الغائبون عن حركة الإصلاح

تستعد كنائس كثيرة في كلِّ أنحاء العالم للاحتفال يوم 17 أكتوبر 2017م بمرور خمسمائة عامًا على الإصلاح. وكم أتمنى أنْ نكون نحن كإنجيليين مِنْ كافة المذاهب قد بدأنا الاستعداد لهذا الاحتفال[1].

وعندما نتحدث عن الإصلاح

يتجه تفكيرنا إلى أسماء بعينها مثل لوثر وكلفن، إلا أنَّ هناك عددًا كبيرًا قد هيأوا الأجواء لحركة الإصلاح، وهناك مَنْ شاركوا فيه مشاركة فعالة، قد نتحدث عن هذا لاحقًا. إلا أنني أرغب في أنْ يكون حديثي الآن عن الكنائس الأرثوذكسية وما هو دورها أثناء حركة الإصلاح، مما كان في حقيقة الواقع دور الغائب الحاضر!

الكنائس الأرثوذكسية وحركة الإصلاح

دون دخول في تفصيلات كثيرة يمكننا أنْ نقول أنَّ الكنائس في الشرق كانت تستخدم اللغة اليونانية وأُطلق عليها اسم الكنائس الأرثوذكسية، بينما الكنائس في الغرب كانت تستخدم اللغة اللاتينية وعُرفَت باسم الكنائس الكاثوليكية.

وفي مجمع خلقيدونية سنة 451م حدث انقسام كبير عندما جاء نسطور بطريركًا للقسطنطينية ورفض استخدام اسم ’’الثيوتوكوس‘‘ أي ’’والدة الإله‘‘ عن العذراء مريم. إلا أنَّ هذا الاسم كان هو المحبب لدى البطريرك كيرلس الكبير. قرر مجمع خلقيدونية أنَّ المسيح بعد التجسد كانت له طبيعتان، إنسانية ليكون مماثلًا لنا نحن المحتاجين للخلاص، وطبيعة إلهية تقدِّم لنا الخلاص الذي نحتاجه. رفض البعض رأي مجمع خلقيدونية وقالوا بأنَّ المسيح بعد التجسد كانت له طبيعة واحدة، فانفصلت عن سائر الكنائس التي صاغت قرارات مجمع خلقيدونية، وهي الكنائس القبطية والسريانية والأرمينية والأحباش وكنيسة في جنوب الهند فكانت هذه الكنائس وحدها التي لا تقر سوى بالمجامع المسكونية الثلاثة الأولى: نيقية سنة 325م – القسطنطينة سنة 381م – وأفسس سنة 431م ولا تقر بغيرها حتى اليوم. ولذلك فهي معروفة باسم الكنائس اللاخلقيدونية، بينما عُرفَت سائر الكنائس الأخرى بالكنائس الخلقيدونية ومنها الكنائس الأرثوذكسية – اليونانية التي عُرفت باسم الروم الأرثوذكس، التي كان لها كيانها وشعبها في كل أنحاء الإمبراطورية البيزنطية، ومنها كل بلاد الشرق الأوسط. ترتب على ذلك تواجد بطريرك للإسكندرية خلقيدوني وبطريرك للإسكندرية لا خلقيدوني حتى اليوم!

الأرثوذكس والموقف مِنْ حركة الإصلاح

كانت الكنائس الأرثوذكسية اللاخلقيدونية بعيدة تمامًا عن أجواء حركة الإصلاح وترزح تحت الحكم العثماني. ولذلك فكان التفاعل الأرثوذكسي مع حركة الإصلاح محصورًا في الكنيسة الأرثوذكسية الخلقيدونية، كنيسة الروم الأرثوذكس. وكان على أشده في القسطنطينية.

كانت السجالات على أشدها بين الكنائس الإنجيلية (البروتستانتية) والكنيسة الكاثوليكية، ووجدت الكنيسة الأرثوذكسية نفسها في موقف صعب.

