الإصلاح في أوروبا ولادة مجتمعات جديدة

تستعد الكنائس الإنجيلية للإحتفال بمرور 500 سنة على مرور حركة الإصلاح الديني الذي اندلع في عام 1517 ميلادية بقيادة مارتن لوثر الكاهن والمعلم الكاثوليكي. الحركة التي غيرت خريطة التاريخ الديني والاجتماعي والسياسي في الشرق والغرب. وتعتبر هذه الحركة من أكبر وأبرز

معالم التاريخ التي لا تزال نتائجها مستمرة حتى اليوم.

منذ القرن الخامس الميلادي، وقد بدأ الصراع ينخر في عظام العلاقة بين روما والقسطنطينية، ليساعد على التآكل الذي انفصم عراه كاملاً، في عام 1204م. وكانت أسباب القطيعة بينهما داخلية، كالاختلافات اللاهوتية وأولوية البابا. إلا أن دارسو التاريخ يعرفون أن الصراع كان معقدًا وليس بهذه البساطة، فقد تداخلت فيه اختلافات اللغة ( اللاتينية واليونانية) والثقافة بين الشرق والغرب، والنزعات السياسية بين من يتحكم القسطنطينية أم روما؟ علاوة على الأهواء الشعبية.

وابتدأت عصور الظلام بسقوط الامبراطوريه الرومانيه الغربيه سنة 476 م على إيد الچرمان ( البرابرة)، وقد عزز وصول البرابرة، الثورات التي قام بها الفلاحون برفضهم قمع الإمبراطورية المالي، والإداري والبوليسي، وترحيبهم بغزاتهم. بالإضافة إلى الزحف الإسلامي. وبسبب الغزوات المتنوعة، كانت أوربا مسرحًا لإنقلابات جديدة؟

ومن الجلي في تاريخ أوروبا، أن العصر الوسيط المظلم قد وُلد في قلب الإمبراطورية الرومانية. فقد كان السيف والجوع والوبأ والغزاة، وابل من الكوارث افتتحت العصر الوسيط الأول واجتاحته كله. واجتازت أوربا أقسى المحن على مدار هذه خمسة قرون حتى القرن العاشر، من ضعف سياسي، ووهن عسكري وتشتت فكري، وانحطاط أخلاقي، ومجاعة اقتصادية وتدني روحي ، ساهمت فيه حركة الغزاة والتوترات على كل الأصعدة .

تفككت أوروبا في القرن الخامس، بسب ضياع معظم أجزائها في أيدي القوى الخارجية من البرابره وغيرهم.أصبح الأمل الوحيد في الكنيسة التي التف حولها الإيطاليون طوال القرون التالية ورأوا فيها الزعيم والسند الكفيلين بحمايتهم. وقد قامت ست ممالك جرمانية في غرب أوروبا على أنقاض الإمبراطورية الرومانية.

تعتبر الفترة مابين القرن الخامس إلى الحادي عشر الميلادي، عصور الظلام في أوروبا، حيث كان مستوى التعليم والثقافة خلالها في غاية الانحطاط، وكانت المعلومات الوثائقية حول تاريخ هذه الفترة قليلة ومتأثرة بالخرافات والأساطير.

من الناحية الاقتصادية فإن الامبراطورية الرومانية كانت تشكو أعوام التدهور الاقتصادي قبل أن تقوم جموع الجرمان بغزو أراضيها، ذلك الغزو الذي زاد الطين بلة لما صحبه من حروب نتج عنها التدمير والخراب وتوقفت التجارة والصناعة والزراعة

لكن الجدير بالملاحظة أنه رغم الفوضى والمخاطر والإنهيارات المتلاحقة والنكسات المؤلمة لأوروبا، عرفت الكنيسة أن تستمر وتمارس تقاليد أورثها إياها أساقفة الإمبراطورية المسيحية ومؤسسوا حياة الرهبنة ( النسكية).

كان البرابرة متواجدون بقوة لكن الحياة لم تتوقف، فقد كان لبعض أباء الكنيسة دور في الخدمة والدفع إلى الأمام. وكانت الجهود المبذولة في إرساء الحضارة القديمة في ما يشبه نهضة مشبّعة بالصبغة المسيحية.

لم تنجح المحاولات في استعادة عافية أوروبا، لكنها أحتفطت بروح الإيمان في زمن الأزمات. ويعود هذا الإنجاز إلى شخصيات متميزة حافطت على حيوية الإيمان في أقسى الظروف. ودارس التاريخ يعرف أن في تلك القرون الخمسة العسيرة، ولدت الحضارة المسيحية بكل ظلالها وأضوائها.

إنه تاريخ ثري بما فيه من مفارقات بين الهزيمة والانتصار لأوروبا والكنيسة. ولكي نتتبع هذا التاريخ، يود الكاتب أن يضع خطوطًا عريضة، فتفاصيل التاريخ كثيرة، وغنية تفرد لها مجلدات، فلا يمكن تغطيتها في مقالات. بل سأجتهد أن أسرد الخطوط الرئيسة منذ القرن الخامس الميلادي كمقدمة للإصلاح الذي بدأ يطل علينا في القرن العاشر ووصل إلى ذروته في القرن السادس عشر وامتد حتى السابع عشر بقيادة الملهم والشجاع مارتن لوثر. إنه التاريخ الذي شكل وصاغ الحياة الدينية والاجتماعية والسياسية في أوروبا بل والعالم كله حتى يومنا هذا.

عصور الظلام:

يعد القرن الخامس الميلادي بمثابة بداية لتاريخ العصور الوسطى، حيث كانت الإمبراطورية الرومانية، في ذلك الوقت، ضعيفة جدًا، لدرجة أن القبائل الجرمانية كانت قادرة على السيطرة عليها.

