أين نحن من الإصلاح؟

في عام 1840 بدأت الكنيسة المشيخية في مصر في ظروف صعبة وقاسية، وحيث جاء المرسَلون يحملون رسالة الإصلاح والتنوير الديني في مجتمعٍ يعاني من التخلُّف ويحاول أن يستكمل مشروع مصر الحديثة الذي بدأه محمد علي، ولأن مهمة التنوير الديني مهمة صعبة، لذلك كانت البدايات صعبة والاستمرار أصعب، وسوف أحكي لك - عزيزي القارئ - حكايتين لتعلم مدى صعوبة البدايات؛ أولهما عندما بدأ أخنوخ باشا فانوس، وكان من أغنى أغنياء عصره، يناقش فكر الإصلاح الديني والحديث في مصر، وفي النهاية اقتنع بفكرة الاستنارة الروحية ومبادئ الإصلاح: المسيح وحده دون غيره من قديسين، الكتاب المقدَّس وحده دون التقليد الكنسي، النعمة وحدها دون الأعمال. وفي عام 1861 تقدم أخنوخ باشا فانوس بطلب إلى المرسَل المسؤول عن الكنيسة في ذلك الوقت لينضم إلى هذه الكنيسة التي عمرها لا يتجاوز 21 سنة وعدد أعضائها قليلٌ جداً، إلا أن المرسَل تحفَّظ على طلبه لأنه يمتلك عزبة «صفط ميدوم» بما عليها من بشر كعبيد وجواري، وطلب المرسَل منه أنه لكي يقبل طلبه بالانضمام للكنيسة عليه أن يقوم بتحرير جميع العبيد والجواري الذين يمتلكهم في أرضه لأن من مبادئ الإصلاح الأساسية كهنوت جميع المؤمنين، وتطبيقه هو أن الجميع متساوون أمام الله، وبعد عدة أيام فوجئ المرسَل بأخنوخ باشا فانوس وقد حرر جميع العبيد ليكون أهلاً للانضمام للكنيسة الإنجيلية. ولقد صار أخنوخ باشا فانوس رئيسًا للطائفة بعد ذلك.

والسؤال الذي يلح عليَّ، وأظن عليك عزيزي القارئ: ما هي شروط قبول العضوية في الكنائس المشيخية اليوم؟ وإن وجدت هل يتم تطبيقها؟!

أما القصة الثانية فيحكيها حنا باشا ويصا في كتابه «حدوتة مصرية»، فيقول أنه قد انبهر باجتماعات المرسَلين في أسيوط بسبب الفكر الجديد الذي يقدمونه حيث لا يفرِّقون بين غني وفقير أو رجل وامرأة في التعليم والمعاملة، وكان سعيدًا أن يحضر معه دائمًا هذه الاجتماعات اثنان من النجارين الفقراء، وفوجئ في أحد الأيام أن نيافة مطران أسيوط دعا هذين الأخوين لمقابلته وبعد أن اعترفا أمامه بأنهما يحضران اجتماعات الكنيسة المشيخية أصدر في مواجهتهما قرارًا بالحرمان، وما أدراك عزيزي القارئ ما هو الحرمان؟ أي يمتنع عليهما أي ممارسات في الكنيسة الأرثوذكسية بدءًا من معمودية أطفالهم وانتهاءً بعدم الصلاة على جثمانهما بعد أن يموتا؛ وهنا ذهب حنا ويصا إلى نيافة المطران وسأله قائلاً سيدنا أنت تعلم أني أحضر اجتماعات المرسَلين مع هذين الرجلين، فلماذا لم تصدر أمر حرمان عليَّ مثلهما؟ فأجاب المطران لقد أرسلت أسماءكم جميعًا إلى البطريركية في القاهرة، وجاء الرد بحرمان الرجلين بل بتوصية عليك لنعاملك حسنًا حتى تستمر في الكنيسة مع حضور الاجتماعات الأخرى، وهنا قال حنا: إنني لن أبقى في كنيسة تفرِّق بين غني وفقير لأني تعلَّمت ذلك من الكنيسة الإنجيلية، وفي ذات اليوم قرر الانضمام للكنيسة المشيخية التي تتعامل مع الجميع على قدم المساواة، على حد قوله.

والسؤال: هل مازال هذا المبدأ ساريًا في الكنيسة المشيخية، سواء كانت المحلية منها أو العامة؟

تبرز لنا هاتان القصتان سر نجاح الكنيسة في بداياتها.

