الإصلاح وكهنوت جميع المؤمنين

hamdy saad1مع احتفال الكنائس المصلحة حول العالم هذه الأيام بمرور 500 سنة على الإصلاح الإنجيلي، كثر الحديث عن مبادئ الإصلاح الخمسة: الكتاب المقدس وحده، المسيح وحده، النعمة وحدها، الإيمان وحده، مجد الله وحده (5 Solas). وكذلك المبادئ الكالفينية الخمسة: الفساد الكامل، الاختيار غير المشروط، الكفارة المحدودة، النعمة التي لا تقاوم، ثبات القديسين (Tulip). ويرى الكثير من الدارسين أن عقيدة كهنوت جميع المؤمنين، كانت هي مركز حركة الإصلاح في القرن السادس عشر، وحولها تدور سائر العقائد الأخرى. ولعل هذا يأتي بنا إلى:

جذور تاريخية
كان للراهب الكاثوليكي مارتن لوثر موقفاً مختلفاً تماماً ومضاداً لممارسات الكنيسة في ذلك الوقت، لا سيما قضية صكوك الغفران واستحقاقات القديسين. وتكلم وكتب ووعظ معلماً ضد هذه الممارسات. واستطاع أن يلخص عظاته وأفكاره في جمل قصيرة وصلت إلى 95 بنداً. وأخذ هذه البنود وعلقها يوم 31 أكتوبر 1517 على باب كاتدرائية فيمتنبرج. ومنذ ذلك التاريخ دخل لوثر في صراع مع قيادة الكنيسة والذي وصل إلى حد المحاكمة والحرمان. ورغم قسوة هذه الفترة عليه، إلا أنه لم يكف عن العمل والدعوة للإصلاح، وأصدر كتيباته المعروفة – كتيبات المصلح العظيم، ومنها كتابه الأول (أغسطس 1520) والذي وضعه تحت عنوان: إلى الأمة المسيحية الألمانية النبيلة. وفي هذا الكتيب انتقد لوثر بشدة التمييز التقليدي المعروف بين الأمور «الزمنية» و «الروحية»، وكذلك التمييز الواضح بين «العلماني» و»الإكليروس». وأكد على أن كل الذين يتبعون يسوع المسيح من خلال الإيمان والمعمودية والإنجيل، يشتركون في كهنوت يسوع المسيح. وقال: «إن كل من يخرج من ماء المعمودية يمكنه أن يفتخر أنه قد رسم فعلاً كاهناً وأسقفاً وبطريركاً، مع أنه بالطبع ليس لأي فرد أن يمارس مثل هذه الوظائف». وأضاف: «كل المؤمنين المعمدين هم كهنة، لكن ليس كلهم رعاة».
في سنة 1983 صدر البيان الكاثوليكي اللوثري «مارتن لوثر شاهد ليسوع المسيح». وفيه مجموعة من الأمور التي أشار إليها لوثر، وتعرض لها المجمع الفاتيكاني الثاني ومنها تأكيده على كهنوت جميع المؤمنين. ويعتبر بولس اليتاوس من أهم من كتب، شارحاً مفهوم مارتن لوثر في كهنوت جميع المؤمنين. ومما كتبه: «لم يعتبر مارتن لوثر أبداً كهنوت جميع القديسين أنه فقط من حق الإنسان أن يكون له علاقة مباشرة مع الله بدون وسيط بشري. بل لقد نبر بقوة أن هناك سلطاناً للمؤمن الحقيقي أن يقف أمام الله نيابة عن الإخوة بل عن العالم. فالكهنوت الشامل لا يقف فقط أمام التدين الفردي، بل يعارضه لآنه يعني كهنوت شعب الرب معاً. فالكنيسة معاً هي جماعة الكهنوت. نحن نقف معاً أمام الله، يشفع أحدنا لأجل الآخر، نعلن كلمة الله لبعضنا البعض، ونحتفل بحضوره بيننا في العبادة والتسبيح والشركة.
