لوثر وفرنسيس الإصلاح حدث أم حالة؟

الإصلاح الإنجيلي الزيارات: 1369

 كان مارتن لوثر أولًا راهبًا فرنسيسكانيًا وقد عُرِفت تلك الرهبنة بالتقشُّف والزهد حتى إن لوثر وزملاؤه كانوا يُجبرون على التجول في الشوارع للتسوُّل. اختار «لوثر» ديرًا قاسيًا في نظامه وهو دير الأغسطينيين في مدينة (أرفورت) وواصل كلاً من دراساته وتدريسه بالجامعة إلى أن رُسم راهبًا ودُعي باسم الراهب «أغسطينوس» حيث اجتاز امتحانات فيها وعُيِّن أستاذًا في هذه الكليّة، إلا أن مشكلاته بخصوص الخلاص الأبدي لم تفارقه.

واصل لوثر نشاطه في التدريس ودراسة الكتاب المقدس، وإذ أراد أن يتعمَّق في دراسته فقد بدأ يدرس اليونانيّة وأقوال الإباء، وبالمناسبة لا يجب أن ننسى ما قاله لوثر عن الكنيسة الشرقيّة فقد نظر نظرة لها تقدير وقال: ماذا نقول عن الذين قدَّموا حياتهم وعاشوا بالإيمان المسيحي بكل تقوى وقداسة لا بل استشهدوا من أجل اسمه في الكنائس الشرقيّة؟»
أما عن البابا فرانسيس فهو أيضًا ينتمي للرهبنة اليسوعيّة وهو أول بابا يأتي من الرهبنة. يتميَّز فكر البابا فرنسيس اللاهوتي بالاهتمام بالبحث عن طرق جديدة «لنشر رسالة الإنجيل»، فالكنيسة في رأيه «ليست محصورة فقط بمؤمني شعب الله، بل تتجه رسالتها إلى جميع العالم في بشارة جديدة»، يتكلم البابا في عظاته عن أهميّة ترسيخ «ثقافة التلاقي» بدلاً من ثقافة التنابذ والخلافات، والسلام وبناء علاقة بالمذاهب والأديان وإقامة عدالة اجتماعيّة والاهتمام بحمايّة البيئة ، ويرى أن «السلطة الحقيقيّة هي في الخدمة».وهو اختار الرحمة كشعاره البابوي. والأخلاق في نظره هي «إجابة ودعوة من الإنسان لرحمة الله.»
هل بنى البابا فرانسيس آراءه على أساس الإنجيل أم على أساس إنساني محض؟ وعندما نعرف أن بعض الكنائس الانجيليّة المُصلَحة في الغرب تطالب بمحاكمته كنسيًا وحرمانه؛ وتصلي لفرنسيس لعله يتوب ويرجع إلى الله فهل لأن الفكرة عن منجزات الإصلاح في تلك الكنائس المُصلَحة هو مجرد الحصول على الخلاص بالنعمة؟ وهل ما يُعرف بالإنجيل الاجتماعي ومعاداة البعض للفكرة التي وراءه هو ما يجعلهم يرفعون له الصلاة بالهدايّة؟
وما الإنجيل الاجتماعي؟ استند لاهوتيو الانجيل الاجتماعي على فكرة المصالحة التي أقامها الله مع البشر والتي على أساسها أقام ملكوته – ملكوت الله على الأرض، ورأوا أن الخلاص والغفران لا يعالجان فقط الضعف البشري ولكن يمنحان القوة للعيش في ملكوت الله الذي يتميز بإقامة الحب والبر. ويدعو الإنجيل الاجتماعي المجتمع للتماسك المبني على تعاليم الكتاب المقدس والدور النبوي للكنيسة إذ جمع الانجيل الاجتماعي بين أفكار الطهارة البروتستانتيّة والتنوير
على أن ما أدى الى ظهور حركة الإنجيل الاجتماعي في أمريكا بعد الحرب الأهليّة هو ظهور مشكلات اجتماعيّة وفقر لا تقوى الكنائس البروتستانتيّة على معالجته فهي بعيدة عنه ولا تملك المدخل الملائم لمعالجة تلك المشكلات. بينما تواصل الكنيسة الكلام عن خلاص النفوس في الحياة الأبديّة، ودعا هؤلاء اللاهوتيون الكنيسة لمحاربة قوى الظلم الحقيقيّة التي أصابت الاقتصاد ونشرت الفساد على المستوى العام ومحاربة الفقر على المستوى الخاص إذ رأوا في نجاح هذه الرسالة تحقيق لملكوت الله على الأرض. وهنا تكمن مشكلة لاهوت الإنجيل الاجتماعي وهو الاعتقاد بأن الملكوت أرضي بدون بُعد أخروي. فهل تقبل الفكرة التصحيح بالإقرار بالبُعد الإسخاتولوجي إلى جانب البُعد الأرضي أم نتخلَّص منها ونعدمها بما لها وما عليها؟
هل رسالة الإنجيل تضم الروحاني والدنيوي مما يسمح للكنيسة بأن يكون لها جناحا العمل الروحي والاجتماعي بحيث تكون المعضلة هنا ألا يطغي واحد منهما على الآخر؟ وليس تفضيل أيهما والاستغناء عن الآخر؟
وماذا عن مارتن لوثر؟ هل هو ملاك هبط من السماء وقام «بتصحيح» ورقة الإجابة الخاصة بالكنيسة الكاثوليكيّة فأعطاها صفرًا، ثم قام بدق مسمارين لورقة تحمل الإجابة الصحيحة وعُرِفت الورقة باسم الاحتجاجات الـ 95 ثم صعد الملاك لوثر الى السماء مرة أخرى؟!
