سر الألم في الحياة

مقالات الزيارات: 1058

الأَلمُ هو قصّةُ كُلِّ إِنسانٍ على الأَرض، فكُلٌّ لهُ تاريخٌ مع الأَلم، حتَّى يُمكننا القول إِنَّ الأَلم شريكٌ حقيقيٌّ للإِنسانيَّة كُلِّها. وأَمام هذه القضيَّة تجول في أَذهانِنَا أَسئلةٌ كثيرةٌ: لماذا الأَلم في حياتنا؟

وهل هناك ارتباط أَو علاقة بين الأَلم والخطيَّة؟ ولماذا لم يَخْلقْ اللهُ العالَمَ دُون شَرٍّ وأَلمٍ؟ أَين الله مِمَّا يحدثُ في العالَم؟ هل يَأْخُذُ موقفَ المُتفرّج فقط؟ هل علاقتهُ بالخليقةِ انتهت بالْخَلْقِ؟
وما هي العلاقة بين حُرِّيَّةِ الإِنسانِ وسُلطانِ الله في قضيَّة الأَلم؟ أَسئلةٌ مُحيّرةٌ وصعبةٌ للغاية، لكن يُمكننا البحث فيها من خلال عِدّة مبادئ كتابيَّة هامّة في كَلِمَةِ الله.
الله والخليقة
يُخْبِرُنَا سِفْرُ التَّكوين عن علاقة الله بالخليقة، فالله هو خالقها ومصدرها. وعمليّة الخلق هذه تجعل الله أَبًّا لكُلِّ الخليقة، إِذْ أَنَّها خرجت منهُ وستظلّ مُنْتَمِيَةً لهُ. لكن هناك مَنْ يُسيءُ فَهْمَ هذه العلاقة، فقد يعتقد البعضُ أَنَّها علاقة تتَّسم بالقُوَّةِ والسَّيطرة، وهذا فَهْمٌ خاطئٌ لطبيعة هذه العلاقة. فالكلمات الأُولى الَّتي نَطَقَ بها الله (تك1: 28) هي لمُشاركةِ القُوَّة مع الإِنسان، وبمعنًى آخر لقد اختار اللهُ أَنْ يَدْخُلَ في علاقةٍ بطريقةٍ تجعلهُ لا يكون المُتحكّم الوحيد في هذا العالَم. هُنا يُفْسِحُ اللهُ المجالَ لخليقتهِ ويأْخُذُ خُطوةً للخلف، حتَّى يعيش الإِنسانُ الحُرِّيَّةَ الحقيقيَّة، أَي يُشارك الله في إِدارة الخليقة طبقًا للوصيَّة الأُولى. ولا يعني ذلك أَنَّ الله ضعيفًا أَو غيرَ قادرٍ على إِدارة خليقتهِ، لكنَّهُ اختار بحُرِّيَّةٍ مُطْلَقَةٍ أَنْ يُعطي الإِنسان مِمَّا لهُ في إِدارة الخليقة.
ومن هذه العلاقة يتَّضِح لنا أَنَّ المسؤوليَّة مُشتركةٌ بين الله والإِنسان، ويَرْجِعُ هذا الفضل إِلى الله الَّذي أَعطى الإِنسان هذا السُّلطان، الأَمرُ الَّذي يَنْتُجُ عنهُ بركات كثيرة، مِثْل الحِفاظِ على الخليقة وإِثمارها، وقد يَنْتجُ عنهُ الآم كثيرة، في حالة استخدام القُوّة بشكلٍ خاطئٍ، وفي كلتا الحالتين نَفْهَمُ أَنَّ الله دَخَلَ في علاقةٍ تَجْعَلُ المُستقبل كُلّهُ لَيْسَ مُخطّطًا، فما نفعلهُ في الحاضر يُؤثِّر على طبيعة المُستقبل. ومَنْ يرفض هذه الحقيقة لا يَعْتَرِفُ بحقيقة حُرِّيَّةِ الإِنسان المُؤكّدة، الَّتي قد تجعل الحياة رائعةً أَو العكس.