أما جون كلفن، فقد رأى عقيدة «كهنوت جميع المؤمنين» من خلال مشاركة الكنيسة وظائف المسيح الثلاث كنبي وملك وكاهن. وبالتالي فكل مؤمن حقيقي مدعو ليكون ممثلاً للمسيح في إرساليته للعالم. وقال كالفن: «كل المؤمنين يجب عليهم أن يسعوا ليحضروا الآخرين للكنيسة، وأن يجاهدوا ليقودوا الضالين رجوعاً إلى الطريق، ويمدوا أيديهم للساقطين، ويربحوا الذين هم من خارج. لقد كان كلفن يعلم أن كهنوت جميع المؤمنين ليس امتيازًا فقط نتمتع به، بل بالحري هو تكليف وإرسالية إلى العالم. فخدمة الكهنوت ليست حقاً لنا بقدر ما هي خدمة للآخرين.
شهادات كتابية
في الحقيقة ما فعله المصلحون في القرن السادس عشر أنَّهم- بمعونة من الرب- أعادوا اكتشاف الحقائق الإنجيلية المدونة في كلمة الله، سواء المرتبطة بكهنوت جميع المؤمنين، أو بغيره من العقائد الأخرى. فالشهادات الكتابية بالطبع أسبق من الجذور التاريخية التي أشرنا إليها. ولهذا يمكننا أن نرى في الكتاب المقدس براهين ومواقف كثيرة تعلم بـ « كهنوت جميع المؤمنين».
لقد اختص الله في العهد القديم سبط لاوي بخدمة الكهنوت، إلا أنه قبل هذا الاختصاص مارس كثيرون عمل الكهنوت ممثلاً في أعمال العبادة وتقديم الذبيحة، مثل هابيل (تكوين 4:4)، نوح (تكوين 8: 20 و21، إبراهيم (تكوين 12: 7، 13: 18)...الخ. فمن البداية يتضح لنا أن كل إنسان له علاقة صحيحة مع الله يستطيع أن يقترب إليه، يبني مذبحاً ويقدم لله، بل ويدعو باسم الرب، كما قيل كثيراً عن إبراهيم. ولعل هذا هو البعد الذي أشار إليه كالفن عن الدور الكرازي في كهنوت جميع المؤمنين.
وفي مرحلة تالية جاء التشريع بكهنوت منظم ومرتب بفرائض وأحكام وطقوس، حيث تم اختيار سبط لاوي بديلاً عن كل أبكار إسرائيل، ومن هذا السبط تم اختيار بيت هرون للكهنوت. على أنه قبل هذا الاختيار هذا نرى بوضوح «الكهنوت العام» أو «كهنوت جميع المؤمنين». ففي لقاء الرب مع موسى فوق جبل سيناء، وقبل أن يعطيه الوصايا العشر، قال الرب لموسى: «فإنَّ لي كُلَّ الأرضِ. وأنتُمْ تكونونَ لي مَملكَةَ كهَنَةٍ وأُمَّةً مُقَدَّسَةً. هذِهِ هي الكلِماتُ الّتي تُكلِّمُ بها بَني إسرائيلَ» (خروج 19: 5 و6). والتعبير الأخير في هذا الإعلان «مملكة كهنة» يعني من جهة النوعية أن هذا الكهنوت ملوكي، ويعني أيضاً من جهة الاتساع أن كل المملكة، كل الشعب هم كهنة لي، أي تشهدون عني وتحملون اسمي أمام بقية الأمم.
وأضاف موسى في حديثه هذا للشعب تعبيراً آخر «لكَيْ تكونوا لهُ شَعبَ ميراثٍ كما في هذا اليومِ» (تثنية 4: 20). ولا نستبعد أن هذه الصور كانت في ذهن الرسول بطرس عندما كتب إلى «المُتَغَرِّبينَ مِنْ شَتاتِ بُنتُسَ وغَلاطيَّةَ وكبَّدوكيَّةَ وأسيّا وبيثينيَّةَ، المُختارينَ» (1بطرس 1: 1). وقال: «وأمّا أنتُمْ فجِنسٌ مُختارٌ، وكهَنوتٌ مُلوكيٌّ، أُمَّةٌ مُقَدَّسَةٌ، شَعبُ اقتِناءٍ، لكَيْ تُخبِروا بفَضائلِ الّذي دَعاكُمْ مِنَ الظُّلمَةِ إلَى نورِهِ العَجيبِ» (1بطرس 2: 9).
