العطاء

مقالات الزيارات: 1682

من أَكبر التّحديّات الّتي يُمكن أَن نعيشها في حياتنا المسيحيّة هو تحدّي العطاء, فالعطاء عكس الطّبيعة البشريّة الأَنانيّة الَّتي جعلتها الخطيّة تُفكّر فقط في الأَخذ والاهتمام بما هو للنّفس والتّمركز حول الذّات. لذلك فالعطاء يحتاج إِلى نِعمةٍ إِلهيّةٍ، وهو عطيّةٌ وموهبةٌ من الله قليلًا ما نُصلّي لأَجلها لأَنّنا لا نميل إِلى تحقيقها.

  وهذا التّحدّي يظهر في أَنّنا كثيرًا ما نعيش عطاء الأُمنيات والأَشواق والكلمات والرّغبات، ويقف عند حدّ الكلمات والتّعبيرات الّتي لا تُترجم إِلى واقعٍ ملموسٍ، وأَيضًا نحن نُرحب أَنْ نُعطي نفوسنا للرَّبِّ ونصير ملكًا لهُ، ولكنّنا نضع ما نمتلكهُ تحت تصرّفنا نحن، فَنُرحّب بملكيّة الله علينا ولكن ليس على ما نملك، وأَيضًا كثيرًا ما نتكلّم كخدّامٍ عن العطاء ولكنّنا لا نضع أَنفسنا في خانةِ المُتلقّين. نحن نحتاج أَنْ نَتأَثّر بما نعظ بِهِ عن العطاء، قَبْل تَأَثُّرِ الآخرين المُتلقّين .
وفي مُناقشة هذا التّحدّي أَضع بعض الأَفكار الَّتي تُساعدنا على التّفكير في هذهِ القضيّة الّتي تُوضّح لماذا لا نُعطي، لماذا هو ثقيل علينا أَنْ نحيا حياةَ الوكالة المسيحيّة بمفهومها الصّحيح:
1- العطاء هو انعكاسٌ وترجمةٌ لِمَا أُفكّر بِهِ عن الله وعن علاقتي بِهِ.
فالعطاء هو صورةٌ من صور ملكيّة الله الحقيقيّة على المُؤْمن، وهو أَيضًا تعبيرٌ عن الشُّكر والتّمجيد لله، الَّذي أَعطاني كُلَّ شيءٍ حتّى ابنهُ، وأَيضًا إِدراك لمفهوم الفداء عمليًّا في تقديم أَغلى ما أَملك كما قَدَّمَ سَيّدي، ويعكس أَيضًا مدى اقتناعي وثقتي في عناية الله بنا وكفايتهُ لنا وتسديدهُ لاحتياجاتنا. فالله وما أُفكّر بِهِ عنهُ وشكل علاقتي بِهِ يَظْهَرُ جليًّا في سُلوكي الحقيقيّ في أَمر العطاء.
2-العطاء هو انعكاسٌ وترجمةٌ لِمَا أُفكّر بهِ عن الآخر واتّجاهي نحوهُ.
فالمحبّة الَّتي تُشارك عن حبٍّ ومسئوليةٍ في تسديد احتياجات الآخرين هي العطاء، وأَيضًا إِدراكي لمفهوم الجسد الواحد بتنوّعهِ واختلافهِ، الَّذي يشعر بالجماعة وبكُلّ فردٍ فيها، ويعتبر احتياج أَي عضو من هذا الجسد هو احتياجٌ شخصيّ.
3- العطاء هو انعكاسٌ وترجمةٌ لِمَا أُفكّر بِهِ فيما أَملك.
هل الممتلكات هدفٌ أَمْ وسيلةٌ، هل أَنا أَملكها أَما أَنَا وكيلٌ عليها، وهل هي استحقاقٌ شخصيّ أَم بركةٌ وعطيّةٌ من الله، وهل هي وسيلةٌ للتَّعالي على الآخرين وتعثيرهم أَم وسيلة لمُساعدتهم، وهل الممتلكات هي التّأْمين الحقيقيّ لحياتي ومستقبلي أَم الأَمان في إِلهي.