ضغطت الكنيسة الكاثوليكية بشدة لتنضم الكنيسة الأرثوذكسية إليها. كانت اللغة الشائعة عند الكاثوليك كما أشرنا هي اللغة اللاتينية، بينما كانت اللغة الشائعة عند الأرثوذكس اللغة اليونانية. فقامت الكنيسة الكاثوليكية بفتح مدرسة لأبناء اليونانيين في القسطنطينية، يتم تعليم الفكر الكاثوليكي فيها إلى جوار مواد الدراسة، كما تم فتح مدرسة أخرى لليونانيين في روما، نجحت في تحوّل قادة أرثوذكس مرموقين للكاثوليكية.

وكان ملك فرنسا قد حصل على تفويض مِنْ السلطات العثمانية بأنْ ترعى فرنسا المسيحيين في كل أنحاء الإمبراطورية. بالإضافة لذلك كانت جماعة اليسوعيين تضغط بشدة على الأرثوذكس لينضموا للكنيسة الكاثوليكية. ويؤخذ في الاعتبار أنه بينما تلتزم كل الرهبانيات بعهود العفة والفقر والطاعة، التزم اليسوعيون بعهد إضافي هو الولاء التام للبابا، مما زادهم حماسًأ لكسب كل مَنْ يمكن كسبه للكنيسة الكاثوليكية.

أما في المناخ السياسي فكان في القسطنطينية سفراء كاثوليك لفرنسا والنمسا متحمسون للكثلكة. لكن مِنْ الجانب الآخر كان هناك سفراء إنجيليون غيورون للفكر الإنجيلي هم سفراء هولندا وإنجلترا.

وقائع هامة

كانت القسطنطينية بعيدة عن أجواء حركة الإصلاح جغرافيًا وأكثر مِنْ ذلك اختلاف اللغة المستخدمة.

حاول الكاثوليك وبصفة خاصة جماعة اليسوعيين محاولة كسب الأرثوذكس لجانبهم بكافة الطرق. إلا أنَّه يبدو أنَّ الأسلوب الذي تم به ذلك كانت له نتائج عكسية، فالأرثوذكس لم يقبلوا رئاسة البابا كما أنَّهم لم يقبلوا صكوك الغفران وغير ذلك، مما دفعهم لأنْ يحاولوا التعرف على الفكر الإنجيلي، ولاقى ذلك رغبة قوية لدى قادة الإصلاح لأنْ يكسبوا الأرثوذكس لجانبهم. وأي دارسٍ لكتابات كلفن يلاحظ الكم الكبير مِنْ كتابات الآباء الذي استخدمه. كما أنِّ لوثر توقَّع أنَّ فكر الإصلاح يروق للأرثوذكس فقام بالاتصال بهم.

ويذكر التاريخ أنَّه في مواجهة الضغوط الكاثوليكية المتزايدة، شعر بطريرك الروم الأرثوذكس كيرلس الثالث لوكاريس الذي شغل كرسي الإسكندرية من سنة 1602م حتى سنة 1620م بالحاجة إلى كتابات حركة الإصلاح، فطلب مِنْ صديق هولندي أنْ يزوده بشيء مِنْ هذه الكتابات. ولما شعر أنَّ المعركة مع الكاثوليك يجب التعامل والتفاعل معها بصورة أفضل وأقوى في القسطنطينية لا في الإسكندرية، انتقل إليها وشغل كرسي القسطنطينية المرموق من سنة 1620م إلى أنْ تم شنقه سنة 1638م. وخلال هذه الفترة عانى كثيرًا مِنْ مؤامرات شارك فيها اليسوعيون لدرجة طرده مِنْ الكرسي البطريركي 4 مرات وعودته إليه بناءً على إلحاح الشعب الأرثوذكسي

في هذه الأثناء توطدت علاقته بسفيري هولندا وإنجلترا لدرجة أنَّه وقد أخذ معه مِنْ الإسكندرية المخطوطة اليونانية المشهورة: ’’الإسكندرانية‘‘ التي لا تقدَّر اليوم بثمن، طلب مِنْ سفير إنجلترا عند عودته إلى بلاده أنْ يحملها معه هدية لملك إنجلترا تعبيرًا عن شكره وتقديره للخدمات الكثيرة التي أسداها له سيادة السفير. ومما يُذكر أنَّ سفيري هولندا وانجلترا زودا البطريرك كيرلس الثالث لوكاريوس بالكثير مِنْ مواد حركة الإصلاح.