واضح إذن أن تعبير موسى «مَملكَةَ كهَنَةٍ» يقابله تعبير بطرس «كهَنوتٌ مُلوكيٌّ»، وما قاله موسى «شَعبَ ميراثٍ» ترجمه بطرس «شَعبُ اقتِناءٍ». وهذا يكشف لنا حقيقة الكهنوت في العهد الجديد، حيث أن أمة إسرائيل قديماً قد فشلت في مهمتها الكهنوتية «تكونونَ لي مَملكَةَ كهَنَةٍ». وتحولت هذه المهمة والإرسالية للكنيسة: «وأمّا أنتُمْ فجِنسٌ...، وكهَنوتٌ...، أُمَّةٌ...، شَعبُ...، لكَيْ تُخبِروا بفَضائلِ الّذي دَعاكُمْ مِنَ الظُّلمَةِ إلَى نورِهِ العَجيبِ».
وحتى على مستوى كهنوت الاختصاص قديماً والذي تم فيه فرز بيت هرون من بين سبط لاوي لهذه المهمة المقدسة. ولنذكر أن أساس هذا الاختيار هو الفداء. فبعد خروج الشعب من مصر ونجاة الأبكار من الضربة العاشرة، كان كلام الرب لموسى: «قَدِّسْ لي كُلَّ بكرٍ، كُلَّ فاتِحِ رَحِمٍ..إنَّهُ لي» (خروج 13: 2). ولكي يتم هذا التقديس والتخصيص عملياً، كلم الرب موسى قائلاً: «خُذِ اللاويّينَ بَدَلَ كُلِّ بكرٍ في بَني إسرائيلَ» (عدد 3: 45). ولما وُجد أن عدد الأبكار من أسباط إسرائيل يزيدون عن عدد سبط لاوي 273 نفس، تم «فداء» هؤلاء بكيفية خاصة. إذن الارتباط وثيق بين الكهنوت والفداء. فالكهنة هم من افتداهم قبلاً وصاروا للرب. وهذا هو ما أوضحه تماماً الروح القدس في العهد الجديد بقلم الرسول يوحنا: «ومِنْ يَسوعَ المَسيحِ الشّاهِدِ الأمينِ، البِكرِ مِنَ الأمواتِ، ورَئيسِ مُلوكِ الأرضِ: الّذي أحَبَّنا، وقَدْ غَسَّلَنا مِنْ خطايانا بدَمِهِ، وجَعَلَنا مُلوكًا وكهَنَةً للهِ أبيهِ، لهُ المَجدُ والسُّلطانُ إلَى أبدِ الآبِدينَ. آمينَ» (رؤيا 1: 5 و6) (قارن أيضاً رؤيا 5: 10، 20: 6).
وهكذا يؤكد الرسول يوحنا أن كل الذين تمتعوا بمحبة الله في المسيح، وقد اغتسلوا من خطاياهم، صاروا ملوكاً وكهنة، بل صاروا شركاء المسيح في ملكه وكهنوته. ثم إن شركتهم هذه في كهنوت المسيح أساسها أن المسيح -والمسيح وحده- هو رئيس الكهنة الأعظم، والذي جاء على رتبة ملكي صادق (قارن تكوين 14: 18-20، مزمور 110: 4، عبرانيين 5: 10، 7: 1-10). فالمسيح هو رئيس الكهنة، وكل المؤمنين الحقيقيين هم تحت رئاسته كهنة يشاركونه الامتياز والمسئولية في هذا الكهنوت.


طباعة