إِنّنا كخدّامٍ ومُؤْمنين لابُدّ أَنْ نكون قُدوةً ونموذجًا في العطاء العمليّ الحقيقيّ، فنحن نحتاج إِلى تعليمٍ واعٍ لنا ولِمَنْ نخدم عن العطاء، وأَيضًا نحتاج أَنْ نُشجّع وباستمرارٍ على العطاء، وأَنْ نكون مُقْنِعِينَ في رُؤْيتنا وتطلّعاتنا حتّى نُقدّم للناس ما هو مُحفزٌّ تُجاه العمل والخدمة فَنَحِثّ النّاس أَنْ يعطوا من إِعوازهم، لكي نُحققَّ أَهدافًا ليست ذات قيمةٍ أَو مُجرّد مظاهر وأَشكال وظواهر لخدماتٍ لا جوهرَ لها.
العطاء الَّذي يُقدّمهُ المُؤْمن لابُدَّ أَنْ يكون بسخاءٍ، وكلمة سخاء تعني ببساطةٍ وإِخلاصٍ وبدون حسابٍ، أَي دون تعقيدٍ وأَنْ نمتلئ فقط باتّجاهِ العطاء بتلقائيةٍ أَي بدون ضغطٍ من الآخرين، وأَيضًا بدون ضغطِ الاحتياج, فلا أَحتاج أَنْ أَرى شدّة الاحتياج لكي أُعطي، لكن أُعطي الرَّبَّ مِمَّا لديّ بإِرادتي الحُرّة حتَّى في عدم وجود احتياجٍ مُلحٍّ، وبتواضعٍ أَي بعدم إِحساسٍ بالأَفضليّة أَو بالفضل عن مَنْ أُعطي، لكن بالعكس أَنْ أَشعر بامتياز أَنْ أُعطي الآخر فهو صاحب الفضل لأَنَّهُ أَعطاني الفُرصة أَنْ أُعطيهُ، وبفرحٍ، فالمُعطي المسرور الَّذي لا يشعر بضيقٍ وهو يُعطي أَو لا يُعطي بكآبةِ وجهٍ ودون ترحابٍ، بل يُعطي بسرورٍ وبهجةٍ وبحبٍّ، فإِنْ أَطعمتُ أَموالي وَلَكِنْ لَيْسَ لِي مَحَبَّة...
نموذج كنائس مَكْدُونِيَّة:
هى كنائس شمال كُورِنْثُوس «فيلبّي وَتَسَالُونِيكِي بِيرِيَّة»
وكانوا قد وقعوا تحت الاضطهاد العنيف وأَستغّل الغُزاة الرُّومان كُلَّ مواردهم فمرّت البلاد بحروبٍ أَهليّة طاحنةٍ ومتكرّرةٍ لأَسبابٍ سياسيّةٍ مُتنوّعةٍ لكن:
أ- ظُروف عطائهم: برغم من ضيقهم الشّديد، وفقرهم العميق ، لا يعرفون لِمَنْ ستتوجّهُ عطاياهم، لكنّهم يعرفون أَنَّهُ يوجد احتياجٌ.
مادة العطاء:
- قدّموا عطايا ماديّة حسب الطّاقة أَي بما هو مُناسبٌ ومرضي لحالتهم الماديّة، وأَيضًا فوق الطّاقة أَي ما هو أَكثر من قُدرتهم على العطاء.
- قدّموا نَفْسَهُمْ
كرّسوا ليس فقط عطايا ماديّة لكنّهم كرّسوا أَنفسهم ليكونوا تحت الأَمر في أَي خدمةٍ مطلوبةٍ لهذا الغرض، فقمّةُ العطاء أَنْ أُعطي نفسي وما لديّ، فأَكون أَنا وَما أَملكُ تحت أَمرِ الرّبِّ.
وهنا قدّموا ليس بحسب قُدرتهم الماليّة بل بحسب حالتهم الرُّوحيّة، فكانت العطايا سخيّةً. وهذا العطاء لأَنّهم أَعطوا أَنفسهم للرّبِّ.
كان العطاء في حياتهم تعبيرًا عن النِّعمة الَّتي قَبَلُوها، وعمل هذهِ النِّعمة في حياتهم وفي قلوبهم، فكان في استطاعتهم أَنْ يعطوا أَجمل ثِمار الأَخلاق: وهو الكرم؛ وأَجمل ثِمار النِّعمة: وهي العطاء والمحبّة التّلقائيّة لآخرين سواء كان المُعْطَى لَهُ مُستحقٌّ أَمْ لا.
لابُدّ أَنْ أَكون أَنا وأَنْتَ ونحن كخُدّامٍ هذا النّموذج أَمام مَنْ نخدمهم، كما كانت كنائس مَكدُونِيَّة نموذجًا للآخرين.

طباعة