إن الإصلاح مبني على دراسة وكتابة وبحث ومحاجات ومواجهات واختبارات ومعاناة، وليس مجرد دق مسمارين لتعليق الاحتجاجات على باب كنيسة. كما أن الإصلاح هو لوثر وكالفن وزوينجلي وما قبلهم من أسماء وما تبع تلك الأسماء من تنويعات على نغمة الإصلاح. فكيف سار الإصلاح؟
«لوثر» والبنود الـ 95:
نشر «لوثر“ هذه الاحتجاجات باللغة اللاتينيّة وليس الألمانيّة، لأن اللغة اللاتينيّة هي لغة المثقَّفين فكأنه أراد أن يقول إنه لا يكتب لعامَّة الشعب وأراد فقط أن يقوم العلماء والأساقفة والكهنة بمناقشة هذه البنود. وقام بتعليق كل الاحتجاجات في لوحة إعلانات الكنيسة وليس الجامعة لأنه لم يفكر في الانفصال عن الكنيسة بل كان يريد إصلاحها من الداخل. واندهش «لوثر» من انتشار الاعتراضات بهذه السرعة.
وفي الأحداث الاجتماعيّة – الاقتصاديّة التي واكبت الإصلاح؟
انتشر الفقر بين الفلاحين نتيجة استغلال أصحاب الأملاك وعانى الفلاحون العنف من الظالمين، تأثر الفلاحون بدعوة لوثر للحريّة المسيحيّة وظنوا أنها تعني التخلُّص بالعنف من الظالمين. وفي 1524-1525 قامت ثورة الفلاحين وارتعب الأغنياء وأُخمدت الثورة وقُتل فيها الآلاف من الفلاحين ولم يكن «لوثر» في صف هذه الثورة التي كانت سببًا في تعميق العداوة في قلوب الفلاحين ضد الكنيسة الكاثوليكيّة وأيضًا المُصلَحة.
وما أهم كتابات المصلح الذي نحتفل به؟
كتب لوثر كتابات تتعامل مع حياة الشعب الروحانيّة والحياتيّة، فقد كتب الكتيب الأول «إلى الأمة المسيحيّة الألمانيّة النبيلة» (أغسطس 1520) للأمة كلها وعلى رأسها الإمبراطور والملوك والأمراء إلى القيام بواجباتهم تجاه المدينة، وأيضًا بالواجبات الروحيّة.
والكتاب الثاني «الأسر البابلي للكنيسة «(6أكتوبر 1520) وفيه يرى في فريضة العشاء الرباني حلول ازدواجي -بمعنى أن الخبز والخمر يظلان كما هما بدون تغيير أو تحوُّل ويحل المسيح فيهما لمن يتناوله بالإيمان عند الممارسة.
والكتاب الثالث «الحريّة المسيحيّة «وفيه يشرح «لوثر» مبدأيَن متناقضَين وهما المسيحي إنسان حر وسيد لكل الأشياء وفي نفس الوقت المسيحي خادم مطيع للجميع. وحاول «لوثر» أن يشرح أن الإنسان الذي حرَّره المسيح من كل خطاياه أصبح حرًا من الخطيّة وأيضًا من القلق والاضطرابات وأصبح إنسانًا جديدًا وخليقة جديدة، وهذه الخليقة تثمر أثمارًا صالحة. فهو لا يرفض الأعمال الصالحة بل بالعكس يشدِّد عليها.