الأَلمُ وخليقة الله الحسنة
نقرأُ في سِفْرِ التَّكوين أَنَّ الله بَعْدَمَا انتهى من عمليَّة الْخَلْقِ رَأَى «كُلَّ مَا عَمِلَهُ، فَإِذَا هُوَ حَسَنٌ جِدًّا.» (تَك1: 31). فالخليقة حسنةٌ لكنَّها ليست كاملةً. وغير كاملةٍ تَعْنِي أَنَّ الله خَلَقَ عالمًا مَلِئًا بالمخاطر، مِثْل (القوانين الطَّبيعِيّة، الكوارث الطَّبيعيَّة، البِحار والمُحيطات، ...إِلخ). ولأَنَّ الطَّبيعة تتطوّر وتتغيّر مع الزَّمنِ، فنتيجةٌ لهذا التَّغيُّر المُستمر قد يحدث أَلمٌ كثيرٌ، وهو ما يُسمَّى بالأَلم الطَّبيعيّ، الَّذي ينشأ من عمل الطَّبيعة نفسِهَا.
ولأَنَّ الإِنسانَ هو جزءٌ من خليقة الله الحسنة غير الكاملةِ، لذا هو كائنٌ محدودٌ «لقد خُلِقَ بمحدوديّةٍ من الذَّكاء والخِفَّةِ والسُّرعة والقُوَّةِ، والَّتي تُؤدّي إِلى أَشكالٍ مُختلفةٍ من المُعاناةِ.»  ونتيجةُ هذه المحدوديَّة يُعاني الإِنسانُ من الأَلمِ، بسببِ الأَخطاء الَّتي يقوم بها، فكثيرٌ من الحوادث في العالَمِ، هي نتيجةٌ لهذه الأَخطاء. فمثلًا عندما يقود شخصٌ ما سيارةً، وهو مخمورٌ وغير واعٍ، فهو مُعَرَّضٌ للخطأ، وعندما يُخطئ فهو يُنْتِجُ آلامًا مُتعددةً لهُ ولغيرهِ. فالمسؤوليَّة قد تقع على الإِنسان في أَوقاتٍ كثيرةٍ نتيجة كسرهِ لقوانين الطَّبيعة، أَو لاستخدامهِ للقُوَّةِ بطريقةٍ خاطئةٍ.
نَحْنُ أَيضًا نتعرّض للأَلم نتيجةَ ارتباطِنا بعضنا البعض، فالله دَخَلَ في علاقةٍ مع الخليقة، وأَدْخَلَ الخليقةَ أَيضًا في علاقةٍ معهُ ومع نفسِهَا؛ فأَصبحت الخليقةُ كُلّها عبارةً عن شبكةٍ من العلاقات الَّتي تربط الجميع. ولأَنَّنا في «كيانٍ عِلَاقَاتِي» فقد نتعرّض للأَلم نتيجةَ أَخطاء الآخرين من حولنا. وهذا ما حدث في قصَّة الشَّباب الَّذين ذُبِحُوا في ليبيا، لقد خسروا حياتهم نتيجةَ أَخطاءِ غيرهم، إِذ لم يرتكبوا خطأً استحقّوا الموت لأَجلهِ. فنحن نعيش في خليقةٍ تَتَّسم بالعلاقة الَّتي لا يستطيع أَحدٌ أَنْ يَنْفَصِلَ عنها أَو يعيش وحيدًا بمفرهِ فيها، فالأَلمُ قد يحدث نتيجةَ ارتباطِنَا بالآخرين.
