلها يسوع إلى أصدقاء وقد عاش معها في سلامٍ تامٍ (Bauckham, “Jesus and the Wild Animals (Mark 1:13),” 5–10.

يتفق ﭼول ماركوس وكثيرون على هذا التفسير، حيث يسوع في وئامٍ مع حيوانات البرية، في منظرٍ يستدعي صورةَ جنةِ عدن عندما كان آدم يعيش وسط حيوانات البرية دون عداءٍ (تك 2: 19–20) ويستدعي تحقيق النبوات عن مجيء المسيا الداودي الممتليء بالروح الذي يأتي ويُعيدُ علاقة السلام هذه مع حيوانات الأرض صانعًا سمواتٍ جديدةً وأرضًا جديدةً (إش 11: 6–8؛ 65: 25؛ هو 2: 18) (Marcus, Mark, 1:167–71). يُدعِّمُ هذا التفسيرَ وجودُ تلميحاتٍ أخرى في مقدمة مرقس (1: 1–15) لرواية التكوين مثل كلمة ”بدء“ (مرقس 1: 1 مع تكوين 1: 2)، والروح الذي يرف كحمامة على مياه المعمودية ومياه الخلق (مرقس 1: 10 مع تك 1: 2) ثم التلميح ”إنَّه عَمِلَ كلَّ شيءٍ حسنًا“ (مرقس 7: 37) وهو تلميحٌ واضح لنهاية قصة الخلق في التكوين ”ورأى اللهُ كلَّ ما عمله فإذا هو حسنٌ جدًا“ (تك 1: 31).  وعليه، فإنَّ مرقس يَسردُ قصةَ خلقٍ أخرى. يبدأ الله عملية الخلق مرةً أخرى، ليسترد ويُصلحُ الخليقة، ليجددها ويعالج نقائصها بحياة وأعمال يسوع المسيح ابن الله. وبالتالي فإنَّ كلَّ من يعمل/تعمل على إصلاح الخليقة وجمالها فهو/هي يشترك/تشترك مع يسوع في هذا القصد العظيم.

 في النهاية، ما علاقة هذه المقالة بأزمة كورونا؟ أراها علاقة ثنائية. أولًا، دورُ العلماء وسعيهم لإنقاذِ البشرية وإنهاء الخلل الحاصل دورٌ مهم ويقف إلى جوارِ ما كان يسعى يسوع لفعله، إصلاح وخلاص العالم. لذلك يجب علينا أن نساند العلم والعلماء والأطباء لأنهم أيدي الله العاملة لبقاء البشرية والعالم. ثانيًا، يُمكن لنا وسط الظروف الراهنة أن نتمتع بالسلام والسكينة، التي تمتع بها الربُّ يسوع في البرية ومع الوحوش، لأنه يمتلك الروح القدس ويعرف أنه ابن الله كما سمع في المعمودية (1: 9–11).

 إنْ تَطْمُ حولي النائباتْ كاللُّجِّ وَسطَ البحرِ يَدُمْ سلامي في ثباتْ أساسُه في الصخرِ.

هناك أوقاتٍ لكل منا عندما تكون الوحوش حقيقية جدًا، ولحظات يتعثر فيها الإيمان، وليالٍ في الظلام عندما يئن علينا اليأس، وأيامًا في حرارة شديدة عندما يمدد اليأس مخالبه لتدمير إحساسنا بالرفاهية.

طباعة