بل إن سبب إطلاق لقب «بروتستانت» على حركة الإصلاح يدخل فيه عامل سياسي عندما طالب الملوك والأمراء وحكام المقاطعات الكاثوليكيّة بإلغاء القرار الذي أتُخذ عام 1526 ويقضي بحريّة كل ولايّة في اختيار معتقدها ومنع تقدُّم الإصلاح ومنع إقامة كنائس لوثريّة في أي مكان به كنيسة كاثوليكيّة وفي نفس الوقت منح حريّة العبادة للكاثوليك سواء في المناطق الكاثوليكيّة أو الإصلاح، وهنا احتج أمراء الإصلاح وقالوا إننا نحتج PROTEST لأنه لا يمكن أن نقبل أمرًا كهذا. ومن هنا ظهر المصطلح Protest أي الاحتجاج ضد الظلم.
الإصلاح إذًا نتاج تفاعل الظروف والسياسيّة الاجتماعيّة ومواقف الحكام والأمراء والباباوات (في ذلك الوقت) ووجود المطبعة والتقدم العلمي وتحكُّم المصالح وتضارب اراء اللاهوتيين.
فالإصلاح وإن كان حركة دينيّة في الأساس، لكنه يشكِّل المجتمع ويتشكَّل منه أيضًا. فالكنيسة ذات عناصر إلهيّة، وهي أيضًا مؤسَّسة بشريّة بحكم طبيعتها، بل إن اللاهوت والعقيدة هما نتاج نفس السياق الذي ظهرا فيه فالكنيسة تحيا نفس الضغوط الثقافيّة والزمنيّة لأي مؤسسة في المجتمع وبالتالي يرتبط الإصلاح بتاريخ وثقافة العصر الذي يحث فيه.
فماذا عن مسار الإصلاح في مصر؟
هل ما جرى في بلادنا هو مجرد دخول بعض الإرساليات وليس حركة إصلاح كنسي شامل؟
هل الإصلاح في مصر «حدث «إرسالي لدخول مرسلين مصر في القرن 19 أم «حالة» إصلاح تفاعلت مع واقع الكنيسة وأيضًا المجتمع؟
ما الحدث؟ وما الحالة؟
أما الحدث فعبارة عن انقلاب، أو هو يشبه الثورة، والانقلاب أو الثورة إن لم يتبعها إصلاح تصير ثورات متواليّة، ولذا فالتمسُّك بإعادة الحدث يكون مجرد انقلاب على انقلاب. والمشكلة في الثورة والحدث على السواء أنها متواليّة من الانقلابات دون حدوث إصلاح حقيقي.
إن الإصلاح كحالة تتواصل وتتصاعد مثل النبتة التي تواصل نموها بينما يد المزارع تواصل تهذيبها وتشذيبها وتغذيتها وتنقيّة الضار من حولها
وبما أن الإصلاح حالة، والحالة تتصف بالديمومة، فالإصلاح لا يتوقّف بل يصلح ذاته إن جاز التعبير-على الدوام ومن هنا يمثِّل طاقة مُصلِحة، طاقة تعمل على تفعيل النقد الذاتي وتنميّة وتطوير وبناء الجماعة. وبما أن المتغيرات لا تتوقّف فستبقى الحاجة إلى الإصلاح قائمة سواء كنسيًا أو مجتمعيًا طالما أن الحريات على تنوُّعها مطلب أساسي: حريّة الضمير الفردي، وحريّة العبادة، والحريّة الدينيّة، وتطبيق مبادئ الإنجيل في حياة الجماعة، وطالما هناك متغيِّرات ومستجدات تتطلَّب إعادة النظر في منظومة قيم الجماعة. أيًا كان المجتمع الذي توجد فيه الكنيسة المُصلَحة، وأيًا كانت ثقافته وتوجُّهه، فطالما تحيا الزهرة وتتفتح فإن عطرها لا بد أن يفيح. وبالتالي فتأثير الكنيسة الحيّة يحي العظام الميتة. وكما يقول د. غسان خلف:» هذا الإصلاح يحدث لا بالإلزام، بل بالعدوى الصالحة. فزهرة الورد «تقتحم» مجال الآخر لا بشوكها، بل بعطر أريجها.»
إلا أن السؤال: أيهما أكثر تأثيرًا؟ الأنشطة التي تعمل على الجذور الشعبيّة أم التركيز على الصفوة؟ وأيهما أفضل استراتيجيّة لتقديم الإصلاح في المؤسسات الكبيرة والمعقَّدة؟ الاستراتيجيّة التي تعمل من القمة للقاعدة؟ أم التي تعمل من القاعدة للقمة؟ وما التطبيقات التي تختص بالكنيسة والمجتمع؟
وماذا عن تراثنا من اللاهوت الشرقي الذي حمل الصوفيّة الشرقيّة والتي تتميز بالعبادة النقيّة الموجهة الى الله؟
هذه كلها أسئلة تحتاج أن تخصِّص لها الكنيسة جهودًا بحثيّة إن وجدت في الإجابة عليها أساسًا يصلح للإصلاح؟!

طباعة