وعندما نسألُ عن دورِ الله في هذا الحادث المُروّع، لماذا سمح الله؟ أَو لماذا لم يتدخّلْ؟ فالإِجابةُ كما ذكرنا من قبل «أَنَّ الأَلم نتيجةَ سماحِ الله للمخلوقات بأَنْ يكونوا أَنفسهُم، لقد أَخذ اللهُ خُطوةً للخلفِ عن الأَشياءِ الَّتي خَلَقَها، لِكَيْ يسمحَ للمخلوقاتِ بأَنْ يكونوا وأَنْ يُصبحوا ما قد خُلِقُوا من أَجلهِ، دُون أَنْ يكون هناك تحكُّم إِلهيّ في حركاتِهِمْ.»  فليس من المعقول أَنْ يُنْقِذَ اللهُ إِنسانًا مُتهوّرًا، فاللهُ لا يتعامل بطريقةِ «superman» حتَّى يَمُدَّ يدهُ ويرفع السّكين من أَيدي القتلة. فلو طلبنا من الله أَنْ يكون كذلك لأَصبحت الحياة صعبةً وغيرَ واقعيّةٍ. فهل خَلَقَ اللهُ عرائس مُتحرّكة ليقودها حيثما شاء؟ هل يخلق اللهُ مخلوقات ولا يسمح لها أَنْ تكون نفسَهَا؟ ولماذا نتجاهل إِشراك الإِنسان في المسؤوليّة والقُوّةِ مُنذ بداية الخليقة؟ فيجب على الإِنسان أَنْ يَتَحَمَّلَ هذه المسؤوليَّة بأَمانةٍ حتَّى لا يتأَلَّم أَو يُسبّب أَلمًا للآخرين.
اللهُ والوكُلاء
لقد اختار اللهُ مُنذ البداية أَنْ يعمل مَعَ وَمِنْ خلال الإِنسان، فأَصبح الإِنسان هو الوكيل عن الله في الخليقة. والوكيل هو إِنسانٌ محدودٌ، و»لأَنَّهُ محدود فهو مُعرّضٌ للخطأ. ورغم أَخطاء الوكلاء لا يتحكّم اللهُ في عملهِمْ، لكنَّهُ يَحِدُّ ويُقيد من نفسهِ من أَجل أَنْ يسمح لهم بمُمَارسة الحُرِّيَّة، كما أَنْ الله لا يُقوّم عيوب وأَخطاء البشر قبل أَن يعمل معهم أَو من خلالهم.»  فاللهُ أَعطى الحُرِّيَّةَ للإِنسان لِأَنْ يكون نفسهُ وكما يشاء، وفي الحُرِّيَّةِ الَّتي يستخدمها الإِنسان أَخطاء، ونتيجةً لهذه الأَخطاء يوجد أَلمٌ كثيرٌ. فالإِنسان قد يتألّم نتيجةَ عدم استخدام المسؤوليَّة بشكلٍ صحيحٍ، والآخرين يتألّموا لأَنَّهم ارتبطوا بنا وبنتيجةِ أَخطائنا، وذلك لأَنَّ اللهَ يَحْتَرِمُ عمل الوكيلِ وحُرِّيّتهُ.
الأَلمُ والخطيَّة
مُنذ البداية خَلَقَ اللهُ العالَمَ وَفيهِ الأَفعال لها نتائج وعواقب. لقد أَسَّس نظامًا أَخلاقيًّا يعمل في الخليقة، ومُقتضاهُ «أَنَّ مَا يَزْرَعهُ الْإِنْسَانُ، إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضًا.» ولأَنَّ العالَمَ مُتداخلٌ، فأَفعال الشَّرّ لها نتائج سلبيّة عَبْرَ الَّزمن، فمع مُرور الزَّمن أَصبحت الخطيَّة جزءًا من نظام الكون، ونتيجةً لذلك نحن نتأَلَّم لأَنَّنَا نرتبط بعالَمٍ لهُ تاريخٌ طويلٌ مع الشَّرِّ، والشَّرّ أَصبح جُزءًا من النِّظامِ. وهناك جانب آخر هامّ للخطيَّة، هو عدم الاستعداد للكوارث والحوادث. فعندما لا تكون هناك كَبَارِي وطُرق جيّدة يَتَعرّض الجميع للخطر كل لحظة، وعندما لا يأْتي الإِسعاف سريعًا فهذا يُزيد من المشكلة، وهذه خطايا للبشر لا يجب تجاهلها. نتيجةً لذلك قد يقع كثيرٌ من الأَبرياء فريسةً لأَخطاءِ الآخرين دُون أَنْ يستحقّوا ذلك، مِثْلَ ما حدث مع سَدُوم وَعَمُورة (تَكْ18: 22، 23)، فَما ذنب الأَطفال الأَبرياء حتَّى يهلكوا؟ فكثيرًا ما نَخْتَبِرُ الأَلم ليس لأَنَّنا فعلنا شيئًا، إِنَّما بسبب ما فعلهُ الآخرين. وهناك أَمثلة عديدة مثل أُوِرِيَّا الْحِثِّيّ مات بسبب خطيَّة داود (2صَمُ11). كما أَنَّ شعبًا كثيرًا من إِسرائيل مات بسبب خيانة عَاخَان (يَشُ7). لقد خلق اللهُ عالَمًا مُترابطًا، فيهِ تُؤثّر أَفعالُ مخلوقٍ واحدٍ على حياةِ المخلوقات الأُخرى سواء بالإِيجابِ أَو بالسَّلبِ.