إلا أن التاريخ لا يخلو من الأخطاء، ففي عام 1870 كان بعض من تحولوا إلى الإنجيلية ومعهم حنا بقطر ويصا يدرسون الكتاب المقدس وبعد قراءتهم عن جدعون وكيف كسَّر مذبح البعل، قاموا بتحطيم صور الكنيسة الأرثوذكسية والأيقونات، فحُكِم على حنا بقطر بالنفي ووضع في قارب ذاهب إلى السودان, لكنه حصل على عفو خديوي عند وصوله إلى إسنا.

ومن متاعب الخدمة في ذلك الوقت تحكي ابنه يوحنا هوج كيف أن أباها كان يزور القرى راكباً علي حمار، وأنه لم يسترح أهل البلدة لزيارته وقالوا له صراحة أنه قد أتعبهم بزيارته، ويقول القس يوحنا هوج لقد رجعت إلى البيت من أبنوب جوعاناً أنا وحماري.

وتستمر قصة القصة، وهكذا... في 13 إبريل 1860 تشكَّل أول مجمع للكنيسة المشيخية في مصر وكان عدده سبعة أعضاء من بينهم امرأة، أي أنه كانت هناك امرأة عضو مجمع عام 1860م.

وفي 23 مايو 1860 تأسَّست أول كنيسة في الموسكي بالقاهرة.

وفي عام 1863 تأسَّست كليَّة اللاهوت الإنجيلية بالذهبية (عوامة) في النيل.

وفي عام 1871 تقرَّر أن تكون اللغة العربية هي اللغة الرسمية للمجمع.

وفي عام 1902 أصبحت الكنيسة المشيخية كنيسة مصرية وطنية.

وفي الأعوام التالية توالى بناء المدارس والمستشفيات.

وفي عام 1954 استقلت الكنيسة المشيخية الوطنية عن كنيسة الولايات المتحدة الأمريكية.

وبسبب ثورة 23يوليو1952 تأمَّمت مدارس ومستشفيات الكنيسة، وفي عام 1952 أسَّس القس صموئيل حبيب الهيئة القبطية للخدمات الاجتماعية لبداية عمل اجتماعي يتناسب مع مبادئ الثورة بالمشروع القومي لها مثل محو الأمّية - تنمية الريف وكانت الهيئة تعمل من داخل الكنيسة لصالح الكنيسة، لكن قيادات الكنيسة في ذلك الوقت طلبوا من د.ق. صموئيل حبيب أن يعمل بهيئة خارج الكنيسة وقد فعل.