كانت القرون من الخامس حتى السابع أكثر إظلامًا على أوروبا. فمع نهايَة القَرن الخامِس، تقسّمت الإمبراطوريّة الغربيّة إلى فرقٍ سياسيّة صغيرة محكومَة من القبائِل البررية في بدايات القَرن.كما عانت أوروبا الفقر وقلة السكان في الحقبة الواقعة مابين القرنين الخامس والعاشر الميلاديين، لقلة المساحات المزروعة بسبب كثافة الغابات ولوجود المستنقعات، كما أدت الأمراض والمجاعات والحروب وانخفاض معدل المواليد إلى عدم زيادة السكان. هذا كله ألهي المجتمع الأوربي وحتى النخبة المثقفة عن الانتاج الفكري والثقافي.

رغم الوصف السابق عن العصور الوسطى، إلا أنها لم تكن كلها ظلامية، وإنما كانت فيها بعض المنارات، أو بقع الضوء الخافت. ولكنها بشكل عام لم تكن مستنيرة، فاستنارة بعض العباقرة لا يعني استنارة عموم الشعب.

كانت البدايات صعبة جدًا في القرن السادس في ظل فوضى سياسية وانتشار الأوبئة والمجاعات، ظهر رجل تقي ومثقف من أسرة أرستقراطية متدينة، وهو غريغوريوس الكبير. يعتبر غريغوريوس الكبير أو راهب ينصب أسقفًا على روما.

1- اهتم جدًا برفع المستوى الروحي للرهبان ورجال الإكليروس، ونظم الحياة الرهبانية.

2- منع الكهنة من قبول أي أجر مقابل خدماتهم وطلب من الكنيسة أن ترد الممتلكات التي نالها في ظروف متشكك فيها.

3- حرم عادة دفع الأساقفة مبالغ من المال كعادة سنوية للبابا، وأصدر قرارًا مجمعيًا بذلك سنة 595م.

4- شجع الإرساليات وأهتم بها. قام بإرسال بعثة عددها400 راهبًا من ديره بقيادة الراهب أغسطينوس سنة 596 م. لإعادة نشر الإيمان في بريطانيا، بعد أن كادت المسيحية تتلاشى على يد السكسون الذين غزوا بريطانيا في نهاية القرن الخامس.

5- اهتم بالعمل الاجتماعي كأولوية خدمتة، فقد تعامل غريغوريوس بجدية في مسألة نقص الموارد، والتشويش الذي ساد على الشعب، ونقص الطعام، ونزح فيض من الاجئين على روما. اهتم بإشباع احتياجات الشعب.

ربما نعتبر أن هذا دور الكنيسة الطبيعي، لكنه كعلامة غيث قادم من العصور المظلمة على إصلاح أكبر، من القرن الثاني عشر والثالث عشر تم تكمل صورته في القرن السادس عشر.

مات غريغوريوس الكبير، وتوقفت الإرساليات، وزادت الأحوال سوءًا، وقتامًا. فالقسم الأكبر من الظلام الذي غشى العالم المسيحي هو الأخلاق. فعلى المدى الطويل، تأثر الأساقفة والإكليروس بمجتمع يقر بمبدأ الانتقام والحرب الخاصة. وفي نهاية القرن السادس كانت الكنيسة في أيرلاندا في حاجة إلى ولادة ثانية، بفضل الزخم الجديد الذي زودها إياه رهبان إيرلاندا.

من خلال نشاط الرهبان الإرلنديين الذي لا يكل، كان دليلًا على وفرة الكنوز الروحية التي جمعتها كنيسة أيرلندا البعيدة ، ورغم انقطاعها عن روما لمدة طويلة، واستطاعت أن تستخدم تلك الكنوز، طوال القرن السابع، في إنعاش قوى العالم المسيحي الأوربي المنحطة.

توج الملك ليو الثالث شارلمان وهو من أصل ألماني، إمبراطورًا رومانيًا في 25 ديسمبر 800م. وكانت أول اهتمامات شارلمان هي النهضة الثقافية والقانونية، والتي سميت بالنهضة الكارولنجية. فقد جعل من مدرسة القصر نموذجًا ثقافيًا لأوروبا الغربية. وقد أُرسل لكل البلدان لجمع المخطوطات، والتي من خلالها أصبحت مدرسة القصر مركزًا علميًا لمراجعة المخطوطات وإعادة نسخها. وقد لعب شارلمان دورًا رئيسيًا في الحفاظ على الكثير من التراث الأدبي في روما.

أسس شارلمان مخزوناً كبيراً من خلال التعليم والثقافة والعلوم. وبالرغم من أنه بالكاد استطاع كتابة اسمه، إلا أنه كان ضليعًا في الرياضيات وعلم الفلك وتكلّم عدّة لغات. أنشأ مدارس لتدريب النبلاء الشبان على خدمة الإمبراطورية. يعدُّ شارلمان واحدًا من أعظم الملوك في التاريخ.

فلم تكن النهضة الثقافية والقانونية في أيامه فقط، بل بلغت النهضة الكارولنجية قمة مجدها من بعده، من خلال تلاميذ عباقرة وأكبر علماء عصرهم. ومن هنا يمكن أن نستنتج أن النهضة الكارولنجية التي بدأها شارلمان، واستمرت بعض الوقت في عصر خلفائه، يحق لها أن تكون تمهيدًا لنهضة القرن الثاني عشر ونهضة القرن الخامس عشر. فهل لنا أن نقرأ التاريخ وننقب بين صفحاته، وهذا ما سوف اكتب عنه في المقال القادم، لنتعرّف على جذور الإصلاح التي بدأت من قلب عصور الظلام المبكرة؟


طباعة