الإِلهُ المُتألّم
نَحْنُ نُؤمن بأَنَّ اللهَ محبَّةٌ، فهو الإِله المُحبّ. ولأَنَّه إِلهٌ مُحِبٌّ فهو يتألّم من أَجل آلامنا، فهناك مَنْ يعتقد بأَنَّ الله يفرح في ضيقنا، لكن كيف نُؤمن بأَنَّ الله مَحبَّة إِنْ كُنَّا نظنّ أَنَّ ألمنا لا يُصيبهُ فِي صميم كيانهِ الأَزليّ؟ وعندما أَبْكِي أَو أَنْهار، فهل يظلُّ قاسي القلب كالصَّوَّان؟ فالمُحبُّ تُصيبهُ الجِراح. فالكتاب المُقدّس يُوضِّح لنا صورًا من مُشاركة الله في المُعاناة والألم «فاللهُ يُعاني مع أُولئك الَّذين يُعانون، ويدخل إِلى خبرة مُعاناتهم إِر9: 17ـ 19، ويُعاني ليس لإِسرائيل فقط لكن لغيرهم أَيضًا إِر48، ويُعاني ويتألّم للخليقة كَكُلٍّ إِر9: 10، فالله ليس غير مبالٍ بمُعاناة البشر، كما أَنَّه لا يستجيب بموضوعيّةٍ مُنفصلةٍ. إِنَّما بدلًا من أَنْ يُحاول التَّغلّب على الموقف المُؤلم من الخارج، فإِنَّهُ يدخل إِلى أَعماق هذا الموقف المُؤلم شافيًا لهُ من الداخل».
أَخيرًا
اللهُ لم يَخْلِقْ عالَمًا خاليًا من الأَلم، ولم يَعْدْنَا بحياةٍ خاليةٍ من الأَلم أَيضًا، لكن دعوتنا هي حياة مليئة بالأَلم (مر8: 34) ويجب أَنْ نضع أَمام عيوننا أَسبابَ الألم دائمًا، فنحن قد نتألّم نتيجةَ أَخطاءنا وخطايانا، أَو نتيجة للخليقة غير الكاملة، أَو نتيجةَ ارتباطنا بعضنا البعض في الخليقة. أَمَّا عن دور الله في وقت الأَلم، فهو الإِلهُ الَّذي أَختبر شدّةَ وعمق الأَلم على الصَّليب، ويعرف تأثيرهُ في حياتنا كم يكون، ولا يقف عاجزًا أَمام جِراحِنَا «لِأَنَّهُ فِي مَا هُوَ قَدْ تَأَلَّمَ مُجَرَّبًا يَقْدِرُ أَنْ يُعِينَ الْمُجَرَّبِينَ.» (عِبْ2: 18). وإِنْ كُنَّا نؤمن أَنَّ الله مَحَبَّةٌ، فكيف لإِلهٍ مُحبٍّ أَنْ يترك أَحبَّاءهُ وقت التجربة؟ حاشا أَنْ يفعل الله بنا هكذا، لأَنَّه أَمينٌ إِلى المنتهى، حتَّى أَنَّنا نهتفُ واثقين مع دَاوُد «إِذَا سِرْتُ فِي وَادِي ظِلِّ الْمَوْتِ لَا أَخَافُ شَرًّا، لِأَنَّكَ أَنْتَ مَعِي. عَصَاكَ وَعُكَّازُكَ هُمَا يُعَزِّيَانِنِي.» (مَزْ23).

طباعة