وفي عام 1971 بدأتُ خدمتي بالريف في قرية صغيرة فقيرة تفتقد لأساسيات الحياة من كهرباء ومياه نظيفة داخل البيوت، وكانت الكنيسة المشيخية هناك والتي عُيِّنت بها من قِبل مجمع ملوي (طبقًا للنظام) لها تاريخ يشبه الكثير من كنائس القرى والتي تتبنى فيها إحدى عائلات الفكر المُصلَح من خلال المرسَلين الأوائل أو من خلال المبشِّرين المصريين الذين كانت الكنيسة في ذلك الوقت تعيّنهم في الجهات الكرازية، ولقد كان انتماؤهم لفكر الإصلاح قوياً وواضحًا لدرجة أنه عندما اختلف اثنان أبناء عمومة، وهما أول من حصل على تعليمٍ عالٍ في العائلة، خرج أحدهما من الكنيسة ليبني كنيسة أخرى (نهضة القداسة)، وهي تنتمي لفكر الإصلاح، ولم يفكر في بناء كنيسة تقليدية؛ وهذا يوضح تجذُّر الفكر الإصلاحي بالقرية، ولقد حاولت الكنيسة التقليدية كثيرًا اجتذاب أية أسرة من داخل القرية لتبنّي بناء أو حتى التبرّع بمكان داخل منزل لإقامة صلاة (قداس)، وذلك من خلال زيارات متكررة لكهنة أو إغراءات مادية أو صداقات لكن بدون جدوى، ولم يكن تمسُّك شعب الكنيسة بفكر الإصلاح سطحيًا أو لمجرد الإنتماء، لكنه كان عن اقتناع كامل، وكنت في حواراتي الشخصية معهم أو في اجتماع المفاوضة وهو عبارة عن اجتماع يتم فيه الحوار حول آية من آيات الكتاب المقدَّس يشارك فيه معظم الحضور برأيهم واحدًا بعد الآخر، وكنت ألاحظ من خلال تعليقاتهم أنهم سواء على المستوى الفردي أو الجماعي يدركون تمامًا مفاهيم اللاهوت الإصلاحي وخاصة المشيخي بصورة واضحة ودقيقة، وقد سهَّل هذا من مهمتي في تدريس كتاب شرح أصول الإيمان مرة أسبوعيًا والذي حفظوه معي عن ظهر قلب وقد كان هذا الاجتماع من أكثر الاجتماعات حضورًا وتفاعلاً ومن جميع الأعمار، وفي إحدى موجات محاولات الإقناع لشعب هذه القرية بالتحوّل عن فكر الإصلاح، بدأ كاهن شاب من قرية مجاورة يزور بعض المنازل بالقرية ويحاول أن يتناقش معهم، وكان الموضوع الأكثر إغراءً لشعب القرية هو الحديث عن تمجيد السيدة العذراء، ذلك لأن شعب الكنيسة كان متعلقًا بدير العذراء لأنه كان قريبًا جغرافيًا، وفي الموسم كانوا يذهبون للاحتفال ويقدمون نذورًا، وكان الشعب الإنجيلي في الحوار بهذا الشأن يعلنون للكاهن أنهم يحترمون السيدة العذراء لأنها أم المخلِّص لكنهم لا يضعونها فوق المخلِّص ولا أمامه، وأنهم لا يتشفعون بها ولا يطلبون منها تحقيق أشياء لأنها لا تقدر على ذلك، وهم يعلمون أنها مثلها مثل باقي المؤمنين القديسين، لكنهم تعودوا على الاحتفال كل عام لأنهم يلتقون بأقاربهم وأصدقائهم من البلدان الأخرى ما يقدمونه من نذور لأجل الفقراء، ثم إن هذا المولد لا يرون فيه أي أمر روحي فهو يشبه جميع الموالد الأخرى، وأتذكر جيدًا أني كنت أسير بجوار شماس من الكنيسة وكان رجلاً فقيرًا رثّ الثياب حافي القدمين، لكنه كان أحد قيادات الكنيسة ومحبوب من رجال القرية وهو من عائلة الكنيسة (التي قامت ببنائها في أرضهم) وصادفنا الكاهن وهو يقوم بالزيارات ووقفت لتحيته مع الشماس إلا أنه قال للشماس وهو يشد على يده (عاوزك في كلمتين) فتركته وسرت للأمام بقدر رمية حجر (بحسب التعبير الكتابي) ورأيت الكاهن يميل عليه متحدثًا ببعض الكلمات، وإذ بالشماس ينفعل ويرفع صوته قائلاً «إحنا ما صدقنا خرجنا من تحت نيركم، أنتم تقفون بيننا وبين المسيح، ولا نستطيع أن نفعل شيئًا إلا بكم، وجعلتم الأسرار سيفًا مسلطًا على رقابنا وهمَّشتم المخلِّص لصالح القديسين في تاريخكم...إلخ، وكنت أستمع من هذا الرجل الأمّي درسًا في اللاهوت الإنجيلي بانبهارٍ شديد. وفي حفل تخرُّج كلية اللاهوت عام1989 قدّم د.ق. فايز فارس خطاب الحفل بعنوان دعوة للتغيير، قدّم فيه تقدم لإدارة الكنيسة العامة وتعليمها وقيادتها، ولقي الخطاب إعجاب الكنيسة ككل.

وفي عام 1990انعقد السنودس بناءً على دعوة التغيير واتَّخذ قرارات 90 بتحويل اللجان إلى مجالس، فأصبح للسنودس ثمانِ مجامع و9 مجالس زيدت إلى عشرة وأخذت قرارات جريئة للإصلاح لكنها أُفرغت من مضمونها لسببين، الأول اتهام فايز فارس بانتمائة لتيار معيَّن، والثاني لأن الإصلاح بالصورة المطروحة لم يكن مقبولاً من الجميع، فكانت الدعوة للتغيير عاملاً على تعميق الاختلاف في وجهات نظر التيارات خاصةً وأن أسلوب الحوار اختلف من سنودس 90 عمّا قبله، مما وعّى الكثيرين من العلمانين والقسوس بأن يتخذوا جانباً ولا يشاركوا في فاعليات السنودس أو الكنيسة العامة بعد ذلك.

وبدءًا من عام 2002 حتى الآن، اجتاحت الحركة الكارزماتية التي تؤمن بالمواهب الروحية والمعجزات الكثيرَ من الكنائس المحلية وتبنَّاها بعض القسوس المشيخيين!!

وفي عام 2006 أصدر السنودس قرارًا برسامة المرأة شيخاً.

وفي عام 2012 أعلن راعي إحدى كبريات الكنائس بالقاهرة أنه يصلي لكي تظهر العذراء في كنيسته ليربح إخوته الأرثوذكس!!

والسؤال الآن عزيزي القارىء هو عنوان المقال؟


طباعة