في ضوء تأثر البطريرك بتعاليم حركة الإصلاح، شعر أنَّ الشعب الأرثوذكسي (اليوناني) يحتاج إلى شيئيْن أكثر مِنْ أي شيء آخر، فهو يحتاج إلى كتاب مقدَّس في لغة يفهمها، كما يحتاج إلى كتاب ’’التعليم المسيحي‘‘ أي تقديم العقيدة في صورة سؤال وجواب لتقديم أساسياتها للأطفال بصفة خاصة وأنَّ هذيْن الأمريْن لازمان لإصلاح الكنيسة اليونانية.

استغرقت ترجمة العهد الجديد مِنْ النصوص الأصلية القديمة إلى اليونانية الحديثة تسع سنوات، وطُبعَت على عموديْن. وكتب البطريرك مقدِّمة لها جاء فيها أنَّها ’’رسالة حلوة مقدَّمة لنا مِنْ السماء‘‘.

أما كتاب التعليم المسيحي فصدر في نهاية المطاف في صورة ’’إقرار إيمان‘‘ عُرف بأنَّه ’’إقرار إيمان كيرلس‘‘ تظهر فيه بوضوح النبرة الكلفينية، والنقد للكاثوليكية!

أثار هذا ’’الإقرار‘‘ ضجة كبيرة جدًا مما دعا بعض قادة الأرثوذكس لأنْ يقولوا بأنَّه لم يصدر عن البطريرك كيرلس! إلا أنَّ أدلة قوية جدًا تؤكد نسبته إليه. وبسبب هذه الأجواء تقرر عقد مجمع أرثوذكسي هام في بيت لحم أُطلق عليه اسم مجمع أورشليم (القدس) لتأكيد الفكر الأرثوذكسي واللاهوت الأرثوذكسي مما لا زال حتى اليوم الوثيقة الرسمية الوحيدة لكنيسة الروم الأرثوذكس، والتي لما قارنتها بما جاء في كتاب ’’اللاهوت المقارن‘‘ للبابا شنودة الثالث وجدت أنَّها لا تختلف في شيء، سوى تمسك الكنيسة القبطية الأرثوذكسية بعقيدة الطبيعة الواحدة، بينما يؤمن الروم الأرثوذكس بالطبيعتيْن شأنهم شأن سائر الكنائس، وعُرِفَ ما صدر عن هذا المجمع باسم اقرار إيمان البطريرك دوسيثيوس أو مجمع أورشليم سنة 1672م.

كان هذا المجمع والإقرار الصادر عنه هو في الواقع رد فعل عنيف ضد إقرار إيمان البطريرك كيرلس الثالث لوكاريوس. ولذلك ليس غريبًا إنْ احتوى على عبارات قاسية ضد كلفن ولوثر وكذلك ضد الكنائس التي تؤمن بالطبيعة الواحدة (اللاخلقيدونية) وضد الفكر والتعليم الكاثوليكي في نقاط معينة بطبيعة الحال.

نعم! كانت الكنيسة الأرثوذكسية بعيدة عن حركة الإصلاح في القرن السادس عشر. إلا أنَّه ثَبَتَ أنَّها الغائب الحاضر في القرن السابع عشر وما بعده. ولعل هذه صفحة يهمنا الإشارة إليها ونحن نعيش أجواء أرثوذكسية الشرق الأوسط ونحن نتهيأ للاحتفال بمرور 500 سنة على حركة الإصلاح.

[1] مادة هذا المقال مأخوذة عن الكتابيْن الآتييْن:

Nicolas Zernov, Eastern Christendom, London: Weidemfeld and Nicolson, 1961

George A. Hadjiantoniou, Protestant Patriarch, the Life of Cyril Lucaris. Richmond, Virginia: John Knok Press, 1961


طباعة